عصر هذا اليوم الأربعاء (30جمادى الآخرة 1438هـ) الموافق لـ(29 آذار 2017م) وضمن فقرات حفل افتتاح فعّاليات الأسبوع الثقافيّ الرابع (نسيم كربلاء)، الذي تُقيمه العتبةُ الحسينيّةُ المقدّسة بالتعاون مع جامعة الكوثر في باكستان، وبمشاركة العتبات المقدّسة (العلويّة والعسكريّة والعبّاسية)، أُلقيت كلمةٌ للمتولّي الشرعيّ للعتبة الحسينيّة المقدّسة سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي ألقاها بالنيابة عنه ممثّلُهُ في هذا المؤتمر الشيخ علي القرعاوي.
استُهِلَّت هذه الكلمة بالآية 103 من سورة آل عمران، بسم الله الرحمن الرحيم: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)، ومن ثمّ ابتدأ قائلاً: "إنّ من أكبر المعجزات الاجتماعيّة التي جعلها الله للبشريّة هي نعمة الأخوّة، حيث هي من النعم الإلهيّة الكبرى لذلك دأب القرآن بذكرها، فالقرآن الكريم يشير إلى هذه المعجزة الإلهيّة الاجتماعيّة في كثيرٍ من الآيات القرآنيّة لما لها من أهميّة كبرى، حيث قال الله عزّ وجلّ (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ)".
يُمكن لأيّ قارئ أن يستنبط من هذه المقدّمة أنّ الشيخ الكربلائي يريد أن يوصل للشعب الباكستانيّ رسالةً مفادها أنّ البشر هم أخوةٌ مهما اختلفت انتماءاتهم وقومياتهم، والاختلاف لن يتحول إلى خلاف.
ثمّ استطرد قائلاً: "فالله عزّ وجلّ يبيّن لنا في كتابه العزيز بأنّ الأخوّة والمحبّة والألفة من الغرائز المرتكزة في فطرة الإنسان، حيث أنّ الإنسان مفطور على الأخوّة والألفة والمحبّة وإنّها نعمة من نعمِهِ عزّ وجلّ، ثمّ إنّ هذه الأخوّة والمحبّة باقية لا تذهب من فطرة الإنسان مهما تغيّرت الأحوال واختلفت الأزمنة ومهما اختلفت الأفكار والمعتقدات، لأنّ الآيات القرآنيّة الدالّة على الأخوّة لم تقيّدها بزمانٍ دون آخر ولم تقيّدها بمعتقدٍ دون آخر.
فالاختلاف في المعتقدات والأفكار والآراء لم يخرج الأخوّة من فطرة الإنسان بل إنّها باقية في فطرته ما بقي الدهر. لكن بعض الأحيان ينحرف الإنسان عن فطرته يميناً وشمالاً فيحتاج عندها الرجوع إلى القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة ليرجع إلى فطرته المبنيّة على الأخوّة والمحبّة".
في هذا الشطر من الكلمة أوضح الشيخ الكربلائي أنّ الخلافات بين بني آدم لن تنفي الأخوّة وهذا ذاته جاء في وصيّة الإمام علي(عليه السلام) وعهده الى واليه مالك الأشتر: (...الناس صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق)، وهنا تعدّ رسالةً واضحة للشعب الباكستانيّ على مختلف طوائفه بأن يتمسّكوا بنهج القرآن والسنّة وأن لا يسمحوا للفُرقة أن تسود بينهم مهما بلغت درجة الاختلاف لأنّ الإنسان مسالم بالفطرة، وهذا ما أكّدت عليه الكلمة أيضاً في الشطر التالي:
"ومن الأدلّة القرآنيّة على أنّ الاختلاف الفطريّ والفكريّ لا يُذهب الأخوّة بل إنّها باقية ومستمرّة الآية القرآنيّة التي تقول: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، حيث بيّن الباري عزّ وجلّ فيها بأنّ المعتقدات لا يُمكن أن تأتي بالقوّة والقتل والدماء والإكراه وإنّما تأتي بالاختيار عن طريق البرهان والفكر والعلم".
ومن ثمّ عرّج سماحة الشيخ الكربلائي على المرجعيّة الدينيّة العُليا في النجف الأشرف واستحضرها كمثالٍ على روح التعامل الإنسانيّ والأخويّ والتعايش السلميّ، وهذا هو خير مثالٍ يُمكن أن يُحمل كرسالةٍ للعالم، بل لعلّه يكون الوحيد، فالمرجع الأعلى سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسينيّ السيستانيّ(دام ظلّه الوارف) هو رجل المرحلة الذي كان بوقوفه في وجه كلّ المخطّطات التي حاولت تمزيق الشعب العراقيّ بمختلف قوميّاته ومعتقداته على مدى العقود المنصرمة خيرَ مصداقٍ في هذا الزمان لنهج آل البيت(عليهم السلام) الذين هم امتدادٌ للرسالة المحمديّة الأصيلة.
حيث جاء في هذا الشطر من الكلمة: "لقد كان للمرجعيّة الدينيّة في النجف الأشرف المتمثّلة بسماحة آية الله العظمى السيّد السيستاني(دام ظلّه الوارف) الدور الأكبر في بثّ روح الأخوّة والمحبّة بين كلّ المسلمين على الرغم من اختلاف معتقداتهم ومذاهبهم، لا بل حتّى وإن اختلفت أديانهم، وذلك أصبح واضحاً وجليّاً إلى كلّ العالم وإلى المنظّمات الدوليّة ممّا دعا العديد من المنظّمات الدولية إلى اختياره كرجلٍ للسلام والحكمة، حيث كان رجالات المرجعيّة لهم الدور الكبير في مساعدة النازحين في الأنبار وكركوك والموصل ومساعدتهم في كلّ جوانب الحياة".
كما لم يغب دورُ العتبات المقدّسة في العراق في هذه الكلمة وهذا أمرٌ لابدّ منه، فهذه البقاع الطاهرة وبعد زوال حكم اللانظام في العراق بعد 2003م عادت لتكون منارات يسطع نورها إلى عنان السماء، وتكون مثلاً يتحذى بها على كافّة الصعد الثقافيّة والعمرانيّة والخدميّة، وخير مثالٍ على هذا هو ما أعلنه المتولّي الشرعيّ للعتبة العبّاسية المقدّسة سماحة السيّد أحمد الصافي(دام عزّه) خلال الكلمة التي ألقاها في حفل افتتاح مشروع توسعة حرم مرقد أبي الفضل(عليه السلام) بتسقيف صحنه الشريف الذي أُقيم مساء السبت (19جمادى الآخرة 1438هـ) الموافق لـ(18آذار 2017م) أنّ: "مجموع ما صُرِف من مبالغ على المشاريع العمرانيّة والمشاريع الخدميّة للعتبة المقدّسة خلال (13) سنة وصل الى مليار دولار فقط، علماً أنّ لدى العتبة المقدّسة أكثر من (150) مشروعاً ولا زال هناك (40) مشروعاً في وزارة التخطيط متوقّفة بسبب المشاكل الماليّة، وبعض المشاريع أيضاً قد صودق عليها من قبل ديوان الوقف الشيعيّ الموقّر وهي تنتظر السيولة الماليّة".
حيث بيّن الشيخ الكربلائي في كلمته هذا المقطع: "كما أنّ للعتبات المقدّسة الدور الكبير في نشر الأخوّة والتعايش السلمي بين كلّ أفراد المجتمع سواءً في الجانب الثقافيّ أو الاقتصاديّ أو الاجتماعيّ، فهي في الجانب الثقافيّ تقيم المؤتمرات والندوات التي تدعو إلى بثّ روح الأخوّة والمحبّة بين كلّ الناس، وفي الجانب الاجتماعيّ ترسل العديد من الوفود للصُلْح بين المتخاصمين، حيث كان لها دورٌ كبير في فضّ العديد من النزاعات والخصومات الكبرى، وهكذا في الجوانب الأخرى".
ليختتم كلمته بذكر الأبطال الذي تخرّجوا من مدرسة كربلاء وهم أبناء الحشد الشعبي ليعرّف العالم في مختلف بقاع المعمورة بإنجازات هؤلاء الأبطال الذين رسموا أروع قيم التسامح والأخوّة والشجاعة، حيث جاء في الكلمة: "كما أنّ هناك دوراً كبيراً قام به شعبنا العظيم وذلك من خلال الحشد الشعبي الذي بيّن معالم للأخوّة كبيرة جدّاً، حيث نراه بيدٍ يقاتل بشدّة دفاعاً عن الحقّ ويدٍ أخرى تنقل العوائل إلى أماكن آمنة، نعم لقد تأسّى هؤلاء الأبطال بالإمام الحسين(عليه السلام) وأخيه أبي الفضل العبّاس(عليه السلام) تلك الأخوّة العظيمة التي لم يوجد مثلها نظير على مرّ التاريخ.
فقد قيل إنّ العباس لم يخاطب الحسين يوماً ما (يا أخي) إلّا مرّةً واحدة في يوم عاشوراء؛ عندما هوى من جواده إلى الأرض مصاباً مقطّع اليدين، وهي لحظاتٌ حنَّ فيها إلى رؤية أقرب الناس إليه، قبل أن يودّع الدنيا. وفي تلك اللّحظات المؤلمة للعبّاس، نادى الحسين بقوله: «أدركني يا أخي». فأسرع الحسين إليه يمسح التراب والدماء من على وجهه وعينيه. وألقى العبّاس نظراته الأخيرة على أخيه الحسين، ليلفظ بعدها أنفاسه الأخيرة في أحضانه. لقد ودّعه في موقفٍ يرسم ويحكي أسمى معاني الأخوّة والولاء والمحبّة. وقد بكى عليه الحسين بكاءً شديداً، وقال قولته الشهيرة: «الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي وشَمُتَ بي عدوّي».
هذه هي الأخوّة الحقيقيّة التي يجب أن نحتذي بها.. فقد وقف العبّاس مع أخيه الحسين في كلّ اتجاهاته ومواقفه وأشدّ الظروف وأصعبها، وكان وفيّاً له، فعندما ألمّت بالعبّاس الشدائد والمصائب يوم الطفّ لم يسخط أو يجزع أو يتراجع بل كان وفيّاً وصادقاً مع أخيه... وقف معه ولم يفارقه حتى قُطِعت يداه واستُشهِد في سبيله، ليرتقي إلى قمّة المجد والشهامة، لتُخلّد حكايته كأجمل حكاية أخوَيْن على امتداد التاريخ".