علم الحديث
تعريف علم الحديث وتاريخه
أقسام الحديث
الجرح والتعديل
الأصول الأربعمائة
الجوامع الحديثيّة المتقدّمة
الجوامع الحديثيّة المتأخّرة
مقالات متفرقة في علم الحديث
أحاديث وروايات مختارة
علم الرجال
تعريف علم الرجال واصوله
الحاجة إلى علم الرجال
التوثيقات الخاصة
التوثيقات العامة
مقالات متفرقة في علم الرجال
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
اصحاب الائمة من التابعين
اصحاب الائمة من علماء القرن الثاني
اصحاب الائمة من علماء القرن الثالث
علماء القرن الرابع الهجري
علماء القرن الخامس الهجري
علماء القرن السادس الهجري
علماء القرن السابع الهجري
علماء القرن الثامن الهجري
علماء القرن التاسع الهجري
علماء القرن العاشر الهجري
علماء القرن الحادي عشر الهجري
علماء القرن الثاني عشر الهجري
علماء القرن الثالث عشر الهجري
علماء القرن الرابع عشر الهجري
علماء القرن الخامس عشر الهجري
أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكوفة.
المؤلف: الشيخ محمّد جواد آل الفقيه.
المصدر: عمّار بن ياسر.
الجزء والصفحة: ص 164 ـ 188.
2023-10-27
1458
بعد انتهاء وقعة الجمل قدم علي (عليه السلام) الكوفة (1) في شهر رجب سنة 36 هـ، فدخلها ومعه أشراف الناس من أهل البصرة وغيرهم، فاستقبله أهل الكوفة وفيهم قرّاؤهم وأشرافهم، فدعوا له بالبركة وقالوا: يا أمير المؤمنين، أين تنزل؟ أتنزل القصر؟ قال: لا، ولكنّي أنزل الرْحَبة، فنزلها وأقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلّى فيه ركعتين ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله، ثم قال:
أمّا بعد يا أهل الكوفة، فإنّ لكم في الإِسلام فضلاً ما لم تبدّلوا وتغيّروا، دعوتُكم إلى الحق فأجبتم، وبدأتم بالمنكر فغيّرتم، إلا انّ فضلكم فيما بينكم وبين الله، فأمّا في الأحكام والقسم فأنتم أسوة غيركم ممّن أجابكم ودخل فيما دخلتم فيه.
ألا إنّ أخوفَ ما أخافُ عليكم اتّبَاعَ الهوى وطولَ الأمل، أمّا اتّباعُ الهوى فيصدّ عن الحق، وأمّا طولُ الأمل فينسي الآخرة؛ ألا انّ الدنيا قد تَرحّلَتْ مدبرة وانّ الآخرة قد ترحّلَتْ مقبلة، ولكل واحدةٍ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة اليومَ عملٌ ولا حساب! غداً حسابٌ ولا عمل؛ الحمد لله الذي نصر وليه، وخذل عدوه، وأعزّ الصادق المحق، وأذل الناكث المبطل.
عليكم بتقوى الله وطاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم الذين هم أولى بطاعتكم فيما أطاعوا الله فيه من المستحلّين المدّعين المقابلين إلينا، يتفضلون بفضلنا ويجاحدوننا أمرنا، وينازعوننا حقنا، ويباعدوننا عنه، فقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غِيّاً، ألا أنّه قد قعد عن نصرتي رجال منكم، وأنا عليهم عاتب زارٍ فاهجروهم وأسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا ليُعرفَ بذلك حزب الله عند الفرقة.
فقام إليه مالك بن حبيب اليربوعي ـ وكان صاحبَ شرطته ـ فقال: والله إنّي لأرى الهجر وسماع المكروه لهم قليلاً، والله لو أمرتنا لنقلتنّهم. فقال علي (عليه السلام): سبحان الله يا مالكِ جُزت المدى وعدوت الحدّ فأغرقت في النزع. فقال: يا أمير المؤمنين، لبعضُ الغشم أبلغ في أمرٍ ينوبك من مهادنة الأعادي؟ فقال (عليه السلام): ليس هكذا قضى الله يا مالكِ، قال سبحانه: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) فما بال ذكر الغشم؟ وقال تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ} والإِسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك، فقد نهى الله عنه، وذاك هو الغشم.
فقام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي ـ وكان ممّن تخلّف عنه ـ فقال: يا أمير المؤمنين؛ أرأيت القتلى حول عائشةَ وطلحةَ والزبير، علامَ قُتلوا؟ أو قال: بِمَ قُتلوا؟ فقال (عليه السلام): قُتلوا بما قَتلوا شيعتي وعمّالي، وقتلوا أخا ربيعة العبديّ في عصابةٍ من المسلمين قالوا: إنّا لا ننكث كما نكثتم ولا نغدر كما غدرتم فوثبوا عليهم فقتلوهم. فسألتهم أن يدفعوا لي قَتَلةَ إخواني أقتلهم بهم ثم كتاب الله حكم بيني وبينهم فأبوا عليّ وقاتلوني وفي أعناقهم بيعتي ودماءُ قريبٍ من ألف رجل من شيعتي، فقتلتهم أفي شك أنت من ذلك؟ فقال: قد كنت في شك، فأمّا الآن فقد عرفت، واستبان لي خطأ القوم، وأنّك المهتدي المصيب.
ثم إنّ علياً (عليه السلام) تهيّأ لينزل، وقام رجال ليتكلّموا، فلمّا رأوه نزل جلسوا وسكتوا، ونزل بالكوفة على جعدةَ بن هبيرة المخزومي وهو ابن أخته أم هاني، ودخل المسجد فصلّى ثم تحوّل فجلس إليه الناس، فسأل عن رجل من الصحابة كان نزل الكوفة فقال قائل: استأثر الله به، فقال علي (عليه السلام): إنّ الله تبارك وتعالى لا يستأثر بأحدٍ من خلقه، إنّما أراد الله جل ذكره بالموت اعزاز نفسه واذلال خلقه، وقرأ قوله تعالى: {كُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}.
ولمّا لحق به (عليه السلام) ثقَلُه قالوا: أننزل القصر؟
فقال (عليه السلام): قصر الخبال (2) لا تنزلوا فيه.
ومكث (عليه السلام) في الكوفة، فقال شن بن عبد القيس:
قل لهذا الإِمام قد خبتَ الحر
بُ وتمّت بذلك النعماءُ
وفرغنا من حرب من نقض العهدَ
وبالشام حيّة صمّاء
تنفث السم ما لمن نهشته
فارمها قبل أن تعض شفاءُ
إنّه والذي يحجُّ له الناس
ومن دون بيته البيداء
لضعيف النخاع إن رمي اليوم
بخيلٍ كأنّها أشلاء
تتبارى بكلّ أصيد كالفحل
بكفّيه صُعْدةٌ سمراء
إن تذره فما معاوية الدهر
بمعطيك ما أراك تشاءُ
ولنَيْلُ السماء أقرب من ذاك
ونجم العيّوق والعوّاءُ
فاعدُ بالحد والحديد إليهم
ليس والله غير ذاك دواء
وخطب علي (عليه السلام) الناس في يوم الجمعة، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله: أوصيكم بتقوى الله فإنّ تقوى الله خيرَ ما تواصى به عبادُ الله وأقربَه إلى رضوان الله وخيره في عواقب الأمور عند الله، وبتقوى الله أمرتم، وللإِحسان والطاعة خلقتم، فاحذروا من الله ما حذّركم من نفسه فانّه حذّر بأساً شديداً، واخشوا خشيةً ليست بتعذير، واعملوا في غير رياءٍ ولا سُمْعة، فانّه من عمل لغير الله وكَلَهُ الله إلى ما عمل له ومن عمل لله مخلِصاً تولَّى الله أجره، اشفقوا من عذاب الله فانّه لم يخلقكم عبثاً ولم يترك شيئاً من أمركم سدى، قد سمّى آثاركم وعلم أعمالكم وكتب آجالكم، فلا تغتروا بالدنيا فانّها غرّارةٌ لأهلها، مغرورٌ من اغتر بها، وإلى فناءٍ ما هي، وانّ الآخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون، اسأل الله منازل الشهداء ومرافقة الأنبياء، ومعيشة السعداء فإنّما نحن به وله.
ثم استعمل علي (عليه السلام) العمّال وفرقهم في البلاد واستعد لمواجهة معاوية وأهل الشام (3).
عليٌّ (عليه السلام) يدعو معاوية إلى البيعة:
أقبل جرير بن عبد الله البجلي إلى علي (عليه السلام) فقال له: ابعثني يا أمير المؤمنين إليه ـ يعني معاوية ـ فانّه لم يزل لي مستخلصا ووُدّاً، آتيه فأدعوه على أن يسلّم لك هذا الأمر ويجتمع معك على الحق على أن يكون أميراً من أمرائك وعاملاً من عمّالك ما عمل بطاعة الله واتبع ما في كتاب الله، وأدعو أهل الشام إلى طاعتك وولايتك، فجلّهم قومي وأهل بلادي، وقد رجوت ألّا يعصوني.
فبعثه علي (عليه السلام) وقال له: إنّ حولي من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أهل الرأي والدين من قد رأيت، وقد اخترتك عليهم لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيك «إنّك من خير ذي يمن» ائتِ معاوية بكتابي، فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون، وإلا فانبذ إليه، وأعلمه أنّي لا أرضى به أميراً، وانّ العامة لا ترضى به خليفة، فانطلق جرير حتى أتى الشام، ونزل بمعاوية، فلمّا دخل عليه حمد الله وأثنى عليه وقال: أمّا بعد يا معاوية فانّه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين وأهل المصرين، وأهل الحجاز وأهل اليمن وأهل مصر، وأهل العروض ـ عُمان ـ وأهل البحرين واليمامة، فلم يبقَ إلا هذه الحصون التي أنت فيها ولو سال عليها سيل من أوديته لأغرقها، وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى مبايعة هذا الرجل، ثم دفع إليه كتاب علي (عليه السلام) وفيه: أمّا بعد: فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتكَ وأنتَ بالشام؛ لأنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمرَ وعثمانَ على ما بُويعوا عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار إذا اجتمعوا على رجل فسمّوْهُ إماماً، كان ذلك لله رضاً، فإن خرج من أمرهم خارج بطعنٍ أو رغبةٍ، رَدّوه إلى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه على إتباع سبيل المؤمنين وولّاه الله ما تولّى ويصليه جهنم وساءت مصيرا، وانّ طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي فكان نقضهما كرِدّتِهما، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون فإن أحب الأمور إليّ فيك العافية إلا أن تتعرّض للبلاء، فإن تعرّضت له قاتلتك واستعنت بالله عليك، وقد أكثرت الكلام في قتلة عثمان، فأدخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم إليّ أحملك وإياهم على كتاب الله، فأما تلك التي تريدها فخدعةُ الصبيّ عن اللبن، ولعمري لئن نظرتَ بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان، وأعلم أنّك من الطلقاء الذين لا يحل لهم الخلافة، ولا تُعرض عليهم الشورى، وقد أرسلت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد الله البجليّ وهو من أهل الإِيمان والهجرة، فبايع ولا قوة إلا بالله (4).
أمّا جرير، فانّه بعد أن سلم معاوية الكتاب وقرأه، قام خطيباً فقال في جملة ما قال:
أيّها الناس، إنّ أمر عثمان قد أعيا من شهده فكيف بمن غاب عنه، وانّ الناس بايعوا علياً غير واتر ولا موتور، وكان طلحة والزبير ممن بايعاه ثم نكثا بيعته على غير حدث، ألا وانّ هذا الدين لا يحتمل الفتن، وقد كانت بالبصرة أمس روعة ملحمةٍ إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس، وقد بايعت الأمة علياً، ولو ملكنا والله الأمور لم نختر لها غيره، ومن خالف هذا استعتب، فادخل يا معاوية فيما دخل فيه الناس.
فان قلت استعملني عثمان ثم لم يعزلني، فان هذا قول لو جاز لم يقم لله دين وكان لكل امرىءٍ ما في يديه، ولكن الله جعل للآخر من الولاة حق الأول، وجعل الأمور موطأه ينسخ بعضها بعضاً. فقال معاوية: انظرُ وتنظر، واستطلع رأي أهل الشام.
معاوية يشاور أهل الشام:
وبعد أيام أمر معاوية مناديه فنادى، الصلاة جامعة، فلمّا اجتمع الناس صعد المنبر ثم خطب خطبة جاء في آخرها: أيها الناس، قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان عليكم، واني لم أقم رجلاً منكم على خزايةٍ قط، واني وليُّ عثمان، وقد قُتل مظلوماً، والله تعالى يقول: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان؟ فقام أهل الشام بأجمعهم فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان وبايعوه على ذلك، وأوثقوا له على أن يبذلوا بين يديه أموالهم وأنفسهم حتى يدركوا بثأره أو تلتحق أرواحهم بالله.
وغني عن التفسير ما يحمل هذا الأسلوب من مغالطات لا تنطلي إلا على السذج والبسطاء من الناس، فمتى كان معاوية هو ولي عثمان، سيما مع وجود الولي الشرعي أعني الخليفة المفترض الطاعة، وهو الإِمام علي (عليه السلام)، فانّ علياً هو الولي ـ بعد خلافته ـ ومن حقه هو فقط الطلب بدم عثمان وله السلطة المطلقة في ذلك طبقاً للموازين والأعراف الدينيّة والشرعيّة.
ولو تنازلنا وسلّمنا بأنّ معاوية هو ولي عثمان، فما علاقة علي (عليه السلام) بدم عثمان، ولماذا يكون هو المستهدف بالثأر؟ لكنّها السياسة الفاجرة التي تلصق الجريمة بأبعد الناس عنها!! لكن معاوية حين أمسى واختلى بأهله، اغتم وذهبت به الفكر بعيداً، فبالأمس كان طلحة والزبير قد دفعا ثمن نكثهما بيعة على غالياً، وها هي الحواضر الإِسلامية برمتها تفتح ذراعيها لعلي، ما عدا الشام، ترى ماذا يفعل؟ أيستسلم للأمر الواقع فيبايع وينتهي كل شيء وتنتهي أحلامه الكبار؟ أم أنّه يقاوم بقميص عثمان وأنامل نائلة، يستثير بهما عواطف البسطاء من الناس؟ إخطار الثانية اختارها متأرجحةً بين خطر الموت والقتل بسيف علي، وبين مجد السلطان وانبساط الدنيا وزهو الملك إذا قدّر لعلي أن يخسر الحرب أو على الأقل ألا يكون هنالك لا غالب ولا مغلوب، أمّا أنّ علياً صاحب الحق وأنّ الخلافة لازمه الطبيعي والأخلاقي والشرعي، فهذا ممّا لا يحرّك في ضمير معاوية شيئاً، وان شئت فقل: استولت الدنيا على شعوره وتفكيره وأخذت بمجامع قلبه فلم يكن للآخرة عنده نصيب، لذلك جعل يردد هذه الأبيات:
تطاول ليلي واعترتني وساوسي
لآتٍ أتى بالترهات البسابس
أتاني جرير والحوادث جَمّة
بتلك التي فيها اتداع المعاطسِ
أكايده والسيف بيني وبينه
ولست لأثواب الدنيء بلابس
إنّ الشامُ أعطت طاعة يمنيةً
توافها أشياخها في المجالس
فان يفعلوا أصدم علياً بجبهةٍ
تفت عليها كل رطب ويابس
واني لأرجو خير ما نال نائل
وما أنا من ملك العراق بآيس (5)
ثم إنّ جريراً جعل يستحث معاوية بالبيعة لعلي (عليه السلام)، فقال له معاوية: يا جرير، أنّها ليست بخلسة وأنّه أمر له ما بعده، فابلعني ريقي حتى أنظر.
وكان بإمكان معاوية أن يرفض البيعة حين جاءه جرير بكتاب علي وليكن ما يكون ولكنه في الفترة التي كان يكايد فيها جريراً ويوهمه أنه ينظر في الأمر، كان قد بدأ بتجميع القوى الشامية وتكريسها لصالحه وتأهيلها للحرب وكأنه بذلك يرد على كتاب علي بأنّه والشام على أهبة الاستعداد لمواجهته عسكرياً، لذلك دعا قادة الجند وزعماء القبائل ممّن يثق بهم للاستشارة، فأشار عليه أخوه عتبة بن أبي سفيان بعمرو بن العاص، وقال له إنّه من قد عرفت، وقد اعتزل عثمان في حياته، وهو لأمرك أشد اعتزالاً إلا أن يثمن له دينه.
معاوية يستعين بعمرو بن العاص وشرحبيل:
فاستدعى معاوية عمراً، فاشترط عليه ولاية مصر ثم استقدم شُرَحْبيل بن السمط، رئيس اليمنية وشيخها والمقدم عليها، ودسَّ إليه الرجال يغرونه بعلي (عليه السلام)، ويشهدون عنده أنّه قتل عثمان حتى ملأوا صدره وقلبه حقداً وتِرةً واحنةً على علي (عليه السلام) وأصحابه. فقال له معاوية: يا شُرَحْبيل، علي خير الناس لولا أنّه قتل عثمان بن عفان، وقد حبست نفسي عليك وإنّما أنا رجل من أهل الشام أرضى ما رضوا وأكره ما كرهوا. فقال شرحبيل: اخرج فانظر. فخرج شرحبيل، فلقيه أولئك النفر الموطئون له، فكلّهم يخبره بأنّ علياً قتل عثمان بن عفان، فخرج مغضباً إلى معاوية فقال: يا معاوية، أبى الناس إلا أنّ علياً قتل عثمان، والله لئن بايعت لنخرجنّك من الشام أو لنقتلك. قال معاوية: ما كنت لأخالف عليكم، وما أنا إلا رجل من أهل الشام. قال: فرد هذا الرجل ـ يعني جريراً ـ إلى صاحبه! فعرف معاوية أنّ شرحبيلاً قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق، وأنّ الشام كله مع شرحبيل. فأتى حُصَيْنَ بن نمير فقال: ابعث إلى جرير فليأتنا، فبعث حصين بن نمير إلى جرير أن زرنا فعندنا شرحبيل، فاجتمعا عند حصين، فتكلّم شرحبيل فقال: يا جرير، أتيتنا بأمرٍ مُلفّفْ لتلقينا في لهوات الأسد، وأردت أن تخلط الشام بالعراق، وأطريت علياً وهو قاتل عثمان والله سائلك عمّا قلت يوم القيامة. فقال له جرير: أمّا قولك أنّي جئت بأمر ملفّف فكيف يكون كذلك وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار! وقوتل على رده طلحة والزبير!؟ وأمّا قولك إنّي القيك في لهوات الأسد، ففي لهواتها ألقيت نفسك. وأمّا خلط أهل الشام بأهل العراق، فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل. وأمّا قولك إنّ علياً قتل عثمان، فوالله ما في يديك من ذلك إلا القذف بالغيب من مكان بعيد، ولكنّك مِلْتَ إلى الدنيا وشيء كان في نفسك على زمن سعد بن أبي وقاص فبلغ ما قالاه إلى معاوية، فبعث إلى جرير فزجره. قال نصر في كتابه:
وكتب إلى شرحبيل كتاب لا يعرف كاتبه، فيه:
شرحبيل يا بن السَمطْ لا تتبع الهوى
فما لك في الدنيا من الدين من بدلْ
وقل لابن حرب ما لك اليوم خلة
تروم بها ما رمت واقطع له الأملْ
شرحبيل ان الحق قد جدَّ جدُّه
فكن فيه مأمون الأديم من النعل
مقال ابن هندٍ في علي عضيه
وللهُ في صدر ابن أبي طالب أجلْ
وما كان إلا لازماً قعرَ بيته
إلى أن أتى عثمان في داره الأجل
وصي رسول الله من دون أهله
ومن باسمه في فضله يُضربُ المثل
فلمّا قرأ شرحبيل الكتاب، ذُعر وفكّر وقال: هذه نصيحة لي في ديني، ولا والله لا أعجل في هذا الأمر بشيء وفي نفسي منه حاجة، وكاد يحول عن نصر معاوية ويتوقف، فلفّق له معاوية الرجال يدخلون إليه ويخرجون ويعظمون عنده قتل عثمان ويرمون به علياً، ويقيمون الشهادة الباطلة والكتب المختلفة حتى أعادوا رأيه وشحذوا عزمه(6).
وسار شرحبيل فبدأ بأهل حمص، فقام فيهم خطيباً، وكان أهل الشام يرونه مأموناً ناسكاً متالها، فقال: أيّها الناس، إنّ علياً قتل عثمان. فغضب له قوم من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلقيهم فهزم الجمع وقتل صلحائهم وغلب على الأرض، فلم يبق إلا الشام وهو واضع سيفه على عاتقه، ثم خائض غمرات الموت حتى يأتيكم، أو يحدث الله أمراً، ولا نجد أحداً أقوى على قتاله من معاوية، فجدّوا وانهضوا. فأجابه الناس كلهم! إلا نُسّاكاً من أهل حمص، فانّهم قالوا له: بيوتنا قبورُنا ومساجدُنا، وأنت أعلم بما ترى. وجعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفراغها، لا يأتي على قوم إلا قبلوا ما أتاهم به. فبعث له النجاشي بن الحارث ـ وكان له صديقاً ـ بأبياتٍ، منها:
شرحبيل ما للدين فارقت ديننا
ولكن لبغض المالكي جريرِ
وشحناء دبّت بين سعدٍ وبينه
فأصبحت كالحادي بغير بعيرِ
أتفعل أمراً غبت عنه بشبهةٍ
وقد حار فيه عقل كلّ بصيرِ
بقول رجالٍ لم يكونوا أئمةً
ولا للتي لقوقها بحضورِ
وتترك أن الناس أعطوا عهودهم
عليّاً على أنس به وسرورِ
إذا قيل هاتوا واحداً يقتدى به
نظيراً به لم يفصحوا بنظير
لعلك أن تشقى الغداة بحربه
فليس الذي قد جئته بصغير
ثم أقبل شرحبيل حتى دخل على معاوية فقال له: أنت عامل أمير المؤمنين وابن عمه، ونحن المؤمنون، فان كنت رجلاً تجاهد علياً وقتلةَ عثمان حتى ندرك ثأرنا أو تذهب أرواحنا استعملناك علينا، وإلا عزلناك واستعملنا غيرك ممّن نريد ثم جاهدنا معه حتى ندرك ثأرنا بدم عثمان، أو نهلِك. فقال له جرير بن عبد الله: مهلاً يا شرحبيل، فان الله قد حقن الدماء، ولمّ الشعث وجمع أمر الأمة، ودنا من هذه الأمة سكون، فإيّاك أن تفسد بين الناس وأمسك عن هذا القول إن يشيع ويظهر عنك قولٌ لا تستطيعُ ردَّه.
فقال: لا والله لا أستره أبداً! ثم قام فتكلّم به، فقال الناس: صدَقَ صدق! القولُ ما قال، والرأي ما رأى، فأيِسَ جريرٌ عند ذلك من معاوية ومن عوام أهل الشام (7).
قال نصر بن مزاحم في كتابه "صفين":
كان معاوية قد أتى جريراً قبل ذلك في منزله، فقال له: يا جرير، إنّي قد رأيت رأياً، قال: هاته. قال: اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جبايةٌ، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحدٍ بعده في عنقه بيعةً، وأسلم له هذا الأمر، واكتب إليه بالخلافة.
فقال له جرير: اكتبْ ما أردت، أكتُبُ معَكَ، فكتب معاوية بذلك إلى علي (عليه السلام).
فكتب عليٌّ (عليه السلام) إلى جرير: أمّا بعد، فإنّما أراد معاوية ألّا يكون لي في عنقه بيعة، وأن يختار من أمره ما أحب، وأراد أن يريثك ويبطئك حتى يذوق أهلَ الشام؛ وانّ المغيرة بن شعبة قد كان أشار عليَّ أن استعمل معاوية على الشام وأنا حينئذٍ بالمدينة فأبيت ذلك عليه ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا، فان بايعك الرجل وإلا فأقبل، والسلام.
فلمّا انتهى الكتاب إلى جرير أتى معاوية فاقرأه الكتاب وقال له: يا معاوية، إنّه لا يُطبع على قلب إلا بذنب، ولا يُشرح صدر إلا بتوبة، ولا أظن قلبك إلا مطبوعاً عليه، أراك وقد وقفت بين الحق والباطل كأنّك تنتظر شيئاً في يد غيرك.
قال معاوية: ألقاك بالفصل في أول مجلس إن شاء الله.
فلمّا بايع أهل الشام بعد أن جرّبهم واختبرهم، قال يا جرير الحق بصاحبك! وكتب إليه بالحرب، وكتب في أسفل الكتاب شعر كعب بن جعيل:
أرى الشام تكرهُ أهلَ العراقِ
وأهلَ العراقِ لهم كارِهونا (8)
الإِمام علي (عليه السلام) يختبر الفريقين:
ولمّا عزم أمير المؤمنين (عليه السلام) على المسير إلى الشام دعا رجلاً فأمره أن يتجهّز ويسير إلى دمشق، فإذا دخل أناخ راحلته بباب المسجد ولا يلقي من ثياب سفره شيئاً، فانّ الناس إذا رأوه عليه آثار الغربة، سألوه، فليقل لهم: تركت علياً قد نهد إليكم بأهل العراق، فانظر ما يكون من أمرهم. ففعل الرجل ذلك، فاجتمع الناس وسألوه، فقال لهم، فكثروا عليه يسألونه فأرسل إليه معاوية الأعور السلمي يسأله، فأتاه فسأله، فقال له، فأتى معاوية فأخبره، فنادى: الصلاة جامعة، ثم قام فخطب الناس وقال لهم: إنّ علياً قد نهد إليكم في أهل العراق، فما ترون؟ قال: فضرب الناس بأذقانهم على صدورهم لا يتكلمون، فقام ذو الكلاع الحميري فقال: عليك الرأي وعلينا الفعال.
فنزل ونادى في الناس بالخروج إلى معسكرهم. وعاد الرجل إلى علي (عليه السلام) فأخبره بذلك، فنادى: الصلاة جامعة، ثم قام فخطب الناس، فأخبرهم أنّه قدم عليه رسول كان بعثه إلى الشام وأخبره أنّ معاوية قد نهد إلى العراق في أهل الشام، فما الرأي؟ فاضطرب أهل المسجد، هذا يقول الرأي كذا، وهذا يقول الرأي كذا، وكثر اللغط واللجب، فلم يفهم علي (عليه السلام) من كلامهم شيئاً ولم يدر المصيب من المخطئ، فنزل عن المنبر وهو يقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ذهبَ بها ابنُ آكلة الأكباد ـ يعني معاوية (9).
اعتراض بعض قرّاء الشام على معاوية:
وقبل أن يتجهّز أمير المؤمنين علي (عليه السلام) للمسير نحو صفّين، جاء أبو مسلم الخولاني في ناسٍ من قراء أهل الشام إلى معاوية فقالوا له: يا معاوية، علامَ تقاتل علياً وليس لك مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته! فقال: إنّي لا أدّعي أنّ لي في الإِسلام مثل صحبته ولا هجرته ولا سابقته، ولكن خبّروني عنكم، ألستم تعلمون أنّ عثمان قُتل مظلوماً! قالوا: بلى، قال: فليدفع إلينا قتلته لنقتلهم به، ولا قتال بيننا وبينه. قالوا: فاكتب إليه كتاباً يأته به بعضنا. فكتب مع أبي مسلم الخولاني: من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب، سلام عليك، فانّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أمّا بعد، فانّ الله اصطفى محمداً بعلمه، وجعله الأمين على وحيه، والرسول إلى خلقه، واجتبى له من المسلمين أعوانا أيّده الله تعالى بهم، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإِسلام، فكان أفضلهم في الإِسلام وأنصحهم لله ورسوله الخليفة من بعده، ثم خليفة خليفته من بعد خليفته، ثم الثالث الخليفة المظلوم عثمان! فكلّهم حسَدْتَ، وعلى كلّهم بغيتَ، عرفنا ذلك في نظرك الشزرْ، وقولك الهجر، وتنفُسّكَ الصعداء، وابطائك عن الخلفاء، تُقاد إلى كلٍّ منهم كما يُقادُ الفحل المخشوش، حتى تبايع وأنت كاره، ثم لم تكن لأحد منهم بأعظم حسداً منك لابن عمك عثمان، وكان أحقّهم أن لا تفعل ذلك في قرابته وصهره فقطعتَ رحمَهُ، وقبّحتَ محاسنَهُ وألّبت الناس عليه، وبطنت وظهرت حتى ضُرِبَت إليه آباط الإِبل، وقيدت إليه الإِبل العِراب، وحُمل عليه السلاح في حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقتل معك في المحنة وأنت تسمع في داره الهائعة، لا تردع الظن والتهمة عن نفسك بقولٍ ولا عمَل.
وأقسم قسماً صادقاً لو قمت فيما كان من أمره مقاماً واحداً تنهنه الناس عنه ما عدل بك من قِبلنا من الناس أحداً ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان والبغي عليه، وأخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين، إيواؤك قتلة عثمان، فهم عضدك وأنصارك، ويدك وبطانتك، وقد ذكر لي أنّك تتنصّل من دمه، فان كنت صادقاً فأمكنّا من قتلته نقتلهم به، ونحن أسرع الناس إليك، وإلا فانّه ليس لك ولأصحابك إلا السيف، والذي لا إله إلا هو لنطلبنّ قتلة عثمان في الجبال والرمال، والبر والبحر حتى يقتلهم الله، أو لتلحقَنَّ أرواحنا بالله، والسلام .
فلمّا قدم أبو مسلم على عليّ (عليه السلام) بهذا الكتاب، قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإنك قد قمت بأمرٍ وُلِّيته، ووالله ما أحب أنّه لغيرك إن أعطيت الحق من نفسك، إنّ عثمان قتل مسلماً محرماً مظلوماً، فادفع إلينا قتلته وأنت أميرنا، فإن خالفك من الناس أحد كانت أيدينا لك ناصرة، وألسنتنا لك شاهدة، وكنت ذا عذرٍ وحجة.
فقال له علي (عليه السلام): اغدُ عليّ غدا فخذ جواب كتابك.
فانصرف أبو مسلم، وفي اليوم التالي رجع ليأخذ جواب كتابه، فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه، فلبست الشيعة أسلحتها ثم غدوا فملأوا المسجد فنادوا: كلنا قتلة عثمان؛ وأكثروا من النداء بذلك. وأذِنَ لأبي مسلم، فدخل، فدفع علي (عليه السلام) جواب كتاب معاوية. فقال أبو مسلم: لقد رأيت قوماً ما لَكَ معهم أمر! قال: وما ذاك؟ قال: بلغ القوم أنّك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان، فضجّوا واجتمعوا ولبسوا السلاح، وزعموا أنّهم قتلة عثمان. فقال علي (عليه السلام): والله ما أردت أن أدفعهم إليك طرفة عين قط، لقد ضربت هذا الأمر أنفه وعينه، فما رأيت ينبغي لي أن أدفعهم إليك ولا إلى غيرك! فخرج أبو مسلم بالكتاب وهو يقول: الآن طاب الضِرَابْ.
جواب الإِمام (عليه السلام) لمعاوية:
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد: فإنّ أخا خولان قدم عليّ بكتاب منك تذكر فيه محمداً (صلى الله عليه وآله) وما أنعم الله به عليه من الهدى والوحي، فالحمد لله الذي صدقه الوعد، وأيّده بالنصر، ومكّن له في البلاد، وأظهره على أهل العداوة والشنآن من قومه الذين وثبوا عليه، وشنفوا له، وأظهروا تكذيبه، وبارزوه بالعداوة، وظاهروا على إخراجه وعلى إخراج أصحابه وأهله، وألبوا عليه العرب، وجادلوهم على حربه، وجهدوا في أمره كل الجهد، وقلّبوا له الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. وكان أشد الناس عليه تأليباً وتحريضاً أسرته والأدنى فالأدنى من قومه إلا من عصم الله. وذكرت أنّ الله تعالى اجتبى له من المسلمين أعواناً أيده الله بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإِسلام، فكان أفضلهم ـ زعمت ـ في الإِسلام وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة وخليفة الخليفة! لعمري إن مكانهما في الإِسلام لعظيم، وانّ المصاب بهما لجرحٌ في الإِسلام شديد فرحمهما الله وجزاهما أحسن ما عملا! وذكرت أنّ عثمان كان في الفضل تالياً، فإن يك عثمان محسناً فسيجزيه الله بإحسانه وإن يك مسيئاً فسيلقى ربّاً غفورا، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولعمري إنّي لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الإِسلام ونصيحتهم لله ولرسوله أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر.
إنّ محمداً (صلى الله عليه وآله) لمّا دعا إلى الإِيمان بالله والتوحيد له كنّا أهل البيت أول من آمن به وصدّقه فيما جاء، فبتنا أحوالاً كاملةً مجرّمة (10) تامة، وما يعبد الله في ربع ساكنٍ من العرب غيرنا، فأراد قومنا قتل نبينا، واجتياح أصلنا، وهمُّوا بنا الهموم، وفعلوا بنا الأفاعيل، ومنعونا الميرة (11) وأمسكوا عنّا العذب وألحسونا الخوف، وجعلوا علينا الأرصاد والعيون، واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب، وكتبوا بينهم كتاباً، لا يؤكلوننا، ولا يشاربوننا، ولا يناكحوننا، ولا يبايعوننا ولا نأمن منهم حتى ندفع إليهم محمداً فيقتلوه ويمثلوا به، فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى موسم . فعزم الله لنا على منعه، والذب عن حوزته، والرمي من وراء حرمته، والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل والنهار، فمؤمننا يرجو بذلك الثواب، وكافرنا يحامي عن نفسه. وأمّا من أسلم من قريش فإنّهم ممّا نحن فيه خلاء، منهم الحليف الممنوع، ومنهم ذو العشيرة التي تدافع عنه، فلا يبغيه أحد مثل ما بغانا به قومنا من التلف، فهم من القتل بمكان نجوة وأمن، فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ثم أمر الله تعالى رسوله بالهجرة، وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين، فكان إذا أحمر البأس ودعي للنزال، أقام أهل بيته فاستقدموا، فوقى أصحابه بهم حدّ الأسنة والسيوف. فقتل عبيدة يوم بدر، وحمزة يوم أحد، وجعفر وزيد يوم مؤتة، وأراد من لو شئت ذكر اسمه (12) مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبي (صلى الله عليه وآله) غير مرة، إلا أنّ آجالهم عُجّلت ومنيتهم أُخّرت، والله ولي الإِحسان إليهم، والمنّة عليهم بما أسلفوا من أمر الصالحات، فما سمعت بأحد ولا رأيته هو أنصح في طاعة رسوله ولا لنبيّه، ولا أصبر على اللأواء والسراء والضراء وحين البأس، ومواطن المكروه مع النبي (صلى الله عليه وآله) من هؤلاء النفر الذين سمّيتُ لك وفي المهاجرين خير كثير يعرف، جزاهم الله خيراً بأحسن أعمالهم.
وذكرت حسدي للخلفاء وابطائي عنهم، وبغيي عليهم، فأمّا البغي فمعاذ الله أن يكون، وأمّا الإِبطاء عنهم والكراهية لأمرهم فلست اعتذر للناس عن ذلك.
إنّ الله تعالى ذكره لمّا قبض نبيه، قالت قريش: منّا أمير؛ وقالت الأنصار: منّا أمير؛ فقالت قريش: منّا محمد (صلى الله عليه وآله) نحن أحق بالأمر! فعرفت ذلك الأنصار فسلّمت لهم الولاية والسلطان، فإذا استحقوها بمحمد دون الأنصار، فإنّ أولى الناس بمحمد أحق به منهم، وإلا فإنّ الأنصار أعظم العرب فيها نصيباً، فلا أعلم، أصحابي سلّموا من أن يكونوا حقي أخذوا، أو الأنصار ظلموا، بل عرفت أنّ حقي هو المأخوذ، وقد تركته لهم تجاوزاً لله عنهم وأمّا ما ذكرت من أمر عثمان وقطيعتي رحمه، وتأليبي عليه! عثمان عمل ما قد بلغك، فصنع الناس به ما قد رأيت، وإنّك لتعلم أنّي قد كنت في عزلةٍ عنه، إلا أن تتجنّى، فتجنى ما بدا لك! وأمّا ما ذكرت من أمر قتلة عثمان، فانّي نظرت في هذا الأمر وضربت أنفه وعينه، فلم أر دفعهم إليك ولا إلى غيرك، ولعمري لئن لم تنزع عن غيّك وشقاقك لتعرفنّهم عن قليل يطلبونك لا يكلفوك أن تطلبهم في برٍ ولا بحر، ولا سهل ولا جبل. وقد أتاني أبوك حين ولّى الناس أبا بكر فقال: أنت أحق بمقام محمد، وأولى الناس بهذا الأمر، وأنا زعيم لك بذلك على من خالف، ابسط يدك أبايعك، فلم أفعل. فأنت تعلم أنّ أباك قد قال ذلك وأراده حتى كنت أنا الذي أبيت لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الإِسلام، فأبوك كان أعرف بحقي منك، فإن تعرف من حقي ما كان أبوك يعرف تُصبْ رشدك وان لم تفعل، فسيغني الله عنك؛ والسلام (13).
الإِمام علي (عليه السلام) يستشير المهاجرين والأنصار في القتال:
وعزم علي (عليه السلام) على مواجهة معاوية عسكرياً ولكنّه قبل أن يتجهز لذلك دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار فجمعهم وقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال: أمّا بعد، فإنّكم ميامين الرأي، مراجيح الحلم، مقاويل بالحق، مباركو الفعل والأمر، وقد أردنا المسير إلى عدونا وعدوكم، فأشيروا علينا برأيكم فقام المهاجرون والأنصار كلٌّ يدلي برأيه، ونقتصر هنا على ذكر آراء بعضهم اختصارا للمسافة، فإنّ ذلك يعطينا فكرةً كافية عمّا كان يتمتع به أصحاب علي (عليه السلام) من قوة العقيدة ورباطة الجأش والجرأة والشجاعة.
خطبة هاشم بن عتبة:
فقام هاشم بن عبته بن أبي وقاص الملقب «بالمرفال» فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أمّا بعد يا أمير المؤمنين، فأنا بالقوم جدُّ خبير، هم لك ولأشياعك أعداء، وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء، وهم مقاتلوك وجاهدوك لا يبقون جهداً؛ مشاحةً على الدنيا، وظنّاً بما في أيديهم منها، وليس لهم إربةً غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان بن عفان، كذبوا، ليس بدمه يثأرون، ولكن الدنيا يطلبون، فسر بنا إليهم، فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق إلا الضلال، وإن أبوا إلا الشقاق، فذلك الظن بهم، والله ما أراهم يبايعون وفيهم أحد ممّن يطاع إذا نهى، ولا يسمع إذا أمر(14).
رأي عمّار بن ياسر:
وقام عمار فذكر الله بما هو أهله وحمده وقال: يا أمير المؤمنين، إن استطعت ألّا تقيم يوماً واحداً فافعل! أشخص بنا قبل استعار نار الفجرة، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة وادعهم إلى حظهم ورشدهم، فإن قبلوا سعدوا؛ وإن أبوا إلا حربنا، فوالله إنّ سفك دمائهم والجد في جهادهم لقربة عند الله وكرامة منه.
رأي قيس بن سعد بن عبادة:
ثم قام قيس بن سعد بن عبادة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، انكمش بنا إلى عدونا ولا تعرج (15) فوالله لجهادهم أحب إليّ من جهاد الترك والروم؛ لإدهانهم (16) في دين الله، واستدلالهم أولياءَ الله من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، إذا غضبوا على رجل حبسوه وضربوه وحرموه وسيروه، وفيئنا لهم في أنفسهم حلال، ونحن لهم فيما يزعمون قطين (17).
الإِمام (عليه السلام) يدعو إلى المسير:
فقام علي (عليه السلام) خطيباً على منبره وجعل يحرّض الناس ويأمرهم بالمسير إلى صفين، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: سيروا إلى أعداء الله، سيروا إلى أعداء السنن والقرآن، سيروا إلى بقية الأحزاب، قتلة المهاجرين والأنصار.
هذا، وقد تقاعس نفر عن الاستجابة، منهم حنظلة بن الربيع، وقد هرب فيما بعد إلى معاوية، ولحقه أناس من قومه، فأمر علي (عليه السلام) بداره فهدمت (18).
بين علي (عليه السلام) وأبي زبيب:
ودخل أبو زبيب بن عوف على علي، فقال: يا أمير المؤمنين، لئن كنّا على الحق لأنت أهدنا سبيلاً، وأعظمنا في الخير نصيباً، ولئن كنّا في ضلالةٍ إنّك لأثقلنا ظهراً وأعظمنا وزراً، أمرتنا بالمسير إلى هذا العدو وقد قطعنا ما بيننا وبينهم من الولاية، وأظهرنا لهم العداوة نريد بذلك ما يعلم الله من طاعتك، وفي أنفسنا من ذلك ما فيها، أليس الذي نحن عليه الحق المبين والحوب الكبير؟ فقال علي: بلى، شهدت أنّك إن مضيت معنا ناصراً لدعوتنا، صحيح النيّة في نصرتنا، قد قطعت منهم الولاية، وأظهرت لهم العداوة كما زعمت، فإنّك ولي الله تسيح في رضوانه، وتركض في طاعته، فأبشر أبا زبيب. فقال له عمار بن ياسر: اثبت أبا زبيب ولا تشك في الأحزاب عدو الله ورسوله. فقال: ما أحب أن لي شاهدين من هذه الأمة فيشهدوا لي على ما سألت عنه من هذا الأمر الذي أهمني مكانكما. وخرج عمار بن ياسر وهو يقول:
سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي
سيروا فخيرُ الناس أتباعُ علي
هذا أوان طاب سلّ المشرفي
وقَوْدُنا الخيلَ وهزُّ السمهري
يزيد بن قيس وزياد بن النضر
ودخل يزيد بن قيس الأرحبي على علي بن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين، نحن على جهازٍ وعدة، وأكثر الناس أهل قوة، ومن ليس بمضعَّف وليس به علة، فمرْ مناديك فلينادِ الناس يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة، فإنّ أخا الحرب ليس بالسؤوم ولا النؤوم ولا من إذا أمكنته الفرصُ أجّلها واستشار فيها، ولا من يؤخّر الحرب في اليوم إلى غدٍ وبعد غد! فقال زياد بن النضر: لقد نصح لك يا أمير المؤمنين يزيد بن قيس وقال ما يعرف، فتوكّل على الله وثق به، وأشخص بنا إلى هذا العدو راشداً معاناً، فإن يرد الله بهم خيراً لا يدعوك رغبةً عنك إلى من ليس مثلك في السابقة مع النبي (صلى الله عليه وآله) والقدم في الإِسلام والقرابة من محمد (صلى الله عليه وآله) وإلّا يُنيبوا ويقبلوا ويأبوا إلا حربنا، نجد حربهم علينا هيّناً، ورجونا أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم بالأمس.
رأي عبد الله بن بديل:
ثم قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقال:
يا أمير المؤمنين، إنّ القوم لو كانوا الله يريدون، أو لله يعملون، ما خالفونا، ولكنّ القوم إنّما يقاتلون فراراً من الأسوة (19) وحباً للأثرة، وظناً بسلطانهم، وكرهاً لفراق دنياهم التي في أيديهم، وعلى إحنٍ في أنفسهم، وعداوةٍ يجدونها في صدورهم، لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمةٍ، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم.
ثم التفت إلى الناس فقال: فكيف يبايع معاوية علياً وقد قتل أخاه حنظلة وخاله الوليد، وجده عتبة في موقف واحد، والله ما أظن أن يفعلوا، ولن يستقيموا لكم دون أن تقصد فيهم المرّان (20)، وتقطع على هامهم السيوف، وتنثر حواجبهم بعمد الحديد، وتكون أمور جمّة بين الفريقين.
ثم إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كتب إلى ولاته وعمّاله في الآفاق كتباً يوصيهم فيها بتقوى الله والعطف على الرعية ويأمرهم بالتوسعة في العطاء على من عندهم وإرسال ما يتبقى لصرفه في شؤون الجيش.
الإِنذار الأخير:
وكتب إلى معاوية كتاباً يعظه فيه أولاً ويخوّفه من الدنيا، ثم يبكّته ويضعه في خانة العدو المغتصب للحق، والمتسلط والباغي الذي ركبه الشيطان حتى جرى منه مجرى الدم في العروق، وينصحه بالعودة إلى جادة الصواب، ولعلّه آخر كتبه (عليه السلام) لمعاوية قبل الخروج للحرب، وكأنّه يعطيه الإِنذار الأخير ويقيم عليه الحجة، وجاء فيه: إنّك قد رأيت من الدنيا وتصرّفها بأهلها وإلى ما مضى منها، وخير ما بقي من الدنيا ما أصاب العباد الصادقون فيما مضى، ومن نسي الدنيا نسيان الآخرة يجد بينهما بوناً بعيداً، واعلم يا معاوية أنّك قد أدّعيت أمراً لست من أهله لا في القِدَم ولا في الولاية، ولست تقول فيه بأمرٍ بيّن تعرف لك به أثرة ولا لك عليه شاهد من كتاب الله ولا عهد تدّعيه من رسول الله، فكيف أنت صانع إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنياً أبهجت بزينتها، وركنت إلى لذتها، وخلّي فيها بينك وبين عدوٍّ جاهد ملح، مع ما عرض في نفسك من دنيا قد دعتك فأجبتها، وقادتك فاتبعتها، وأمرتك فأطعتها، فاقعس (21) عن هذا الأمر وخذ أهبة الحساب، فإنّه يوشك أن يفقك واقف على ما لا يُجنُّك من مِجَن، ومتى كنتم يا معاوية ساسةً للرعية، أو وُلاةً لأمر هذه الأمة بغير قدَمٍ حسن، ولا شرفٍ سابقٍ على قومكم، فشمّر لما قد نزل بك، ولا تُمكّن الشيطان من بُغيته فيك، مع أنّي أعرف أنّ الله ورسوله صادقان، فنعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء، وإلّا تفعل أعلمك ما أغفلك من نفسك، فإنّك مُترفٌ قد أخذ منك الشيطان مأخذه، فجرى منك مجرى الدم في العروق، واعلم أنّ هذا الأمر لو كان إلى الناس أو بأيديهم لحسدونا وأمتنّوا به علينا، ولكنّه قضاءٌ ممّن امتنّ به علينا على لسان نبيّه الصادق المصدّق، لا أفلح من شك بعد العرفان والبيّنة. اللهم أحكم بيننا وبين عدونا بالحق وأنت خير الحاكمين.
وكتب (عليه السلام) إلى عمرو بن العاص كتاباً يعظه فيه ويحذره أمر الدنيا، ويقول فيه أخيراً والسعيد من وعظ بغيره، فلا تحبط أجرك أبا عبد الله، ولا تجارينّ معاوية في باطله فإنّ معاوية غمص الناس، وسفّه الحق، والسلام. وأرسل إلى قادة العرب وزعماءهم في الأمصار يستنهضهم للقتال، فأجابه منهم خلق كثير، وقد اقتصرنا على هذا القدر تحاشياً عن الإِطالة.
كتاب محمد بن أبي بكر (رض) إلى معاوية:
ولمحمد بن أبي بكر (رضي الله عنه) قدم سبق في الإِسلام ولدى أمير المؤمنين على مكانة خاصة، وتشهد له على ذلك مواقفه في حرب الجمل كما قدّمنا، ومواقفه قبل وبعد صفّين، وقد كتب إلى معاوية كتاباً بمثابة إقرار واعتراف من الصادق الصدوق بفضل الإِمام علي (عليه السلام) على بقيّة أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله)، كما أنّ فيه تبكيت وتأنيب لمعاوية على موقفه من الإِمام علي وبغيه وطلبه ما ليس له، ونحن نذكره كما جاء في رواية نصر: بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي بن صخر، سلام على أهل طاعة الله من هو مسلمٌ لأهل ولاية الله، أمّا بعد: فإنّ الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقاً بلا عنَت، ولا ضعف في قوته، ولا حاجةٍ به إلى خلقهم، ولكنّه خلقهم عبيداً، وجعل منهم شقياً وسعيداً، وغوياً ورشيداً ثم اختارهم على علمه، فاصطفى وانتخب منهم محمداً (صلى الله عليه وآله)، فاختصه برسالته، واختاره لوحيه، وائتمنه على أمره، وبعثه رسولاً مصدقاً لما بين يديه من الكتب، ودليلاً على الشرائع، فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فكان أول من أجاب وأناب، وصدّق ووافق وأسلم وسلّم ـ أخوه وابن عمّه علي بن أبي طالب (عليه السلام) فصدّقه بالغيب المكتوم وآثره على كل حميم، فوقاه كلّ هول، وواساه بنفسه في كل خوف، فحارب حربه، وسالم سَلْمَه، فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في ساعات الأزل (22) ومقامات الروع، حتى برز سابقاً لا نظير له في جهاده، ولا مقارب له في فعله ، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت. وهو هو المبرّز السابق في كل خير، أول الناس إسلاماً، وأصدق الناس نية، وأطيب الناس ذرية، وأفضل الناس زوجة، وخير الناس ابنَ عم، وأنت اللعين بن اللعين. ثم لم تزل أنت وأبوك تبغيان الغوائل لدين الله، وتجهدان على إطفاء نور الله، وتجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان فيه المال، وتخالفان فيه القبائل. على ذلك مات أبوك، وعلى ذلك خلفته، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب، ورؤوس النفاق والشقاق لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والشاهد لعليٍّ مع فضله المبين وسبقه القديم، أنصاره الذين ذُكروا بفضلهم في القرآن فأثنى الله عليهم من المهاجرين والأنصار، فهم معه عصائب وكتائب حوله، يجالدون بأسيافهم ويريقون دماءهم دونه، يرون الفضل في اتّباعه، والشقاء في خلافه، فكيف ـ يا لك الويل ـ تعدل نفسك بعلي، وهو وارث رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووصيُّه وأبو ولده، وأول الناس له اتباعاً، وآخرهم به عهداً، يخبره بسرّه ويُشركه في أمره؛ وأنت عدوُّه وابن عدوه؟! فتمتّع ما استطعت بباطلك، وليمدد لك ابن العاص في غوايتك، فكأنّ أجلك قد انقضى، وكيدك قد وهوى. وسوف يستبين لمن تكون العاقبة العليا، واعلم أنّك إنّما تكايد ربّك الذي قد أمنت كيده، وأيست من روحه، وهو لك بالمرصاد، وأنت منه في غرُور، وبالله وأهل رسوله عنك الغَنَاء، والسلام على من اتبع الهدى (23).
وقد أجابه معاوية على كتابه هذا ولا داعي لذكره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) اعتمدت في نقل حوادث واقعة صفين على كتاب صفين لنصر بن مزاحم بالإضافة إلى شرح النهج لابن أبي الحديد، ومروج الذهب للمسعودي، وكذلك تاريخ الطبري وغيرها، ولا أرى نفسي ملزماً بذكر الجزء والصفحة من هذه الكتب وغيرها؛ لأنّه يشبه بعضها بعضاً في النص وقد تقصدت التغيير في صورة النص مع حفظ المضمون طبعاً وحذف الأسانيد اللهم إلا ما تفردّت به بعض هذه الكتب دون غيرها من النصوص.
(2) الخبال: الفساد.
(3) صفين ص 3 ـ 10 وشرح النهج 3 / 102 ـ 108.
(4) صفين 27 ـ وشرح النهج 2 / 74 ـ 76.
(5) شرح النهج 3 / 78.
(6) نفس المصدر 80.
(7) نفس المصدر 83 ـ 84.
(8) شرح النهج 3 / 87.
(9) شرح النهج 3 / 96.
(10) مجرّمة: كاملة.
(11) الميرة ـ المواد الغذائية.
(12) يعني نفسه (ع).
(13) شرح النهج 15 / من 73 إلى 78.
(14) صفين: 92.
(15) في الأصل لا تعرّد، والتعريد معناه الإحجام والانهزام.
(16) الإِدهان: الغش والمصانعة.
(17) القطين: الخدم والأتباع والحشم والمماليك.
(18) راجع كتاب صفين / 95 ـ 97.
(19) الأسوة: المساواة في الحقوق.
(20) الرماح.
(21) أي تأخر وارجع.
(22) الإزْل: الضيق والشدة.
(23) كتاب صفين ص 118.