رغم ما تحمله الأرض العراقية من قداسةٍ وروحانيةٍ ظاهرة في مراقد الأنبياء والأئمة الأطهار، إلا أنّنا نشهد منذ قرونوبصفةٍ متصاعدة في العصر المعاصرظاهرةً تبدو متناقضة: هجرة فكرية واغتراب روحي بين فئةٍ ليست بالقليلة من الشباب، الذين يعيشون على مرمى حجر من الأضرحة المقدسة لكنهم يعانون عزلةً عن جوهر الدين وعمقه الروحي. هذه الظاهرة ليست خاصة بالعراق وحده، لكنها هنا تظهر بصورة جلية لأسباب تاريخية واجتماعية وسياسية وثقافية، وتحتاجُ إلى قراءة قرآنية متأنِّية تكشف جذور الاضطراب وسبل العلاج.
قال الله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَۜ (الزمر: 9)، فالفارق بين العلم المانح للحياة والجهل الذي يفرّق هو فارقٌ جوهري. كما أن الإنسان المقترب ماديًا من المقدس لا يضمن قربه الروحي ما لم يَحمل العلمَ والعملَ والنية الصادقة.
في العهد الملكي تميّز العراق بطبقاتٍ اجتماعيةٍ، ومع أن الحوزات والمراقد كانت مراكز معرفة وتأثير، إلا أنّ السياسات الاستعمارية والمحلية عرّفت الولاء بطرقٍ أدت إلى تهميش دعوة الإصلاح الثقافي. في العهد الجمهوري وتالياً خلال فترة حكم النظام المركزي والقمعي، حُوّل الحضور الديني في بعض الأحيان إلى شكلٍ من أشكال التعبير شبه الثقافي أو الطقوسي، بدلاً من أن يبقى مدرسةً فكريةً وروحيةً نشطة.
بعد 2003 ازدهرت الحريات الظاهرية لكنْ ظهرت مشاكلٌ جديدة: تجاذبات سياسية، استقطابات مذهبية، إعلام متسيّس، ورواج ثقافة الاستهلاك والابتذال. كل ذلك دفع بشريحةٍ من الشباب إلى البحث عن بدائل فكرية أو مهنية أو هجروية؛ بحثًا عن معنىٍ أو كرامةٍ أو فرصٍ، في حين بقت مراقدُهم القريبة أماكنَ زيارةٍ وشعائرَ أكثر منها مدارسَ فكريةً وتحولًا روحيًا.
مظاهر الهجرة الفكرية والاغتراب الروحي عند الشباب
1. الانخراط في ثقافاتٍ غربية أو علمانية لا تواكب الذاكرة الدينية بوعي نقدي.
2. البحث عن فرص هجرة مادية (اقتصادية أو تعليمية) كحلٍّ للخلاص من واقعٍ اجتماعيٍ مزعج، مع تلازم فقدان الانتماء المعنوي.
3. التردّد بين شعائرٍ سطحية وتجاهل البُعد الأخلاقي والروحي
4. استسهال التعاطي مع الفضاء الرقمي والمعلوماتي الذي قد يزود الشاب بمقولاتٍ بعيدةٍ عن ثوابته المحلية، لكن مؤثرة في بناء هويته.
القرآن يحذر من الانشغال بالدنيا على حساب الباطن والروح: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ (سورة الأنبياء/ الآية في مواضع متعددة بالمعنى). لا يعني ذلك رفض الحياة أو التقدم، بل تذكير بأنّ المقصد الأسمى للإنسان هو بناء نفسٍ متكاملةٍ تقرأ علامَات الله وتعمل بها.
وفي الحديث القدس : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِيَّ بِي، إشعارٌ بأنّ الصورة الداخلية للعبد عن ربه هي التي تشكّل مصيره الروحي؛ فإذا ظنّ الشاب أن العلاقة مع المقدّس تمثّل شعيرةً بلا التزامٍ أخلاقيٍّ وعمليٍّ، فستبقى هذه العلاقة شكلاً بلا روح، ويحدث الاغتراب.
أهل البيت عليهم السلام كرّسوا كثيرًا مفهوم القلب الحيّ والعلم النافع. يقول الإمام علي عليه السلام: مَن عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ دعوة للتأمل الداخلي والمعرفة الذاتية التي تؤدي إلى الارتباط الحقيقي بالله، لا مجرد الارتباط المكاني بالمراقد. والإمام الحسين عليه السلام خرج إلى الإصلاح بالدعوة إلى حياةٍ إنسانيةٍ عادلةٍ ذات أفقٍ روحيٍ عالٍ.
معالجات قرآنية-عملية مقترحة
1. إحياء المنهج القرآني في الحلقات الحسينية والحوزات والمدارس: تعليمٌ يُركّز على تفسير متنفسٍ للآيات التي تتعلّق بمعنى الإنسان والهدف والعدالة والروحانية العملية.
2. إدماج الشباب في مشاريع خدمة المجتمع المرتبطة بالمراقد: العمل التطوعي، برامج التعليم والتمكين، مستشفيات، دورات مهنية، بحيث تتحوّل المراقد إلى محطات بناءٍ لا مجرد زيارة.
3. خطاب ديني مركزي يربط العبادة بالأخلاق والعمل: إعادة صياغة الخطب لتكون مدخلًا للقيم الاجتماعيةالعدل، الإحسان، التضامنوليس للتفرقة أو الحسابات الحزبية.
4. تنمية الوعي النقدي وحصانة الشباب معرفيًا عبر مناهج تجمع بين الفقه والأخلاقيات والدراسات الاجتماعية والثقافية.
5. الاستفادة من خطاب أهل البيت في معالجة الغربة: تعليم قصص الأنبياء والأئمة كنماذج حياةٍ ومقاومةٍ وتوازنٍ بين الروح والمجتمع.
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ (الرعد: 11). هذه الآية توجّهنا إلى أن الانبعاث الروحي يبدأ من الفرد ثم يتسع إلى المجتمع؛ لذا فإنّ إصلاحًا حقيقيًا لا يكون بلا مبادراتٍ فرديةٍ ومنظوماتٍ مؤسساتيةٍ متكاملة.
ظاهرة الهجرة الفكرية والاغتراب الروحي بين شبابنا، بالرغم من قربهم الجغرافِيّ للمراقد المقدّسة، ليست حكماً نهائيًا ولا لعنةً مستديمة. هي نتيجة مركبة من عوامل تاريخية واجتماعية وسياسية وثقافية. والكتاب العزيز، وسيرة أهل البيت الطاهرة، تقدمان مناهج عملية وبصائر علاجية .
كما أن برامج وجهود العتبات المقدسة في العراق تلعب دورا مهما في إعادة البناء التربوي، من خلال ربط العبادة بالأخلاق والعمل، وإحياء معنى الانتماء الإنساني والوطني في ضوء القيم القرآنية .







وائل الوائلي
منذ 6 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN