كانت سرية عبد اللّه بن جحش حيث أسر وقتل واستولى على القافلة بما فيها ، كانت هذه السرية انذارا لقريش بأنها ما دامت على عنادها ومناهضتها للدعوة فسوف تلقى جزاءها العادل لا سيما وقد أذن اللّه لرسوله ( ص ) بقتال من يحاول الاعتداء والعدوان ، وأدركت قريش ان تجارتها مع الشام أصبحت تحت رحمة المسلمين ، وهكذا فلقد اتسعت الهوة ، وزادت بين الفريقين الجفوة ، ونشط المشركون في دسائسهم ومؤامراتهم على النبي ( ص ) وأصحابه .
ومن غير الجائز أو المعقول ان يقف النبي ( ص ) مكتوف اليد ، إذا أتيح له ان يحد من نشاطهم ويحول بينهم وبين ما يريدون ، وقد أذن له القرآن كما ذكرنا بقتال الذين يحاولون ان يفتنوا الناس عن دينهم ويصدوهم عن سبيل اللّه ، ويعدون العدة لغزوهم ، كما حدث بالنسبة لكرز بن جابر الفهري الذي أغار بمن معه من الاعراب على المدينة واستولى على الإبل والمواشي ، مما اضطر النبي ان يقود سرية في طلبه ، وأيقن النبي بعد ان توالت لديه المعلومات الكافية عما تهيؤه له قريش وأحلافها بمساعدة جيرانه من اليهود والمنافقين ، بعد ان أيقن ذلك لم يبق له خيار في اتخاذ موقف المتجاهل واللامبالي لكل ما يحدث ، ورأى من المتعين عليه ان يقف بحزم ويستعمل كل ما يملكه من القوة للحد من تحركاتهم ونشاطهم ، وكانت معركة بدر الكبرى منطلقا للقوة التي ظهرت فيها البطولات وامتدت بسببها الانتصارات لكل ما جاء بعدها من حروب وغزوات .
لقد قضت معركة بدر على كبرياء المشركين وخيلائهم ومحت من الأذهان ما كان يدور فيها من قدرة قريش على تحطيم المسلمين والقضاء عليهم ساعة يريدون . فالمسلمون على ضعفهم وقلتهم وقفوا موقفا حاسما في مقابل قريش التي تفوقهم اضعافا مضاعفة عددا وعتادا وكان لذلك النصر الذي احرزوه اثره البالغ في نفوس القبائل التي كانت تنتظر ما سينجم عنه العداء المستحكم بين قريش ومحمد وأصحابه ولا بد لنا من عرض موجز لتلك المعركة كما روتها كتب السيرة والتاريخ .
فقد جاء فيها انه لما بلغ رسول اللّه ( ص ) ان عير قريش قد خرجت من مكة في تجارتها إلى الشام بقيادة أبي سفيان مع رجال لا يزيدون عن أربعين رجلا ، ولم يبق بمكة قرشي وقرشية عنده شيء من النقود الا بعث بها في تلك القافلة وكانت أكثر أموالها لآل سعيد بن العاص المعروف بأبي أحيحة .
ولما بلغه ذلك ندب أصحابه ، ولم يعزم على أحد بالخروج بل ترك الخيار لهم ، ومضى بمن معه من المهاجرين والأنصار ، وهم ثلاثمائة أو يزيدون قليلا إلى المكان المعروف بالبقيع في ضواحي المدينة ، وهناك ارجع بعض الفتيان كعبد اللّه بن عمر وأسامة بن زيد والبراء بن عازب وغيرهم من الأحداث .
وخرج بمن معه لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر رمضان ، ومعهم سبعون من الإبل يتعاقب على كل واحد منها الاثنان والثلاثة والأربعة ، وكان هو وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة يتعاقبون بعيرا واحدا .
وجاء عن الواقدي أنه قال : حدثني عبد اللّه بن جعفر عن أبي عون مولى المسور عن مخرمة بن نوفل أنه قال : لما لحقنا بالشام أدركنا رجل من جذام فأخبرنا ان محمدا كان قد عرض لغيرنا في ذهابنا وانه تركه مقيما ينتظر رجعتنا ، وقد حالف علينا أهل الطريق ووادعهم ، قال مخرمة : فخرجنا خائفين نخاف الرصد ، واتفق رأينا على أن نبعث ضمضم بن عمرو وكان مع القافلة ، وقد مرت به قريش وهو مقيم في الساحل ومعه بكران فاستأجروه بعشرين مثقالا ، وامره أبو سفيان ان يخبر قريشا ان محمدا قد عرض لعيرهم وان يجدع انف بعيره إذا دخل مكة وان يحول رحله ويشق قميصه من قبله ودبره ويصيح الغوث الغوث ، واستطاع ضمضم ان يصور الموقف لأهل مكة كما أراد أبو سفيان ويلهب مشاعرهم ويثير فيهم كوامن الحقد على محمد وأصحابه ، فقد وقف على بعيره بعد ان جدع أنفه وحول رحله وشق قميصه وتلك حالة كانت تستعملها العرب في أدق الظروف حراجة وأخطر المواقف .
وصاح : يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد تعرض لها محمد وأصحابه ، ولا أرى ان تدركوها ، وكان أبو سفيان يسير بالعير قلقا خائفا ، فلما انتهى إلى الروحاء وكان النبي ( ص ) قد نزل بها وارتحل عنها وفيها مجدي بن عمرو الجهني ، فسأله أبو سفيان عن خبر محمد فداوره ولم يصدقه القول ، ولكن أبا سفيان لم يطمئن لكلامه ومضى يشتد بالعير متجها نحو بدر ، وكاد ان يسقط في أيدي المسلمين لولا انه سأل مجدي بن عمرو إذا كان قد أحس بأحد ، فقال له : ما رأيت أحدا أنكره غير اني رأيت راكبين أناخا في هذا التل ثم استقيا في شن لهما وانطلقا ، وكان النبي ( ص ) قد بعث بسبس بن عمرو الجهني ، وعدي بن أبي الزغباء الجهني حليف بني النجار يستقيان فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري القوم النازلين على الماء تقول إحداهما للأخرى غدا أو بعد غد تأتي العير فأعمل لهم ثم أقضيك الذي لك ، ولما اشتد النزاع بينهما خلص بينهما مجدي بن عمرو ، وسمع حوارهما الرجلان اللذان بعثهما رسول اللّه ، ثم استقيا ورجعا إلى النبي ( ص ) وأخبراه بما سمعا .
ولما سأل أبو سفيان مجدي بن عمرو واخبره بالرجلين اللذين استقيا اتى أبو سفيان مناخ بعيريهما ، وتناول بعرات من فضلات الراحلتين ففتها فإذا فيها النوى ، فقال هذه واللّه علائف يثرب ، وأدرك ان الرجلين من أصحاب محمد ( ص ) ، وانه قريب من الماء ، فرجع بالعير يضرب وجهها عن الطريق متجها بها نحو الساحل تاركا بدرا إلى يساره حتى نجا بالقافلة .
وتجهزت قريش بكل قوتها بعد ان ألهب مشاعرها ضمضم بندائه وأقامت ثلاثا تتجهز وأخرجت اسلحتها وأعان قويهم ضعيفهم ، وقام سهل بن عمرو في رجال من قريش ، فقال : يا معشر قريش هذا محمد وأصحابه معه من شبابكم وأهل يثرب قد عرضوا لعيركم ولطيمتكم فمن أراد ظهرا فهذا ظهر ، ومن أراد قوة فهذه قوة ، وقام زمعة بن الأسود ، فقال :
واللات والعزى ما نزل بكم امر أعظم من أن يطمع محمد وأهل يثرب ان يعرضوا لعيركم فيها خزائنكم فأرعبوا ولا يتخلف منكم أحد ، ومن كان لا قوة له فهذه قوة ، واللّه لئن أصابها محمد وأصحابه لا يروعكم منهم الا وقد دخلوا عليكم بيوتكم .
وقال طعيمة بن عدي : يا معشر قريش ، واللّه ما نزل بكم امر اجل من هذه ان يستباح عيركم ولطيمة قريش فيها أموالكم وخزائنكم ، واللّه ما اعرف رجلا ولا امرأة من بني عبد مناف له شن فصاعدا الا وهو في هذه العير فمن كان لا قوة به فعندنا قوة نحمله ونقويه فحمل على عشرين بعيرا وقوى بهم وخلفهم في أهلهم بمعونة .
وقام حنظلة بن أبي سفيان وعمرو بن أبي سفيان فحثّا الناس على الخروج ، ولم يدعوا إلى قوة ولا حملان فقيل لهما : ألا تدعوان إلى ما دعا إليه غيركما من الحملان ، قالا : واللّه ما لنا مال ، وما المال الا لأبي سفيان .
ومشى نوفل بن معاوية الديلي إلى أهل القوة من قريش ، وكلمهم في بذل النفقة والحملان لمن خرج ، فكلم عبد اللّه بن أبي ربيعة ، فقال : هذه خمسمائة دينار ضعها حيث رأيت ، وكلم حويطب بن عبد العزى فأعطاه مائتي دينارا ليقوي بها السلاح والظهر ، ولم يتخلف من قريش أحد الا بعث مكانه غير أبي لهب فإنه رفض الخروج معهم ومساعدتهم بشيء مع شدة تعصبه وتصلبه ضد الدعوة .
ولم يمنعه عن الاشتراك الا رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب ، وكانت قد رأت قبل مجيء ضمضم بن عمرو رؤيا افزعتها فأرسلت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب ، وقالت : يا أخي لقد رأيت رؤيا افزعتني وتخوفت ان يدخل على قومك منها شر فاكتم علي ما أحدثك منها ، رأيت راكبا اقبل على بعير حتى وقف بالأبطح ، ثم صرخ بأعلى صوته يا آل غدر انفروا إلى مصارعكم في ثلاث فصرخ بها ثلاث مرات فاجتمع إليه الناس ، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه إذ مثل به بعيره على ظهر الكعبة فصرخ مثلها ثلاثا ، ثم مثل به بعيره على رأسه أبي قبيس فصرخ مثلها ثلاثا ، ثم اخذ صخرة من أبي قبيس فأرسلها تهوي حتى إذا كانت في أسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلته منه فلزة .
وجاء في شرح النهج عن الواقدي ، ان عمرو بن العاص كان يحدث بعد ذلك ويقول : لقد رأيت كل هذا ورأيت في دارنا فلقة من الصخر[1].
وأضاف الواقدي إلى ذلك أنه لم يدخل دارا ولا بيتا من دور بني هاشم وبني زهرة من تلك الصخرة شيء ، فاغتم العباس لهذه الرؤيا وحدث بها الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان صديقا له ، وفشا حديث هذه الرؤيا بين الناس ، قال العباس بن عبد المطلب : فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل في رهط من قريش يتحدثون برؤيا عاتكة ، فقال أبو جهل للعباس : يا بني عبد المطلب اما كفاكم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم .
زعمت عاتكة انها رأت في المنام كذا وكذا فسنتربص بكم ثلاثا ، فإن يكن ما قالت حقا فسيكون وان مضت الثلاث ولم يكن نكتب عليكم انكم أكذب بيت في العرب ، فقال له العباس : يا مصفر استه أنت أولى بالكذب واللؤم منا ، وانتقل الخبر إلى نساء بني عبد المطلب فانحين باللائمة على العباس حيث ترك أبا جهل يتناول بني عبد المطلب نساء ورجالا ، فلما كان اليوم الثالث للرؤيا جاء العباس مغضبا يشتد في طلب أبي جهل ، فلما رآه مشى نحوه ، فإذا هو ينطلق مسرعا نحو باب بني سهم ففاته وكان قد سمع ضمضم فأخذ يصيح بالناس يستنفرهم وكان أبو جهل خفيفا حديد الوجه حديد اللسان والنظر .
ودخل عليهم من هذه الرؤيا غم كبير بعد ان سمعوا ضمضم يستنفرهم لنجدة القافلة ، واستقسمت قريش بالأزلام عند صنمها هبل للخروج ، واستقسم أميّة بن خلف وعتبة وشيبة بالآمر والناهي فخرج القدح الناهي ، كما استقسم زمعة بن الأسود ، فخرج الناهي واستقسم جماعة آخرون فلم يجدوا ما يشجعهم على الخروج ، ولكن المتحمسين منهم كأبي جهل وأمثاله اصروا على الخروج واكرهوا غيرهم عليه .
وجاء عن حكيم بن حزام أنه قال : ما توجهت وجها قط كان اكره إلي من مسيري إلى بدر ولا بان لي في وجه قط ما بان لي قبل أن أخرج ، وخرجت على ذلك حتى نزلنا مر الظهران فنحر ابن الحنظلية جزورا ، فما بقي خباء من أخبية العسكر الا اصابه من دمها ، وتشاءمت من ذلك وهممت ان ارجع ، ورأينا حين بلغنا الثنية البيضاء وهي الثنية التي تهبطك على فخ وأنت مقبل من المدينة إذا عداس جالس عليها والناس يمرون ، ولما مر به ابنا ربيعة وثب إليهما وأخذ بأرجلهما وهو يقول : بأبي أنتما وأمي ، واللّه انه لرسول اللّه وما تساقان الا إلى مصارعكما ، وان عينيه لتسيل دمعا على خديه .
ولما أتمت قريش تجهيزها خرجت بالقيان والدفوف وكانوا تسعمائة وخمسين مقاتلا وقادوا معهم مائة فرس بطرا وتجبرا ، وأبو جهل يقول : أيظن محمد ان يصيب منا سيعلم أنمنع عيرنا أم لا .
ومضت قريش في طريقها ينحرون ويطعمون الطعام لكل من وفد عليهم ، فبيناهم في طريقهم إذ تخلف عتبة وشيبة ابنا ربيعة وهما يترددان فقال أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب ، فأدركهما أبو جهل ، فقال ما تتحدثون به ؟ قالا نذكر رؤيا عاتكة ، فقال أبو جهل : يا عجبا من بني عبد المطلب لم يرضوا ان تتنبأ علينا رجالهم حتى تنبأت علينا النساء ، اما واللّه لئن رجعنا إلى مكة لنفعلن بهم ولنفعلن ، وحاول ابنا ربيعة ان يرجعا ، ولكن أبا جهل حال بينهما وبين ذلك .
وذكر المؤلفون في السيرة ان أبا سفيان لما نجا بالعير ارسل إلى قريش قيس بن امرئ القيس ، وكان مع أصحاب العير يأمرهم بالرجوع ، ويقول لهم لقد نجت عيركم وأموالكم فلا تحرزوا أنفسكم أهل يثرب ، انما خرجتم لتمنعوا عيركم وأموالكم وقد انجاها اللّه ، وقال له : فإن أبوا عليك فلا يأبون خصلة واحدة يردون القيان ، فعالج قيس بن امرئ القيس قريشا فأبت الرجوع ، قالوا واما القيان فسنردهن فردوهن من الجحفة .
ولحق الرسول أبا سفيان ( بالهدة ) قبل دخوله لمكة بنحو من تسعة وثلاثين ميلا فأخبره بمضي قريش ، فقال أبو سفيان وا قوماه ، هذا عمل عمرو بن هشام ، لقد كره الرجوع لأنه ترأس على الناس وبغى والبغي منقصة وشؤم ، واللّه لئن أصاب محمد النفير ذللنا إلى أن يدخل مكة علينا .
واصر أبو جهل على المضي في طريقه وقال : واللّه لا نرجع حتى نرد بدرا ، وكانت يوم ذاك مواسم من مواسم العرب في الجاهلية يجتمعون فيها ، وقد أرسلت قريش الفرات بن حيان العجلي حين خرجت من مكة إلى أبي سفيان بن حرب تخبره بمسيرها وما قد حشدته من العدد والعتاد في مسيرتها ، فخالف أبا سفيان في الطريق لأن أبا سفيان قد انحدر بعد ان عرف موقع المسلمين إلى ساحل البحر ، والفرات بن حيان لزم الطريق الذي تسلكه القوافل ، ففاته أبو سفيان والتقى مع المشركين فسمع من أبي جهل اصراره على المضي ، فقال له ما بأنفسنا عن نفسك رغبة ، وان الذي يرجع بعد ان رأى ثأره عن كثب لضعيف والتحق بالمشركين وأصيب يوم بدر بجراحات كثيرة وهرب على قدميه وهو يقول : ما رأيت كاليوم .
وكان الأخنس بن شريق حليفا لبني زهرة ، فقال لهم يا بني زهرة قد نجّى اللّه عيركم وخلص أموالكم ونجّى صاحبكم مخرمة بن نوفل ، وانما خرجتم تبغونه وماله ، ومحمد رجل منكم وابن أختكم فإن يك نبيا فأنتم أسعد به ، وإن يك كاذبا يلي قتله غيركم خير من أن تلوا أنتم قتل ابن أختكم ، فارجعوا واجعلوا خبثها لي ، فلا حاجة لكم ان تخرجوا في غير ما يهمكم ، ودعوا ما يقوله أبو جهل فإنه مهلك قومه سريع في فسادهم ، فاطاعته بنو زهرة وكان فيهم مطاعا يتيمنون به ، فقالوا فكيف نصنع بالرجوع حتى نرجع ؟ فقال الأخنس نسير مع القوم فإذا أمسيت سقطت عن بعيري ، فتقولوا أمسى الأخنس ، فإذا أصبحوا وطلبوا المسير فقولوا لا نفارق صاحبنا حتى نعلم احي هو أم ميت ، فإذا مضوا رجعنا إلى مكة ففعل بنو زهرة ذلك ، فلما أصبح المشركون بالأبواء تبين لهم ان بني زهرة قد رجعوا ، وكان عددهم يتراوح بين المائة والثلاثمائة حسب اختلاف الروايات .
وفي رواية الواقدي ان بني عدي رجعوا إلى مكة بعد ما قطعوا مسافة في طريقهم إلى بدر وانسلوا من بينهم في السحر ، ولما اجتمعوا بأبي سفيان ، قال لهم : لا في العير ولا في النفير يا بني عدي ، فقالوا له لقد أمرت الناس بالرجوع فرجعنا واتبعنا امرك .
واما رسول اللّه ( ص ) فكان قد بلغ عرق الضبية صبيحة أربعة عشر من شهر رمضان ، فالتقى باعرابي مقبل من ناحية تهامة ، فقال له أصحاب رسول اللّه ( ص ) هل لك علم بأبي سفيان بن حرب ، فقال لا علم لي به ، ثم قالوا له : سلم على رسول اللّه ، قال أوفيكم رسول اللّه ؟ قالوا : نعم ، قال فأيكم هو ، قالوا هذا فقال أنت رسول اللّه قال : نعم قال فما في بطن ناقتي هذه ان كنت صادقا ، فاعترضه رجل من المسلمين يدعى سلمة بن سلامة ، فقال له لقد نكحتها وهي حبلى منك ، فكره ذلك رسول اللّه واعرض بوجهه عنهما .
وأضاف المؤلفون في السيرة ان رسول اللّه مضى في طريقه حتى بلغ الروحاء ليلة الأربعاء في النصف من شهر رمضان ، فقال لأصحابه هذا وادي الروحاء : هذا أفضل أودية العرب ، ولما فرغ من صلاته لعن الكفرة ودعا عليهم وقال : اللهم لا تفلتني أبا جهل بن هشام فرعون هذه الأمة ، اللهم لا تفلتني زمعة بن الأسود ، اللهم امسخ عين أبي زمعة ، اللهم أعم بصر أبي سلمة ، اللهم لا تفلتني سهيل بن عمرو ثم دعا لقوم من قريش كانوا قد أسروا الإسلام وخرجوا مع القوم مكرهين .
ولما كان قريبا من بدر اتته اخبار قريش ومسيرتها إليه ، فوقف في أصحابه خطيبا واستشارهم في الأمر وأحب ان يكونوا على علم من حقيقة الموقف ليكونوا على بصيرة من الأمر وخاف ان لا يكون للأنصار رغبة في القتال ، لأنه عاهدهم على أن يدافعوا في بلدهم ووقف عمر بن الخطاب يحذره من قريش وخيلائها ، وكأنه أراد ان ينهاه عن لقاء قريش بهذا الأسلوب ، وقال له يا رسول اللّه : إنها قريش وغدرها واللّه ما ذلت منذ عزت ، ولا آمنت منذ كفرت ، واللّه لا تسلم عزها ابدا ولتقاتلنك فاتهب لذلك أهبته وأعد لذلك عدته[2].
ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول اللّه . امض لأمر اللّه فنحن معك ، واللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها : اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون ، والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك العماد لسرنا معك[3]، فقال له رسول اللّه خيرا ودعا له .
ثم التفت إلى الأنصار وقال أشيروا علي مخافة ان لا يكون لهم رغبة في القتال لأنهم شرطوا له ان يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم في المدينة لا غير كما ذكرنا فقام سعد بن معاذ وقال : كأنك تريدنا يا رسول اللّه فقال :
اجل فقال لقد آمنا بك يا رسول اللّه وصدقناك وشهدنا ان ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة فامض يا نبي اللّه لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر وخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل واحد وصل من شئت ، وخذ من أموالنا ما أردت ، فما اخذته من أموالنا أحب إلينا مما تركت ، والذي نفسي بيده ما سلكت هذا الطريق قط وما لي بها من علم وإنا لا نكره أن نلقى عدونا غدا ، وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، ولعل اللّه يريك منا بعض ما تقر به عينك ، ومضى يقول : انا قد خلفنا قوما في المدينة ما نحن بأطوع إليك منهم ولا بأشد حبا لك منهم ، ولو ظنوا انك ملاق عدوا ما تخلفوا عنك ، ولكن انما ظنوا انها العير ، نبني لك عريشا تكون فيه ونبعد عنك رواحلك ثم نلقى عدونا ، فإن أظهرنا اللّه على عدونا كان ذلك ما أحببنا وان تكن الأخرى جلست على رواحلك فلحقت من وراءنا[4].
ومضى رسول اللّه حتى نزل وادي بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة مضت من رمضان ، فبعث عليا ( ع ) والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وبسبس بن عمرو يتجسسون الأخبار على الماء ، وأشار لهم إلى موقع ، وقال أرجو ان تجدوا الخبر عند القليب التي تلي هذا الضريب ، فاندفعوا باتجاهه فوجدوا على القليب روايا قريش فيها سقاؤهم فأسروهم وأفلت بعضهم ، وكان ممن أفلت شخص يدعى عجبر فأخبر قريشا بخبر النبي ( ص ) وأصحابه ، فنادى يا آل غالب هذا ابن أبي كبشة وأصحابه قد اخذوا سقاءكم فماج عسكر المشركين .
وحدث حكيم بن حزام ، فقال : كنا يومئذ في خباء لنا على جزور نشوي من لحمها فما هو الا ان سمعنا الخبر ، فامتنعنا عن الطعام ، ولقيني عتبة بن ربيعة فقال يا ابا خالد : ما أعلم أحدا يسير أعجب من مسيرنا ، ان عيرنا قد نجت وانا جئنا قوما في بلادهم بغيا عليهم ، فقلت أراه لأمر حمّ :
ولا رأي لمن لا يطاع ، هذا شؤم ابن الحنظلية ، وكان الأسرى ثلاثة أحدهم لسعيد بن العاص ويدعى يسار ، والثاني لمنبه بن الحجاج ويدعى اسلم ، والثالث لأمية بن خلف ويدعى أبا رافع ، فأتي بهم النبي ( ص ) وهو قائم يصلي فسألهم المسلمون فقالوا نحن سقاء لقريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهم ورجوا ان يكونوا لأبي سفيان طمعا في الاستيلاء على القافلة ، فضربوهم ، فلما اشتد عليهم الضرب قالوا نحن لأبي سفيان وهذه العير بهذا الفوز .
فلما سلم رسول اللّه ( ص ) من صلاته قال : ان صدقوكم ضربتموهم وان كذبوكم تركتموهم ، ثم اقبل على الغلمان وقال اين قريش : فقالوا خلف هذا الكثيب الذي ترى . قال كم هم قالوا كثير : ولا ندري عددهم ، فقال : كم ينحرون : قالوا يوما عشرة ويوما تسعة ، فقال القوم ما بين ألف وتسعمائة ، ثم قال لهم كم خرج من أهل مكة ؟ قالوا لم يبق أحد به طعم الا خرج ، فأقبل رسول اللّه على الناس فقال هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها ، ثم سأل الأسرى ، هل رجع منهم أحد ، قالوا : نعم رجع ابن أبي شريق ببني زهرة ، ورجع بنو عدي بن كعب ، فتركهم النبي ( ص ) .
والتفت إلى أصحابه وقال أشيروا علي في المنزل ، فقال الحباب بن المنذر : يا رسول اللّه أرأيت منزلك هذا أهو منزل انزلكه اللّه ، فليس لنا ان نتقدم أو نتأخر عنه ، أم هو الحرب والرأي والمكيدة ، قال بل هو الرأي والحرب ، فقال ان هذا ليس بمنزل انطلق بنا إلى أدنى مياه القوم فاني عالم بها وان بها قليبا قد عرفت عذوبة مائه وماؤه كثير لا ينزح نبني عليها حوضا ونقذف فيه بالآنية فنشرب ونقاتل ولا يشربون ، فقال رسول اللّه ( ص ) لقد أشرت بالرأي .
وروى عبد اللّه بن عباس ان جبريل نزل على النبي وقال له الرأي ما أشار به الحباب ، ثم نهض المسلمون واحتلوا المكان وفعلوا ما أشار به الحباب بن المنذر ، وأصبح الماء في قبضتهم ، وقضوا ليلا يسوده الهدوء والاطمئنان واثقين بأن دعاة الحق سينتصرون بإذن اللّه ، وان الهزيمة ستكون لأعدائه .
وارسل رسول اللّه من يستطلع له اخبار المشركين وكان رسولاه عمار بن ياسر وعبد اللّه بن مسعود ، فطافا بالقوم من حيث لا يشعرون ورجعا إليه ، فقالا يا رسول اللّه : ان القوم مذعورون فزعون ، وان الفرس ليريد ان يصهل فيضرب صاحبه وجهه والسماء تسح عليهم بالمطر .
ولما أصبح المشركون وجدوا اثرا غريبا ، فقال منبه بن الحجاج وكان بصيرا بالأثر : هذا واللّه اثر ابن سمية وابن أمّ عبد ، لقد جاء محمد بسفهائنا وسفهاء أهل يثرب ، ثم قال : يا معشر قريش انظروا غدا إذا لقينا محمدا وأصحابه فاتقوا على شبانكم وفتيانكم وعليكم بأهل يثرب لكي نرجع بهم إلى مكة ليبصروا من ضلالتهم ما فارقوا من دين آبائهم .
ثم إن المسلمين بنوا للنبي عريشا وقام سعد بن معاذ على باب العريش متوشحا سيفه وصف رسول اللّه ( ص ) أصحابه قبل ان تنزل قريش ، فطلعت قريش وهو يصفهم ، وقد ملأوا حوضا كانوا يضعون فيه الماء من السحر ، ومتح فيه علي بن أبي طالب كثيرا وقذفت فيه الآنية ، ودفع رسول اللّه رايته إلى علي بن أبي طالب وتسمى العقاب ، ولواء المهاجرين أعطاه إلى مصعب بن عمير ، ولواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر ، ولواء الأوس إلى سعد بن معاذ .
وجاء في السيرة الحلبية ان النبي ( ص ) اعطى الراية عليا يوم بدر وهو ابن عشرين سنة[5].
وقال ابن دحلان في سيرته : عقد النبي يوم بدر لواء أبيض ودفعه لمصعب بن عمير ، فكان امامه رايتان سوداوان إحداهما مع علي بن أبي طالب والأخرى مع سعد بن معاذ ، وقيل مع الحباب بن المنذر ، واكد ذلك جماعة من المؤلفين في السيرة النبوية .
واستقبل رسول اللّه المغرب ، وجعل الشمس خلفه ، واقبل المشركون فاستقبلوا الشمس ، ونزل بالعدوة الدنيا من الوادي ، ونزلوا بالعدوة القصوى ، ونظرت قريش إلى قلة المسلمين ، فقال أبو جهل : ما هم الا اكلة رأس لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم باليد . فقال عتبة بن ربيعة : أترى لهم كمينا أو مددا ، فبعثوا عمير بن وهب الجمحي وكان فارسا شجاعا فجال بفرسه حول عسكر رسول اللّه ثم رجع إليهم ، فقال : القوم ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا ، ولكن امهلوني حتى انظر إذا كان لهم كمين أو مدد ، فضرب في الوادي حتى ابعد فلم ير شيئا فرجع إليهم ، وقال ما رأيت شيئا ولكني وجدت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ الا سيوفهم ، واللّه ما أرى ان يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم ، فان أصابوا منكم اعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ، الا ترون انهم خرس لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الأفاعي ما أرى انهم يولون حتى يقتلوا بعددهم ، فقال له أبو جهل : كذبت وجبنت ، فانزل اللّه على النبي وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها كما يدعي المؤلفون في السيرة .
وأرسل إليهم رسول اللّه ان ارجعوا من حيث أتيتم ، فلأن يلي هذا الأمر مني غيركم أحب إلي من أن تلوه أنتم ، فقال عتبة : ما رد هذا قوم قط وافلحوا ، ثم ركب جمله الأحمر فنظر إليه رسول اللّه ( ص ) وهو يجول بين العسكرين وينهى عن القتال فقال ان يكن بأحد منهم خير فعند صاحب ذلك الجمل وان يطيعوه يرشدوا ، ثم وقف يخطب في أصحابه وقال : يا معشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني الدهر ، ان محمدا له إل وذمة وهو ابن عمكم فخلوه والعرب ، فإن يكن صادقا فأنتم أعلى عينا به ، وان يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب امره .
وقال له حكيم بن حزام : إن عليك ان تتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي فقال قد فعلت ، وخاف أبو جهل ان يفلح عتبة بن ربيعة في خطته ويأخذ الناس برأيه ، فجاء إلى عامر بن الحضرمي شقيق عمرو بن الحضرمي الذي قتل في غزوة العشيرة ، جاء إليه وقال إن هذا حليفك يريد ان يرجع بالناس ، وقد رأيت ثأرك بعينك ، وما محمد وأصحابه سوى اكلة جزور ، فقم واطلب من قريش الوفاء بعهدهم إليك .
فقام عامر فاكتشف ثم صرخ وا عمراه وا عمراه ، فاشتد الناس للقتال وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي وكان رجلا شرسا سيئ الخلق على حد تعبير ابن هشام وابن إسحاق في سيرتيهما ، وقال : اني أعاهد اللّه لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه ، أو لأموتن دونه ، وخرج متجها إلى الحوض فلما كان قريبا منه خرج إليه الحمزة بن عبد المطلب فلما التقيا ضربه الحمزة فأطن قدمه من نصف الساق قبل ان يصل إلى الحوض فوقع على ظهره تشخب رجله دما ، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحمه يريد ان يبر يمينه ، فاتبعه الحمزة بضربة ثانية قتله بها وهو على الحوض . ثم برز عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد ، وكان أبو جهل قد اتهمه بالجبن والخوف على ولده الوليد من القتل ، فرد على أبي جهل بخروجه مع أخيه وولده ، حتى إذا انتهى إلى ما بين الصفين دعا المسلمين إلى البراز فخرج إليه ثلاثة فتية من الأنصار وهم بنو عفراء معاذ ومعوذ وعوف ، فلما انتسبوا لعتبة قال لهم : ارجعوا ما لنا بكم من حاجة .
ثم نادى مناديهم يا محمد اخرج لنا اكفاءنا من قومنا فالتفت رسول اللّه إلى بني عمه وكان أحب إليه ان يكونوا هم أول من يباشر الحرب ويتحمل اعباءها كما ناصروا دعوته منذ ان اعلنها بجاههم وألسنتهم وأموالهم ، فقال ( ص ) قم يا عبيدة بن الحارث ويا حمزة بن عبد المطلب ويا علي بن أبي طالب ، فقاموا مسرعين مستبشرين وكأنهم يدعون إلى أعز أمانيهم ، واتجهوا نحو المعركة بقلوب عامرة بالايمان ونفوس طيبة بلقاء اللّه تسترخص كل شيء في سبيل سلامة محمد ودعوة محمد .
وان المتتبع لتاريخ الدعوة الاسلامية إذا تجرد عن النزعات والرواسب التي خلفتها احقاد الماضين ينتهي حتما وبلا تردد إلى أن الدعوة من فجرها لولا الهاشميين لم تكن ولم يكتب لها البقاء ، ففي اليوم الذي اعلنها فيه محمد بن عبد اللّه وقف إلى جانبه أبو طالب يشد ازره ويحميه من قريش وكبريائها وغطرستها .
وظل أبو طالب والحمزة وعلي على موقفهم المتصلب من قريش والمناصر لمحمد إلى أن سلم محمد وسلمت دعوته وتسلقت أسوار مكة المنيعة وامتدت إلى ما وراءها فاجتازت السهول والجبال واتخذت مركزها يثرب ، لتنطلق منها إلى جميع انحاء الجزيرة ثم إلى الدنيا بأسرها .
ولولا ان عليا ( ع ) قد بات على فراش الرسول لينجو من تلك الخطة التي كانت تستهدف حياته لقضي على الاسلام قبل ان يخرج من شعاب مكة وهضابها .
وجاءت معركة بدر التي كانت نقطة الانطلاق في تاريخ الاسلام ، فأول من برز إلى جبابرة المشركين علي والحمزة وابن أخيه عبيدة ، فكانت الضربة الأولى التي بعثت في نفوس المشركين الخوف والذعر وحولت ميزان القوة إلى جانب المسلمين وقضت على معنويات ذلك الجيش الذي يمثل قريشا وخيلاءها وغطرستها كانت من الهاشميين .
وعلى اي الأحوال فلما برز علي والحمزة وعبيدة وانتسبوا لهم ، قال عتبة :
اكفاء كرام فبرز عبيدة بن الحارث إلى عتبة بن ربيعة وبرز علي ( ع ) إلى الوليد بن عتبة وكانا متقاربين بالسن ، وبرز الحمزة لشيبة بن ربيعة .
وجاء في أكثر المرويات التي تحدثت عن تلك المعركة ان عليا كان يوم ذاك بين الخامسة والعشرين والثلاثين من عمره على اختلاف الروايات في تاريخ ولادته .
وقال أكثر المؤلفين في سيرة النبي ( ص ) : ان حمزة لم يمهل شيبة حتى قضى عليه في الضربة الأولى ، وكذا فعل علي ( ع ) مع الوليد بن عتبة .
اما عبيدة وعتبة فكلاهما قد ضرب صاحبه واصابه بجروح لا يرجى منها الشفاء وكر حمزة وعلي على عتبة فاجهزا عليه .
وفي بعض المرويات ان عليا في الضربة الأولى قطع يمين الوليد فأخذ السيف بشماله فضربه علي ضربة ثانية صرعه فيها وكانت نهاية حياته .
وقيل إن الحمزة بارز عتبة فصاح المسلمون يا علي أما ترى الكلب قد بهر عمك وكانا قد اعتنقا بعد ان تكسر سيفاهما والحمزة أطول من عتبة ، فقال له : يا عم طأطئ رأسك فادخل الحمزة رأسه في صدر عتبة فضرب علي عتبة فقده نصفين ، وكر علي والحمزة على شيبة فقتلاه وحملا عبيدة وكانت قد قطعت ساقه فألقياه بين يدي رسول اللّه ( ص ) فاستعبر وقال :
ألست يا رسول اللّه شهيدا قال بلى ، قال لو كان أبو طالب حيا لعلم اني أحق بما قال :
كذبتم وبيت اللّه نخلي محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل
وننصره حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وكانت نهايته بتلك الضربة[6].
وبرز بعد ذلك حنظلة بن أبي سفيان إلى علي ( ع ) فلما دنا منه ضربه علي بالسيف فسالت عيناه ولزم الأرض ، وأقبل العاص بن سعيد بن العاص يطلب البراز فبرز إليه علي ( ع ) فقتله .
وجاء في الارشاد للمقيد عن أبي بكر الهذلي عن الزهري ان ابنه سعيد بن العاص دخل على عمر في خلافته وجلس ناحية . قال سعيد : فنظر إلي عمر بن الخطاب وقال : ما لي أراك تنظر إلي وكأن في نفسك علي شيئا ؟
أتظن اني قتلت أباك ، واللّه لوددت اني كنت قتلته ولو قتلته لم اعتذر من قتل كافر ، ولكني مررت به يوم بدر فرأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه فهبته وزغت عنه فقال : إلي يا ابن الخطاب فصمد له علي وتناوله فو اللّه ما رمت مكاني حتى قتله .
وكان علي حاضرا في مجلس عمر فأدرك غاية عمر من إعادة هذه الحادثة إلى ذهن سعيد بن العاص فقال : اللهم غفرا ذهب الشرك بما فيه ومحا الإسلام ما تقدم ، ما لك يا ابن الخطاب تهيج الناس علي فسكت عمر ولم يتكلم ، فقال سعيد بن العاص ، اما انه ما كان يسرني ان يكون قاتل أبي غير ابن عمه علي بن أبي طالب .
ووقع أميّة بن خلف أسيرا بيد عبد الرحمن بن عوف فرآه بلال وكان يعجن عجينا له فترك العجين وقال : لا نجوت ان نجوت وكان يعذبه بمكة فيخرج به إلى الرمضاء إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فيضعها على صدره ، ثم يقول له لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد فيقول بلال أحد أحد .
ثم صاح بأعلى صوته يا أنصار اللّه هذا أميّة بن خلف رأس الكفر لا نجوت ان نجا فأحاطوا به حتى جعلوه في مثل المسكة وقتلوه مع ولده علي بن أمية ، وقيل إن عمار بن ياسر هو الذي قتل ولده عليا .
ثم إن رسول اللّه حرض أصحابه على الجهاد وكان كلما برز أحد من المشركين يقتل ، ولما رأت بنو مخزوم كثرة القتلى من المشركين أحاطوا بأبي جهل خوفا عليه من القتل وألبسوا لأمته عبد اللّه بن المنذر فصمد له علي فقتله وهو يظنه أبا جهل ، ومضى يقول : أنا ابن عبد المطلب ، ثم ألبسوها أبا قيس بن الفاكه بن المغيرة فصمد له حمزة وهو يرى أنه أبو جهل فضربه وقتله وهو يقول خذها وأنا ابن عبد المطلب ثم ألبسوها حرملة بن عمرو فضربه علي وقتله ، وأرادوا ان يلبسوها خالد بن عبد الأعلى فأبى ، قال معاذ بن عمرو بن الجموح فصمدت لأبي جهل وضربته ضربة طرحت رجله من الساق فشبهتها النواة تنزو من تحت المراضخ ، فضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي من العتاق وبقيت معلقة بجلدة فذهبت أسحبها بتلك الجلدة ، فلما آذتني وضعت عليها رجلي ثم تمطيت عليها فقطعتها .
وامر رسول اللّه بعد ان اختلط الفريقان ان يتلمس أبو جهل ، قال ابن مسعود فوجدته في آخر رمق فوضعت رجلي على عنقه ، وقلت الحمد للّه الذي أخزاك ، فقال انما اخزى اللّه العبد ابن أمّ عبد ، لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا ، لمن الدبرة ، قلت للّه ولرسوله ، ثم قلت له : اني قاتلك ، قال ليس بأول عبد قتل سيده ، اما اني أشد ما لقيته اليوم لقتلك إياي وان لا يكون ولي قتلي رجل من الأحلاف أو المطيبين .
ثم ضربه عبد اللّه بن مسعود ضربة وقع رأسه بين يديه ، وسلبه واقبل بسلاحه فوضعه بين يدي رسول اللّه وقال : ابشر يا نبي اللّه بقتل عدو اللّه أبي جهل ، فقال : لهو أحب إلي من حمر النعم .
وجاء في بعض كتب السيرة ان اللذين قتلاه معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء ولعل ابن مسعود وجد به رمقا من الحياة فاجهز عليه وسلبه كما ذكرنا .
ثم قال رسول اللّه : اللهم اكفني ابن العدوية وهو نوفل بن خويلد فأسره جبار بن صخر ، ورأى عليا مقبلا نحوه فقال لجبار من هذا ؟ واللات والعزى اني لأرى رجلا يريدني ، فقال له جبار : هذا علي بن أبي طالب ، فصمد له علي ( ع ) فضربه فنشب سيفه في جحفته فنزعه وضرب به ساقيه فقطعهما ثم اجهز عليه فقتله ، فقال رسول اللّه : من له علم بنوفل بن خويلد ؟ فقال علي انا قتلته يا رسول اللّه ، فكبر رسول اللّه وقال : الحمد الذي أجاب دعوتي .
وجاء في سيرة ابن إسحاق ان طعيمة بن عدي قتله علي بن أبي طالب شجره بالرمح وقال : واللّه لا تخاصمنا في اللّه بعد اليوم ابدا ، ومضى المسلمون يشتدون في طلب المشركين والرؤوس تتساقط والأجسام تتهاوى إلى الأرض وخرج رسول اللّه ( ص ) بنفسه من العريش ولم يبق فيه غير أبي بكر ، ولم يرد له وللخليفة الثاني ذكر مع من اشترك في هذه المعركة ، واشترك رسول اللّه مع المسلمين فقاتل أشد القتال وعلي والحمزة يطاردان المشركين .
واخذ النبي كفا من الحصباء ورمى به إلى جهة المشركين وقال :
شاهت الوجوه اللهم ارعب قلوبهم واشتد المسلمون في طلبهم فانهزموا بين أيديهم تاركين أسلحتهم وأمتعتهم ، وخاض علي والحمزة وابطال المسلمين في وسطهم يأسرون ويقتلون فتطايرت الرؤوس وتهاوت الأجسام وامد اللّه المسلمين بالملائكة ليثبتوهم وليبشروهم بما أعده اللّه لهم كما جاء في الآية .
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ * ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ ( الأنفال 12 ) .
وجاء في شرح النهج عن محمد بن إسحاق ان رسول اللّه ( ص ) نهى يوم بدر عن قتل الوليد بن هشام المعروف بابن البختري لأنه كان أقل الناس إيذاء لرسوله في مكة وأحيانا كان يكف الناس عن ايذائه وقد سعى في نقض الصحيفة التي تعاهدت فيها قريش على مقاطعة النبي ( ص ) وبني هاشم ؛ فلقيه المخدر بن زياد البلوي حليف الأنصار ، فقال له : إن رسول اللّه نهانا عن قتلك ، وكان مع أبي البختري زميل له خرج من مكة يقال له جنادة بن مليحة ، فقال أبو البختري : وزميلي ، فقال له المخدر : واللّه ما نهانا رسول اللّه الا عن قتلك وحدك ، فقال أبو البختري : اذن واللّه لأموتن انا وهو جميعا حتى لا تتحدث نساء مكة اني تركت زميلي حرصا على الحياة ، فنازله المخدر ، ثم اقتتلا فقتله وجاء إلى رسول اللّه فأخبره ، وقال والذي بعثك بالحق لقد جهدت ان يستأسر فآتيك به فأبى الا القتال فقاتلته .
ونهى رسول اللّه كما جاء في رواية الواقدي عن قتل الحارث بن عامر بن نوفل وقال ائسروه ولا تقتلوه وكان كارها للخروج إلى بدر ، فلقيه خبيب بن يساف فقتله وهو لا يعرفه فبلغ النبي ( ص ) ذلك ، فقال لو وجدته قبل ان يقتل لتركته لنسائه ، كما نهى عن قتل زمعة بن الأسود فقتله ثابت بن الجدع وهو لا يعرفه .
وجاء في رواية ابن إسحاق ان النبي لما خرج من العريش وحرض على القتال قال : والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم أحد فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر الا ادخله اللّه الجنة ، فقال له عمر بن الحام من بني سلمة وكان بيده تمرات يأكلها : بخ بخ فما بيني وبين ان ادخل الجنة الا ان يقتلني هؤلاء ، ثم قذف التمرات من يده واخذ سيفه وقاتل القوم حتى قتل .
وفي شرح النهج عن الواقدي ان قباث بن اشيم الكناني قال شهدت مع المشركين بدرا ، واني انظر إلى قلة أصحاب محمد في عيني وكثرة من معنا من الخيل والرجال ، فانهزمت فيمن انهزم وكنت انظر إلى المشركين في كل وجه مشردين وأقول في نفسي : ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه الا النساء ، وصاحبني رجل فبينا هو يسير معي إذ لحقنا من خلفنا ، فقلت لصاحبي :
انك نهوض فقال لا واللّه ما بي فعقر وترفعت وصبحت عيفة وهي عن يسار السقيا وبينها وبين الفرع ليلة ، وبين الفرع والمدينة ثمانية برد قبل الشمس وكنت هاديا بالطريق ولم أسلك المحج خوفا من الطلب وتنكبت عنها فلقيني رجل من قومي بعيفة وقال لي : ما وراءك قلت لا شيء قتلنا واسرنا وانهزمنا فهل عندك من حملان فحملني على بعير وزودني زادا حتى لقيت الطريق بالجحفة ومضيت حتى دخلت مكة واني لأنظر إلى الحيثمان بن حابس بن الخزاعي بالغيم ، فعرفت انه تقدم ينعي قريشا بمكة فلو أردت ان اسبقه لسبقته ولكني تنكبت الطريق حتى سبقني ببعض النهار فقدمت وقد انتهى إلى مكة خبر قتلاهم وهم يلعنون الخزاعي ويقولون ما جاءنا بخير فمكثت بمكة ، فلما كان بعد الخندق قلت لو قدمت المدينة فنظرت ما يقول محمد ( ص ) وقد وقع في قلبي الإسلام ، فقدمت المدينة وسألت عنه فقيل لي هو ذاك في ظل المسجد مع ملأ من أصحابه فأتيته وأنا لا أعرفه من بينهم ، فلما سلمت قال لي يا قباث بن اشيم : أنت القائل يوم بدر ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه الا النساء ، قلت أشهد انك رسول اللّه واللّه ان هذا الأمر ما خرج مني إلى أحد قط ولا ترمرمت به الا شيئا حدثت به نفسي فلولا انك نبي ما أطلعك اللّه عليه فبايعته وأسلمت .
وحدث صاحب النهج عن الواقدي انه لما بلغ النجاشي مقتل قريش وانتصار رسول اللّه خرج في ثوبين أبيضين ثم جلس على الأرض ودعا جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، فقال أيكم يعرف بدرا ، فأخبروه عنها فقال أنا عارف بها : لقد رعيت الغنم جوانبها وهي من الساحل على بعض نهار ، ولكني أردت أن أتثبت منكم لقد نصر اللّه رسوله ببدر فاحمدوا اللّه على ذلك فقال بطارقته : اصلح اللّه الملك ان هذا شيء لم تصنعه يعنون بذلك لبس البياض والجلوس على الأرض ، فقال ان عيسى ابن مريم كان إذا حدثت له نعمة ازداد بها تواضعا[7]
[1] وجاء في شرح النهج أن عمرو بن العاص كان يقول ذلك ساخرا ومستهزئا .
[2] انظر ص 328 من شرح النهج ج 3 ، عن الواقدي .
[3] برك العماد من وراء مكة بخمس ليال من وراء الساحل مما يلي البحر وهو على ثمان ليال من مكة إلى اليمن .
[4] ما أبعد ما بين الموقفين موقف عمر بن الخطاب المتخاذل المخذل الذي يوهن العزائم ويجبن الشجعان ويخدم قريشا من حيث يريد أو لا يريد ، ان الحرب النفسية التي ترفع من معنويات الجيش أو تضع منها تفتك في ساحة الحرب أكثر من السيد والمدفع ، لقد صور قريشا وكأنها لا يمكن ان تغلب أو تقهر وحذر النبي من لقائها قبل ان يعد العدة لذلك ، ما أبعد موقفه هذا من موقف سعد بن معاذ رحمه اللّه النابع من ايمانه العميق بعقيدته لقد الهب المسلمين حماسا وبعث في نفوسهم العزم والتصميم على القتال وأعدهم للتضحية والجهاد مهما كانت النتائج وحاول ان يضعهم على أبواب النصر إذا ثبتوا وصبروا كما وقف المقداد نفس الموقف .
[5] والواقع ان عليا كان يوم بدر في حدود الثامنة والعشرين أو أكثر من ذلك .
[6] انظر تاريخ الطبري وسيرة ابن هشام وغيرهما .
[7] والحديث من مرويات الواقدي الذي اعتاد أن يروي المرسل إلى جانب المسند والصحيح إلى جانب الضعيف وغير ذلك مما سمعه ورآه .
الاكثر قراءة في حاله بعد الهجرة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة