x
هدف البحث
بحث في العناوين
بحث في اسماء الكتب
بحث في اسماء المؤلفين
اختر القسم
موافق
تأملات قرآنية
مصطلحات قرآنية
هل تعلم
علوم القرآن
أسباب النزول
التفسير والمفسرون
التفسير
مفهوم التفسير
التفسير الموضوعي
التأويل
مناهج التفسير
منهج تفسير القرآن بالقرآن
منهج التفسير الفقهي
منهج التفسير الأثري أو الروائي
منهج التفسير الإجتهادي
منهج التفسير الأدبي
منهج التفسير اللغوي
منهج التفسير العرفاني
منهج التفسير بالرأي
منهج التفسير العلمي
مواضيع عامة في المناهج
التفاسير وتراجم مفسريها
التفاسير
تراجم المفسرين
القراء والقراءات
القرآء
رأي المفسرين في القراءات
تحليل النص القرآني
أحكام التلاوة
تاريخ القرآن
جمع وتدوين القرآن
التحريف ونفيه عن القرآن
نزول القرآن
الناسخ والمنسوخ
المحكم والمتشابه
المكي والمدني
الأمثال في القرآن
فضائل السور
مواضيع عامة في علوم القرآن
فضائل اهل البيت القرآنية
الشفاء في القرآن
رسم وحركات القرآن
القسم في القرآن
اشباه ونظائر
آداب قراءة القرآن
الإعجاز القرآني
الوحي القرآني
الصرفة وموضوعاتها
الإعجاز الغيبي
الإعجاز العلمي والطبيعي
الإعجاز البلاغي والبياني
الإعجاز العددي
مواضيع إعجازية عامة
قصص قرآنية
قصص الأنبياء
قصة النبي ابراهيم وقومه
قصة النبي إدريس وقومه
قصة النبي اسماعيل
قصة النبي ذو الكفل
قصة النبي لوط وقومه
قصة النبي موسى وهارون وقومهم
قصة النبي داوود وقومه
قصة النبي زكريا وابنه يحيى
قصة النبي شعيب وقومه
قصة النبي سليمان وقومه
قصة النبي صالح وقومه
قصة النبي نوح وقومه
قصة النبي هود وقومه
قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف
قصة النبي يونس وقومه
قصة النبي إلياس واليسع
قصة ذي القرنين وقصص أخرى
قصة نبي الله آدم
قصة نبي الله عيسى وقومه
قصة النبي أيوب وقومه
قصة النبي محمد صلى الله عليه وآله
سيرة النبي والائمة
سيرة الإمام المهدي ـ عليه السلام
سيرة الامام علي ـ عليه السلام
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله
مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
حضارات
مقالات عامة من التاريخ الإسلامي
العصر الجاهلي قبل الإسلام
اليهود
مواضيع عامة في القصص القرآنية
العقائد في القرآن
أصول
التوحيد
النبوة
العدل
الامامة
المعاد
سؤال وجواب
شبهات وردود
فرق واديان ومذاهب
الشفاعة والتوسل
مقالات عقائدية عامة
قضايا أخلاقية في القرآن الكريم
قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
مقالات قرآنية
التفسير الجامع
حرف الألف
سورة آل عمران
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة إبراهيم
سورة الإسراء
سورة الأنبياء
سورة الأحزاب
سورة الأحقاف
سورة الإنسان
سورة الانفطار
سورة الإنشقاق
سورة الأعلى
سورة الإخلاص
حرف الباء
سورة البقرة
سورة البروج
سورة البلد
سورة البينة
حرف التاء
سورة التوبة
سورة التغابن
سورة التحريم
سورة التكوير
سورة التين
سورة التكاثر
حرف الجيم
سورة الجاثية
سورة الجمعة
سورة الجن
حرف الحاء
سورة الحجر
سورة الحج
سورة الحديد
سورة الحشر
سورة الحاقة
الحجرات
حرف الدال
سورة الدخان
حرف الذال
سورة الذاريات
حرف الراء
سورة الرعد
سورة الروم
سورة الرحمن
حرف الزاي
سورة الزمر
سورة الزخرف
سورة الزلزلة
حرف السين
سورة السجدة
سورة سبأ
حرف الشين
سورة الشعراء
سورة الشورى
سورة الشمس
سورة الشرح
حرف الصاد
سورة الصافات
سورة ص
سورة الصف
حرف الضاد
سورة الضحى
حرف الطاء
سورة طه
سورة الطور
سورة الطلاق
سورة الطارق
حرف العين
سورة العنكبوت
سورة عبس
سورة العلق
سورة العاديات
سورة العصر
حرف الغين
سورة غافر
سورة الغاشية
حرف الفاء
سورة الفاتحة
سورة الفرقان
سورة فاطر
سورة فصلت
سورة الفتح
سورة الفجر
سورة الفيل
سورة الفلق
حرف القاف
سورة القصص
سورة ق
سورة القمر
سورة القلم
سورة القيامة
سورة القدر
سورة القارعة
سورة قريش
حرف الكاف
سورة الكهف
سورة الكوثر
سورة الكافرون
حرف اللام
سورة لقمان
سورة الليل
حرف الميم
سورة المائدة
سورة مريم
سورة المؤمنين
سورة محمد
سورة المجادلة
سورة الممتحنة
سورة المنافقين
سورة المُلك
سورة المعارج
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة المرسلات
سورة المطففين
سورة الماعون
سورة المسد
حرف النون
سورة النساء
سورة النحل
سورة النور
سورة النمل
سورة النجم
سورة نوح
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة النصر
سورة الناس
حرف الهاء
سورة هود
سورة الهمزة
حرف الواو
سورة الواقعة
حرف الياء
سورة يونس
سورة يوسف
سورة يس
آيات الأحكام
العبادات
المعاملات
قصة بيئة الأبرار
المؤلف: الدكتور محمود البستاني
المصدر: قصص القران الكريم دلاليا وجماليا
الجزء والصفحة: ج2 ، ص472 - 494
9-6-2021
2442
بدأت القصة على هذا النحو :
{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}
{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}
{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}
{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ ...}
هذه البداية القصصية ـ من حيث البناء الفني لهيكل القصة ـ ذات أهمية جمالية بالغة المدى .
إنها تبدأ من وسط الأحداث من بيئة اليوم الآخر ، ثم ترتد إلى بداية الأحداث بيئة الحياة الدنيا ... وتعود بعد ذلك إلى الأحداث وفق تسلسلها الزمني : البادئ بمكان ، هو : الجنة ، وبزمان هو : اليوم الآخر .
إنها تـتنقل وفق مبنى فني ممتع ، من بيئة لاحقة الجنة ، مرتدة إلى بيئة سابقة الدنيا ، عائدة من جديد إلى بيئة الجنة ، ولكن ببداية خاصة وعودة خاصة ، ينبغي أن نتعرفهما فنيا ، نظرا لارتباطهما بالدلالة الفكرية التي تستهدفها القصة .
والسؤال هو : لماذا بدأت القصة بسرد النعيم الاخروي ؟
ثم لماذا بدأت من عنصر خاص هو الشراب وطريقة تناوله ، دون غيره من عناصر البيئة الاخروية ؟
كان بإمكان القصة أن تبدأ بالحديث عن الجنة بعامة ، وعن النضرة والسرور فيها ، من نحو ما نلحظه في الأجزاء اللاحقة في القصة ، كقوله تعالى :
{وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً ...}
كما أنه كان بإمكان القصة أن تبدأ أولا بعرض قضية الإطعام في الحياة الدنيا ، وانسحاب أثره على الحياة الاخروية ، لكنها بدأت بالجنة ، وارتدت إلى الدنيا ، وعادت ثالثة إلى الجنة ...
فما هي الدلالة الفنية لمثل هذه الصياغة للقصة ؟
من حيث البدء بعرض الحياة الاخرى ، وبعنصر الشراب منها ، يمكننا أن نذهب إلى أن القصة في صدد التعريف بشخوص الأبرار بالذات ، نظرا لتميزهم وتفردهم بخصائص لا تـتوفر عادة عند الشخوص العاديين وأهمية الجزاء الاخروي المترتب على سلوكهم في الحياة الدنيا .
من هنا بدأت القصة بتعريف الأبرار ، فقالت :
{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ ...}
فالتلويح بالثواب له معطياته النفسية الكبيرة في التأثير على السلوك ، وحمله على الضبط والتعديل ، كما هو واضح .
وأما كون هذا التلويح بالثواب قد بدأ بعرض الكؤوس والعيون ، وامتزاجها بالرائحة الطيبة وتفجيرها وفق المشتهيات ، فلأنها تـتصل بأقوى الدوافع الحيوية عند الإنسان .
فمن الواضح في حقل الدراسات النفسية ، أن دافع العطش يظل أقوى الدوافع وأشدها إلحاحا في تركيبة الآدميين ... يليها دافع الجوع ، وسائر الدوافع الحيوية الاخرى . هذا من حيث إلحاحية الدوافع الأولية .
وأما الدوافع الأقل إلحاحا ، لكنها ذات أصل حيوي أيضا ، فيجيء ما يسمى في لغة علم النفس بالدوافع الجمالية ، في قمة هذه الحاجات ، وبخاصة حين تقترن بما هو ملح وأولي مثل العطش .
ومن هنا ندرك الأهمية الفنية لبدء القصة بالشراب ، واقترانه بالحاجات الجمالية المتصلة به : من كأس كان مزاجها كافورا ومن عين يفجرونها تفجيرا ...
إذن حينما بدأت القصة بالنعيم الاخروي ، وبعنصر الشراب منه ، وبالحاجة الجمالية المقترنة به ، ... إنما انطوت على سمة فنية لها أهميتها الكبيرة في هذا الميدان .
وها هي القصة ، ما أن بدأت بوصف الحياة الاخروية في نطاق الكؤوس والعيون ، ... حتى ارتدت إلى الحياة الدنيا ، بنحو خاطف سريع ، فذكرتنا بسلوك الأبرار الذين شملهم الوصف المذكور ، فقالت عنهم :
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}
{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}
{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ...}
ها هي القصة تربط بين البيئة التي وصف واحد من عناصرها الشراب ، وبين السلوك الدنيوي الذي رشحهم لمثل هذا الموقع من الجنة .
إذن السلوك الدنيوي هو المستهدف أساسا في القصة ، ولذلك قطعت القصة سلسلة الوصف وارتدت إلى الدنيا لكي تحسسنا بطريقة فنية أهمية هذا السلوك الذي قطعت القصة من أجله سلسلة الحديث عن الجنة ، ... ملفتة انتباهنا إلى أ نه في غاية الخطورة .
هذا السلوك المستهدف هو : الإيفاء بالنذر ، الخوف من يوم كان شره مستطيرا ، الإطعام لوجه الله ، لا طلب الجزاء والشكور من الآخرين ... إلى آخره .
هذه المفردات من السلوك ، تستهدفها القصة أساسا ، مشددة على ذلك كل التشدد من خلال طرحها للمفردات المذكورة دون سواها ...
ويلاحظ أيضا أن القصة عرضت بعض مفردات هذا السلوك على شكل حوار داخلي أجرته على لسان الأبطال مثل قولهم :
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}
ومثل قولهم :
{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا}
والآن ما هي أهمية هذا الحوار ؟ وهل أ نه يتكفل بسرد حكاية لها أبطالها وأحداثها ؟ ثم ما صلة ذلك بالسلوك المستهدف الذي تحدثنا عنه ؟
قلنا : إن القصة سلكت منحى فنيا ، هو قطع سلسلة العرض المتصل بوصف الجنة ، وارتدت إلى الدنيا ، لتنقل لنا قصة الموفين بالنذر ، والمطعمين الطعام ...
قصة الخائفين من يوم كان شره مستطيرا ، والمطعمين لوجه الله لايريدون من الآخرين جزاء ولا شكورا .
إن هذه الدلالة الفكرية تـتطلب وقوفا مليا عندها .
والأهمية الفنية لهذه الدلالة أ نها تربط بين الخاص والعام ، ... تـنـتقل من الجزء إلى الكل ، ... من الخاص إلى العام ... من الأفراد إلى الجمهور ... وهذا هو ميسم الفن العظيم .
القصة تنقل لنا واقعة لأفراد يمثلون نموذجا من صفوة البشر : علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وجاريتهم فضة .
لقد نذروا نذرا والنذر واجب الأداء ، كما هو واضح .
نذروا صوم ثلاثة أيام ... وصاموها فعلا ... لكن الذي حدث أن إفطارهم قدم إلى أحد المساكين لما طرق بابهم أول يوم ، وقدم إلى يتيم وافاهم في اليوم الثاني ، وأسير وافاهم في اليوم الثالث .
القصة لم تنقل لنا تفاصيل هذه الواقعة ، ولم تشر إلى أبطالها ، ... نصوص التفسير هي التي تكفلت بهذه المهمة فحسب ...
ومن هنا جاءت أهمية الفن في القصص القرآنية الكريمة ، حيث يقدم لنا ـ ونقصد بذلك الفن القصصي ـ دلالات محددة في قضية خاصة المعصومين الأربعة (عليهم السلام) لتنطلق منها إلى دلالات عامة ، ... مطلقة ... تعبر الزمان والمكان ، لتـتحدث عن مفاهيم وأفكار وموضوعات يطالب بها كل الآدميين ، لاتخص أحدا دون آخر ، ولا زمانا دون زمان ، ولا مكانا دون مكان ... يطالب كل الآدميين الذين لم يخلقوا عبثا ، بل من أجل ممارسة وظيفتهم العبادية في الأرض ... الوظيفة الاختبارية التي يتجاذبها طرفان من الصراع : العقل والشهوة ، الخير والشر ، التقوى والفجور ، الموضوعية والذات ... وهكذا .
ومن جملة هذه الممارسات ، أو الوظيفة :
الإيفاء بالنذر أيا كان .
والإطعام للمعدمين .
والعمل من أجل الله لا من أجل طلب الشكر من الآخرين .
والخوف من شدائد اليوم الآخر .
هذه الممارسات الأربع تشكل جزء من ممارسات متنوعة وظفتها السماء للآدميين ... وشددت في هذه القصة على هذه الممارسات الأربع بالذات ، نظرا لأهميتها من جانب ، ونظرا لأن الممارسات الاخرى تـتكفل كل قصة أونص آخر بطرحها من جانب آخر ، مادمنا نعرف جميعا أن أهمية النصوص الفنية قصة كانت أم غيرها ، أ نها تـتوزع فيما بينها طرح مختلف الموضوعات ، بحيث يتناول كل منها موضوعا دون آخر ، وكان نصيب القصة التي نحن في صددها طرح الموضوعات الأربعة المتقدمة .
الممارسة أو الوظيفة أو الموضوع الأول الذي طرح في القصة هو : الإيفاء بالنذر .
إن التجارب البشرية في جانبها المعتم عودتنا على أن نألف نماذج كثيرة ، عندما يمسها الأذى والشدة تـتضرع إلى الله ...
ولكن ما أن تفرج الشدة ويزول الأذى ، حتى نراها وقد نسيت تلك النعمة العظيمة وابتعدت عن الله ...
هذه الحقيقة نألفها جميعا ... ونصوص القرآن والسنة تشير إليها بوضوح مما لا حاجة إلى الاستشهاد بها .
والنذر باعتباره واحد من أنماط التوجه نحو الله لإزالة الشدة والوفاء به يشكل ممارسة إيجابية تطالبنا السماء بها ، ... وبالعكس ، فإن عدم الوفاء بــ النذر يشكل نسيانا لنعم الله وغفلة ونكوصا نحو الذات .
والقصة القرآنية الكريمة حينما تشير إلى من(يوفون بالنذر) بعد حديثها عن الجنة ، إنما تربط بين الظفر بمثل هذه المقاعد من الجنة ، وبين ممارسة مثل هذا السلوك الوفاء بالنذر ، حتى أ نها تخلع صفة الأبرار على الأبطال الذين يمارسون مثل هذا السلوك ، أي : الوفاء بالنذر .
أما الممارسة أو الوظيفة الثانية ، فهي الخوف من الحساب في اليوم الآخر :
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}
ومما لا شك فيه ، أن الخوف من الحساب يشكل سمة عامة للأبرار ، مادام التقصير في العمل العبادي بالقياس إلى ما تستحقه السماء ، يظل أمرا واضحا كل الوضوح .
بيد أن ربط هذه السمة بسياق الوفاء بالنذر ، يعني خلع أهمية خاصة على النذر والوفاء به ، بما يصاحبه من خوف في حالة الإخلال بالنذر ، وصف بالشر المستطير .
وأما الممارستان الثالثة والرابعة ، فهما : إطعام المعدمين وأ نه من أجل الله وليس من أجل انتزاع التقدير من الآخرين .
هاتان الممارستان لعلهما من الأهمية بمكان كبير ، وبخاصة أن القصة صاغت الممارسة الأخيرة منهما ـ ونعني بها : الإطعام لوجه الله ـ وفق منحى فني خاص هو الحوار الداخلي للأبطال ، مفصحة بذلك عن أهمية مثل هذه الممارسة .
إن الإطعام وحده ، عملية ذات مغزى خاص في نطاق التدريب على نبذ الذات وإيثار الآخرين .
إنها مشاركة عملية لهموم الآخرين والتعاطف معهم .
إنها مراجعة للذات ، وإخراجها من نطاق العزلة والتمحور والتمركز حول الهموم الفردية إلى نطاق الهموم العامة .
ويلاحظ أن القصة صاغت ثلاثة نماذج من المعدمين : المسكين واليتيم والأسير ، فيما يطبع كلا منهم ميسم خاص من حيث العوز المادي واقترانه بالسمات النفسية لكل واحد منهم .
فالمسكين هو المعدم بعامة ، فيما لا يملك شيئا .
أما اليتيم فتطبعه سمة نفسية ، هي فقدانه للوالد الذي يحيطه بالرعاية النفسية والمادية .
وأما الأسير فتطبعه سمة نفسية اخرى ، هي غربته الاجتماعية بعامة .
والقصة حينما تختار هذه النماذج على اختلاف سماتها النفسية مع خضوعها لطابع موحد هو الفقر ، إنما تشدد ـ فنيا ـ على أهمية الإطعام ومساهمته المتنوعة لمختلف أنماط الإشباع لهم ، ومصاحبة هذا الإشباع للسرور الذي يخلفه الإطعام لكل واحد من هذه النماذج الفقيرة .
ثم انسحاب هذا السرور على المطعمين في اليوم الآخر ، فيما يكافؤون بطعام الجنة التي خصصت القصة لسرد تفصيلاته .
وبكلمة اخرى : ينبغي أن نلتفت إلى الموازنة الفنية في القصة بين الإشباع الذي يحققه المطعمون للجوعى وتنوع طبقات هؤلاء الجوعى وبين الإشباع الذي تحققه السماء للمطعمين ، وتنوع أشكال الشبع الذي ينتظر هؤلاء الأبطال .
هذه الموازنة الفنية أو الهندسية بين المطعمين والجائعين في الدنيا ، وبين المكافأة في النعيم الاخروي ، ... يظل واحدا من السمات الفنية التي ينبغي ألا تغرب عن بالنا .
والمهم أن القصة حينما تلفت انتباهنا إلى أهمية الإطعام ، فإنها في الآن ذاته تطرح مفهوما خاصا عن الإطعام ، هو : أن يكون الإطعام لوجه الله وليس من أجل طلب السمعة ، أو الشكر من الآخرين .
وهذه هي الممارسة الرابعة والأخيرة من الممارسات التي طرحتها القصة ، لكنها تشكل أهمية خطيرة كل الخطورة في ميدان التدريب على نبذ الذات ولذلك أولتها القصة عناية خاصة ، وجعلتها وحدها معيارا لصواب السلوك ، واستحقاق صاحبها مكافأة في اليوم الآخر ، فيما تطبق عليه سمة الأبرار الذين خصصت القصة لهم ، كما سنرى مفصلا .
هناك نماذج بشرية كثيرة ممن يطعم الطعام ، وينثر الأموال على الفقراء ، بيد أن مجرد الإطعام لا يكشف عن أن الشخصية ذات طابع سوي في سلوكها .
إن الإطعام والإنفاق بعامة قد يصبح مؤشرا إلى أن صاحبه مريض حينما يستهدف من الإطعام جلب السمعة ، أو انتزاع الشكر من الآخرين ، أي أ نه يبحث عن تقدير لـ ذاته وحومان عليها ، وإشباع لرغباتها .
ومثل هذا المطعم أو المنفق ـ في مثل هذه الحالة ـ مثل البخيل أيضا حينما يمسك أمواله عن الإنفاق .
فالبخيل يبحث عن إشباع ذاته ويحوم عليها ، محاولا اجتلاب كل ما يحقق فائدة لذاته ، مما يعد مثل هذا السلوك سمة مرضية .
المنفق أمواله من أجل المكانة الاجتماعية أو انتزاع الشكر ، تطبعه أيضا نفس السمة المرضية ، لأ نه مثل البخيل تماما في البحث عن إشباع ذاته واجتلاب الفائدة لها ... كلاهما إذن يحوم على الذات ، كل ما في الأمر أن المنفق يبحث عن الحاجات النفسية لذاته ، والبخيل يبحث عن الحاجات المادية لذاته .
من هنا ، فإن القصة التي نحن في صدد الحديث عنها ، لم تطرح قضية الإطعاممنفصلة عن السمة الصحية لها ، بل تحدثت عن إطعام المسكين واليتيم والأسير ، مقترنا بهذا الحوار الذي تحدث به أبطال القصة مع أنفسهم ، قائلين :
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}
السمة الفنية الثانية التي طبعت هذا الجزء من القصة ، هي : أن القصة استخدمت عنصر التكرار فيما يتصل بالخوف من شدائد اليوم الآخر ، فقالت على لسان أبطالها ، بعد الحديث عن إطعامهم لوجه الله :
{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}
فالملاحظ أن أبطال القصة ، سبق أن تحدثت القصة عنهم عند قضية وفائهم بالنذر ، قائلة :
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}
وهذا يعني أن كل ممارسة من سلوكهم تقترن بالتخوف من الحساب في اليوم الآخر ، مما يعزز الذهاب إلى أن الإطعام يظل من أجل الله فحسب إلى الدرجة التي يخشى من خلالها أن تحاسب الشخصية على كل حركة تفوح برائحة الذات .
غير أن هناك سمة فنية ثالثة تستدعي تأملا كبيرا ، هي عنصر الحوار الذي استخدمته القصة في قضية الإطعام من أجل الله لا من أجل الآخرين ...
ففي قضية الوفاء بالنذر استخدمت القصة عنصر السرد ، لكنها في قضية الإطعام استخدمت القصة عنصر الحوار .
في قضية الوفاء بالنذر ، قالت القصة حاكية عن تخوف الأبرار من يوم الحساب :
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}
أما في قضية الإطعام ، فقد جعلت القصة أبطالها يتحدثون بأنفسهم ، لا أن القصة تخبر عنهم :
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}
{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}
إن طرح مثل هذا السؤال له أهميته الكبيرة دون أدنى شك ، من حيث صلته بالدلالات الفكرية التي تستهدفها القصة .
فما هو السر الفني لهذه السمة ؟
قد يقول القائل : إن أبطال القصة حينما نذروا لله ، فإن قضية الإيفاء بالنذر تظل مقتصرة على العلاقة بينهم وبين الله دون أن تمتد إلى الآخرين . فالقضية قضية صيام ثلاثة أيام ... وقد تمت بشكلها المطلوب ، فيما لا تحتاج إلى حوار وشخوص .
أما قضية الإطعام ، فإنها تـتصل بآخرين تم تقديم الطعام إليهم وهم : المسكين واليتيم والأسير ، حيث اقترن تقديم مثل هذا الطعام بتوجيه خطاب مباشر للفقراء ، أو بتوجيه خطاب لأنفسهم ، قائلين بصمت ... أو بلغة مفكرة :
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}
{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا ...}
إن النصوص المفسرة تلقي إنارة واضحة على هذا الجانب . فبعضها يذهب إلى أن أحد الأبطال وهو الإمام علي (عليه السلام) توجه بحواره إلى الله ، قائلا : «اللهم بدلنا بما فاتنا من طعامنا هذا ما هو خير منه» . بيد أن هذه الإجابة ـ مع افتراض صحة مثل هذا التفسير ـ تحدد صلة الحوار بالله وليس بالفقراء الذين قيل لهم : «إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ...» إلى آخره .
لكن نصوصا اخرى تحدد الأمر بوضوح حين يقول بعضها : إن عليا (عليه السلام) لم يقل في موضع : {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} ، ولكن الله علم أن في قلبه إن ما أطعم لله ، فأخبره بما يعلم من قلبه من غير أن ينطق به .
وفي نص تفسيري آخر : والله ما قالوا هذا ، ولكنهم أضمروا في أنفسهم ، فأخبر الله عن إضمارهم .
إن هذين النصين المفسرين ، يلقيان إنارة كاملة على الموضوع في ذهابهما إلى أن الأبطال لم يوجهوا خطابا للفقراء ، بل وحتى لأنفسهم ، بل أضمروا ذلك إضمارا ، فعلم الله ما في نفوسهم ، فأخبر عنه .
والسؤال هو : ما هو التفسير الفني لمثل هذا الحوار الداخلي ؟
إن أهمية الفن القصصي تـتضح بجلاء ، حينما ندرك أن القصة بعيدا عن نصوص التفسير ، تعلن عن سماتها الفنية من خلال الصياغة الخاصة للأبطال وطريقة تفكيرهم على نحو يستطيع القارئ أن يستخلص أكثر من دلالة حتى لو لم يرجع إلى نصوص التفسير ... وهذه هي سمة الفن العظيم .
إن أي قارئ خبر تذوق القصة بمقدوره أن يستنتج دون تأمل طويل ، أن الأبطال لم يتحدثوا بمثل هذا الكلام {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ ...} {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا ...} إلى آخره ، لعدم وجود مسوغ له . فالفقراء الثلاثة كانوا منفردين ، وليسوا مجتمعين في آن واحد حتى يوجه إليهم مثل هذا الخطاب ، أويوجه ثلاث مرات في أيام ثلاثة : كلا منهم على حدة ، كما أن الأبطال ليسوا في صدد إلقاء مثل هذه العظة على مسامع معدمين لا يملكون ما يطعمون به الآخرين ، بل هم مفتقرون إلى الطعام ...
لهذه الأسباب وسواها يتعين من الزاوية الفنية أن يكون الخطاب مجرد حوار داخلي ، وليس حوارا خارجيا مع المسكين واليتيم والأسير .
لكن السؤال هو : لماذا استخدمت القصة عنصر الحوار هنا ، ولم تستخدمه في قضية الإيفاء بالنذر ، مادام في الحالين يحكم الموقف طابع واحد ، هو أن الأبطال قد اقتصرت علاقتهم بالله ، دون أن تمتد إلى الآخرين ؟
في تصورنا أن القصة حينما تستهدف لفت انتباهنا إلى أهمية الإطعام أو مطلق السلوك الذي يحقق فائدة للآخرين من أجل الله وليس من أجل التقدير أو السمعة ... حينئذ فإن مثل هذا العمل يتطلب إظمارا في داخل الشخصية ، لا إعلانا عنه ، لكنه إضمار حي متحرك في نطاق المشاعر .
مضافاً لذلك فإن مشاعر الأبطال عندما تعرضها القصة بلغتهم أنفسهم ، حينئذ تكون القصة قد تركت تأثيرا كبيرا على القارئ ، يفيد منه في تعديل سلوكه والتدريب على معايشة مثل هذه الحقيقة التي سيرددها في أعماقه كلما أنفق أو عمل خيرا للآخرين ، متحاورا مع نفسه : عملت هذا لله ، أو موجها أفكاره إلى الآخرين من دون نطق : عملت هذا لله لا لكم ...
إن في تجاربنا اليومية آلاف الأفكار التي نحياها مع أنفسنا ، دون أن نحدث بها أحدا ، بل إن الفكر نفسه لغة غير منطوق بها ... وأهمية نقل الأفكار إلى الآخرين من خلال الحوار الداخلي يعرفها جيدا قراء القصة النفسية الحديثة التي انبثقت مع العقد الثالث من هذا القرن ، فيما أولت الحوار الداخلي أهمية كبيرة إلى الدرجة التي قد تقوم من خلاله رواية كاملة على العنصر المذكور .
والمهم أن القصة القرآنية الكريمة ، حينما نقلت لنا على لسان الأبطال كلاما لم ينطقوا به ، بل أفكارا أضمروها ، فنقلتها إلى لغة حية بالنحو الذي لحظناه ، إنما تكون القصة القرآنية بهذا المنحى ، قد استخدمت اللغة النفسية في منحنياتها التي نضطر إلى الوقوف عندها مليا ، لاكتشاف أهميتها الفنية وانسحاب ذلك على الأفكارالتي تستهدف القصة توصيلها إلينا في غمار الوظيفة الاختبارية التي أوكلتها السماء إلينا في هذه الأرض .
قلنا : إن الأبرار أو أبطال أهل البيت (عليهم السلام) الذين أطعموا المسكين واليتيم والأسير ، عندما قالوا :
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}
{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}
هذا القول لم ينطقوا به ـ كما ذكرت النصوص المفسرة ـ بل عرف الله ذلك في قلوبهم ، فنقلتها القصة على النحو المذكور .
ونحن بعد أن لمحنا عابرا بعض معطيات هذا النمط من الحوارالداخلي ، يجدر بنا أن نفصل فيه نظرا لأهمية هذا الاسلوب الذي انطوت عليه القصة القرآنية ، فيما لم يدرك البلاغيون والنقاد القدامى خصائصه الفنية ، مادام القصور العلمي عصرئذ يحتجزهم عن إدراك مثل هذه الأسرار .
إن النقاد المحدثين ـ نظرا لانتشار المعرفة النفسية التي بدأت مع إطلالة هذا القرن ـ قد أدركوا أهمية العمليات النفسية وأسرارها داخل الأفكار وطريقة تنظيمها وخضوعها للوعي حينا ولللاوعي حينا آخر من خلال ما يسمى في اللغة النفسية بــ : تداعي الأفكار ، ... فضلا عن إدراكهم لطبيعة الأفكار وصلتها بــ اللغة المنطوقة ، أواللغة غير المنطوقة فيما تعني نفس الأفكار التي تـتخذ شكلا خاصا من التنظيم ، ولكن دون أن تصحبه حركة الجهاز الصوتي .
ومن الواضح أن نقل الأفكار ـ كما هي ـ إلى الآخرين ، يعد عملية من الصعب تحققها بدقة ، نظرا لفوضى التفكير وعدم خضوعه لنطام رتيب ، فقد يفكر الإنسان بضمير الغائب ، وينتقل فجأة إلى المخاطب ، ثم يعود إلى المتكلم وهكذا .
وعملية تداعي الأفكار فيما حاول بعض القصصين المحدثين أن يترجمها إلى عمل قصصي من خلال حوار داخلي مطول يفتقد روابطه المنطقية ، ... هذه العملية لعلها واحدة من المحاولات التي تترجم طريقة التفكير في حركته بمختلف الضمائر ، وقفزاته من موضوع لآخر تفرضه عملية التداعي ، لكنها في نهاية المطاف تظل دون أدنى شك عملية ذات فائدة كبيرة في الكشف عن أعماق الإنسان ، وطبيعة مشاعره ، فيما لا يمكن لسواها أن تحقق هذا الكشف ، مادام الإنسان مفكرا بلغة غير منطوقة .
ونحن يهمنا من ذلك كله ، أن نلفت الانتباه إلى أن القصة القرآنية حينما عرضت لنا أفكار الأبطال بهذا النحو الذي لم ينطقوا به ونعني بذلك قولهم : {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} إنما عرضته بهذا النحو ، فلأ نه إحدى الحقائق المتصلة بالعمليات النفسية التي تنطوي على أسرار لا مناص من التعريف بها ، بغية الإفادة منها في ميدان السلوك .
قد يتحدث الإنسان مع نفسه ـ ولكن دون أن ينطق ـ قائلا : أطعمت هذا الفقير لوجه الله .
وقد يوجه حديثه إلى الفقير ـ ولكن دون أن ينطق أو يسمع الفقير ـ قائلا : أطعمتك لوجه الله .
وقد يمارس عملية تفكير مبهمة غير محددة ، لكنها تحوم على معنى خاص ، هو : إطعام الفقير لوجه الله ، من دون أن يتحدد في لفظ خاص ، بل في معنى يماثل آلاف المعاني أو الأفكار التي تمر على ذاكرته طوال يقظته ووعيه بما يدور من حوله ...
والسؤال هو : هل إن أبطال أهل البيت (عليهم السلام) ـ وقد أطعموا الفقراء ـ حينما حام تفكيرهم بلغة المخاطب : {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} ، هل إن هؤلاء الأبطال حينما فكروا بلغة الخطاب ، كان تفكيرهم يحمل دلالة خاصة بحيث أبرزتها القصة على النحو المذكور ، بغية أن نفيد منها نحن القراء في تلوين سلوكنا وتعديله عند كل ممارسة عبادية ننهض بها ؟
لا شك أن المخاطبين : المسكين واليتيم والأسير ، لم يصل إلى مسامعهم هذا الخطاب غير الملفوظ به ، مما يعني أن التفكير بلغة المخاطب له أهميته في مثل هذه الحالة من حيث حجم العمل العبادي عند الإنسان .
وفي تصورنا ، أن الأهمية الفنية لمثل هذا الحوار الداخلي الموجه إلى المعدمين ، تـتمثل في أن الأبطال ـ وهم حريصون على مساعدة الآخرين ـ إنما يتوجهون إليهم في مستوى التفكير الصرف ، تعبيرا عن حرصهم على المساعدة ولكن بما أ نهم لا يحرصون على انتزاع الشكر أو السمعة من المعدمين ، ... حينئذ لا يترجمون حرصهم لعمل الخير إلى لغة منطوق بها ، بل يكتفون من ذلك بالخطاب إليهم في نطاق التفكير فحسب .
وهذا النمط من السلوك له أهميته الكبيرة دون أدنى شك .
إنه يكشف عن النزعة الخيرة لدى الإنسان ، ... يكشف عن حرص الأبرار على تقديم المساعدة للآخرين ، وقضاء حوائجهم إلى الدرجة التي تأخذ مساحة كبيرة من تفكيرهم ، بحيث يهمون بتوجيه خطاب مباشر للإفصاح عن حبهم للآخرين .
ولكن بما أن حبهم للآخرين ، هو من أجل الله ... حينئذ يحتفظون بهذا السر ولا يعلنون عنه أمام الآخرين ، بحيث يبقى مجرد حوار داخلي في نطاق العمليات الفكرية ...
إذن أدركنا أهمية السر الفني لهذا الحوار الداخلي الذي صاغته القصة لأبطالها الأبرار وما يمكن أن نفيد منه نحن القراء في سلوكنا العبادي الذي ينبغي أن يختط هذا المسار نفسه في مساعدتنا للآخرين ، وفي قضاء حوائجهم ، ... بل في ممارساتنا العبادية جمعاء ... وإلا فإن العمل العبادي سيحبط ـ دون أدنى شك ـ عندما يقترن بالبحث عن استلام الشكر أو الحرص على تحقيق مكسب ذاتي هو : السمعة الاجتماعية .
إلى هنا فإن القصة تأخذ نهايتها فيما يتصل بالأبطال الذين تحركوا داخلها .
فالقصة بدأت بتعريف الأبرار وكان بدؤها من بيئة الجنة التي اعدت لهم :
{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}
{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}
ثم ارتدت القصة من الجنة ، من شرابها المتصل بالكؤوس وبالعيون ، إرتدت بالأحداث إلى الحياة الدنيا ، فنقلت لنا بطريقة فنية أوضحناها في حينه ، جانبا من سلوك الأبطال الذين استحقوا من أجله خلع سمة الأبرار عليهم ، واحتلالهم هذا الموقع من الجنة .
والآن تعود القصة ثانية إلى بيئة الجنة ، لتواصل الحديث عن عناصر هذه البيئة ، قائلة :
{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}
لا ننس أن الأبطال هتفوا في نطاق الحوار الداخلي ، قائلين :
{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}
وها هي السماء تجيبهم قائلة :
{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ}
وها هي تكافؤهم على العمل لوجه الله ، قائلة :
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}
وها هي تواصل عرض مفردات النعيم الذي كافأتهم به ، قائلة :
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا}
{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا}
{قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا}
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا}
{عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا}
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا}
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ}
{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}
{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}
ونحن قبل أن نتحدث عن تفصيلات هذه البيئة في الجنة ، ينبغي أن نلفت الانتباه إلى أن هذه الأوصاف أو المشاهد تكاد تنفرد بها هذه القصة دون سواها ، من حيث استقطابها لكل أدوات الشرب بخاصة ، ... وإلى أن انفراد القصة بهذا الوصف لابد أن يرتبط بطبيعة السلوك الذي طبع الأبرار أبطال الدنيا ... لابد أن يرتبط بمعطيات ذلك الحوار الداخلي الذي صدر عن الأبطال ، وهم يهتفون في أعماقهم :
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}
{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}
هذا الحوار الذي أوضحنا قيمته من حيث انطواؤه على أسرار العمليات النفسية له صلته بدقائق الأوصاف التي انفردت بها هذه القصة ، مما يجدر توضيحه مادام متصلا بإفادتنا نحن القراء في تعديل السلوك وتحقيق مهمة الخلافة في الأرض على الوجه الذي تطالبنا السماء به .
قلنا : إن قصة الأبرار الذين تضمنتهم هذه السورة ، تظل أكبر القصص حجما فيما يتصل بوصف الجنة ونعيمها ، حيث تنوعت فيها عناصر النعيم ، من شرب وزاد ومسكن وملبس وسواها ، وبلغت أشد مستويات الترف ، بحيث لم يرد في قصة اخرى مثل هذه التفصيلات .
ونحن لا نحتاج إلى تأمل كبير لكي ندرك السر الفني الكامن وراء هذا ، ...
فالقصة تـتحدث عن الأبرار الذين قدموا طعامهم للمسكين واليتيم والفقير ، وآثروا الجوع والعطش ، من أجل إرواء وإشباع الآخرين ... ونتيجة لتحملهم حرمان الزاد عوضهم الله إشباعا في الآخرة ، بحيث يتناسب تحملهم للجوع مع المكافأة الضخمة التي تفسر لنا السبب الفني الذي جعل هذه القصة تـتحدث عن نعيم الجنة بنحو لا تـتحدث به أية قصة اخرى .
ولكي يتبين للقارئ بوضوح ثراء النعيم الذي اعد للأبرار بالشكل الذي لمحنا إليه ، يحسن بنا أن نفصل في عرض مستوياته .
لقد عرضت في القصة ست حاجات إنسانية تـتصل بدوافعه الحيوية ، أي البيلوجية ، بعضها يشكل حاجات أساسية في معيارنا الدنيوي ، وبعضها يشكل حاجات ثانوية .
وهذه الحاجات الست هي :
1 ـ الماء .
2 ـ الطعام .
3 ـ المسكن .
4 ـ الملبس .
5 ـ الخدمة .
6 ـ الجمال .
ونقصد بالحاجة الأخيرة الجمال : الحاسة الجمالية عند الإنسان فيما يتصل بمشاهد الطبيعة ، وأدوات الترف التي يستخدمها في حاجاته المختلفة .
وواضح ، أن هذه الحاجات الست ، ما بعدها من حاجات عدا المرأة في نطاق البيئة التي يحياها إنسان الدنيا أو إنسان الآخرة ، مع ملاحظة أن القصة شددت أو ركزت على بعض الحاجات بنحو أشد من غيرها ، فيما ينطوي هذا التشدد أيضا على سر فني لابد أن نتعرفه بعد أن عرفنا سر التركيز على تنوع النعيم وصلته بالسلوك الدنيوي الذي تحمل من خلاله الأبرار شدائد الحياة ، وعوضوا بدلا منه روائع الترف . أيضا ينبغي ملاحظة إختفاء عنصر المرأة ، فيما يتطلب معرفة السر وراء ذلك في هذا الصدد .
ولنتقدم أولا بنماذج الحاجات الست :
1 ـ الماء :
{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}
{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ}
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا}
{عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا}
{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}
2 ـ الطعام :
{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}
3 ـ المسكن :
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا}
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}
4 ـ الملبس :
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ}
5 ـ الخدمة :
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا}
6 ـ الحاجة الجمالية :
وهي تشمل طرائق الإشباع الذي يرافق كلا من الحاجات المذكورة ، من تنوع أدوات الشرب : آنية ، أكواب ، أباريق ، وتنوع الملبس : سندس ، استبرق ، أساور ... إلى آخره .
والآن أول ما يلاحظ أن الماء وأدوات تناوله يشكل عنصرا غالبا على سائر الحاجات الاخرى من حيث كثرة التفصيلات فيه ، ومن حيث تنويع أدواته ، ومن حيث تنويع أشكاله ، ومن حيث بدء الحديث عنه قبل غيره من الحاجات الاخرى .
والسر الفني وراء ذلك ـ وقد سبق التلميح إليه ـ هو دافع العطش في التركيبة الآدمية ، يعد أقوى الدوافع على الاطلاق بالقياس إلى الدوافع الحيوية الاخرى من جوع وجنس وجمال ونحوها ، مما يفسر لنا سبب التركيز عليه وتنويع أدواته والتفصيل في عرض كل ما يتصل به .
هذا السبب الفني يتضح تماما حينما نلحظ أولا أن الماء قد دخله التنويع من حيث المادة ، فهو حينا يمتزج بالكافور ، وحينا يمتزج بالزنجبيل ، وحينا ثالثا هو سلسبيل .
هذا من حيث المادة : كافور ، زنجبيل ، سلسبيل .
وأما من حيث أدواته ، فهي : آنية وأكواب وكؤوس .
وأما من حيث أشكالها ، فهي : قوارير زجاجات ... وهي فضة ...
وأما من حيث المظهر ، فهو : عيون تفجر تفجيراً ...
وأما من حيث القيمة ، فهو : شراب طهور .
إذن هناك ما يجسد شرابا طهورا ، يفجر من العيون تفجيراً ، يجري سلسبيلاً ويمتزج كافوراً وزنجبيلاً ، ويسقى آنية وكأساً وأكواباً وقواريراً ، كلها من فضة شفافة يرى ما في داخلها من الخارج ...
هذه الأوصاف أوالسمات لوصحبها قليل من التأمل ، لاستطارت العقول من الدهشة والانبهار حيالها دون أدنى شك .
ولو قدر لنا أن نتابع سائر العناصر المتصلة بالحاجات الاخرى ، للحظناها بالسمة ذاتها ولكن بتفصيل وتنويع أقل ، مما لا حاجة إلى متابعتها مادمنا في صدد الربط بين أشد حاجة حيوية من دوافع الإنسان وهي الماء وبين صلتها بالسلوك الدنيوي الذي وازن بين الأبطال الذين يؤثرون الآخرين على أنفسهم في الحياة ويتحملون شدائد الحياة ومنها : الجوع والعطش ، وبين المكافأة لهم في الحياة الآخرة .
ولا ننس أن الأبطال أوالأبرار الذين تناولتهم القصة إنما مارسوا وظيفة عبادية هي الصوم المنذور بما يصاحبه من عطش وجوع . ثم مارسوا ـ ثانية ـ وظيفة عبادية اخرى هي : إطعام الفقراء . وجاء هذا الإطعام في سياق الجوع والعطش ، بحيث آثروا الفقراء على أنفسهم حتى في نطاق ما ينبغي أن يتناولوه عند الإفطار ، لا في نطاق مجرد التناول للطعام في أوقاته الاعتيادية ...
كل ذلك ينبغي أن نضعه في الاعتبار ، مصحوبا بما قلناه من أن الإطعام ـ في سياق هذه الشدة التي تحملها الأبطال ـ إنما كانت لوجه الله ، لايبتغون بذلك جزاء من أحد ولا شكورا .
إنه من الممكن أن يطعم الإنسان ، جائعا ، ولكنه ليس بحاجة إلى الطعام الذي يقدمه للجائع ...
ومن الممكن أن يطعم الإنسان جائعا ، لكنه يبحث عن تقدير وشكر ... أما أن يقدم الطعام وهو جائع ، فأمر يختلف كل الاختلاف عن تقديمه للطعام وهو مستغن عنه ، وأن يقدمه لا بحثا عن سمعة ، بل عن مخافة من يوم يبدو عبوسا قمطريرا ...
المهم أن الزاد واحد من الحاجات البشرية ، ... وهناك حاجات اخرى حيوية ونفسية تلفت القصة انتباهنا إلى ضرورة التعامل معها وفق مبدأ محدد هو الإيثار ، إيثار الآخرين على الذات الفردية ، من أجل الله فحسب ، مصحوبا بالخوف من اليوم الآخر ، ... من الحساب ... من يوم وصف بأ ن شره مستطير ، وبأ نه عبوس قمطرير ...
وعلى العكس من ذلك ، أشارت السورة بعد انتهاء القصة إلى اولئك الذين :
{يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا}
يؤثرون الحياة الدنيا ، ويذرون الآخرة في يومها الثقيل ... يزهدون بالحياة الآخرة بما صاحبها من النعيم الذي تقدمت افانينه ، ويؤثرون العاجلة بما يصاحبها ـ بعدئذ ـ من ثقل ، وشر مستطير ، وعبوس بوجه اولئك الذين ركبوا رؤوسهم ، واتبعوا الشهوات ، فهل لنا أن نعى وظيفتنا العبادية ؟