إن العراق، ذلك البلد المبارك الذي ازدان بضياء النهرين وتراث الأنبياء، ظلّ عبر تاريخه الحديث يعاني من آفة التناحر والانقسام، حتى كادت نيران الفرقة أن تلتهم أخضرَه ويابسَه. ولئن تعددت مظاهر هذا الانقسام بين حزبيةٍ طاغية، وعشائريةٍ متجذرة، وطائفيةٍ مميتة، فإن المنهج القرآني يظلّ المنار الوضاء الذي يهدي إلى برّ الأمان.
يقول الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا (آل عمران: 103). ففي هذه الآية الكريمة تتجلى الحكمة الإلهية في صياغة المجتمع المتلاحم، الذي تنصهر فيه الفوارق تحت مظلة الإيمان.
لقد شكّل العهد الملكي (1921-1958) البذرة الأولى للانقسام المنظم، حين روّج المحتل البريطاني لولاءات ما قبل الدولة، فقسّم المجتمع إلى كياناتٍ متنافرة. ثم جاءت الأنظمة الجمهورية لتحوّل الولاء العشائري إلى حزبي ضيق، فتفاقم الداء واستشرى البلاء.
وما أن حلّ عام 2003 حتى انكشفت الغمة، وظهر التمزق الاجتماعي بأبشع صوره، فبات العراق ساحة لصراع الولاءات المتعددة. وهنا يصدق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد".
يكشف القرآن الكريم أن جذور الانقسام تعود إلى أمراضٍ قلبية ونفسية، أبرزها:
الهُوى المتسلط: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ (الجاثية: 23)
الجهل بسنن الاجتماع البشري
الانسلاخ من الربانية، والارتماء في أحضان المادية
ولئن تعددت المسميات، فإن الحقيقة واحدة الفرقة موت، والوحدة حياة. وقد حذر الله تعالى من عواقب التنازع بقوله: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ (الأنفال: 46).
لقد رسم القرآن الكريم منهجًا متكاملاً لبناء المجتمع المتلاحم، يقوم على:
1. المرجعية الواحدة: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ (النساء: 59)
2. الإصلاح الدائم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ (الحجرات: 10)
3. القيم الجامعة: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات: 13)
وهذا المنهج يذيب الفوارق المصطنعة، ويبني على أساس التقوى والعدل والإحسان.
أن الساحة في العراق تعاني من انقسامٍ داخلي ، تجلّى في:
تقديم المصالح الحزبية على المبادئ الدينية
تضخيم الزعامات السياسية على حساب المرجعيات العلمية
انتشار الخطاب الانفعالي بديلاً عن الثقافة القرآنية
وعلاج هذا الداء يكمن في العودة إلى المنهج القرآني الأصيل، وإحياء الوحدة الإيمانية التي دعا إليها أئمة أهل البيت عليهم السلام. قال الإمام الصادق عليه السلام: "من تعصّب أو تُعُصِّب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه".
لقد قدّم أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام نماذج خالدة في الوحدة والإصلاح:
فالإمام علي عليه السلام آثر مصلحة الأمة على شخصه فقال: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين"
والإمام الحسن عليه السلام ضحّى بالسلطة لحقن الدماء
والإمام الحسين عليه السلام قدّم أعظم التضحيات لإصلاح أمة جده
فهؤلاء الأئمة كانوا مشاعلَ هدى، ودعاةَ وحدةٍ وجمعٍ لا تفرقةٍ وشتات.
إن خلاص العراق من دوامة الانقسام لن يكون بمزيد من الأحزاب والولاءات الضيقة، بل بالعودة إلى المنهج القرآني الرباني، الذي يجعل الوحدة على الحق أساسًا، والعدلَ قوامًا، والإحسانَ غاية.
فليكن شعارنا قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ (الرعد: 11). فلنبدأ بأنفسنا، ولنغير من خطابنا، ولنجعل القرآن إمامنا في الفكر والقول والعمل.
فالعراق الذي أنجب الحضارات، وأضاء الديانات، قادرٌ بأن يعود أمةً واحدة، كما أراد الله: إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (الأنبياء: 92).







وائل الوائلي
منذ 6 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN