الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
أبو بكر الصولي
المؤلف: د .شوقي ضيف
المصدر: تاريخ الأدب العربي ـالعصر العباسي الثاني
الجزء والصفحة: ص381ـ385
13-7-2019
3172
أبو بكر الصولي (1)
هو محمد بن يحيى بن عبد الله بن العباس الصولي من بيت كتابة وشعر، تقلد أصحابه كثيرا من الأعمال السلطانية، مثل عمه إبراهيم بن العباس، وكان أكبر كاتب في دواوين المتوكل. وهما من أسرة صول تكين أحد أمراء جرجان. كان قد ظفر به يزيد بن المهلب في بعض حروبه وهو وال على خراسان للحجاج، فأسلم على يديه، ولزمه وأصبح من رفاقه، حتى إذا ثار يزيد على بني أمية في أوائل القرن الثاني للهجرة ثار معه عليهم محاربا في صفوفه، ودارت عليهما معا الدوائر فسقطا قتيلين في ميادين المعارك. وقد تتلمذ أبو بكر لعلماء عصره في بغداد: أبي داود السجستاني وثعلب والمبرد، وكذلك لأصحاب الأخبار والمؤرخين ولأصحاب الهندسة، وتدل صلته بالأخيرين على معرفته بعلوم الأوائل. وكان يحسن لعبة الشّطرنج حتى قالوا إنه كان أكبر حاذق لها في زمنه. وأكبّ على معارف عصره إكبابا منقطع النظير، وجعله هذا الإكباب يعنى بجمع الكتب، وما زال يجمعها حتى كوّن لنفسه مكتبة ضخمة تحدث عنها معاصروه، كما أسلفنا، وراعتهم فيها جلود الكتب المختلفة الألوان. إذ جعل لكل صفّ من الكتب لونا، فصف أحمر وصف أخضر إلى غير ذلك. وفتحت له معارفه الواسعة ومهارته في لعبة الشطرنج أبواب الخلفاء منذ عهد المعتضد. وهو مع ذلك يغدو عليهم ويروح بمدائحه، وهم ينثرون عليه أموالهم، مما جعله يعيش معيشة رغدة. وكلّفه المقتدر تعليم ولديه الراضي وهرون. فأحسن تعليمهما، وخرّج أولهما شاعرا وأديبا لسنا، حتى إذا ولى الخلافة اتّخذه نديمه ومستشاره. ويزورّ عنه الخليفة المتقي بعده فيترك بغداد إلى
بجكم التركي حاكم واسط سنة 329 ويتوفّى المتقي سنة 333 فيعود إلى بغداد وسرعان ما تحل به ضائقة، فيتركها إلى البصرة سنة 335 حيث لبّى نداء ربه ويقال بل إن الخليفة المستكفي عرف تشيعه لآل علي بن أبي طالب فطلبه، وفرّ منه إلى البصرة.
وقد صنع الصولي دواوين كثيرة لطائفة كبيرة من الشعراء المحدثين في مقدمتهم أبو نواس وأبو تمام وابن الرومي وابن المعتز، وصنّف كتبا جليلة في أخبار الخلفاء وسيرهم وأخبار من تقدم وتأخر من الشعراء والوزراء والكتّاب والرؤساء. ومن كتبه النفيسة كتابه «الأوراق» وقد نشر منه ثلاثة أجزاء: جزء خاص بأخبار الشعراء المحدثين وجزء خاص بأشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم وجزء خاص بالخليفتين: الراضي والمتقي. ونشر له مصنفه أدب الكتّاب وكتاب أخبار أبي تمام وهو فيه ينتصر له ضد خصومه، ولعل في ذلك ما يصور بصره بالشعر العباسي، وأنه كان يقف في دقة على أساليبه ومذاهبه؛ إذ نبّه على أن أبا تمام صاحب مذهب جديد في الشعر ولام من يعيبونه ببعض أبيات فاته التوفيق فيها متناسين تحليقه في آفاق الشعر العليا التي تنقطع من دونها الرقاب.
وعلى هذا النحو كان أبو بكر الصولي شاعرا ناقدا عالما، وكان مثقّفا ثقافة واسعة بكل مواد المعرفة في عصره. ولم يصل إلينا ديوانه ولكن وصلت طائفة من أشعاره التي كان ينشدها الراضي في حفلات القصر وفي المناسبات المختلفة دوّنها بنفسه في أخباره، كما وصلت إلينا مقطوعات متنوعة احتفظت بها الكتب الأدبية والتاريخية. وسقطت من يد الزمن مدائحه في المعتضد إلا بعض أبيات دالية ذكر المسعودي أنه أنشدها في قصيدة مدحه بها، وفيها يقول:
لأمير المؤمنين المعتضد … بحر جود ليس يعدوه أحد
ولم يصل إلينا من مديحه للمكتفي سوى قصيدة واحدة، وقد اضطر-كما يقول-إلى أن ينشدها المتقي حين استولى على مقاليد الخلافة، وكان قد طلب إليه أن ينشده عاجلا قصيدة يهنئه فيها بالخلافة، ويقول إنه وضع فيها كلمة المتقي بدلا من كلمة المكتفي، وفيها يقول:
ص382
مددت على الإسلام أكناف نعمة … لأعطافها ظلّ عليه ظليل
ولولا بنو العباس عمّ محمّد … لأصبح نور الحق فيه خمول
لكم جبلا الله اللذان اصطفاهما … يقومان بالإسلام حين يميل
نبوّته ثم الخلافة بعدها … وما لهما حتى اللّقاء حويل (2)
وكلّ ما في القصيدة من صياغة وخيال يدلّ على أن الصولي كان يتكلف هذا المديح تكلفا. حقّا هو يبالغ فيه ويغلو على عادة شعراء الدعوة العباسية، ولكن نحس أن الكلام يفقد الروح وأنه لا يصدر عن عاطفة حقيقية، وبالمثل ما رواه له عريب في ذيل الطبري من مديح للمقتدر، وحتى الراضي تلميذه الذي أغدق عليه عطاياه حتى لكأنما تحولت إلى نهر فياض نجد في مدائحه له نفس هذا الطراز المتكلف.
وكان لا يترك مناسبة من عيد أو نيروز أو فتح إلا أنشده فيها قصيدة، وقد تطول طولا مسرفا، ومع ذلك نفقد فيها الحرارة من مثل قوله يهنئه بانتصار جيوشه على مردويج الثائر بأصبهان:
آنس الله بالخليفة ملكا … موحش الرّبع واهن التأسيس
يا نسيم الحياة أضحكت دهرا … كان لولاك دائم التّعبيس
مردويج بسيف حظّك مقتو … ل فأهون بذاك من مرموس (3)
قصفته رياح أيامك الغ … رّ فأخمدن منه نار المجوس
وتولّت بمأتم الدّهر أيا … م أتتنا تجرّ ذيل العروس
والتكلف واضح في الأبيات، والصور لا تقع في مكانها، فالخلافة كانت موحشة وكانت واهنة، والخليفة نسيم الحياة، نسيم أضحك دهرا كان عبوسا قمطريرا ومردويج لم يهزمه أبطال الدولة وإنما هزمه الحظ ورياح دولة الراضي الغراء، وخلعت الأيام سواد الحزن، وجاءت تجر ذيول الفرح. كلام متلاصق، وليس شعرا حيّا نابضا بروح، وربما كانت خير قصائده فيه قصيدته الدالية التي أنشدها في مجلسه لسنة 327 وفيها يقول:
ص383
خليفة أكملت فضائله … ففرعه طيّب ومحتده
تعبّد المجد فهو يملكه … طارفه عنده ومتلده
قد رضى الراضي الإله لإص … لاح زمان سواه مفسده
فهو بتفويضه الأمور إلى الل … هـ بحسن التوفيق يعضده
ولا يخفى ما في هذه الأبيات من تكلف يتضح في بناء الشطر الثاني من البيت الأول على سابقه، كما يتضح في جعل المجد عبدا للممدوح وكأنه استذلّه، والجناس بين رضى والراضي شديد التكلف، وكلمة سواه نابيه في مكانها غير مستقرة والصياغة في البيت الرابع تتنافر أجزاؤها تنافرا شديدا. ومن هذا الطراز نفسه عزاؤه للراضي في أخيه هرون. وهو يستهلّه على هذا النمط:
تعزّ يا خير الورى عن أخ … لم يشب الإخلاص بالّلبس
كان صديقا وافرا ودّه … صداقة الأنفس والجنس
تعزّ عنه بنبىّ الهدى … محمّد إذ حلّ في الرّمس
والقصيدة مزيج من الندب والتأبين والعزاء، مع أنه افتتحها بطلب التعزّى والتسلي، فكان ينبغي أن يقصرها على العزاء لا أن يندب في هرون إخلاصه وصداقته لأخيه كما في هذه الأبيات، ولا يحاول أن يذكر همته وسؤدده مؤبنا له كما في أبيات تالية. ونحس نبوّا شديدا في البيت الثاني إذ يذكر عن هرون أنه كان وافر الودّ، وكان يحسن أن يغير كلمة وافر بكلمة أخرى مثل صادق، وأيضا فإنه جعل صداقته لأخيه صداقة جنس، والتعبير عن الرسول عليه السلام بأنه حلّ في الرمس خلو من رهافة الحس أو من الحس الأدبي الدقيق. وقد يكون مصدر التكلف في العزاء والمديح جميعا أنه كان مواليا للعلويين كما قال بعض من ترجموا له، وكأن هذا الرثاء والمديح لم يكونا يتصلان بروحه وقلبه، فقلبه وروحه مع آل أبي طالب، ولسانه وحده مع العباسيين ومع ما يغدقون عليه من صلات ثرّة. وقد يشهد لذلك أننا إذا تركنا مدائحه لبني العباس ونظرنا فيما روى له من غزل لقيتنا له مقطوعات كثيرة بديعة من مثل قوله:
ص384
أحببت من أجله من كان يشبهه … وكلّ شيء من المعشوق معشوق
حتى حكيت بجسمي ما بمقلته … كأن سقمي من جفنيه مسروق
وقوله يصف الدموع في ساعة الوداع، وهى تسقط بيضاء سقوطا متتابعا على خدود حمراء حمرة الورد في الربيع:
لو كنت يوم الوداع حاضرنا … وهنّ يطفئن لوعة الوجد
لم تر إلا الدموع جارية … تسقط من مقلة على خدّ
كأن تلك الدموع قطر ندى … يقطر من نرجس على ورد
وكان ينفذ في أثناء ذلك إلى كثير من الصور النادرة الغريبة التي تنبئ عن شاعرية جيدة من مثل قوله في بيان إعجابه بغناء إحدى القيان:
وغناء أرق من دمعة الصّ … بّ وشكوى المتيم المهجور
وله في وصف أرمد ومحاولة تعليل رمده بعلة غريبة لا تقع إلا في عقل واهم بعيد الخيال بيتان كان القدماء يعجبون بهما إعجابا شديدا إذ يقول:
يكسر لي طرفا به حمرة … قد خلط النرجس في ورده
ما احمرت العين ولكنه … يكحلها من وردتي خدّه
وكأن هذه الأبيات وما وراءها من أبيات في الخمر لم نروها كانت تصدر عن نفسه، مما جعل صياغتها سويّة وأخيلتها بديعة بعيدة الغرابة في بعض الأحيان. وله بجانب ذلك حكم يصوّر فيها عبر الدهر ومواعظه من مثل قوله:
يا بانيا والدهر في نقضه … يا راكضا يسرع في ركضه
يلهو وأيدي الموت أخّاذة … من طوله طورا ومن عرضه
فالإنسان يبني. ولا يعرف أن داره ستنقضّ بعد أيام، بل هو نفسه سينقضه الدهر ويحيله ضعفا من بعد قوة. يوهن عظمه وينحل جسمه، ويحنى
ص385
ظهره ويأخذ من طوله ومن عرضه، حتى يصبح أنقاضا خالصة، وكأنما الدنيا أضغاث أحلام. والصولي في كل هذه المقطوعات الأخيرة شاعر بارع، لا تنقصه جزالة الصياغة ولا روعة الخيال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر في أخبار أبي بكر الصولي وأشعاره الفهرست ص 221 وتاريخ بغداد 3/ 427 ومعجم الشعراء للمرزباني ص 431 وديوان المعاني للعسكري (انظر الفهرس وذيل زهر الآداب ص 245 ومعجم الأدباء 19/ 109 ووفيات الأعيان والنجوم الزاهرة 3/ 296 وله في كتابه أخبار الراضي والمتقي أشعار كثيرة.
(2) حويل: تحول.
(3) مرموس: من الرمس وهو القبر.