الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
أحمد بن أبي طاهر
المؤلف: د .شوقي ضيف
المصدر: تاريخ الأدب العربي ـ العصر العباسي الثاني
الجزء والصفحة: ص: 420ــ424
21-7-2019
2811
أحمد (1) بن أبي طاهر
اسم أبي طاهر طيفور، وأحمد ابنه رزق به في بغداد لسنة 204، وأصل الأسرة من مرو، ويقال إنها من سلالة ملوك خراسان. أخذ عن علماء بغداد، حتى إذا استوى عوده جلس للتعليم في بعض الكتاتيب، ثم ترك التعليم واحترف الوراقة، مما جعله يقرأ كثيرا من مصنفات عصره والعصر السابق له، وسرعان ما تحوّل إلى مؤرخ كبير، كما يشهد بذلك كتابه تاريخ بغداد في أخبار الخلفاء والأمراء وأيامهم. وهو أحد المصادر الأساسية التي اعتمد عليها الطبري في تأليف كتابه تاريخ الرسل والملوك: أهم مرجع تاريخي للخلفاء حتى أوائل القرن الرابع الهجري. وله بجانب ذلك كتاب المنثور والمنظوم الذي يشتمل على أبرع الرسائل المدوّنة في العصر. وله كتاب فضائل الورد على النرجس وكأنه صنعه ردّا على ابن الرومي وأمثاله ممن كانوا يفضلون النرجس على الورد. وكان يتشيّع، ولكن ليس لدينا من شعره الشيعي سوى القصيدة التي أشرنا إليها في غير هذا الموضع والتي رثى بها يحيى بن عمر الطالبي المقتول بالكوفة في زمن المستعين. ويبدو أنه كان إماميّا يأخذ بالتقيّة، ولا يجد بأسا في مديح الخلفاء العباسيين ورجال دولتهم، وفتحوا له جميعا أبوابهم. وربما كان من أهم الأسباب في فتحها كتابه السالف «تاريخ بغداد» الذي أرّخ فيه للدولة وخلفائها. وفتح له كتاب المنثور والمنظوم أبواب الأدباء لا في بغداد وحدها، بل أيضا في سامرّاء طوال اتخاذها حاضرة للخلافة.
وبجانب تصنيفاته كان شاعرا بارعا، ولكن قبل أن نعرض لشعره يحسن أن نقف عند ما قاله بعض معاصريه من أنه «كان مؤدّب كتّاب عاميّا ثم تخصص وجلس في سوق الوراقين في الجانب الشرقي ببغداد، وليس فيمن شهر بمثل ما شهر به من التصنيف للكتب وقول الشعر أكثر تصحيفا منه ولا أبلد علما ولا ألحن، قال:
ولقد أنشدني شعرا يعرضه علىّ في إسحق بن أيوب لحن في بضعة عشر موضعا منه وكذا قال لي البحتري فيه». وشهادة البحتري فيه مردودة، لأنهما كانا يتهاجيان ولا يرضى كل منهما عن صاحبه، ونفس أبي طاهر-كما في كتاب الموشح للمرزباني-يصف البحتري باللحن في شعره. وبالمثل شهادة هذا المعاصر له مردودة لأنه كان يخاصمه على ما يبدو. وليس في شعره الذي بين أيدينا ما يصوّر هذا اللحن، ونرى معاصريه ومن جاءوا بعدهم يشهدون له بالفصاحة والبلاغة، فالخطيب البغدادي-ومثله ياقوت-يقولان: «كان أحد البلغاء الشعراء الرواة». وشعره يشهد ببلاغته، وأخباره تدل على إعجاب معاصريه به وبشعره. وكان يغدو به ويروح على الوزراء، فيسبغون عليه جوائزهم من مثل قوله في أبي الصقر إسماعيل بن بلبل وزير المعتمد يهنئه بأحد أعياد النيروز أوائل الربيع:
أبا الصّقر لا زالت من الله نعمة … تجدّدها الأيام عندك والدّهر
ولا زالت الأعياد تمضي وتنقضي … وتبقى لنا أيامك الغرر الزّهر
فإنك للدنيا جمال وزينة … وإنك للأحرار ذخر هو الذّخر
رأيت الهدايا كلها دون قدركم … وليس بشئ عند مقداركم قدر
فأهديت من حلى المديح جواهرا … مفصّلة يزهى بها النظم والنّثر
وكانوا يتقدمون للوزراء وعلية القوم في أعياد النيروز بالهدايا كل حسب قدرته من الجواهر أو من الرياحين، ورأى ابن أبي طاهر أن خير ما يهديه لإسماعيل بن بلبل عقود أشعاره المرصوفة بالجواهر واللآلئ. والأبيات قوية جزلة مصقولة، وتدل
ص421
على أن يد شاعر صناع هي التي كتبتها وصاغتها هذه الصياغة المتينة. وأروع من هذه القصيدة قصيدته في أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر نائب أخيه محمد في حكم بغداد، ثم حاكمها بعد وفاته سنة 252، وهي تلتقى بقصيدة تروى لابن الرومي سبق أن أنشدنا منها في ص 310 بعض أبيات ولعل القصيدتين اختلطتا في أذهان الرواة؛ ومن قصيدة ابن أبي طاهر في مديح أبي أحمد كما جاءت عند بعض الرواة:
من لم يكن حذرا من حدّ صولته … لم يدر ما المزعجان: الخوف والحذر
حلو إذا أنت لم تبعث مرارته … فإن أمرّ فحلو عنده الصّبر
سهل الخلائق إلا أنه خشن … لين المهزّة إلا أنه حجر
إذا الرجال دجت آراؤهم وعموا … بالأمر ردّ إليه الرّأي والنظر
الجود منه عيان لا ارتياب به … إذ جود كلّ جواد عنده خبر
وبلغ من إعجاب القدماء بهذا المديح أن قال بعض أدبائهم: لو استعمل الإنصاف لكان هذا أحسن مدح قاله متقدم ومتأخر. وهي أبيات-إن صحّ أنها لابن أبي طاهر-تدل على بصر بالشعر وروعة فنونه البديعية، وله رسالة في سرقات البحتري تدل من بعض الوجوه على ثقافته الشعرية، بل لقد اتسعت دراسته للشعر العربي على نحو ما يصور ذلك كتابه المنظوم والمنثور. وقد مضى يحكم في القصيدة التقسيم كما في الأبيات الأربعة الأولى، كما أحكم الطباق والتقابل بين المعاني والألفاظ على نحو ما يتضح في الأبيات الأربعة الثانية. وكان يحكم -بجانب المديح-الهجاء اللاذع الذي يلسع كما تلسع الإبر دون فحش من مثل قوله في أبي العيناء الضرير نديم المتوكل والخلفاء ومضحكهم بإجاباته ونوادره:
كنّا نخاف من الزما … ن عليك إذ عمى البصر
لم ندر أنك بالعمى … تغنى ويفتقر البشر
وكان يتعرض أحيانا للمبرّد، فيخشى معرّة لسانه، ويقال إنه استقبله في يوم صيف شديد الحرارة فأكرمه وبالغ في إكرامه، فأطعمه غذاء طيبا، وسقاه باردا، وأخذ يباسطه في الحديث، مؤملا أن يمتدحه ببعض شعره، وإذا هو ينشده:
ص422
ويوم كحرّ الشّوق في صدر عاشق … على أنه منه أحرّ وأرمد
ظللت به عند المبرّد قائلا … فما زلت في ألفاظه أتبرّد (2)
فقال له المبرّد: قد كان يسعك إذا لم تحمد أن لا تذم، ومالك عندي جزاء إلا أن تغرب عن عيني. فتركه وهو يضحك من أثر دعابته في نفس المبرد شيخ العربية لعصره. وأنشد له ابن داود طائفة كبيرة من غزلياته، من مثل قوله:
حبيبي حبيب يكتم الناس أنه … لنا-حين ترمينا العيون-حبيب
يباعدني في الملتقى وفؤاده … -وإن هو أبدى لي البعاد-قريب
ويعرض عنى والهوى منه مقبل … إذا خاف عينا أو أشار رقيب
فتخرس منا ألسن حين نلتقي … وتنطق منا أعين وقلوب
فهما يتناكران أمام الناس، وكل منهما شديد الكلف والولع، يتجرع غصص الهوى وآلامه، ولا يستطيع البوح بما في ضميره، وهما لذلك يصطنعان التحفظ والاحتشام، وقلوبهما تحترق وجدا، وقد خرست منهما الألسنة ونطقت العيون بمكنون الضمير. وهو مع ذلك يكثر من الاختلاف إلى دارها ومجلس مولاها وليس من رسل بينه وبينها سوى لغة العيون، يقول:
إذا ما التقينا والوشاة بمجلس … فليس لنا رسل سوى الطّرف بالطّرف
فإن غفل الواشون فزت بنظرة … وإن نظروا نحوي نظرت إلى السّقف
فهو يسارقها النظر ويختلس منها النظرة في الحين بعد الحين، حتى لا يفتضح أمرهما للواشين ويجعلهم يقفون على حبه للمرأة وحبها له وأنها لا تفرّط فيه، بل شديدة الحرص عليه. ومع ذلك يجري بينهما حديث صامت لا أول له ولا آخر
423ص
عن عذابهما في الحب وما يصطليان من ناره، على الرغم من الرقباء والوشاة، يقول:
عرفت بالسلام عين الرّقيب … وأشارت بلحظ طرف مريب
وشكت لوعة النّوى بجفون … أعربت عن ضمير قلب كئيب
ربّ طرف يكون أفصح من لف … ظ وأبدى لمضمرات القلوب
فهي تلفته بلحظها الفاتن إلى الرقيب، وتشكو لوعة النّوى وحرقة الحب بعيونها، واصلة نظرها الشّزر إلى الرقيب بنظرها اللّين إليه معربة عن ضميرها وما يخفى في صدرها من الحب له والكلف به. وهو يحدثها بنفس اللغة، فيفهم قلبها عن قلبه وضميرها عن ضميره، وتبادله بنفس اللغة أنها على الوفاء له مقيمة، يقول:
ألاحظها خوف المراقب لحظة … فأشكو بطرفي ما بقلبي من الوجد
فتفهمه عن لحظ عيني بقلبها … فتومي بطرف العين أني على العهد
فهما دائما يتكلمان بلغة الطرف، لغة يصمت فيها اللسان، وتنطق القلوب بما تضمنت من الوجد و لوعاته، وهما يتغامزان بالنظرات ويتلاحظان، وكأنما لا يتكلمان بتلك اللغة الصامتة الفصيحة فقط بل يتراسلان بها ويتكاتبان مكاتبات حارة، يقول:
كتبت إلى الحبيب بكسر عيني … كتابا ليس يقرؤه سواه
فأخبرني تورّد وجنتيه … وكسر جفونه أن قد قراه
ولعل في كثرة رسوم ابن أبي طاهر لهذا الموقف ما يدل على دقة حسّه من طرف وثراء خواطره وأفكاره من طرف آخر، وفي كثير من هذه الرسوم براعة في التصوير كما نرى في البيت الأخير، ومن بديع تصويره قوله في إحدى المحجّبات اللائي شغف بهن:
حجاب فإن تبدو فللدّمع جولة … يكون له من دون رؤيتها سترا
ص424
فهو دائما منها في حجابين، حجاب حين لا يلقاها. وحجاب من دموعه حين يلقاها، وكأنها محجبة دائما، وراء أستار من الحجاب صفيقة وأستار أخرى رقيقة من الدموع الغزار. ويحدثنا ياقوت نقلا عن أحد الرواة أنه كان يلمّ ببعض الأديرة أحيانا في طريقه إلى سامرّاء أو بعد رجوعه منها، وينشد له خمرية، ويبدو أن الخمر لم تكن من متاعه إلا في بعض أحوال عارضة. وما زال يعنى بالتصنيف ونظم الشعر حتى توفي سنة 280 للهجرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر في أخبار أحمد بن أبي طاهر طبقات الشعراء لابن المعتز ص 416 ومروج الذهب 4/ 64 والفهرست ص 215 حيث ذكر له ثمانية وأربعين كتابا وتاريخ بغداد 4/ 211 ومعجم الأدباء 3/ 87 وكتاب الزهرة لابن داود (انظر الفهرس) وديوان المعاني 1/ 48، 94 والموشح للمرزباني ص 351.
(2) قائلا: مستريحا وقت القيلولة؛ وهي نصف النهار.