قصة عن التسامح في أمر الزواج
المؤلف:
الخطيب الشيخ حسين انصاريان
المصدر:
الاُسرة ونظامها في الإسلام
الجزء والصفحة:
ص 115 ــ 118
2025-11-06
36
كان للعلامة محمد تقي المجلسي (رحمه الله) - وهو فقيه وعالم قل نظيره - ثلاثة أبناء وأربع بنات، وأكبر بناته اسمها آمنة، وقصة زواجها من الملا صالح المازندراني وهو صاحب شرح أصول الكافي في اثني عشر جزءاً قصة عجيبة وشيّقة.
وحياة الملا صالح المازندراني - وهو من مشاهير علماء الشيعة - حافلة بالأحداث نجملها فيما يلي:
كان أبوه - وهو الملا أحمد - رجلاً فقيراً بحيث كان عاجزاً عن توفير مستلزمات الحياة لابنه، لهذا قال له: عليك بتدبير أمورك بنفسك لأنني عاجز عن توفير ما تحتاجه.
فتوجه محمد صالح - وكان يومها شاباً يافعاً - إلى اصفهان وانخرط في احدى مدارسها لتحصيل العلم، ولهذه المدرسة أموال موقوفة حيث يمنح كل طالب ما يتناسب ودرجته العلمية، وحيث أن محمد صالح كان حديث العهد بالدراسة فقد كانت حصته قليلة لا تسد حاجته، لهذا كان يعيش معاناة شديدة حتى أنه كان يضطر إلى المطالعة ليلاً تحت ضوء وسائل الانارة التي كانت تضاء في جوانب المدرسة.
إلا أنه بما كان يتمتع به من جد ومثابرة وهمة عالية تغلب في نهاية المطاف على حياة الحرمان وتسلق المراتب العلمية العالية حتى شق طريقة إلى درس العلامة محمد تقي المجلسي، ولم يطل به المقام حتى استحوذ على اهتمام استاذه ولفت انتباهه بتفوقه على جميع اقرانه.
يقول مؤلف مرآة الأحوال: في غضون ذلك كان الملا صالح - ذلك العالم الشاب - يفكر بالزواج وقد عرف العلامة المجلسي بذلك أيضاً، وذات يوم وبعد الفراغ من الدرس قال العلامة للملا صالح: اتسمح لي أن اختار لك زوجة؟ فاطرق الملا برأسه ثم أعرب عن موافقته.
فنهض العلامة المجلسي من مكانه ودخل داره ودعا ابنته آمنة - وهي امرأة عالمة استوعبت العلوم غاية الاستيعاب - وقال لها: لقد اخترت لكِ زوجاً في غاية الفقر غير أنه في غاية الفضل والصلاح والكمال، والأمر موكول إليك.
فأجابت تلك الفاضلة العفيفة: يا أبه! ان الفقر ليس من عيوب الرجال، وبذلك عبّرت عن رغبتها الذاتية في بناء هذه العلقة، ثم أجري عقد القران وزفت العروس إلى زوجها.
وفي ليلة الزفاف دخل العريس على زوجته ورفع عن وجهها الحجاب. وحين رأى جمالها النادر توجه نحو احدى زوايا الغرفة حامداً ربه وانهمك بالمطالعة.
وصادف أن حدثت مشكلة يصعب حلّها ففهمت آمنة بما تتحلى به من فراسة وفي اليوم التالي حيث خرج زوجها لغرض التدريس دونت حل المشكلة بالتفصيل ووضعت الورقة في مكانه، وحينما وقع بصر الملا صالح في الليل على ما كتبته تلك السيدة الفاضلة، ورأى أن هذه المعضلة قد حلت بأنامل هذه الفاضلة العالمة، هوى إلى الأرض ساجداً شكراً لله واشتغل بالعبادة حتى الصباح، وهكذا استمرت مقدمات الزواج مدة ثلاثة أيام!!
ولما اطلع العلامة المجلسي على الأمر قال للملا صالح: إذا كانت هذه الزوجة لا تعجبك ولا تناسب شأنك فإنا على استعداد لأزوجك غيرها، فقال الملا صالح: کلا ليس هذا هو السبب، بل أن ابتعادي عنها كان من أجل أن أؤدي الشكر لله تعالى حيث من علي بمثل هذه النعمة التي أعجز عن اداء شكرها مهما حاولت.
وعند سماع العلامة المجلسي لهذا الكلام قال: الاقرار بالعجز عن أداء الشكر لله تعالى هو غاية الشكر.
لاحظوا ان العلامة المجلسي قام بثلاثة أمور، أولاً: توفير جميع مستلزمات التعليم لابنته لكسب العلوم على أعلى المستويات حتى بلغت اوج عظمتها العلمية، وثانياً: أنه جعل منها بنتاً تمثل معدن الصفة والطهارة والحياء ومثالاً للأخلاق الاسلامية والتواضع والقناعة، وثالثاً: سلك في تزويجها اسهل الطرق وزوجها إلى من هو كفوء لها من حيث الايمان والأخلاق والسلوك بعيداً عن التعقيدات، ورابعاً: لم يفرض عليها الزواج من الملا صالح، ولم يبد تكبراً بل أوكل امر اختيار الزوج إليها، وهذا ما أرشدت المعارف الاسلامية الانسان إليه. والأهم من ذلك أنه وبعد مرور ثلاثة أيام على وقوع الزواج وامتناع الملا صالح عن الاقتراب من زوجته لانشغاله بأداء الشكر لله تعالى تصور العلامة أن هذا الرجل لا يرغب بها فعبر عن استعداده لتزويجه غيرها أن لم ترق له!!
هذه هي صفات أولياء الله وعشاق الحقيقة والصالحين وخصال العفيفات من البنات المتحصنات بالعفة والايمان ومن سمات العوائل الطاهرة، ومثل هذا الزواج يطفح بالبركات الالهية وتسود أجواءه الرحمة والألطاف الالهية.
وقد رزق الملا صالح من هذه السيدة العالمة ستة من الأبناء العلماء الفقهاء الادباء المتفوقين وبنتين فاضلتين احداهما زوجة أبي المعالي الكبير وهي أم الميرابي طالب وهذا وابوه كانا من مشاهير العلماء.
وكان السيد محمد البروجردي الجد الخامس لآية الله العظمى السيد البروجردي - وهو من احفاد المجلسي الأول عن طريق بناته - صهر الميرابي طالب ومن هنا فقد كان ابناؤه ينسبون أنفسهم إلى اسرة المجلسي، والكريمة الثانية للملا صالح هي زوجة السيد عبد الكريم الطباطبائي الجد السادس لآية الله العظمى البروجردي، وهي ام السيد محمد الطباطبائي.
روى عن الائمة المعصومين: إن الله عز وجل لم يترك شيئاً مما يحتاج إليه وعلمه نبيه (صلى الله عليه وآله)، فكان من تعليمه إياه انه صعد المنبر ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس أن جبرئيل أتاني عن اللطيف الخبير فقال: أن الابكار بمنزلة الثمر على الشجر إذا أدرك ثمارها فلم تجتن أفسدته الشمس، ونثرته الرياح، وكذلك الابكار إذا أدركن ما يدرك النساء فليس لهن دواء إلا البعولة وإلا لم يؤمن عليهن الفساد لأنهن بشر) (1).
ينبغي على الوالدين الالتفات إلى هذه المسألة المهمة، وهي توفير أسباب الزواج لابنتهم بكل يسر وبساطة حين بلوغها الوعي الضروري للزواج وبلغت السن المناسبة للاقتران بمن ترغب من الرجال، وتمتعت بالقابلية التي تؤهلها للزواج، وبهذا يكونون قد نفذوا ما أمر الله به وينالون بذلك الأجر الجزيل والثواب الجميل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ الوسائل: ج 14، ص 39، ح 2.
الاكثر قراءة في الآباء والأمهات
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة