أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-1-2016
4344
التاريخ: 27-09-2015
3407
التاريخ: 7-10-2015
3063
التاريخ: 14-08-2015
2165
|
وإذا نظرنا إلى تلاميذ جمال الدين، وجدناهم فعلًا قد تأثروا بطريقته بعد أن كانوا من الساجعين، فهذا الشيخ محمد عبده أخذ يشق طريقه إلى الكتابة الصحفية، وهو بعد طالب في الأزهر، فنشرت له أول مقالة بالأهرام في الثاني من سبتمبر سنة 1876، وقد أرسلها تحية للجريدة، وجاء فيها: "إنه لما نظر لدى كل قاص ودان، واشتهر بين بني نوع الإنسان أن مملكة مصر كانت في سالف الزمان، مملكة من أشهر الممالك وكعبة يؤمها كل سالك وناسك، وإذا كانت قد اختصت بتربية العلوم، وبث المعارف المتعلقة بالخصوص والعموم، وانفردت بالبراعة في الصنائع، والابتكار في أنواع البدائع، فكان أبناء العالم إذ ذاك ينتدون نداها، ويستجدون جداها، يستمطرون من الغيث قطرًا، ويستمدون من المحيط نهرًا ... إلخ".
هذه المقدمة الطويلة المسجوعة المملة، والتي تتوارد فيها الجمل الكثيرة علة المعاني القليلة حرصًا على السجع، والمحسنات اللفظية والمعنوية مع تكلف ظاهر، وأخيرًا وصل إلى الغاية من مقاله، وهي الإشادة بهذه الصحيفة حيث يقول:"فيا لها من جريدة أسست قواعدها في القلوب، وامتدت مبانيها لكشف الغيوب، تنادي بمقالها وحالها: حي على الفلاح، وهلموا إلى موارد النجاح، لا تقفوا عند صورة المبنى، ولكن تجاوزوا إلى المعنى، تلك أوهام أشباح، وهذه غذاء أرواح، تلك ظواهر صور، وهذه دقائق عبر، تلك مساكن أموات، وهذه لسان سر السماوات.
ونجد كذلك مقالاته تتوالى في الأهرام على هذا النمط من الكتابة كمقالة: "فن القلم والكتابة" و"المدبر الإنساني والمدبر العقلي الروحاني"، وقد نشرت الأخيرة في30 من ديسمبر سنة 1876، ثم "العلوم الكلامية، والدعوة إلى العلوم العصرية" وغيرها، كان الشيخ في هذه الآونة طالبًا لم يتخرج في الأزهر بعد، ولكن على الرغم من هذا السجع المتكلف، فإن هذه المباحث دلت على نفس طموح محبة للإصلاح فيها جرأة ومضاء، إذ كان مما يزري بطالب العلم بالأزهر حينئذاك أن يصطنع الكتابة في الصحف السيارة، ولكن محمد عبده وجد الصحافة منبرًا عاليًا يذيع منه آراءه الإصلاحية، فلم يثنه شيء عن اتخاذه أداة لبث أفكاره، ونشر دعوته.
وكان السجع حتى هذه الآونة له منزلة في القلوب تدل على مقدرة الكاتب وبراعته، ولا ريب أن الشيخ كان يمكن لنفسه في عالم الكتابة، ولذلك آثر هذا اللون حتى لا يتهم بالعي أو التقصير، ولكنه عدل عن هذه الطريقة في الوقائع المصرية، وبتأثير من أستاذه جمال الدين الذي وجهه إلى الاهتمام بالمعاني، وبمعالجة الموضوعات الحية التي تمس الحاجة إليها، وهو وإن عدل عن السجع إلا أنه آثر الازدواج، فأنت جملة متسقة متناسبة في الطول من غير قافية، وفيها ترادف صوتي، كما نراه عمد إلى البساطة في التعبير حتى يفهمه أكبر عدد من القراء، فترك استعمال الكلمات الغريبة، وتكلف الخيال والاستعارات والتشبيهات، كما نرى في هذه المقالات كثيرًا من الكلمات العامية، كما في مقاله "حب الفقر وسفه الفلاح" المنشور في 25 من نوفمبر سنة 1880، إذا ورد فيه مثلًا "وإرادته الغير مرتبة"، وألا تدخل على غير لاستغراقها في الإبهام، واستعماله "البنوك" بمعنى المصارف و"القرباج" بمعنى السوط، وقد كتب تحت هذا العنوان "مرة ثانية في الوقائع بتاريخ 18 من ديسمبر يقول في مستهلها "الاقتصاد هو فضيلة من فضائل الإنسان الجليلة، بل هو من أهمها، مدحته جميع الشرائع وبينت فوائده، وهو كغيره من الفضائل مركب من أمرين بذل وإمساك، أعني أن الاقتصاد هو التوسط في الإنفاق، بحيث لا يبسط صاحب المال يده كل البسط حتى لا يبقى فيها شيئًا، ولا يقبضها كل القبض حتى لا يخرج منها شيئًا، بل ينفق من ماله على حسب حاله، يقدم الأهم فالمهم فيدفع الضرورة، ويقيم البينة على قدر ما يناسب درجة غناه، وفقره ... إلخ".
ونراه في هذه المرحلة يعالج بعض العيوب الاجتماعية مثل المقال السابق الذي يبين فيه جهل الفلاح، واضطراره إلى الدين بالربا الفاحش، ثم مقال آخر بعنوان "المعارف"، يبين فيه فائدة العلم والقراءة، ومقال ثالث بعنوان "الرشوة"، وفيه يقول: "قد تقرر في عقول جهله العوام أن الرشوة هي السبب الوحيد للخلاص من أية جريمة يرتكبونها، فيقدم منهم على ما يخالف الأصول المتبعة، أو يخل بالأمن والسكينة، أو يهتك حرمات الحقوق، اتكالًا على ما يضمره في نفسه، من أن الرشوة كافية للنجاة من العقاب، أو الحصول على غرضه بأي وجه كان، وقد غلب على عقول العامة أن كل صاحب وظيفة ميرية، وغير ميرية لا يصح أن يقضي أمرًا في مصلحة لأحد إلا بالرشوة، ولذلك يرون أنه من الوجوب على من التمس إنجاز أي عمل يتعلق بمصلحته، أن يقدم إلى صاحب الوظيفة رشوة تبعثه على مباشرة ذلك العمل، غير ملتفت لما تطالبه به واجبات المصلحة التي انطبقت بذمته على أجر يتقاضاه في رأس كل شهر، ولذلك صار أمر الرشوة بينهم من قبل العوائد التي لا تشمئز منها طباعهم، ولا يستنكرها أحد منهم، بل كادت أن تكون من الوسائل المحمودة لنجاح المقاصد ودفع الفوائد.
إلخ"، وقد سلك فيها مسلكًا نفسيًا، وأخلاقيًا ودل على حصافة رأي وغزارة علم.
ونرى أنه قد انطلق على سجيته لا يجري وراء سجعه، ولا يتكلف البحث عن كلمة، وإنما يمعن في إيضاح فكرته ببساطة ويسر، وقد ظل يعالج مثل هذه الموضوعات الأخلاقية، والعيوب الاجتماعية المتخلفة من زمن الظلم، والاستعباد حتى صارت هذه الرذائل عادات متمكنة في نفوس العامة والخاصة.
فلما شبت الثورة العرابية كان محمد عبده من المناوئين لها أول الأمر؛ لأنه كان من دعاة الإصلاح البطيء؟، وتهيئة الأمة عقليًا ونفسيًا لتتحمل تبعات الحكم، كما أنه كان سيئ الظن بأحمد عرابي، ولقد صرح بآرائه هذه في جرأة، فمن دعوته إلى الإصلاح البطيء قوله: "وإنما الحكمة أن تحفظ لها "أي الأمة" عوائدها الكلية المقررة في عقول أفرادها، ثم يطلب بعض التحسينات فيها لا تبعد منها بالمرة، فإذا اعتادوها طلب منهم ما هو أرقى بالتدريج، حتى لا يمضي زمن طويل إلا وقد انخلعوا عن عاداتهم، وأفكارهم المنحطة إلى ما هو أرقى وأعلى من حيث لا يشعرون"، ويقول في مقال آخر منددا بالمطالبة بالدستور على يد العسكريين:
"ليس من الحكمة أن تعطي الرعية ما لم تستعد له، فذلك بمثابة تمكين القاصر في التصرف بماله قبل بلوغه سن الرشد، وكمال التربية المؤهلة والمعدة للتصرف المفيد"، ويقول مرة أخرى، وكأنه كان يتكلم بلسان القدر:
"إن الأمة لو كانت مستعدة لمشاركة الحكومة في إدارتها شئونها لما كان لطلب ذلك بالقوة العسكرية معنى، فما يطلب به رؤساء العسكرية الآن غير مشروع؛ لأنه ليس تصويرًا لاستعداد الأمة ومطلبها، ويخشى أن يجر هذا الشعب على البلاد احتلالًا أجنبيًا يسجل على مسببه اللعنة إلى يوم القيامة".
وكان يرى أن الشرق إنما ينهض على يد مستبد عادل يحكمه خمس عشرة سنة يصنع فيها ما يصنعه العقل وحده في خمسة عشر قرنًا، مستبد "يكره المتناكرين على التعارف، ويلجئ الأهل إلى التراحم، ويقهر الجيران على التناصف، يحمل الناس على رأيه في منافعهم بالرهبة، إن لم يحملوا أنفسهم على ما فيه سعادتهم بالرغبة، عادل لا يخطو خطوة إلا ونظرته الأولى إلى شعبه الذي يحكمه"، ومن سوء الحظ أن هذا كان رأيه في رياض باشا، وقد كرر رأيه هذا في عدم استعداد الأمة للدستور أكثر من مرة وبأساليب متباينة، وألح عليه إلحاحًا شديدًا متناسيًا ما قام به الحكام المستبدون في مصر من جرائم، وكان
آخرهم إسماعيل الذي أرهق الناس بالضرائب، إشباعًا لنزواته، وسد طلباته، حتى هجروا أرضهم هربًا من السياط والحبس ومصادرة الملك، استمعوا إليه بقول وقد ناقش عرابي في هذه القضية: "كنت معروفًا بمناوأة الفتنة، واستهجان ذلك الشعب العسكري، وتسوية رأي الطالبين لتشكيل مجلس النواب على ذلك الوجه، وبتلك الوسائل الحمقى ... مررت ببيت "طلبه" ثالث يوم عيد الفطر فسمعت جلبة، ورأيت بعضًا من صغار الضباط يجولون من جانب إلى آخر من البيت، فدخلت للزيارة، فوجدت عرابي، وجمعًا غفيرًا من الضباط، ووجدت معهم أحد أساتذة المدرسة الحربية، فجلست واستمر الحديث في وجهته، وكان موضوعه الاستبداد والحرية، وتقييد الحكومة بمجلس النواب، وأن لا سبيل للأمن على الأرواح والأموال إلا بتحويل الحكومة إلى مقيدة دستورية، فأخذت طرفًا من البحث، فأقمنا على الجدل ثلاث ساعات، وكان عرابي والأستاذ في طرف والكاتب في طرف، وهما يقولان: إن الوقت قد حان للتخلص من الاستبداد، وتقرير حكومة ثورية، والكاتب يقول: علينا أن نهتم الآن بالتربية والتعليم بضع سنين، وليس من اللائق أن نفاجئ البلاد بأمر قبل أن نستعد له، فيكون من قبيل تسليم المال للناشئ قبل بلوغ سن الرشد يفسد المال، ويفضي إلى التهلكة".
أما رأيه في عرابي فقد عبر عنه بقوله: إنه شهم في الكلام ضعيف في الحرب، أليق به أن يكون واعظًا للعوام من أن يكون زعيم أمة".
اضطر محمد عبده تحت تأثير الحوادث أن يشتغل بالسياسة على طريقته، وأن يكتب المقالات السياسية في الوقائع، ولما اشتدت الثورة، وانضمت إليها الأمة جمعاء، وجد محمد عبده نفسه مضطرًا؛ لأن يسير مع الجماعة، وبخاصة حين وجد الأمر يتعلق بكرامة الأمة بعد أن تدخل الأجانب، واستعان بهم توفيق، وصار محمد عبده قوة روحية للثورة، يأخذ المواثيق ويحرر بيانات الثورة للشعب وللدول، ويحض قومه على التجنيد، ويحمسهم للقتال ولا يدخر في سبيل ذلك وسعًا، وكان يستعين بالوقائع -وهي الجريدة الرسيمة- على نشر أفكار الثورة، وصار يرى: "إن مصر أصبحت صالحة لحكم نفسها بنفسها، وأن الثورة قد علمت الناس الاتجاه نحو المنافع العامة، فلم يعودوا في حاجة إلى تربية وتعليم".
ولما أخفقت الثورة سجن محمد عبده مائة يوم، ثم حكم عليه بالنفي فاتخذ بيروت ملجأ، والذي يهمنا في هذه المرحلة أمران: أولهما أن أسلوب محمد عبده قد لان وسهل، ولا سيما أسلوبه الصحفي؛ لأن الحوادث جرت بسرعة، وكان مضطرًا إلى ملاحقتها، ولم يكن لديه الوقت للتأنق، واصطناع الازدواج بلغة السجع؛ ولأنه كان يخاطب الجماهير، ويشرح قضايا هامة تحتاج إلى توضيح معانيه، ونراه قد استخدم الأقيسة المنطقية والبراهين، وعنى بترتيب الفكرة، وتقليبها على شتى وجوهها، وكان في كلامه حرارة الإيمان وقوة اليقين بما يكتب، وبذلك ثبتت على يديه معالم النثر الاجتماعي، والسياسي تلك التي ابتدأها رفاعة الطهطاوي، ثم أحمد فارس الشدياق.
وثانيهما أن هذا لم يكن كل ما عمله محمد عبده من أجل تطوير النثر، ولكننا نراه وقد تولى تحرير الوقائع يشرف على الكتابة الديوانية في كل مصالح الدولة، وعلى الجرائد والمجلات، وقد عنى بتصحيح الكتابة وتقويمها، ومعاقبة المقصرين في هذا الشأن سواء من كتبه الدواوين أو محرري الصحف، وفي هذا يقول: "أول ما بدأت الجريدة بانتقاده طريقة التحرير التي كانت متبعة في النظارات والإدارات، فأخذت تبين وجه الخليل بها وإضرارها بفهم المعاني المطلوبة، ثم ترسم الطريقة المثلى التي يجب السير عليها، فلم تمض أشهر قليلة حتى ظهر فضل ذوي الإلمام باللغة العربية من موظفي الحكومة، وحضهم رؤساؤهم على مكاتبة الجريدة الرسمية، سترا لعيوب الإدارات، واضطر الجاهلون باللغة والتحرير إلى استدعاء المعلمين، أو المبادرة إلى المدارس الليلية ليتعلموا كيفية التحرير".
وقد أنذر الشيخ مرة مدير جريدة مشهور بتعطيل جريدته إذا لم يختر لها محررًا صحيح العبارة في مدة معينة، فأسرع مدير الجريدة إلى تنفيذ ما أراده الشيخ، وبهذا صار محمد عبده مشرفًا على الأداة الحكومية جميعًا، وعلى الصحافة وتحريرها.
وجمع محمد عبده حوله نخبة من الشباب المستنير الذين تتلمذوا عليه، وعلى أستاذه جمال الدين، وكانت قلوبهم تفيض حمية وغيره على بلادهم، وإصلاحها في شتى الوجوه منهم عبد الكريم سلمان، وسعد زغلول، وإبراهيم المويلحي، واللقاني، وأحمد عبد الغفار، وحسن الشمسي، ومحمد عبد القادر المازني، وسليم رحمي، وخليل إبراهيم وغيرهم، وقد شعر هؤلاء جميعًا وعلى رأسهم أستاذهم محمد عبده أن اللغة القومية مصدر عزة الوطن، ومجلى فخاره، وأن اللغة العربية تزخر بالكنوز التي خلفها السلف، وفي هذه الكنوز ما ينير العقول، ويبعث الهمم قوية ناهضة، ويحيي العزائم الميتة، وأنه لا بد لكي تنهض الأمة نهضة عظيمة من العناية باللغة، وتخليصها من كل شائبة، وهذا هو عبد الكريم سلمان يهيب بأبناء أمته أن يعملوا على تقوية هذه اللغة الكريمة بقوله: "قد سنحت لكم في هذه الأيام فرصة العمل، وناداكم الوطن بلسانه العربي الفصيح: بعزتي عليكم، وحقوقي لديكم، إلا ما نهضتم لتأييد لغتكم، وإعلاء شأنها، وارتفاع منارها، ليعود ذلك إليكم بالمنافع العامة، وإلى بلادكم بالتقدم والعمران".
ويحرر الشيخ محمد عبده مقالًا في الوقائع تحت عنوان "مشكلات الكتابة"، ويرى أن لغة الكتابة الديوانية صارت رموزًا، وأحاجي "مغلقة الألفاظ، غامضة
المعاني، مختلفة التراكيب، لا يقتدر المطالع على حل رموزها، ولا يتمكن من فك طلسماتها إلا بعد أن يجهد نفسه، ويمعن الفكرة، ويدقق النظر، ومع ذلك فلا يخلو الحال من الخطأ في فهم المقصود مما نواه الكاتب منهم".
أخذ هؤلاء الكتاب الذين التفوا حول محمد عبده يعالجون بحماسة كل مشكلات الوطن الاجتماعية، فلم يدعوا آفة من الآفات إلا تعرضوا لها بالنقد والعلاج، وبهذا خطت المقالة الاجتماعية على أيديهم خطوات فسيحة نحو الكمال، إذ تميزوا بالعاطفة الدافقة، والصراحة في التشخيص، والقوة في الأداء، والإخلاص في العلاج، مع غزارة الفكرة ووضوحها.
وإذا كان محمد عبده قد آثر في بادئ أمره أن يسير في الإصلاح على هينة، وأنه اضطر لمجاراة الأحداث فاشتغل بالسياسة حتى نفي عن وطنه، فإنه في جريدة "العروة الوثقى" التي صدرت بباريس، وكان للسيد جمال الدين فيها الفكرة ولمحمد عبده الأسلوب، قد تغيرت نغمته، وصار ذلك الوطني والسياسي المتحمس، الذي يصب شواظ غضبه على توفيق وعلى المحتل الغاصب، وعلى الخونة الذين يؤازرونه، فكانت العروة الوثقى شعلة ملتهبة متوهجة من الحماسة والآراء الحرة الجريئة، وكان طبيعيًا أن يحاربها الاستعمار خشية أن تفسد عليه تفرده بالغنيمة، وقتله الشعوب التي وقعت في قبضته، فمنعها من دخول الهند ومصر، ثم تعطلت بعد أن صدر منها ثمانية عشر عددًا.
هذا وقد كان للشيخ محمد عبده في رسائله الإخوانية، وتفريظاته أسلوب آخر غير ذلك الأسلوب الصحفي المتحرر، أسلوب يحتفى فيه بعبارته، وتصوير مشاعره تصويرًا فنيًا يدل على ذوق أدبي، وتمكن من اللغة، وعلى أنه ذو موهبة شعرية، تمده بالخيالات الطريفة والصور البيانية الجميلة، ونلمس هذا الأسلوب كذلك في وصف رحلاته العديدة، وبخاصة حين يصف منظرا من المناظر، لا حين يتكلم عن العادات والتقاليد ويوازن بينها، وبين عادات بلاده مستهجنا أو مادحًا، خذ مثلًا قوله يصف مقبرة مسينا: "ماذا أقول في وصف هذه المقبرة؟!! مدينة جميلة المناظر، بديعة المداخل، بعيدة المخارج، الداخل فيها أكثر من الخارج، قد اختير لها شجر الصنوبر زينة من بين الأشجار؛ لأنه في خضرة دائمة، وحياة مستمرة، كأن أرواح من يموت تنتقل إليه بعد مفارقة الأجساد، فهو لا يزال دائم الحياة في الصيف، وفي الشتاء والخريف والربيع، مدينة زينها الأحياء في حياتهم ليعدوها لإقامتهم -فيما يزعمون- بعد مماتهم، وهكذا من كان على يقين من الرحيل إلى دار هيأ تلك الدار للسكنى، وأعد لنفسه فيها أنواع النعيم ليطيب له المقام، ولا يقلق به المكان، لكن هل يكفي أن تزين لنفسك مقرا لجثتك، وأنت لا تدري هل تشعر هناك بما زينت، أو تؤخذ عنه إذا مت؟ فهل زينت دارًا لروحك بالطيبات، كما زينت دارًا لجثتك بالزهر والنبات؟ ".
وعلى الرغم من جودة هذا الأسلوب وانتقاء ألفاظه، وما فيه من خيال، فإن الشيخ قد آثر البعد عن السجع إلا ما جاء عفو الخاطر، وآثر الجمل القصيرة المزدوجة.
وربما على في بعض رسائله حتى صارت كتابته شعرًا منثورًا، ومن ذلك رسالته التي كتبها إلى بعض إخوانه، وهو في سجن القاهرة بعد أن اتهم بالاشتراك في حوادث الثورة العرابية، وذلك في 6 من المحرم سنة 1320 الموافق 20 من هنوفمبر سنة 1881م.
"عزيزي:
تقلدتني الليالي وهي مدبرة ... كأنني صارم في كف منهزم
هذه حالتي، اشتد ظلام الفتن حتى تجسم بل تحجر، فأخذت صخوره من مركز الأرض إلى المحيط الأعلى، واعترضت ما بين المشرق والمغرب، وامتدت إلى القطبين، فاستحجرت في طباع الناس! إذا تغلبت طبيعتها على المواد الحيوانية والإنسانية، فأصبحت قلوب الثقلين كالحجارة أو أشد قسوة، فتبارك الله أقدر الخالقين.
.......................................
رأيت نفسي اليوم في مهمة لا يأتي البصر على أطرافه، في ليلة داجية غطى فيها وجه السماء بغمام سوء، فتكاثف ركامًا، لا أرى إنسانًا، ولا أسمع ناطقًا، ولا أتوهم مجيبًا، أسمع ذئابًا، وسباعًا تزأر، وكلابًا تنبح، كلها يطلب فريسة واحدة، وهي ذات الكاتب، والتف على رجلي تنينان عظيمان، وقد خويت بطون الكل، وتحكم فيها سلطان الجوع، ومن كانت هذه حاله فهو لا ريب من الهالكين.
تقطع حبل الأمل، وانفصمت عروة الرجاء، وانحلت الثقة بالأولياء، وضل الاعتقاد بالأصفياء، وبطل القول بإجابة الدعاء، وانفطر من صدمة الباطل كبد السماء، وحقت على أهل الأرض لعنة الله والملائكة، والأنبياء والناس أجمعين. سقطت الهمم، وخربت الذمم، وغاض ماء الوفاء، وطمست معالم الحق، ومزقت الشرائع، وبدلت القوانين، ولم يبق إلا هوى يتحكم، وشهوات تقضى وغيظ يحتدم، وخشونة تنفذ، تلك سنة الغدر، والله لا يهدي كيد الخائنين.
ذهب ذوو السلطة في بحور الحوادث الماضية يغوصون لطلب أصداف من الشبه، ومقذوفات من التهم، وسواقط من اللمم، ليموهوها بمياه السفسطة ويغشوها بأغشية من معادن القوة ليبرزوها في معرض السطوة، ويغشوا بها أعين الناظرين، لا يطلبون ذلك لغامض يبينونه، أو لمستور يكشفونه، أو لحق خفي فيظهرونه، أو خرق بدا فيرقعونه، أو نظام فسد فيصلحونه، كلا بل ليثبتوا أنهم في حبس من حبسوه غير مخطئين".
هذا هو الأسلوب الأدبي الذي صار طابع الرسائل الأدبية، والموضوعات الوصفية ردحًا غير قليل من الزمن امتد حتى نهاية القرن التاسع عشر، ونحن نراه موشى بالخيال، أنيق العبارة، رصينا، يأتي فيه السجع أحيانًا، ولكن بدون تكلف، وتأتي فيه ألوان البديع من غير إكراه، أو تعسف ونلمس فيه حرارة العاطفة المنبعثة هنا من ألم لما لاقاه من خيانة وعدم تقدير، ومن تحكم الأهواء.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|