أقام قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة، ندوة علمية بعنوان "مقتطفات من تراث السيد حسين الصدر الكاظمي". وتأتي الندوة التي شهدت إلقاء اربعة بحوث، بمناسبة صدور العدد الأوّل من الملحق العلمي لمجلة الخزانة الصادرة عن مركز إحياء التراث التابع للقسم "مقاليد التراث". وقال رئيس تحرير ملحق مقاليد التراث السيد حسين هليّب الشيباني في كلمة له بالندوة، إنّ "مركز إحياء التراث في العتبة العباسية المقدسة، حقق وأصدر أكثر من مئة عنوان في مختلف المجالات العلمية: كالفقه، والحديث، واللغة، والأدب، والتاريخ، والكلام، والعقائد، والفضائل، والتراجم بعد مرور عقد ونصف من الزمان تقريبًا على تأسيسه. وأدناه نص الكلمة: إنّ واحدة من أظهر مميزات ديننا الحنيف هو عنايته الكبيرة بمحور الفكر والتعلم؛ كونه السبيل الأمثل لتوجيه البشر فكرًا وسلوكًا صوب التكامل خلقَا وإيمانًا، وبدت هذه العناية جلية منذ كلمات الوحي الأولى التي أنزلها الله جلّ وعلا على قلب حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله)، إذ تضمّنت الآيات الخمس الأولى من سورة (العلق)، مفردات: (القراءة، والتعلم، والقلم)، كما ذهب مضمونُ جملة من الآيات الشريفة إلى تمييز بل تفضيل شريحة أهل العلم والمتعلمين على غيرهم، منها قوله تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)، وغيرها من الآيات التي لا تخفى على حضراتكم.
وبهذا المضمون وبتفصيل أوسع كشفت كثير من الأحاديث النبوية والروايات الشريفة عن فضل العلم، وأهمية طلبه، إذ عدته فريضة على كل المسلمين؛ وكون أغلب التعلم في صدر الإسلام كان عبر الحفظ عن ظهر قلب، أكّدت أحاديث وروايات أخر على تقييده خوفًا عليه من النسيان، منها (قوله صلى الله عليه وآله): (قيّدوا العلم بالكتابة)، ويستمر ذلك الحرص على التدوين والحفاظ على ما يدون من العلم في روايات الأئمة (عليهم السلام)، كما عن الإمام الصادق عليه السلام: (احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها). فتلك المعطيات شكّلت في مضمونها حافزًا ذاتيًا لدى جمّ غفير من علمائنا الأبرار منذ صدر الإسلام، فتكاثفت جهودهم كل بحسب تخصّصه وظروفه، فكان ثمار ذلك تراثًا ثرًّا كمًّا ونوعًا، غدا اليوم يمثل هوية الأمة، ويعكس مدى تحضرها ورقيها. كما لا يخفى على ذي تتبع مقدار الجهد العظيم الذي بذلوه في حفظ العلوم الإسلامية المتنوعة ونشرها على مر التاريخ، عبر ما قرأناه في كتب الفهارس والببليوغرافيا، وانتهى إلينا بعضه من تأليفات وتصنيفات أحاطت بمجالات شتّى من العلم والمعرفة، هذا غير ما أجادت به يراعاتهم المباركة من مستنسخات لآثار من سبقهم، التي ما كانت لتبقى وتحيا ويصل إلينا ما وصل منها لولاهم، فكان هذا ديدنهم، وجل همّهم، يتوارثونه ويورثونه من جيل إلى جيل عبر القرون الماضية، فكانوا حقا أمناء الأمة. وما حق لنا اليوم أن نفتخر على باقي الأمم بما ورثناه من نتاج علمي رصين لولاهم، ولم تكن رفوف المكتبات في أرجاء المعمورة لتمتلئ بمئات الآلاف من النسخ الخطية في عصرنا الحاضر إلا بتضحياتهم، فالحفاظ على ما وصل إلينا من هذا الإرث العلمي المترامي الأطراف عبر التاريخ، وتعريف الأجيال به هم كل لبيب؛ كي لا تستأثر به الأمم الأخرى وتنسبه إلى نفسها، فنفقد بذلك جزءًا مهمًّا من تراثنا وهويتنا، ثمّ ننبهر بكثير من إسهامات الآخرين التي هي أصلا ملك لأجدادنا وإرث لآبائنا، وهذا ما يحملنا اليوم – أفرادًا ومؤسسات- مسؤولية جسيمة حيال تراثنا بغية صيانته وحفظه ونشره؛ لتتحقق الغاية المرجوة من تدوينه، ونحسب أنّ النهوض بهذه المهمة سيعود على أمة الإسلام بتحقيق أمرين: الأول: الحفاظ على تراثنا وبعثه من جديد، وهو في الحقيقة حفاظ على الهوية الحضارية الأصيلة لأمتنا، فإبراز المكتنز في هذا التراث من أفكار ونظريات وآراء، قد يغير مرتكزات علمية قائمة، أو يوسع من دائرة وضوحها، وأهميتها، وأصالتها. الثاني: نعتقد أن إحياء هذا التراث الغني فكرًا، والمتجذر أصالة، قد يمثل سبيلًا من سبل مواجهة موجة التسطيح المعرفي والارتداد الفكري التي أخذت بالانتشار بين كثير من الناشئة والشباب في مجتمعاتنا الإسلامية، والتي من آثارها المؤسفة الكتاب والمكتبات، وانحسار فئة القراء والمطالعين، ونسهم عبر ذلك بما يعرف اليوم بـ (الأمن الفكري). ومن هنا كان لمركز إحياء التراث في العتبة العباسية المقدسة شرف المساهمة في تحقيق هذين الأمرين، إذ قطع في هذا الاتجاه شوطًا مباركًا، فبعد مرور عقد ونصف من الزمان تقريبًا على تأسيسه حقق وأصدر أكثر من مئة عنوان في المجالات العلمية المختلفة: كالفقه، والحديث، واللغة، والأدب، والتاريخ، والكلام، والعقائد، والفضائل، والتراجم. وفي عام 2015م أردف المركز ذلك النتاج بتأسيس مجلة علمية تقتصر دائرة اهتمامها على التراث المخطوط والوثائق؛ لتسهم في ملء بعض الفراغ الواضح في هذا الاختصاص، فكانت (الخزانة)، إذ استطاعت - ولله الحمد والثناء – أن تتخطى بمضمونها الرصين وأبوابها التراثية المتنوعة حدود كثير من الدول العربية والأجنبية، علما أنه لم تتجاوز أعدادها الصادرة لغاية الآن اثني عشر عددًا، إذ يفصل عددًا عن آخر نصف سنة. ولم تتوقف رؤية إدارة المركز في هذا السبيل عند ذلك، بل سعت مؤخرًا إلى تبنّي إصدار تراثي دوري آخر، يمثل ملحقًا علميًّا عن مجلة (الخزانة)، يستعرض في كلّ إطلالة شذرات من حياة علمائنا الأفذاذ ونتاجهم، أو موضوعات تمثل علامات بارزة في فضاء النشاط العلمي التراثي، وسم بعنوان (مقاليد التراث). وقد اختص الإصدار الأول منه بتراث أحد علماء الطائفة وأعلامها في القرن الرابع عشر الهجري، هو السيد حسن الصدر الكاظمي (قدس سره)، وأظن أن كثيرًا من حضراتكم محيط بمقامه العلمي وحجم جهوده في مجال التراث، ومن لم تسمح له الظروف بذلك فسيجد في الإصدار الأول من (مقاليد التراث) ما يفي بذلك. وقبل الختام نؤكّد على أنّ كلّ النتاج الصادر عن مركز إحياء التراث وبمختلف تفاصيله هو لا شك بتوفيق من الباري جل شأنه، ومن ثمّ نفحات من يشرفنا الانتساب إلى عتبته المباركة، صاحب اللواء أبي الفضل العباس (عليه السلام)، والثقة الممنوحة من إدارة العتبة المباركة وعلى رأسها سماحة المتولي الشرعي (دام عزه) والسيد الأمين والسادة أعضاء مجلس الإدارة والسيد رئيس القسم والسيد مدير المكتبة دامت توفيقاتهم، ودعمهم اللامحدود لنشاط المركز ومشاريعه، فلهم منا خالص الدعاء بالتوفيق والسداد. كما نتقدم بآيات الشكر والثناء لجميع الباحثين على جهودهم المباركة التي أسفرت عن أول إصدار من (مقاليد التراث)، فعلى الله أجرهم وبارك في سعيهم، والثناء والدعاء موصولان للحضور الكريم خاصة من تحمل منهم عناء السفر وتفضل بحضوره.