أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-2-2018
10590
التاريخ: 4-2-2018
9477
التاريخ: 4-2-2018
4797
|
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُو الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُو مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 1 - 5].
{يا أيها النبي} ناداه سبحانه بهذا النداء تشريفا له وتعليما لعباده كيف يخاطبونه في أثناء محاوراتهم ويذكرونه في خلال كلامهم {لم تحرم ما أحل الله لك} من الملاذ {تبتغي مرضات أزواجك} أي تطلب به رضاء نسائك وهن أحق بطلب مرضاتك منك وليس في هذا دلالة على وقوع ذنب منه صغيرا أو كبيرا لأن تحريم الرجل بعض نسائه أو بعض الملاذ لسبب أو لغير سبب ليس بقبيح ولا داخلا في جملة الذنوب ولا يمتنع أن يكون خرج هذا القول مخرج التوجع له (صلى الله عليه واله وسلم) إذا بالغ في إرضاء أزواجه وتحمل في ذلك المشقة ولوأن إنسانا أرضى بعض نسائه بتطليق بعضهن لجاز أن يقال له لم فعلت ذلك وتحملت فيه المشقة وإن كان لم يفعل قبيحا ولوقلنا إنه عوتب على ذلك لأن ترك التحريم كان أفضل من فعله لم يمتنع لأنه يحسن أن يقال لتارك النفل لم لم تفعله ولم عدلت عنه ولأن تطييب قلوب النساء مما لا تنكره العقول وقد حكي أن عبد الله بن رواحة وكان من النقباء كانت له جارية فاتهمته زوجته ليلة فقال قولا بالتعريض فقالت إن كنت لم تقربها فاقرأ القرآن قال فأنشدت:
شهدت فلم أكذب بأن محمدا *** رسول الذي فوق السماوات من عل
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما *** له عمل في دينه متقبل
وأن التي بالجزع من بطن نخلة *** ومن دانها فل عن الخير معزل(2)
فقالت زدني فأنشدت :
وفينا رسول الله نتلو كتابه *** كما لاح معروف مع الصبح ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فنفوسنا *** به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه *** إذا رقدت بالكافرين المضاجع
فقالت زدني فأنشدت :
شهدت بأن وعد الله حق *** وأن النار مثوى الكافرينا
وأن محمدا يدعو بحق *** وأن الله مولى المؤمنينا
فقالت أما إذا قرأت القرآن فقد صدقتك(3) فأخبرت به رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فقال بعد أن تبسم خيركم خيركم لنسائه واختلف العلماء فيمن قال لامرأته أنت علي حرام فقال مالك هو ثلاث تطليقات وقال أبو حنيفة إن نوى به الظهار فهو ظهار وإن نوى الإيلاء فهو إيلاء وإن نوى الطلاق فهو طلاق بائن وإن نوى ثلاثا كان ثلاثا وإن نوى اثنتين فواحدة بائنة وإن لم يكن له نية فهو يمين قال الشافعي إن نوى الطلاق كان طلاقا والظهار كان ظهارا وإن لم يكن له نية فهو يمين وروي عن ابن مسعود وابن عباس وعطاء أنه يمين وقال أصحابنا أنه لا يلزم به شيء ووجوده كعدمه وهو قول مسروق وإنما أوجب الله فيه الكفارة لأن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) كان حلف أن لا يقرب جاريته ولا يشرب الشراب المذكور فأوجب الله عليه أن يكفر عن يمينه ويعود إلى استباحة ما كان حرمه وبين أن التحريم لا يحصل إلا بأمر الله ونهيه ولا يصير الشيء حراما بتحريم من يحرمه على نفسه إلا إذا حلف على تركه.
{والله غفور} لعباده {رحيم} بهم إذا رجعوا إلى ما هو الأولى والأليق بالتقوى يرجع لهم إلى التولي {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} أي قد قدر الله تعالى لكم ما تحللون به أيمانكم إذا فعلتموها وشرع لكم الحنث فيها لأن اليمين ينحل بالحنث فسمي ذلك تحلة وقيل معناه قد بين الله لكم كفارة أيمانكم في سورة المائدة عن مقاتل قال أمر الله نبيه أن يكفر يمينه ويراجع وليدته فأعتق رقبة وعاد إلى مارية وقيل معناه فرض الله عليكم كفارة أيمانكم كما قال وإن أسأتم فلها أي فعليها فسمى الكفارة تحلة لأنها تجب عند انحلال اليمين وفي هذا دلالة على أنه قد حلف ولم يقتصر على قوله هي علي حرام لأن هذا القول ليس بيمين.
{والله} هو{موليكم} أي وليكم يحفظكم وينصركم وهو أولى بكم وأولى بأن تبتغوا رضاه {وهو العليم} بمصالحكم {الحكيم} في أوامره ونواهيه لكم وقيل هو العليم بما قالت حفصة لعائشة الحكيم في تدبيره {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه} وهي حفصة {حديثا} أي كلاما أمرها بإخفائه فالإسرار نقيض الإعلان {فلما نبأت} أي أخبرت غيرها بما خبرها {به} فأفشت سره {وأظهره الله عليه} أي وأطلع الله نبيه (صلى الله عليه واله وسلم) على ما جرى من إفشاء سره {عرف بعضه وأعرض عن بعض} أي عرف النبي (صلى الله عليه واله وسلم) حفصة بعض ما ذكرت وأخبرها ببعض ما ذكرت وأعرض عن بعض ما ذكرت وعن بعض ما جرى من الأمر فلم يخبرها وكان (صلى الله عليه واله وسلم) قد علم جميع ذلك لأن الإعراض إنما يكون بعد المعرفة لكنه أخذ بمكارم الأخلاق والتغافل من خلق الكرام قال الحسن ما استقصى كريم قط وأما عرف بالتخفيف فمعناه غضب عليها وجازاها بأن طلقها تطليقة ثم راجعها بأمر الله وقيل جازاها بأن هم بطلاقها.
{فلما نبأها به} أي فلما أخبر رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) حفصة بما أظهره الله عليه {قالت} حفصة {من أنبأك هذا} أي من أخبرك بهذا {قال} رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) {نبأني العليم} بجميع الأمور {الخبير} بسرائر الصدور ثم خاطب سبحانه عائشة وحفصة فقال {إن تتوبا إلى الله} من التعاون على النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بالإيذاء والتظاهر عليه فقد حق عليكما التوبة ووجب عليكم الرجوع إلى الحق {فقد صغت} أي مالت {قلوبكما} إلى الإثم عن ابن عباس ومجاهد وقيل معناه ضاقت قلوبكما عن سبيل الاستقامة وعدلت عن الثواب إلى ما يوجب الإثم وقيل تقديره إن تتوبا إلى الله يقبل توبتكما وقيل إنه شرط في معنى الأمر أي توبا إلى الله فقد صغت قلوبكما {وإن تظاهرا عليه} أي وإن تتعاونا على النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بالإيذاء عن ابن عباس قال قلت لعمر بن الخطاب من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال عائشة وحفصة أورده البخاري في الصحيح.
{فإن الله هو مولاه} الذي يتولى حفظه وحياطته ونصرته {وجبريل} أيضا معين له وناصر يحفظه {وصالح المؤمنين} يعني خيار المؤمنين عن الضحاك وقيل يعني الأنبياء عن قتادة وقال الزجاج صالح هنا ينوب عن الجميع كما تقول يفعل هذا الخير من الناس تريد كل خير قال أبو مسلم هو صالحوا المؤمنين على الجمع وسقطت الواو في المصحف لسقوطها في اللفظ ووردت الرواية من طريق الخاص والعام أن المراد بصالح المؤمنين أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وهو قول مجاهد وفي كتاب شواهد التنزيل بالإسناد عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال لقد عرف رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) عليا (عليه السلام) أصحابه مرتين أما مرة فحيث قال من كنت مولاه فعلي مولاه وأما الثانية فحيث نزلت هذه الآية {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} الآية أخذ رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) بيد علي (عليه السلام) فقال أيها الناس هذا صالح المؤمنين وقالت أسماء بنت عميس سمعت أن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) يقول {وصالح المؤمنين} علي بن أبي طالب (عليه السلام) {والملائكة بعد ذلك} أي بعد الله وجبريل وصالح المؤمنين عن مقاتل {ظهير} أي أعوان للنبي (صلى الله عليه واله وسلم) وهذا من الواحد الذي يؤدي معنى الجمع كقوله {وحسن أولئك رفيقا} {عسى ربه} أي واجب من الله ربه {إن طلقكن} يا معشر أزواج النبي {أن يبدله أزواجا خيرا منكن} أي أصلح له منكن ثم نعت تلك الأزواج اللائي كان يبدله بهن لو طلق نساءه فقال {مسلمات} أي مستسلمات لما أمر الله به {مؤمنات} أي مصدقات لله ورسوله مستحقات للثواب والتعظيم وقيل مصدقات في أفعالهن وأقوالهن {قانتات} أي مطيعات لله تعالى ولأزواجهن وقيل خاضعات متذللات لأمر الله تعالى وقيل ساكتات عن الخنا والفضول عن قتادة {تائبات} عن الذنوب وقيل راجعات إلى أمر الرسول تاركات لمحاب أنفسهن وقيل نادمات على تقصير وقع منهن {عابدات} لله تعالى بما تعبدهن به من الفرائض والسنن على الإخلاص وقيل متذللات للرسول بالطاعة {سائحات} أي ماضيات في طاعة الله تعالى وقيل صائمات عن ابن عباس وقتادة والضحاك وقيل مهاجرات عن ابن زيد وأبيه زيد بن أسلم والجبائي وإنما قيل للصائم سائح لأنه يستمر في الإمساك عن الطعام كما يستمر السائح في الأرض {ثيبات} وهن الراجعات من عند الأزواج بعد افتضاضهن {وأبكارا} أي عذارى لم يكن لهن أزواج .
_________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص56-60.
2- يصف (العزى) وهي شجرة كانت تعبد . وقوله : ((فل عن الخير)) – بالفاء- اي حال عنه ، ويروى : (ومن دونها) عوض (من دانها) . والمراد الصنم المنصوب حول العزى.
3- كانت زوجت تعتقد بأن الجنب لا يقرأ القران ، وزعمت ان الاشعار من آيات القران ، فلما رأت انه يقرأ القران – بزعمها – تيقنت بأنه لم يجامع جاريته وتخلص عبد الله بن رواحة من يدها بهذه الحيلة .
{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ} . الخطاب لرسول اللَّه ، والمراد بالتحريم هنا مجرد الامتناع والالتزام بالترك لتطييب خاطر من تحسن العشرة معه ، تماما كما لو ألزمت نفسك بترك الدخان إرضاء لزوجتك التي يؤذيها ذلك . . . فليس المراد بالتحريم هنا التحريم الشرعي . . مستحيل . . كيف وكتاب اللَّه الذي نزل على قلب محمد (صلى الله عليه واله وسلم) يقول : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} - 90 المائدة . ويقول أيضا : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} 58 يونس .
وقيل : ان الشيء الذي حرمه النبي (صلى الله عليه واله وسلم) على نفسه هو العسل وانه قصد بذلك مرضاة زوجته حفصة حيث ساءها أن يشرب النبي (صلى الله عليه واله وسلم) العسل عند زوجته زينب بنت جحش ، فطيّب قلب حفصة بالامتناع عن شرب العسل . {واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . العفووالغفران من اللَّه سبحانه لا يستدعي وجود الذنب ، فكثيرا ما يكون تعبيرا عن ثوابه ورحمته ، وقد كان الأنبياء يطلبون من اللَّه الصفح والمغفرة ، ومثله : {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} - 43 التوبة .
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ} . قيل : ان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) كان قد حلف على ترك شيء أحله اللَّه له ، فأمره سبحانه أن يدع يمينه ويكفّر . . وفي رأينا - واللَّه أعلم - ان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لم يحلف ، ولكنه وعد بالترك ، ووعد المعصوم يجب الوفاء به على كل حال ، سواء أكان الموعود به مندوبا أم مباحا ، لأن وعده أقوى وأعظم من يمين غيره ومن ثم يصح ان يطلق اليمين على وعده . {واللَّهُ مَوْلاكُمْ وهُو الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . اللَّه يتولى أمور النبي والمؤمنين ، وينصرهم على المتآمرين ، وهو اعلم بالحكمة والمصلحة التي على أساسها يشرع احكام اليمين وغيرها .
{وإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً} . يدل هذا على ان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بشر يسرّ إلى أزواجه كما يسرّ الناس إلى أزواجهم ، وانه لا يمتاز عنهم إلا بنزول الوحي عليه ، والعصمة عن محارم اللَّه وكل ما يشين . أنظر ج 5 ص 213 فقرة {حقيقة النبوة} {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} . ضمير {به} وأظهره وبعضه يعود إلى الحديث الذي أسره النبي (صلى الله عليه واله وسلم) إلى بعض أزواجه ، والضمير المستتر في نبأت يعود إلى حفصة ، والضمير في عرّف يعود إلى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ، والمعنى ان حفصة أفشت سر النبي على الرغم من وصيته لها بالكتمان ، ولما أذاعت وأفشت أخبر اللَّه نبيه الكريم بخبرها ، فأطلعها النبي (صلى الله عليه واله وسلم) على بعض ما أفشت ، وأعرض عن بعضه رفقا بها . . وفيه إيماء إلى انها تجاوزت الحد في الإفشاء {فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا} . سألته من الذي أخبره بخبرها {قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
{إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما} - أي مالت إلى الحق - {وإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهً هُو مَوْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ والْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ} . ضمير عليه يعود إلى رسول اللَّه ، وضمير تتوبا وتظاهرا وقلوبكما إلى عائشة وحفصة ، كما في كتب التفسير والحديث ، ونختار منها أربعة : اثنين من التفسير واثنين من الحديث ، فقد جاء في تفسير الطبري ما نصه : (قوله تعالى : {وإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ} يقول تعالى ذكره للتي أسر إليها النبي (صلى الله عليه واله وسلم) حديثه ، والتي أفشت إليها حديثه ، وهما حفصة وعائشة ، وبنحو ما قلنا قال أهل التأويل) . وقال الرازي ما نصه أيضا : (ان تتوبا إلى اللَّه خطاب لعائشة وحفصة) . وقال البخاري في الجزء السادس من صحيحه بعنوان (سورة التحريم) : (سأل ابن عباس عمر بن الخطاب : من اللتان تظاهرتا على النبي (صلى الله عليه واله وسلم) من أزواجه ؟ فقال : تلك حفصة وعائشة) ومثله في القسم الثاني من الجزء الأول من صحيح مسلم بعنوان (باب في الإيلاء واعتزال النساء) . وفيه أيضا سؤال آخر حول تتوبا ، قال مسلم في الباب المذكور :
(سأل ابن عباس عمر : من المرأتان من أزواج النبي (صلى الله عليه واله وسلم) اللتان قال لهما ان تتوبا فقد صغت قلوبكما ؟ قال عمر : هي حفصة وعائشة) .
وعلى هذا يكون معنى الآية ان عائشة وحفصة قد تعاونتا على النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ، وأساءتا إليه بإفشاء سره على الرغم من وصيته بالكتمان ، وان اللَّه سبحانه قد أمرهما بالتوبة والإنابة عن هذه الخطيئة ، فإن تابتا وأصلحتا فقد مال قلباهما إلى أمر اللَّه والإخلاص لرسوله ، وان أصرتا على التعاون ضد الرسول فإن اللَّه وليه وناصره ، وأيضا يعينه ويؤازره جبريل وجميع الملائكة والمؤمنين الصالحين .
وتسأل : لما ذا كل هذا التهديد والوعيد ؟ وما هو شأن عائشة وحفصة حتى يحشد عليهما قوة اللَّه وقوة جبريل ومعه جميع الملائكة وصالح المؤمنين ؟ .
الجواب : ان عائشة وحفصة غير مقصودتين بالخصوص من هذا التهديد ، وانما المقصود أولا التنويه بعظمة الرسول ومكانته ، ثم افهام الجميع بما فيهم حفصة وعائشة والمنافقين والكافرين وكل من أضمر أو يضمر السوء للرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) افهام الجميع بأن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) في حصن حصين من قوة اللَّه وملائكته وأوليائه .
{عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وأَبْكاراً} . ما الذي أغراكن يا نساء النبي بالتظاهر عليه وعلى معصيته ؟ . هل اغتررتن بجمالكن أم بدينكن وطاعتكن للَّه ورسوله ، أم بماذا ؟ . ولتعلم كل واحدة منكن ان الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) لو طلقكن بكاملكن لأبدله اللَّه خيرا منكن جمالا وكمالا ودينا وإخلاصا ثيبات إن شاء ، وإن شاء أبكارا أوهما معا .
__________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج362-364.
تبدأ السورة بالإشارة إلى ما جرى بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين بعض أزواجه من قصة التحريم فيعاتب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتحريمه ما أحل الله له ابتغاء لمرضاة بعض أزواجه ومرجعه إلى عتاب تلك البعض والانتصار له (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يدل عليه سياق الآيات.
ثم تخاطب المؤمنين أن يقوا أنفسهم من عذاب الله النار التي وقودها الناس والحجارة وليسوا يجزون إلا بأعمالهم ولا مخلص منها إلا للنبي والذين آمنوا معه ثم تخاطب النبي بجهاد الكفار والمنافقين.
وتختتم السورة بضربه تعالى مثلا من النساء للكفار ومثلا منهن للمؤمنين.
وظهور السياق في كون السورة مدنية لا ريب فيه.
قوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} خطاب مشوب بعتاب لتحريمه (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفسه بعض ما أحل الله له، ولم يصرح تعالى به ولم يبين أنه ما هو؟ وما ذا كان؟ غير أن قوله: {تبتغي مرضاة أزواجك} يومىء أنه كان عملا من الأعمال المحللة التي يقترفها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ترتضيه أزواجه فضيقن عليه وآذينه حتى أرضاهن بالحلف على أن يتركه ولا يأتي به بعد.
فقوله: {يا أيها النبي} علق الخطاب والنداء بوصف النبي دون الرسول لاختصاصه به في نفسه دون غيره حتى يلائم وصف الرسالة.
وقوله: {لم تحرم ما أحل الله لك} المراد بالتحريم التسبب إلى الحرمة بالحلف على ما تدل عليه الآية التالية فإن ظاهر قوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} إلخ، إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) حلف على ذلك ومن شأن اليمين أن يوجب عروض الوجوب إن كان الحلف على الفعل والحرمة إن كان الحلف على الترك، وإذ كان (صلى الله عليه وآله وسلم) حلف على ترك ما أحل الله له فقد حرم ما أحل الله له بالحلف.
وليس المراد بالتحريم تشريعه (صلى الله عليه وآله وسلم) على نفسه الحرمة فيما شرع الله له فيه الحلية فليس له ذلك.
وقوله: {تبتغي مرضاة أزواجك} أي تطلب بالتحريم رضاهن بدل من تحرم إلخ، أوحال من فاعله، والجملة قرينة على أن العتاب بالحقيقة متوجه إليهن، ويؤيده قوله خطابا لهما: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} إلخ، مع قوله فيه: {والله غفور رحيم}.
قوله تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم} قال الراغب: كل موضع ورد فرض الله عليه ففي الإيجاب الذي أدخله الله فيه، وما ورد من فرض الله له فهوفي أن لا يحظره على نفسه نحو{ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له} وقوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}.
انتهى.
والتحلة أصلها تحللة على وزن تذكرة وتكرمة مصدر كالتحليل، قال الراغب: وقوله عز وجل: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} أي بين ما تحل به عقدة أيمانكم من الكفارة.
فالمعنى: قد قدر الله لكم - كأنه قدره نصيبا لهم حيث لم يمنعهم عن حل عقدة اليمين - تحليل أيمانكم بالكفارة والله وليكم الذي يتولى تدبير أموركم بالتشريع والهداية وهو العليم الحكيم.
وفي الآية دلالة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد حلف على الترك، وأمر له بتحلة يمينه.
قوله تعالى: {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير} السر هو الحديث الذي تكتمه في نفسك وتخفيه، والإسرار إفضاؤك الحديث إلى غيرك مع إيصائك بإخفائه، وضمير {نبأت} لبعض أزواجه، وضمير {به} للحديث الذي أسره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليها، وضمير {أظهره} للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وضمير {عليه} لإنبائها به غيرها وإفشائها السر، وضمير {عرف} وأعرض} للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وضمير {بعضه} للحديث، والإشارة بقوله: {هذا} لإنبائها غيره وإفشائها السر.
ومحصل المعنى: وإذ أفضى النبي إلى بعض أزواجه - وهي حفصة بنت عمر بن الخطاب - حديثا وأوصاها بكتمانه فلما أخبرت به غيرها وأفشت السر خلافا لما أوصاها به، وأعلم الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها نبأت به غيرها وأفشت السر عرف وأعلم بعضه وأعرض عن بعض آخر، فلما خبرها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحديث قالت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من أنبأك وأخبرك أني نبأت به غيري وأفشيت السر؟ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): نبأني وخبرني العليم الخبير وهو الله العليم بالسر والعلانية الخبير بالسرائر.
قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} أي إن تتوبا إلى الله فقد تحقق منكما ما يستوجب عليكما التوبة وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه، إلخ.
وقد اتفق النقل على أنهما عائشة وحفصة زوجا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
والصغو الميل والمراد به الميل إلى الباطل والخروج عن الاستقامة وقد كان ما كان منهما من إيذائه والتظاهر عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الكبائر وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } [الأحزاب: 57] ، وقال: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [التوبة: 61].
والتعبير بقلوبكما وإرادة معنى التثنية من الجمع كثير النظير في الاستعمال.
وقوله: {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه} إلخ، التظاهر التعاون، وأصل {وإن تظاهرا} وإن تتظاهرا، وضمير الفصل في قوله: {فإن الله هو مولاه} للدلالة على أن لله سبحانه عناية خاصة به (صلى الله عليه وآله وسلم) ينصره ويتولى أمره من غير واسطة من خلقه، والمولى الولي الذي يتولى أمره وينصره على من يريده بسوء.
و{جبريل} عطف على لفظ الجلالة، و{صالح المؤمنين} عطف كجبريل، والمراد بصالح المؤمنين على ما قيل الصلحاء من المؤمنين فصالح المؤمنين واحد أريد به الجمع كقولك: لا يفعل هذا الصالح من الناس تريد به الجنس كقولك لا يفعله من صلح منه ومثله قولك: كنت في السامر والحاضر.
وفيه قياس المضاف إلى الجمع إلى مدخول اللام فظاهر صالح المؤمنين غير ظاهر {الصالح من المؤمنين}.
ووردت الرواية من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد بصالح المؤمنين علي عليه أفضل السلام، وستوافيك إن شاء الله.
وفي المراد منه أقوال أخر أغمضنا عنها لعدم دليل عليها.
وقوله: {والملائكة بعد ذلك ظهير} إفراد الخبر للدلالة على أنهم متفقون في نصره متحدون صفا واحدا، وفي جعلهم بعد ذلك أي بعد ولاية الله وجبريل وصالح المؤمنين تعظيم وتفخيم.
ولحن الآيات في إظهار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على من يؤذيه ويريده بسوء وتشديد العتاب على من يتظاهر عليه عجيب، وقد خوطب فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا وعوتب على تحريمه ما أحل الله له وأشير عليه بتحلة يمينه وهو إظهار وتأييد وانتصار له وإن كان في صورة العتاب.
ثم التفت من خطابه إلى خطاب المؤمنين في قوله: {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه} يشير إلى القصة وقد أبهمها إبهاما وقد كان أيد النبي وأظهره قبل الإشارة إلى القصة وإفشائها مختوما عليها، وفيه مزيد إظهاره.
ثم التفت من خطاب المؤمنين إلى خطابهما وقرر أن قلوبهما قد صغت بما فعلتا ولم يأمرهما أن تتوبا من ذنبهما بل بين لهما أنهما واقعتان بين أمرين إما أن تتوبا وإما أن تظاهرا على من الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك أجمع ثم أظهر الرجاء إن طلقهن أن يرزقه الله نساء خيرا منهن.
ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجاهد الكفار والمنافقين ويغلظ عليهم.
وانتهى الكلام إلى ضربه تعالى مثلين مثلا للذين كفروا ومثلا للذين آمنوا.
وقد أدار تعالى الكلام في السورة بعد التعرض لحالهما بقوله: إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه} إلخ، بين التعرض لحال المؤمنين والتعرض لحال الكفار فقال: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم} إلخ، و{يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا} إلخ، وقال: {يا أيها الذين آمنوا توبوا} إلخ، و{يا أيها النبي جاهد} إلخ، وقال: {ضرب الله مثلا للذين كفروا}، {وضرب الله مثلا للذين آمنوا}.
قوله تعالى: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن} إلى آخر الآية استغناء إلهي فإنهن وإن كن مشرفات بشرف زوجية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن الكرامة عند الله بالتقوى كما قال تعالى: { فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29] ، انظر إلى مكان {منكن} وقال: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا } [الأحزاب: 30-31] .
ولذا ساق الاستغناء بترجي إبداله إن طلقهن أزواجا خيرا منهن، وعلق الخبر بما ذكر لأزواجه الجديدة من صفات الكرامة وهي أن يكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات - أي صائمات - ثيبات وأبكارا.
فمن تزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانت متصفة بمجموع هذه الصفات كانت خيرا منهن وليس إلا لأجل اختصاص منها بالقنوت والتوبة أو القنوت فقط مع مشاركتها لهن في باقي الصفات، والقنوت هو لزوم الطاعة مع الخضوع.
ويتأيد هذا المعنى بما في مثل مريم الآتي في آخر السورة من ذكر القنوت {وكانت من القانتين} فالقنوت هو الذي يفقدنه وهو لزومهن طاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي فيها طاعة الله واتقاؤهن أن يعصين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويؤذينه.
وبما مر يظهر فساد قول من قال إن وجه خيرية أزواجه اللاحقة من أزواجه السابقة إن طلقهن، هو تزوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهن وانفصال الأزواج السابقة وزوجيته (صلى الله عليه وآله وسلم) شرف لا يقدر قدره.
وذلك أنه لوكان ملاك ما ذكر في الآية من الخير هو الزوجية كان كل من تزوج (صلى الله عليه وآله وسلم) من النساء أفضل وأشرف منهن إن طلقهن وإن لم تتلبس بشيء مما ذكر من صفات الكرامة فلم يكن مورد لعد ما عد من الصفات.
قال في الكشاف،: فإن قلت: لم أخليت الصفات كلها عن العاطف ووسط بين الثيبات والأبكار؟ قلت: لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات.
انتهى.
________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص291-295.
التوبيخ الشديد لبعض زوجات الرسول :
مما لا شك فيه أن رجلا عظيما كالرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يمكن أن يهمه أمره وحده دون غيره ، بل أمره يهم المجتمع الإسلامي والبشرية جمعاء ، ولهذا يكون التعامل مع أية دسيسة حتى لو كانت بسيطة تعاملا حازما وقاطعا لا يسمح بتكررها ، لكي لا تتعرض حيثية الرسول واعتباره إلى أي نوع من التصدع والخدش والآيات محل البحث تعتبر تحذيرا من ارتكاب مثل هذه الأعمال حفاظا على اعتبار الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
البداية كانت خطابا إلى الرسول : {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك} .
ومن الواضح أن هذا التحريم ليس تحريما شرعيا ، بل هو - كما يستفاد من الآيات اللاحقة - قسم من قبل الرسول الكريم ، ومن المعروف أن القسم على ترك بعض المباحات ليس ذنبا .
وبناء على هذا فإن جملة {لم تحرم} لم تأت كتوبيخ وعتاب ، وإنما هي نوع من الإشفاق والعطف .
تماما كما نقول لمن يجهد نفسه كثيرا لتحصيل فائدة معينة من أجل العيش ثم لا يحصل عليها ، نقول له : لماذا تتعب نفسك وتجهدها إلى هذا الحد دون أن تحصل على نتيجة توازي ذلك التعب ؟
ثم يضيف في آخر الآية : {والله غفور رحيم} . . .
وهذا العفو والرحمة إنما هو لمن تاب من زوجات الرسول اللاتي رتبن ذلك العمل وأعددنه . أو أنها إشارة إلى أن الرسول ما كان ينبغي له أن يقسم مثل هذا القسم الذي سيؤدي - احتمالا - إلى جرأة وتجاسر بعض زوجاته عليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
ويضيف في الآية اللاحقة أن الله قد أوضح طريق التخلص من مثل هذا القسم : {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}(2) أي أعط كفارة القسم وتحرر منه .
ويذكر أن الترك إذا كان راجحا على العمل فيجب الالتزام بالقسم والحنث فيه ذنب تترتب كفارة عليه ، أما في الموارد التي يكون فيها الترك شيئا مرجوحا مثل " الآية مورد البحث " فإنه يجوز الحنث في القسم ، ولكن من الأفضل دفع كفارة من أجل الحفاظ على حرمة القسم واحترامه (3) .
ثم يضيف : {والله مولاكم وهو العليم الحكيم} .
فقد أنجاكم من مثل هذه الأقسام ووضع لكم طريق التخلص منها طبقا لعلمه وحكمته .
ويستفاد من بعض الروايات أن النبي أعتق رقبة بعد هذا القسم وحلل ما كان قد حرمه بالقسم .
وفي الآية اللاحقة يتعرض لهذا الحادث بشكل أوسع : {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض} .
ما هذا السر الذي أسره النبي لبعض زوجاته ثم لم يحفظنه ؟
طبقا لما أوردناه في أسباب النزول فإن هذا السر يتكون من أمرين :
الأول : تناول العسل عند زوجته ( زينب بنت جحش ) .
والثاني : تحريم العسل على نفسه في المستقبل .
أما الزوجة التي أذاعت السر ولم تحافظ عليه فهي " حفصة " حيث أنها نقلت ذلك الحديث الذي سمعت به إلى عائشة .
أما الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد اطلع على إفشاء هذا السر عن طريق الوحي ، وذكر بعضه " لحفصة " ومن أجل عدم إحراجها كثيرا لم يذكر لها القسم الثاني ( ولعل القسم الأول يتعلق بأصل شرب العسل ، والثاني هو تحريم العسل على نفسه ) .
وعلى كل فإنه : {فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير} .
ويتضح من مجموع هذه الآيات أن بعض زوجات الرسول لم يكتفين بإيذاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بكلامهن ، بل لا يحفظن سره ، وحفظ السر من أهم صفات الزوجة الصالحة الوفية لزوجها ، وكان تعامل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معهن على العكس من ذلك تماما إلى الحد الذي لم يذكر لها السر الذي أفشته كاملا لكي لا يحرجها أكثر ، واكتفى بالإشارة إلى جزء منه .
ولهذا جاء في الحديث عن الإمام علي ( عليه السلام ) : " ما استقصى كريم قط ، لأن الله يقول : {عرف بعضه وأعرض عن بعضه} (4) .
ثم يتحدث القرآن مع زوجتي الرسول اللتين كانتا وراء هذا الحادث بقوله : {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} .
وقد اتفق المفسرون الشيعة والسنة على أن تلك الزوجتين هما " حفصة بنت عمر " و " عائشة بنت أبي بكر " .
" صغت " من مادة " صغو " على وزن " عفو " بمعنى الميل إلى شيء ما ، لذلك يقال " صغت النجوم " " أي مالت النجوم إلى الغروب " ولهذا جاء اصطلاح " إصغاء " بمعنى الاستماع إلى حديث شخص آخر . والمقصود من " صغت قلوبكما " أي مالت من الحق إلى الباطل وارتكاب الذنب (5) .
ثم يضيف تعالى : {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} .
ويتضح من هذا كم تركت هذه الحادثة من أثر مؤلم في قلب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم )
وروحه العظيمة ، ورغم قدرة الرسول المتكاملة نشاهد أن الله يدافع عنه إذ يعلن حماية جبرائيل والمؤمنين له .
ومن الجدير بالذكر أنه ورد في صحيح البخاري (ما مضمونه) عن ابن عباس أنه قال : سألت عمر : من كانت المرأتان اللتان تظاهرتا على النبي من أزواجه ، فقال : تلك حفصة وعائشة ، قال : فقلت والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا قال : فلا تفعل ما ظننت أن عندي من علم فاسألني فإن كان لي علم خبرتك به ، قال ثم قال عمر : والله إن كن في الجاهلية ما تعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم . . " (6) .
وفي تفسير الدر المنثور ، ورد أيضا عن ابن عباس ضمن حديث مفصل أنه قال : قال عمر : " . . علمت بعد هذه الحادثة أن النبي اعتزل جميع النساء ، وأقام في " مشربة أم إبراهيم " ، فأتيته وقلت : يا رسول الله هل طلقت نساءك ؟ قال : لا . قلت : الله أكبر ، كنا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر من ذلك فو الله إن أزواج النبي ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل . . فقلت لابنتي حفصة لا تفعلي ذلك أبدا وإن فعلته جارتك ( يعني عائشة ) لأنك لست هي . . " (7) .
في آخر آية من هذه الآيات يخاطب الله تعالى جميع نساء النبي بلهجة لا تخلو من التهديد : {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا} .
لذا فهو ينذرهن ألا يتصورن أن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سوف لن يطلقهن ، أو يتصورن أن النبي لا يستبدلهن بنساء أخريات أفضل منهن ، وذلك ليكففن عن التآمر عليه وإلا فسيحرمن من شرف منزلة " زوجة الرسول " إلى الأبد ، وستأخذ نساء أخريات أفضل منهن هذا اللقب الكريم .
______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص281-285.
2 - " الراغب " في " المفردات " ، يقول : إذا جاءت كلمة " فرض " مع " على " فإنها تدل على الوجوب ، وأما إذا جاءت معها
" لام " فإنها تدل على عدم المنع وبهذا يكون الفرض في الآية السابقة هو السماح والإباحة وليس الوجوب .
وعبارة " تحلة " - مصدر من باب تفعيل - بمعنى إباحة والحلية ، أو بتعبير آخر العمل على فتح عقدة القسم ، وهو الكفارة .
3 - كفارة القسم حسب ما يستفاد من الآية ( 86 ) من سورة المائدة عبارة عن إطعام عشرة مساكين ، أو إكساؤهم ، أو تحرير رقبة . وإن كان لا يقدر على شيء من ذلك فصيام ثلاثة أيام .
4 - تفسير الميزان ، ج 19 ، ص 392 .
5 - طبقا للتفسير الذي ذكرناه والذي اختاره أكثر المفسرين فإن هناك شيئا محذوفا في الآية تقديره " إن تتوبا إلى الله كان خير لكما " أو تقدير آخر مشابه ، ولكن احتمل بعض آخر أنه ليس هناك محذوف في الآية وجملة ( صغت قلوبكما ) جزاء الشرط ( بشرط أن يكون الميل إلى الحق وليس العكس ) .
ولكن هذا الاحتمال بعيد جدا لأن الشرط جاء بصيغة الفعل المضارع بينما الجزاء بصيغة الفعل الماضي وهذا غير جائز في عرف أكثر النحويين ، ويذكر أن " قلوبكما " جاءت بصيغة الجمع لا المثنى ، وذلك لتلافي إجتماع ألفاظ التثنية بصورة متتالية الذي لا يتناسب مع بلاغة القرآن وفصاحته .
6 - صحيح البخاري ، ج 6 ، ص 195 .
7 - الدر المنثور ، ج 6 ، ص 243 .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|