أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-2-2018
19505
التاريخ: 18-2-2018
5522
|
قال تعالى : {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 18 - 36].
لما تقدم ذكر حال الفجار عقبه سبحانه بذكر حال الأبرار فقال {كلا} أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه فعلى هذا يتصل بما قبله وقيل معناه حقا ويتصل بما بعده {إن كتاب الأبرار} أي المطيعين لله {لفي عليين} أي مراتب عالية محفوفة بالجلالة وقيل في السماء السابعة وفيها أرواح المؤمنين عن قتادة ومجاهد والضحاك وكعب وقيل في سدرة المنتهى وهي التي ينتهي إليها كل شيء من أمر الله تعالى عن الضحاك في رواية أخرى وقيل العليون الجنة عن ابن عباس قال الفراء في ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية له وقيل هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيها عن ابن عباس في رواية أخرى وعن البراء بن عازب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال في عليين في السماء السابعة تحت العرش.
{وما أدراك ما عليون} وهذا تعظيم لشأن هذه المنزلة وتفخيم لأمرها وتنبيه على أن تفصيل تفضيله لا يمكن العلم به إلا بالمشاهدة ثم قال {كتاب مرقوم} أي هو كتاب مكتوب فيه جميع طاعاتهم وما تقر به أعينهم ويوجب سرورهم بضد الكتاب الذي للفجار لأن فيه ما يسوؤهم وينوؤهم ويسخن عيونهم قال مقاتل مرقوم مكتوب لهم بالخيرات في ساق العرش ويدل عليه قوله {يشهده المقربون} يعني الملائكة الذين هم في عليين يشهدون ويحضرون ذلك المكتوب أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين والمقربون هم الذين قربوا إلى كرامة الله في أجل المراتب وقال عبد الله بن عمر أن أهل عليين لينظرون إلى أهل الجنة من كذا فإذا أشرف رجل منهم أشرقت الجنة وقالوا قد اطلع علينا رجل من أهل عليين.
{إن الأبرار لفي نعيم} أي يحصلون في ملاذ وأنواع من النعمة في الجنة {على الأرائك} قال الحسن ما كنا نعرف ما الأرائك حتى قدم إلينا رجل من أهل اليمن فزعم أن الأريكة عندهم الحجلة إذا كان فيها سرير {ينظرون} إلى ما أعطوا من النعيم والكرامة وقيل ينظرون إلى عدوهم حين يعذبون عن مقاتل {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} أي إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة بما ترى في وجوههم من النور والحسن والبياض والبهجة قال عطاء وذلك أن الله تعالى قد زاد في جمالهم وألوانهم ما لا يصفه واصف {يسقون من رحيق} أي خمر صافية خالصة من كل غش {مختوم} وهو الذي له ختام أي عاقبة وقيل مختوم في الآنية بالمسك وهو غير الخمر التي تجري في الأنهار وقيل مختوم أي ممنوع من أن تمسه يد حتى يفك ختمه للأبرار.
ثم فسر المختوم بقوله {ختامه مسك} أي آخر طعمه ريح المسك إذا رفع الشارب فاه عن آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك عن ابن عباس والحسن وقتادة .
وقيل ختم إناؤه بالمسك بدلا من الطين الذي يختم به الشراب في الدنيا عن مجاهد وابن زيد قال مجاهد طينه مسك وعن أبي الدرداء قال هو شراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل إصبعه فيه ثم أخرجه لم يبق ذو روح إلا ونال طيبها ثم رغب فيها فقال {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} أي فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى ومثله قوله سبحانه لمثل هذا فليعمل العاملون وقيل فليتنازع المتنازعون عن مقاتل وقيل ليتشاح المتشاحون عن زيد بن أسلم وفي الحديث من صام لله في يوم صائف سقاه الله على الظمأ من الرحيق المختوم وفي وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) ((ومن ترك الخمر لله سقاه الله من الرحيق المختوم)).
{ومزاجه من تسنيم} أي ومزاج ذلك الشراب الذي وصفناه وهوما يمزج به من تسنيم وهو عين في الجنة وهو أشرف شراب في الجنة قال مسروق يشربها المقربون صرفا ويمزج بها كأس أصحاب اليمين فيطيب وروى ميمون بن مهران أن ابن عباس سئل عن تسنيم فقال هذا مما يقول الله عز وجل فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ونحو هذا قول الحسن خفايا أخفاها الله لأهل الجنة وقيل هو شراب ينصب عليهم من علو انصبابا عن مقاتل وقيل هو نهر يجري في الهواء فينصب في أواني أهل الجنة بحسب الحاجة عن قتادة ثم فسره سبحانه فقال {عينا يشرب بها المقربون} أي هي خالصة للمقربين يشربونها صرفا ويمزج لسائر أهل الجنة عن ابن مسعود وابن عباس.
{إن الذين أجرموا} يعني كفار قريش ومترفيهم كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأصحابهم {كانوا من الذين آمنوا} يعني أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مثل عمار وخباب وبلال وغيرهم {يضحكون} على وجه السخرية بهم والاستهزاء في دار الدنيا ويحتمل أن يكون ضحكوا من جدهم في عبادتهم وكثرة صلاتهم وصيامهم لإنكارهم الجزاء والبعث ويجوز أن يكون كان ضحكهم إنكارا وتعجبا من قولهم بالإعادة وإحياء العظام الرميمة ويحتمل أن يكون ذلك لغلوهم في كفرهم وجهلهم ولإيهام العوام أنهم على حق وإن المسلمين على باطل فكانوا يضحكون {وإذا مروا بهم} يعني وإذا مر المؤمنون بهؤلاء المشركين {يتغامزون} بأن يشير بعضهم إلى بعض بالأعين والحواجب استهزاء بهم أي يقول هؤلاء إنهم على حق وإن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنزل عليه الوحي وأنه رسول وإنا نبعث ونحو ذلك وقيل نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) وذلك أنه كان في نفر من المسلمين جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه فنزلت الآية قبل أن يصل علي (عليه السلام) وأصحابه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن مقاتل والكلبي وذكر الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال {إن الذين أجرموا} منافقوا قريش و{الذين آمنوا} علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأصحابه.
{وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين} يعني وإذا رجع هؤلاء الكفار إلى أهلهم رجعوا معجبين بما هم فيه يتفكهون بذكرهم {وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} عن طريق الحق والصواب تركوا التنعم رجاء ثواب لا حقيقة لهم خدعهم به محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ثم قال سبحانه {وما أرسلوا عليهم حافظين} أي ولم يرسل هؤلاء الكفار حافظين على المؤمنين ما هم عليه وما كلفوا حفظ أعمالهم فكيف يطغون عليهم ولو اشتغلوا بما كلفوه كان ذلك أولى بهم وقيل معناه وما أرسلوا عليهم شاهدين لأن شهادة الكفار لا تقبل على المؤمنين أي ليسوا شهداء عليهم بل المؤمنون شهداء على الكفار يشهدون عليهم يوم القيامة عن أبي مسلم {فاليوم} يعني يوم القيامة الذي يجازي الله كل أحد على عمله {الذين آمنوا من الكفار يضحكون} كما ضحك الكفار منهم في الدنيا وذلك أنه يفتح للكفار باب إلى الجنة ويقال لهم أخرجوا إليها فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم يفعل ذلك بهم مرارا فيضحك منهم المؤمنون عن أبي صالح وقيل يضحكون من الكفار إذا رأوهم في العذاب وأنفسهم في النعيم وقيل أن الوجه في ضحك أهل الجنة من أهل النار أنهم لما كانوا أعداء الله وأعداء لهم جعل الله سبحانه لهم سرورا في تعذيبهم ولوكان العفو قد وقع عليهم لم يجز أن يجعل السرور في ذلك لأنه مضمن بالعداوة وقد زالت بالعفو.
{على الأرائك ينظرون} يعني المؤمنين ينظرون إلى عذاب أعدائهم الكفار على سرر في الحجال ثم قال سبحانه {هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون} أي هل جوزي الكفار إذا فعل بهم هذا الذي ذكره على ما كانوا يفعلونه من السخرية بالمؤمنين في الدنيا وهو استفهام يراد به التقرير وثوب بمعنى أثيب وقيل معناه يتصل بما قبله ويكون التقدير إن الذين آمنوا ينظرون هل جوزي الكفار بأعمالهم ويكون الجملة متعلقة بينظرون وعلى القول الأول يكون استئناف كلام لا موضع له من الإعراب وإنما قال {هل ثوب الكفار} فاستعمل لفظ الثواب في العقوبة لأن الثواب في أصل اللغة الجزاء الذي يرجع إلى العامل بعمله وإن كان في العرف اختص الجزاء بالنعيم على الأعمال الصالحة فاستعمل هنا على أصله وقيل لأنه جاء في مقابلة ما فعل بالمؤمنين أي هل ثوب الكفار كما ثوب المؤمنون وهذا القول يكون من قبل الله تعالى أو تقوله الملائكة للمؤمنين تنبيها لهم على أن الكفار جوزوا على كفرهم واستهزائهم بالمؤمنين ما استحقوه من أليم العذاب ليزدادوا بذلك سرورا إلى سرورهم ويحتمل أن يكون ذلك يقوله المؤمنون بعضهم لبعض سرورا بما ينزل بالكفار وكل هذه الوجوه إنما تتجه على القول الأول إذا كانت الجملة كلاما مستأنفا لا تعلق له بما قبله .
________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص296-300.
{كَلَّا} . ارتدعوا عن التكذيب باليوم الآخر {إِنَّ كِتابَ الأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} هو سجل أثبت فيه أسماء الأبرار وأعمالهم ، وقد أودع في مكان عال يتفق مع مقام الأبرار وعليه يكون معنى كتاب الكتابة {وما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ} لا يدرك بوهم ، ولا يقدر بفهم {كِتابٌ مَرْقُومٌ} . فيه علامات تدل على كريم الأفعال ، وجليل الصفات {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} . هذا الكتاب لا ريب فيه ، وهو محسوس يراه كل من يقترب منه . وقيل : المراد بالمقربين الملائكة {إِنَّ الأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ} .
هذا بيان لثواب أهل البر والإحسان {عَلَى الأَرائِكِ يَنْظُرُونَ} . الأرائك الأسرّة وينظرون أي تتمتع أبصارهم بأبهى المناظر وأجملها {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} . تدل ملامحهم انهم من أهل الجنة . وتقدم مثله في الآية 38 من سورة عبس .
{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ} . الرحيق الخمر الصافية . وقد ختمت أوانيها بالمسك بدل الطين {وفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ} . نعيم الجنة هو الذي يستحق السباق والتنافس لأنه باق ببقاء اللَّه ، أما حطام الدنيا فإلى زوال ، وكل حي فيها إلى فناء {ومِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} . ضمير مزاجه يعود إلى الرحيق ، وهذا الرحيق ممزوج بماء من عين اسمها تسنيم ، وانما سميت بذلك لأن ماءها يأتي من العلو، فطابق الاسم المسمى كما قال الشيخ محمد عبده . والمقربون هم الأبرار الذين أعد اللَّه لهم ما ذكره من النعيم ، والغرض من هذه الآيات الحث والترغيب في الايمان وصالح الأعمال .
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} . بعد أن ذكر سبحانه المتقين ذكر المجرمين ، وانهم كانوا في الدنيا يختالون ويتعالون على المؤمنين ، ويتخذون منهم مادة للضحك والسخرية . . لا لشيء إلا لعجزهم عن رد الأذى {وإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ} عليهم ساخرين بهم كما هو دأب الأراذل والأنذال {وإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} . متلذذين بالغيبة وذكر السوء {وإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ} . وهكذا الخونة يزرون بالمخلصين ، والفجرة بالمتقين .
وفي تفسير الرازي : مرّ الإمام علي (عليه السلام) ونفر من المسلمين بجماعة من المنافقين ، فضحكوا وتغامزوا ، ثم رجعوا إلى أصحابهم وقالوا رأينا اليوم الأصلع ، فضحكوا منه . فنزلت هذه الآية قبل ان يصل علي إلى رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم).
{وما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ} . ضمير أرسلوا للكفار ، وضمير عليهم للمؤمنين ، والمعنى ان اللَّه سبحانه ما أرسل الكفار رقباء على المؤمنين حتى يحفظوا أعمالهم ، ويحصوا حركاتهم . وقال الشيخ محمد عبده : ضمير أرسلوا للمؤمنين ، وضمير عليهم للكافرين ، والمعنى قال الكافرون : ما أرسل اللَّه المؤمنين ليرشدونا ويعظونا .
وهذا القول خلاف الظاهر وبعيد عن الافهام .
{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} . وضحك المؤمنين من المجرمين في اليوم الآخر - خير وفضيلة لأنه استخفاف بأعداء اللَّه ، أما ضحك المجرمين من المؤمنين في الدنيا فهوجريمة كبرى لأنه استخفاف بأولياء اللَّه {عَلَى الأَرائِكِ يَنْظُرُونَ} إلى صنع اللَّه بأعدائه وأعدائهم ، وتنكيله بمن كان يهزأ بهم ويضحك منهم {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ} . ثوّب أي جوزي . ضحك الكفار من المؤمنين في الدنيا ، فأضحك اللَّه المؤمنين من الكفار في الآخرة ، واحدة بواحدة ، ولكن شتان ما بين الاثنتين .
____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية، ج7 ، ص537-538.
قوله تعالى: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم} ردع في معنى الردع الذي في قوله: {كلا إن كتاب الفجار} وعليون - كما تقدم – علو على علو مضاعف، وينطبق على الدرجات العالية ومنازل القرب من الله تعالى كما أن السجين بخلافه.
والكلام في معنى الآيات الثلاث نظير الكلام في الآيات الثلاث المتقدمة التي تحاذيها من قوله: {إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم}.
فالمعنى أن الذي كتب للأبرار وقضي جزاء لبرهم لفي عليين وما أدراك ما عليون هو أمر مكتوب ومقضي قضاء حتما لازما متبين لا إبهام فيه.
وللقوم أقاويل في هذه الآيات نظير ما لهم في الآيات السابقة من الأقوال غير أن من أقوالهم في عليين أنه السماء السابعة تحت العرش فيه أرواح المؤمنين، وقيل سدرة المنتهى التي إليها تنتهي الأعمال، وقيل: لوح من زبرجدة تحت العرش معلق مكتوب فيه أعمالهم، وقيل: هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة، والكلام فيها كالكلام فيما تقدم من أقوالهم.
قوله تعالى: {يشهده المقربون} الأنسب لما تقدم من معنى الآيات السابقة أن يكون {يشهده} من الشهود بمعنى المعاينة والمقربون قوم من أهل الجنة هم أعلى درجة من عامة الأبرار على ما سيأتي استفادته من قوله: {عينا يشرب بها المقربون} فالمراد معاينتهم له بإراءة الله إياه لهم وقد قال الله تعالى في مثله من أمر الجحيم: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر: 5، 6] ومنه يظهر أن المقربين هم أهل اليقين.
وقيل: الشهادة هي الحضور والمقربون الملائكة، والمراد حضور الملائكة على صحيفة عملهم إذا صعدوا بها إلى الله سبحانه.
وقيل: المقربون هم الأبرار والملائكة جميعا.
والقولان مبنيان على أن المراد بالكتاب صحيفة الأعمال وقد تقدم ضعفه.
وقوله تعالى: {إِنّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ (22) عَلى الأَرَائكِ يَنظرُونَ (23) تَعْرِف فى وُجُوهِهِمْ نَضرَةَ النّعِيمِ (24) يُسقَوْنَ مِن رّحِيقٍ مّخْتُومٍ (25) خِتَمُهُ مِسكٌ وفى ذَلِك فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَفِسونَ (26) ومِزَاجُهُ مِن تَسنِيمٍ (27) عَيْناً يَشرَب بهَا الْمُقَرّبُونَ (28) إِنّ الّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الّذِينَ ءَامَنُوا يَضحَكُونَ (29) وإِذَا مَرّوا بهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وإِذَا انقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنّ هَؤُلاءِ لَضالّونَ (32) ومَا أُرْسِلُوا عَلَيهِمْ حَفِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ الْكُفّارِ يَضحَكُونَ (34) عَلى الأَرَائكِ يَنظرُونَ (35) هَلْ ثُوِّب الْكُفّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ }
بيان فيه بعض التفصيل لجلالة قدر الأبرار وعظم منزلتهم عند الله تعالى وغزارة عيشهم في الجنة، وأنهم على كونهم يستهزىء بهم الكفار ويتغامزون بهم ويضحكون منهم سيضحكون منهم وينظرون إلى ما ينالهم من العذاب.
قوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم} النعيم النعمة الكثيرة وفي تنكيره دلالة على فخامة قدره، والمعنى أن الأبرار لفي نعمة كثيرة لا يحيط بها الوصف.
قوله تعالى: {على الأرائك ينظرون} الأرائك جمع أريكة والأريكة السرير في الجملة وهي البيت المزين للعروس وإطلاق قوله: {ينظرون} من غير تقييد يؤيد أن يكون المراد نظرهم إلى مناظر الجنة البهجة وما فيها من النعيم المقيم، وقيل: المراد به النظر إلى ما يجزي به الكفار وليس بذاك.
قوله تعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} النضرة البهجة والرونق، والخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتبار أن له أن ينظر فيعرف فالحكم عام والمعنى كل من نظر إلى وجوههم يعرف فيها بهجة النعيم الذي هم فيه.
قوله تعالى: {يسقون من رحيق مختوم} الرحيق الشراب الصافي الخالص من الغش، ويناسبه وصفه بأنه مختوم فإنه إنما يختم على الشيء النفيس الخالص ليسلم من الغش والخلط وإدخال ما يفسده فيه.
قوله تعالى: {ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} قيل الختام بمعنى ما يختم به أي إن الذي يختم به مسك بدلا من الطين ونحوه الذي يختم به في الدنيا، وقيل: أي آخر طعمه الذي يجده شاربه رائحة المسك.
وقوله: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} التنافس التغالب على الشيء ويفيد بحسب المقام معنى التسابق قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } [الحديد: 21] ، وقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48] ، ففيه ترغيب إلى ما وصف من الرحيق المختوم.
واستشكل في الآية بأن فيها دخول العاطف على العاطف إذ التقدير فليتنافس في ذلك إلخ وأجيب بأن الكلام على تقدير حرف الشرط والفاء واقعة في جوابه وقدم الظرف ليكون عوضا عن الشرط والتقدير وإن أريد تنافس فليتنافس في ذلك المتنافسون.
ويمكن أن يقال: إن قوله: {وفي ذلك} معطوف على ظرف آخر محذوف متعلق بقوله: {فليتنافس} يدل عليه المقام فإن الكلام في وصف نعيم الجنة فيفيد قوله: {وفي ذلك} ترغيبا مؤكدا بتخصيص الحكم بعد التعميم، والمعنى فليتنافس المتنافسون في نعيم الجنة عامة وفي الرحيق المختوم الذي يسقونه خاصة فهو كقولنا: أكرم المؤمنين والصالحين منهم خاصة، ولا تكن عيابا وللعلماء خاصة.
قوله تعالى: {ومزاجه من تسنيم} المزاج ما يمزج به، والتسنيم على ما تفسره الآية التالية عين في الجنة سماه الله تسنيما وفي لفظه معنى الرفع والملء يقال: سنمه أي رفعه ومنه سنام الإبل، ويقال: سنم الإناء أي ملأه.
قوله تعالى: {عينا يشرب بها المقربون} يقال: شربه وشرب به بمعنى و{عينا} منصوب على المدح أو الاختصاص و{يشرب بها المقربون} وصف لها والمجموع تفسير للتسنيم.
ومفاد الآية أن المقربين يشربون التسنيم صرفا كما أن مفاد قوله: {ومزاجه من تسنيم} أنه يمزج بها ما في كأس الأبرار من الرحيق المختوم، ويدل ذلك أولا على أن التسنيم أفضل من الرحيق المختوم الذي يزيد لذة بمزجها، وثانيا أن المقربين أعلى درجة من الأبرار الذين يصفهم الآيات.
قوله تعالى: {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون} يعطي السياق أن المراد بالذين آمنوا هم الأبرار الموصوفون في الآيات وإنما عبر عنهم بالذين آمنوا لأن سبب ضحك الكفار منهم واستهزائهم بهم إنما هو إيمانهم كما أن التعبير عن الكفار بالذين أجرموا للدلالة على أنهم بذلك من المجرمين.
قوله تعالى: {وإذا مروا بهم يتغامزون} عطف على قوله: {يضحكون} أي كانوا إذا مروا بالذين آمنوا يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم استهزاء بهم.
قوله تعالى: {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين} الفكه بالفتح فالكسر المرح البطر، والمعنى وكانوا إذا انقلبوا وصاروا إلى أهلهم عن ضحكهم وتغامزهم انقلبوا ملتذين فرحين بما فعلوا أو هومن الفكاهة بمعنى حديث ذوي الإنس والمعنى انقلبوا وهم يحدثون بما فعلوا تفكها.
قوله تعالى: {وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} على سبيل الشهادة عليهم بالضلال أو القضاء عليهم والثاني أقرب.
قوله تعالى: {وما أرسلوا عليهم حافظين} أي وما أرسل هؤلاء الذين أجرموا حافظين على المؤمنين يقضون في حقهم بما شاءوا أو يشهدون عليهم بما هووا، وهذا تهكم بالمستهزئين.
قوله تعالى: {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} المراد باليوم يوم الجزاء، والتعبير عن الذين أجرموا بالكفار رجوع إلى حقيقة صفتهم.
قيل: تقديم الجار والمجرور على الفعل أعني {من الكفار} على {يضحكون} لإفادة قصر القلب، والمعنى فاليوم الذين آمنوا يضحكون من الكفار لا الكفار منهم كما كانوا يفعلون في الدنيا.
قوله تعالى: {على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون} الثواب في الأصل مطلق الجزاء وإن غلب استعماله في الخير، وقوله {على الأرائك} خبر بعد خبر للذين آمنوا و{ينظرون} خبر آخر، وقوله: {هل ثوب} إلخ متعلق بقوله: {ينظرون {قائم مقام المفعول.
والمعنى: الذين آمنوا على سرر في الحجال ينظرون إلى جزاء الكفار بأفعالهم التي كانوا يفعلونها في الدنيا من أنواع الأجرام ومنها ضحكهم من المؤمنين وتغامزهم إذا مروا بهم وانقلابهم إلى أهلهم فكهين وقولهم: إن هؤلاء لضالون.
_________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20، ص205-215.
عليّون في انتظار الأبرار:
بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن الفجّار وكتابهم وعاقبة أمرهم، ينتقل الحديث في هذه الآيات للطرف المقابل لهؤلاء، فتتحدث عن الأبرار الصالحين وما سيآلون إليه من حسن مآب، ويبدأ الحديث بالقول: (كلاَّ إِنَّ كتابَ الأَبْرارِ لَفي عِلِّيينَ).
«عليّين»: جمع (عليّ) على وزن (ملّي)، وهو المكان المرتفع، أو الشخص الجالس في مكان مرتفع، ويطلق أيضاً على ساكني قمم الجبال.
وقد فُسِّر في الآية بـ (أشرف الجنان) أو(أعلى مكان في السماء).
وقيل: إنّما استعمل اللفظ بصيغة الجمع للتأكيد على معنى (العلو في علو).
وعلى أيّة حال، فما عرضناه بخصوص تفسير «سجّين» يصدق على «عليّين» أيضاً، بقوليه:
الأوّل :أنّ المقصود من «كتاب الأبرار» هو صحيفة أعمال الصالحين والمؤمنين، فجميع الأعمال تجمع في هذا الديوان العام، وهو ديوان عالي المقام وشريف القدر.
الثّاني :أنّ صحيفة أعمال الأبرار تكون في أشرف مكان، أوفي أعلى مكان في الجنّة، وهذا يكشف عن علو شأنهم ورفعة كرامتهم عند اللّه عزّوجل.
وجاء في الحديث النّبوي الشريف: «عليّون في السماء السابعة تحت العرش»(2).
وهذا بالضبط هو المحل المضاد تماماً لمحل صحيفة أعمال «الفجار»، حيث وضعت في أسفل طبقات جهنم.
وذهب قسم من المفسّرين إلى أنّ الـ «كتاب» هنا يرمز لمعنى (المصير)، أو(الحكم القطعي الإلهي) بخصوص نيل الصالحين درجات الجنّة العلُى.
ولا يضرّ من الجمع بين التّفسيرين، فأعمال الأبرار مجموعة في ديوان عام، ومحل ذلك الديوان في أعلى نقطة من السماء، ويكون الحكم والقضاء الإلهي كذلك مبنيٌّ على كونهم في أعلى درجات الجنّة.
ولأهمية وعظمة شأن «عليّين».. تأتي الآية التالية لتقول: (وما أدراك ما عليّون)، إنّه مقام من المكانة بحيث يتجاوز حدود التصور والخيال والقياس والظن، بل وحتى أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى ما له من علو شأن ومرتبة مرموقة، فلا يستطيع من تصور حجم أبعاد عظمته.
ويبدأ البيان القرآني بتقريب ألـ «عليّين» إلى الأذهان: «كتاب مرقوم»
وهذا على ضوء تفسير «عليّين» بالديوان العام لأعمال الأبرار، أمّا على ضوء التّفسير الآخر فسيكون معنى الآية: إنّه المصير الحتمي الذي قرره اللّه وسجّله لهم، بأن يكون محلهم في أعلى درجات الجنّة، (بناء على هذا التّفسير فستكون الآية «كتاب مرقوم» مفسّرة لكتاب الأبرار وليس لعليّين).
وكذلك: (يشهده المقرّبون) أي يشاهدونه، أو عليه يشهدون عليه.
ثمّة من ذهب إلى أنّ «المقربون» في الآية، هم ملائكة مقرّبون عند اللّه عزّوجلّ، ينظرون إلى ديوان أعمال الصالحين، أو ينظرون إلى مصيرهم المحتوم.
ولكنّ الآيات التالية تظهر بوضوح بأنّ المقرّبين، هم نخبة عالية من المؤمنين لهم مقام مرموق، وبأمكانهم مشاهدة صحيفة أعمال الأبرار والصالحين.
ويمكن أن نستفيد هذا المعنى من الآيتين (10 و11) من سورة الواقعة: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10، 11]... ومن الآية (89) من سورة النحل: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} [النحل: 89].
وينتقل الحديث إلى عرض بعض جوانب جزاء الأبرار: {إنّ الأبرار لفي نعيم}.
«النعيم»: هو النعمة الكثيرة ـ على قول الراغب في مفرداته ـ، وجاءت بصيغة نكرة لتعظيم شأنها، أي إنّهم في نعيم مادي ومعنوي لا حَدّ لوصفه.
وينقلنا البيان القرآني لجوانب من نعيم الأبرار: {على الأرائك ينظرون}.(3)
«الأرائك»: جمع (أريكة)، وهي سرير مُنَجّد مزّين خاص بالملوك، أو سرير في حجلة، وجاءت في الآية بمعنى، الأسرة المزينة التي يتكيء عليها أهل الجنّة.
وثمّة من يذهب إلى أنّها معربة من «اُرك» بمعنى قصر الملك في الفارسية، أو القلعة في وسط المدينة، وبما أنّ القلعة في وسط المدينة تكون للملوك عادة اطلق عليها هذه الكلمة، أو بمعنى عرش السلطان الذي يقال عنه بالفارسية «أراك»، ثمّ سمّيت العاصمة به (أراك) و«عراق» معرب «أراك» بمعنى مقر السلطان.
فيما يقول آخرون أنّها من (الأراك) وهو شجر معروف تصنع من الاُسرة، وقيل أيضاً، إنّما سمّيت بذلك لكونها مكاناً للإقامة من (الأروك) وهو الإقامة.(4)
وجاءت «ينظرون» مطلقة، لإعطاء مفهوم السعة والشمول، فمسموح لهم النظر إلى لطف الباري وجماله، وإلى نعم الجنّة الباهرة، وإلى ما أودع فيها من رونق وبهاء.. وذلك لأنّ لذة النظر من اللذائذ الإنسانية التي تدخل الغبطة والسرور في الإنسان بشكل كبير وملموس.
ثمّ يضيف: (تعرف في وجوههم نضرة النعيم).
إشارة إلى أنّ ما يبدي على وجوههم من علائم النشاط والسرور والغبطة، إنّ هو إلاّ إنعكاس لسعادتهم الحقّة، بعكس أهل جهنّم الذين لا يبدو على وجوههم إلاّ علائم الغم والحسرة والندم والشقاء.
«نضرة»: إشارة إلى النشاط والأريحية التي تظهر على وجوههم. (كما أسلفنا القول).
وبعد ذكر نِعَم: «الأرائك»، «النظر»، «الإطمئنان والسعادة».. تذكر الآية التالية نعمة شراب الجنّة، فتقول: (يسقون من رحيق مختوم).
إنّه ليس كشراب أهل الدنيا الشيطاني، بما يحمل من خبث دافع إلى المعاصي والجنون، بل هو شراب طاهر يذكي العقول ويدب النشاط والصفاء في شاربه.
و«الرحيق» ـ كما اعتبره المفسّرين ـ : هو الشراب الخالص الذي لا يشوبه أيَّ غش أو تلوث.
و«مختوم»: إشارة إلى أنّه أصلي ويحمل كلّ صفاته المميزة عن غيره من الأشربة ولا يجاريه شراب قطّ، وهذا بحدّ ذاته تأكيد آخر على خلوص الشراب وطهارته.
والختم بالصورة المذكورة يظهر مدى الإحترام الخاص لأهل الجنّة، حيث أنّ ذلك الإحكام وتلك الأختام مختصة لهم، ولا يفتحها أحد سواهم.(5)
وتقول الآية التالية: (ختامه مسك).
فختامه ليس كختوم أهل الدنيا التي تلوث الأيدي، وأقل ما فيها أنّها في حال فتحها ترمى في سلة الأوساخ، بل هو شراب طاهر مختوم، وإذا ما فتح ختمه فتفوح رائحة المسك منه!
وقيل: «ختامه» يعني (نهايته)، فعندما ينتهي من شرب الرحيق، ستفوح من فمه رائحة المسك، على خلاف أشربة أهل الدنيا، التي لا تترك في الفم إلاّ المرارة والرائحة الكريهة، ولكنّه بعيد بملاحظة الآية السابقة.
ويقول العلاّمة الطبرسي في (مجمع البيان): «التنافس»: تمنّي كلّ واحد من النفسين مثل الشيء النفيس الذي للنفس الاُخرى أن يكون له.
وفي (مجمع البحرين): نافست في الشيء: إذا رغبت فيه على وجه المبارات في الكرم، (سباق سالم ونزيه).
وفي (مفردات الراغب): «المنافسة»: مجاهدة النفس للتشبّه بالأفاضل واللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره.
وجاء مضمون الآية في الآية (21) من سورة الحديد: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21] ، وما جاء في الآية (133) من سورة آل عمران: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133].
وعلى آية حال، فدقّة تعبير الآية وشفافيته، من أجمل تعابير التشجيع للوصول إلى النعيم الخالد، من خلال ترسيخ الإيمان في قلوب وتجسيد الأعمال الصالحة على سوح الواقع، والآية قطعة بلاغية رائعة(6)(7)
ونصل لآخر وصف شراب الأبرار في الجنّة: (ومزاجه من تسنيم) أي أنّه ممزوج بالتسنيم، {عيناً يشرب بها المقرّبون}(8).
ومن خلال الآيتين أعلاه، يتّضح لنا بأنّ «التسنيم» هو أشرف شراب في الجنّة، و «المقرّبون» يشربون منه بشكل خالص، فيما يشربه «الأبرار» ممزوجاً بالرحيق المختوم.
أمّا وجه تسمية ذلك الشراب أو العين بـ «تسنيم»، (علماً بأنّ التسنيم في اللغة هو عين ماء يجري من علو إلى أسفل)، فقد قال البعض فيه: إنّه شراب خاص موجود في الطبقات العليا من الجنّة.. وقال آخرون: إنّه نهر يجري في الهواء فينصب في أواني أهل الجنّة.
والحقيقة، فللجنّة ألوان من الأشربة، منها ما يجري على صورة أنهار، كما تشير إلى ذلك آيات قرآنية كثيرة(9)، ومنها يُقدّم في كؤوس مختومة، كما في الآيات أعلاه، ويأتي ألـ «تسنيم» في قمّة أشربة الجنّة، وله من العطاء على روح شاربه ما لا يوصف بوصف أبداً.
ونعود لنكرر القول مرّة آُخرى: إنّ حقيقة النعم الإلهية في عالم الآخرة لا يمكن لأيّ كان من أن يتكلم عنها بلسان أو يوصفها بقلم أو يتصورها في ذهن، وكلّ ما يقال عنها لا يتعدى عن كونه صوراً تقريبية على ضوء ما يناسب محدودية الإنسان.
والآية (17) من سورة السجدة: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة: 17] خير دليل على ذلك.
وقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ أجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الّذِينَ ءَامَنُوا يَضحَكُونَ(29)وإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ(30) وإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ(31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَّآلُونَ(32) وَمَآ أُرْسِلُوا عَلَيهِمْ حَفِظِينَ(33) فَاليَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ(35) هَل ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}
بالأمس كانوا يضحكون من المؤمنين ..أمّا!!
بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن النعم التي تنتظر الأبرار والصالحين في الحياة الآخرة، تبدأ الآيات أعلاه بتبيان جوانب ممّا يعانوه من مصائب ومشاكل في الحياة الدنيا بسبب إيمانهم وتقواهم...
وأنّ ما سيناله الأبرار من ثواب جزيل ليس اعتباطياً.
فالآيات تنقل لنا أساليب الكفار القذرة التي كانوا يتعاملون بها مع المؤمنين البررة، وقد صنّفتها في أربعة أساليب:
الاُسلوب الأوّل: {إنّ الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون}
فأصل الطغيان والتكبر والغرور والغفلة الذي زُرع في نفوسهم، يدفعهم للضحك على المؤمنين والإستهزاء بهم والنظر إليهم بسخرية واحتقار!
وهذا هو شأن كلّ من غرّته أحابيل الشيطان في مواجهة مَن آمن واتقى، وعلى مرِّ الأيّام.
وجاء وصفهم بـ «أجرموا» بدلاً من «كفروا»، للإشارة إلى إمكان معرفة الكافرين من خلال أعمالهم الإجرامية، فالكفر دائماً مصدراً للجرائم والعصيان.
والاُسلوب الثّاني:{وإذا مرّوا بهم يتغامزون} فحينما يمرّ المشركون على مجموعة من المؤمنين يغمزون بأعينهم ويشيرون إليهم بالقول:
اُنظروا إلى هؤلاء الفقراء المعدمين.. إنّهم أصبحوا مقرّبين عند اللّه!
اُنظروا إلى هؤلاء الحفاة العراة.. إنّهم يدّعون نزول الوحي الإلهي لهم!
انظروا إليهم.. فإنّهم يعتقدون بأنّ العظام البالية ستعود إلى الحياة مرّة اُخرى!! وما شابه ذلك، من الكلمات الرخيصة والموهنة..
ويبدو أنّ ممارسة الضحك من قبل المشركين يكون حينما يمرّ المؤمنون من أمامهم وهم متجمعون، في حين يمارسون الاُسلوب الثّاني وهو الإشارات الساخرة والغمز واللمز حين مرورهم هم أمام جمع من المؤمنين، لعدم تمكنهم من الضحك العلني أمام جمع المؤمنين.(10)
«يتغامزون»: من (الغمز)، وهو الإشارة بالجفن أو اليد طلباً إلى ما فيه معاب، وعبّرت الآية بهذا اللفظ «التغامز» للإشارة إلى اشتراكهم جميعاً في ذلك الفعل.
ولكنّهم لم يكتفوا بالنيل من المؤمنين في حضورهم من خلال الضحك والتغامز، بل تعدوا إلى حال غيابهم أيضاً، حيث تنقل لنا الآية التالية، الاُسلوب الثّالث بقولها: {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين}.
وكأنّهم في ضحكهم وتغامزهم قد نالوا فتحاً كبيراً! فتأخذهم نشوة تصور الغفلة والجهل لأن يتباهوا فيما قاموا به من فعل قبيح، ويبقون على حالة السخرية والإستهزاء بالمؤمنين رغم غياب المؤمنين عنهم!...
«فكهين»: جمع (فكه)، وهي صفة مشبهة من (الفكاهة) بمعنى التمازح والضحك، مأخوذة من (الفاكهة)، وكأن لذة الخوض في هكذا حديث وسخرية كلذة أكل الفاكهة، كما ويطلق على حديث ذوي الأنس اسم (فكاهة).
«الأهل»: هم العائلة والاقرباء، وقد تشمل الأصدقاء المقرّبين أيضاً.
والاُسلوب الرّابع:{وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالّون}.
لماذا؟ لأنّهم تركوا ما كان شائعاً من عبادة الأصنام، والخرافات التي يعتبرونها هداية! واتجهوا نحو الإيمان باللّه والتوحيد الخالص.
ولأنّهم باعوا لذة الدنيا الحاضرة بنعيم الآخرة الغائبة!...
ويمكن أن تكون هذه المواجهة قد حدثت بعد إنتهاء مرحلة الإستهزاء، بعد أن غُلّف الأمر بطابع الجديّة ورأوا ضرورة المواجهة الشديدة، لأنّ حال المشركين والكافرين على مرّ التاريخ في مواجهتهم لدعوة ورسالات الأنبياء(عليهم السلام) تبدأ بالسخرية وعدم المبالاة، وكأنّهم لم يشاهدوا بعد من الدين الجديد ما يوجب الوقوف أمامه بجدٍّ وحزم، ولكن بمجرّد إحساسهم بأنّ الدين الإلهي راح ينفذ إلى قلوب النّاس، ورؤيتهم لازدياد أتباعه، سيزداد إحساسهم بالخطر، فيدخلون مرحلة المواجهة العنيفة مع الدين الجديد.
فتشير الآية إلى أوّل خطوة جادة من قبل المجرمين في قبال المؤمنين، التي تتبعها خطوات وخطوات حتى تصل الحال إلى المواجهة الدموية الحادّة.
وغالباً ما لا يكون المؤمنون من أثرياء أو وجهاء القوم، ولذلك يُنظر إليهم باحتقار ويهزأ بدينهم وإيمانهم، في مجتمع يسوده التمايز الطبقي بشكل راسخ وظاهر.
فيقول القرآن الكريم في الآية التالية: {وما أرسلوا عليهم حافظين} فبأي حقّ إذَن يهزأون بهم، ويقفون أمامهم؟!
تنقل لنا الآية (27) من سورة هود ما قاله المستكبرين من أثرياء قوم نوح(عليه السلام): {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] ، وتنقل لنا الآية (31) من نفس السّورة جواب نوح(عليه السلام): {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} [هود: 31].
فجواب نوح(عليه السلام) عام يشمل حتى اُولئك المغرورون في صدر الإسلام.. فما شأنكم وهؤلاء؟! وعليكم أن تنظروا إلى هذا الدين، وإلى النّبي الذي جاء بهذا الدين، ولا تنظروا إلى مَن آمن به واتبعه!...
وتبقى أساليب الذين يعادون الحقّ محدودة في إطار الحياة الدنيا، ولكن إذا كان يوم القيامة، فستختلف الحال تماماً: {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون}.
فيوم القيامة، يوم مجازات الأعمال وإجراء العدالة الإلهية، والعدالة تقتضي بأن يستهزأ المؤمنون بالكافرين المعاندين للحقّ، والإستهزاء في ذلك اليوم أحد ألوان عذاب الآخرة الأليم الذي ينتظر اُولئك المغرورون والمستكبرون.
وروي عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «المستهزئين بالنّاس في الدنيا يرفع لأحدهم يوم القيامة باب من أبواب الجنّة، فيقال له: هلم، فيجيء بكربه وغمّه، فإذا أتاه أغلق دونه، ثمّ يفتح له باب آخر، فيقال: هلم هلم، فيجيء بكربه وغمّه، فإذا أتاه أغلق دونه، فما يزال كذلك حتى أنّه ليفتح له الباب فيقال: هلم هلم، فلا يأتيه من أياسه»(11)..(وهنا يضحك المؤمنون الذين يطلعون عليه وعلى بقية الكفار من جنتهم}.
وتقول الآية التالية: {على الأرائك ينظرون).
ماذا ينظرون؟
إنّهم ينظرون إلى: نعم اللّه التي لا توصف ولا تنفد في الجنّة، وإلى كلّ ما فازوا به من الألطاف الإلهية والكرامة، وإلى ما أصاب الكفار والمجرمين من العذاب الأليم خاسئين...
وفي آخر آيات السّورة، يقول القرآن مستفهماً: {هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون}(12).
فهذا القول سواء صدر من اللّه، أومن الملائكة، أومن المؤمنين، فهو في كلّ الحالات يمثل طعناً واستهزاءاً بأفكار وادعاءات اُولئك المغرورون، الذين كانوا يتصورون أنّ اللّه سيثيبهم على أعمالهم القبيحة، ويأتيهم النداء ردّاً على خطل تفكيرهم: {هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون}.
واعتبر كثير من المفسّرين أنّ الآية (جملة مستقلة)، في حين اعتبرها آخرون تابعة للآية التي قبلها، أيّ: إنّ المؤمنين سيجلسون على الأرائك ينظرون هل أن الكفار نالوا جزاءهم العادل؟
فإنّ كانوا يرجون ثواباً فليأخذوه من الشيطان!... ولكن هل بإمكان هذا اللعين المطرود من رحمة اللّه أن يثيبهم على ما عملوا له؟!
«ثوّب»: من (الثوب) على وزن (جوف)، وهو رجوع الشيء إلى حالته الاُولى التي كان عليها، و«الثواب»: ما يرجع إلى الإنسان جزاء أعماله، ويستعمل للخير والشرّ أيضاً، ولكن استعماله للخير هو الغالب(13).
وعليه، فالآية تشير إلى الطعن بالكفار كنتيجة طبيعية لإستهزاءهم بالمؤمنين وبآيات اللّه في الحياة الدنيا، وما عليهم إلاّ أن يتقبلوا جزاء ما كسبت أيديهم.
__________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص179-190.
2 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص7053، ومجمع البحرين: مادة (علو).
3 ـ المبتدأ محذوف في الآية، التقدير: (هم على الأرائك ينظرون) «ينظرون»، حال، أو أن
جملة «على الأرائك»: خبر ثان، نسبة إلى «إنّ» الواردة في الآية السابقة.
4 ـ لمزيد من الإيضاح.. راجع مفردات الراغب، ولسان العرب (مادة: أرك).
5 ـ عملية ختم الأشياء (كانت ولا زالت)، تستعمل للإطمئنان على سلامة تلك الأشياء من التلاعب بها، فمثلاً.. لكي يُطمأن على سلامة وصول شيء معين إلى صاحبه المراد، فإنّه يوضع في ظرف خاص مغلق، وإذا ما كان الشيء بدرجة عالية من الأهمية، فلا يكتفي بالغلق، بل يربط بسلك أو ما شابه ومن ثمّ يوضع على عقدته شيء من الشمع أو الطين ويختم بختم معين، كل ذلك للتأكيد من وصوله إلى المراد بدون أن تمتد إليه يد التلاعب.
6 ـ يتّضح من تفسير الآية، أنّ اسم الإشارة «ذلك» يعود على جميع نعم الجنّة، وشرابها بالذات لما وصف فيه في الآية.
7 ـ «الواو» و«الفاء» في (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)، كلاهما حرف عطف، وإذا ما سئل عن علة وجودهما معاً، فالجواب هو: يوجد شرط محذوف، والتقدير: «وإن اُريد تنافس في شيء فليتنافس في ذلك المتنافسون»، فحذفت أداة الشرط والجملة الشرطية وقدمت «في ذلك».
8 ـ قيل في سبب نصب «عيناً» عدّة وجوه.. منها: لأنّها حال التسنيم، تمييز، مدح واختصاص.. والتقدير: (أعني).
و«الباء» في «بها»: زائدة، أو بمعنى (من) وهو الأنسب.
9 ـ كالآية (15) من سورة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم).
10 ـ ذكر المفسّرون احتمالين في ضمير «مرّوا» و«بهم»، فارجع بعضهم الأوّل الى المشركين والثّاني إلى المؤمنين، وقال البعض الآخر عكس ذلك، ويبدو أن الاحتمال الأوّل أقرب بلحاظ ما ذُكر أعلاه.
11 ـ تفسير الدر المنثور، ج6، ص328.
12 ـ الإستفهام في الآية.. استفهام تقريري.
13 ـ مفردات الراغب: مادة (ثوب).
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|