عباد الله المخلصون مصانون عن المعصية
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج1/ ص51-56
2025-10-02
354
اذا ما تمكّن الانسان- بعون الله وتوفيقه- من الصمود في هذه المرحلة، وفي الاستمرار في مجاهدته، فانّ جميع مراتب عبادة الأنا والإستكبار والنزعة الإستقلالية فيه ستودّع وتنصرف، فيحلّ محلها ذلُّ العبوديّة نسبةً لساحة المعبود، وروح طلب الله والفاقة اليه سبحانه، وسيخرج من عبادة نفسه إلى عبادة الله ويشاهد في نفسه حقيقة العبوديّة، فيسكن قلبه ويكفّ عن التقلّب والجيشان، ويُهدي من الإضطراب والحيرة إلى الاطمئنان والسكينة، ويصبح وجوده وسرّه منزّهاً وطاهراً، لا تعرف الخواطر الشيطانية طريقها اليه، ولا ترده سائر الخواطر الّا بإذنه، ولا تنفذ فيه الّا بإجازته.
وذلك لأنّ القلب سيصبح آنذاك منزّهاً مصقولًا بصقل المحبّة والعبوديّة، لذا فانّ الجمال والنور الالهي سيكونان مشهوديْن فيه، وسيصبح مرآةً يعكس ذات وأسماء وصفات المعبود، وهذا هو مقام المخلصين الذي هو أعلى وأسمى المقامات.
وتبعاً للآيات القرآنية فانّ هذه الفئة تمتلك خصائص معيّنة هي:
أولًا: انّ الشَّيطان والنفس الأمّارة لا سلطان لهما عليهم، فقد يئسا منهم يأساً تامّاً، فلا يستطيعان النفوذ أو التأثير في نفوسهم ولو بأدنى قدر.
{وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[1].
{قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[2].
انّ الشيطان يعترف هنا بعجزه عن حرفهم عن طريقهم، لأنّ قلوبهم صارت محلًا لله، وجليّ أنّ مثل هذا المكان لا قدرة للشيطان على الاستيلاء عليه أو التصرّف فيه. وسيكون هؤلاء الافراد مصونين محفوظين دائماً في حرم الله من كلّ ذنب فعليّاً كان أو قوليّاً أو فكريّاً أو قلبيّاً أو سرّيّاً. كما انهم سيخلون من كلّ خطأ وذنب، وسيكون فعلهم فعل الحق، ولسانهم لسان الحق، وأعينهم أعين الحق، وآذانهم آذان الحق؛ وفي النهاية فانّ مركز وجودهم متعلّق بحضرة الحق، وستكون بيوت قلوبهم وأسرارهم كلّها مسلّمة خالصة للّه المنّان.
وجليّ أنّ وارداتهم القلبيّة بإذن الحق وأمره، وكلّ ما يتلقّاه ضميرهم من العوالم العلويّة، سواءً في هيئة الوحي وتشريع الشريعة، أو بعنوان إدراك المطالب الكلية والعلوم الحقيقية والاطّلاع على الأسرار والمغيّبات، وذلك من شأن الإمام وأولياء الله؛ وعلى كلّ حال فانّ قلوبهم ستكون معصومة وعارية عن كلّ خطأ أو ذنب.
وثانياً: باعتبار انّ أفكارهم وأسرارهم قد اتّسعت، وانهم قد اجتازوا جميع مراحل الوجود وتحقّقوا بذات الحق، فانهم- لذلك- يستطيعون أن يحمدوا الله ويُثنوا عليه كما يليق بذاته المقدّسة.
{سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}[3].
ذلك لأنّ كلّ موجود يريد حمد الله فانّه يحمده حسب استعداده وظرفيّته، وبقدر فكره وعلمه، وحضرة الحق أعلى من مقدار ومدى علمه وظرفيّة وجوده، لذلك فانّ أي موجود لن يستطيع أن يحمده كما يليق به وكما هو شأنه؛ وعليه فانّ التسبيح ينبغي ان يقترن دوماً بالحمد، أي اننّا في نفس اللحظة التي نحمدك فيها ونُثني عليك بجميع مراتب الجمال والكمال، فانّنا نُنزّهك ونقدّسك عن أن يكون حمدنا لائقاً بمقام عزّك وجلالك وعظمتك: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعْلى وبِحَمْدِهِ- سُبحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيم وبِحَمْدِهِ- {وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ والْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ}[4].
فرعد السّماء والملائكة يُسبّحون الله مع حمدهم له على الدوام، وذلك خوفاً منه وإحساساً بحقارتهم أمام عظمته: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}[5].
إنّ جميع الموجودات بلا استثناء تعترف بتحميدها وتمجيدها بعدم وصول الحمد والشكر إلى ساحة قُدسه، ولذا فانّها تقوم- مع حمدها- بالتنزيه والتقديس وتعتبر ذات الباري المقدّسة أعلى وأنزه من أمثال هذا الحمد. أمّا عباد الله المخلصين الذين لا يُشاهد فيهم أي جانب مستقلّ للوجود، فقد صار وجودهم وجوداً للحقّ، وقلوبهم عرشاً لذاته؛ فانهم يستطيعون أن يحمدوا الله كما يليق به. وفي الحقيقة فانّ الله يحمد نفسه بنفسه.
وهذا التقريب لا يُنافي جملة (مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ)، لأنّ مفاد هذه الجملة عرض الذلّ والفقر في عالم الإمكان والكثرة، كما انّ مفاد: {سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}[6].
هو تحقّق الفناء الحقيقي في جميع مراتب الأسماء والصّفات وذات الحضرة الأحديّة، وفي ذلك المقام للفناء المطلق، فانّ أدنى شائبة للوجود ولإظهار الأنانية هي الكفر والشرك، وما أبعد ذلك عن ساحة إخلاص المخلصين!
وثالثاً: فليس هناك مؤاخذة أو محاسبة ولا استجواب لهؤلاء، وليس هناك سؤال في القبر ولا منكر ونكير، ولا حشر ولا عرض، ولا كتاب ولا ميزان ولا صراط: {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}[7].
فكلّ بني الإنسان يحضرون امام عدل الله ويُسئلون ويُعرضون الّا عباد الله المخلصين الذين لا سؤال لهم ولا عرض، لأنهم تخطّوا محلّ المؤاخذة والسؤال بمجاهداتهم النفسانية وإخلاصهم في العمل والقول والفكر والسرّ، ووردوا في حرم الله في المحلّ الرفيع المعدّ للمخلَصين، واستقرّوا هناك.
وفي الحقيقة فانّ الإنسان الذي سلّم وجوده لله، فلم يبقَ له شيء ليسئل عنه، بل انّ السؤال والكتاب للذين فيهم شوائب من الربوبيّة، والذين بدرت منهم أعمال تبعاً لتلك الشوائب؛ امّا الذي لم يبق فيه غير حقيقة العبوديّة المحضة، والذي تضجّ جميع مراتب وجود بالنداء بفقره وحاجته وفاقته وذلّ عبوديّته، فكيف يُتصوّر له الحضور والسؤال؟! هؤلاء العباد لا يموتون، بل هم أحياء دوماً بحياة الحق، لأنهم أصبحوا وجه الله وصاروا خلفاءه ومُظهري ذاته. ومن الجلي انّ الهلاك والبوار في المراحل التي يكون فيها الوجود غير وجود الحق وغير وجهه.
{وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ ومَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ}[8].
{وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ ومَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ}[9].
ويُلاحظ في هاتين الآيتين أنّ الله سبحانه وتعالى قد استثنى فئةً، وهم الذين تعلّقت بهم مشيئة الله فلا يريد لهم الهلاك، فلا خوف ولا هلاك لهم.
ونشاهد من جانب آخر أنّ الله سبحانه وتعالى يقول انّ جميع الموجودات ستهلك بلا استثناء الّا وجه الله.
{كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}[10].
{كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، ويَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والْإِكْرامِ}[11].
ونستنتج من هاتين الآيتين واللتين قبلهما بأنّ نفس الأفراد الذين أخلصهم الله والذين لا يموتون بواسطة النفخ في الصور، هم الذين أصبحوا- بكلّ معنى الكلمة- وجه الله ومُظهري أمره، أي أولياء الله والمقرّبين اليه.
وبضمّ هذه النتيجة إلى الآية السابقة القائلة: {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}.
فإننا نستفيد بأنّ عباد الله المخلصين ليس عليهم سؤال ولا استجواب ولا موت ولا إنعدام، بل هم أحياء دوماً بحياة الحق، حياةً سرمديّة دائمة.
رابعاً: انّ الله العلي الأعلى لم يجعل لعباده المخلَصين جزاءً محدوداً أو معيّناً، لأن كلّ ما سيُعطيهم من الجنّة ونعيمها أقلّ من مقامهم ومنزلتهم، بل انّ جزاءهم نفس الذات الأحديّة ومشاهدة أنوار جمالها فقط.
{وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}[12].
جزاؤهم لا يعدّ ولا يُحصى، لأنهم اجتازوا النفس وعالم المقدار ووصلوا إلى بحر العظمة والجلال، لذا فانّ نفس التحقّق في ذلك المقام هو جزاؤهم اللامتناهي الذي لا حدّ له.
والخلاصة فانّه يُستفاد من هذه الآيات التي وردت في شأن المخلصين ومقامهم ومنزلتهم، أنّ المخلصين من عباد الله هم غير سائر العباد من جميع الوجوه، لأنهم مصونون بصيانة الربّ ذي الجلال، فليس فيهم أي آفة من الذنب والمعصية التي تنجم عن سيطرة الشيطان والنفس الأمّارة. وهذا هو معنى العصمة من الذنوب التي يبيّنها الله تعالى في القرآن الكريم.
{كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[13].
اي انّنا حفظنا يوسف عليه السلام من الابتلاء بالذنب مع زليخا، لأنّه كان من عبادنا المخلصين؛ فكلّ من ينال مرتبة ومقام المخلصين إذن سيكون محفوظاً ومصوناً من قبل الله تعالى من كلّ مُنكر وقبيح. يُضاف إلى ذلك أنّ حياتهم باعتبارها قد أصبحت حياة الحق، وانهم قد اجتازوا عالم المقدار، فليس فيهم بَعْدُ وجودٌ للخواطر المغيرة والمبدّلة للنفس، فانهم سيمتلكون مقام العصمة في تلقّي المعارف الالهيّة والعلوم الكلّيّة وحفظها وإبلاغها، وسيكونون مصونين بصيانة الحضرة الأحدية.
[1] الآية 39 و40، من السورة 15: الحجر.
[2] الآية 82 و83، من السورة 38: ص.
[3] الآية 159 و160، من السورة 37: الصافّات.
[4] صدر الآية 13، من السورة 13: الرعد.
[5] ذيل الآية 44، من السورة 17: الإسراء.
[6] الآية 159 و160، من السورة 37: الصافّات.
[7] الآية 127 و128، من السورة 37: الصافّات.
[8] صدر الآية 87، من السورة 27: النمل.
[9] صدر الآية 68، من السورة 39: الزّمر.
[10] مقطع من الآية 88، من السورة 28: القصص.
[11] الآية 26 و27، من السورة 55: الرحمن.
[12] الآية 39 و40، من السورة 37: الصّافّات.
[13] ذيل الآية 24، من السورة 12: يوسف.
الاكثر قراءة في مقالات قرآنية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة