أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-11-2017
7446
التاريخ: 9-11-2017
5937
التاريخ: 9-11-2017
3366
|
قال تعالى : {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } [الجن: 18 - 28].
{وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} تقديره ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا سوى الله عن الخليل والمعنى لا تذكروا مع الله في المواضع التي بنيت للعبادة والصلاة أحدا على وجه الإشراك في عبادته كما تفعل النصارى في بيعهم والمشركون في الكعبة قال الحسن من السنة عند دخول المساجد أن يقال لا إله إلا الله لا أدعو مع الله أحدا وقيل المساجد مواضع السجود من الإنسان وهي الجبهة والكفان وأصابع الرجلين وعينا الركبتين وهي لله تعالى إذ خلقها وأنعم بها فلا ينبغي أن يسجد بها لأحد سوى الله تعالى عن سعيد بن جبير والزجاج والفراء وروي أن المعتصم سأل أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) عن قوله تعالى {وأن المساجد لله} فقال هي الأعضاء السبعة التي يسجد عليها وقيل إن المراد بالمساجد البقاع كلها وذلك لأن الأرض كلها جعلت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مسجدا عن الحسن وقال سعيد بن جبير قالت الجن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كيف لنا أن نأتي المسجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناءون عنك فنزلت الآية وروي عن الحسن أيضا أن المساجد الصلوات وهي لله والمراد أخلصوا لله العبادة وأقروا له بالتوحيد ولا تجعلوا فيها لغير الله نصيبا.
{وأنه لما قام عبد الله} يريد به محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) {يدعوه} بقول لا إله إلا الله ويدعو إليه ويقرأ القرآن {كادوا يكونون عليه لبدا} أي كاد الجن يركب بعضهم بعضا يزدحمون عليه حرصا منهم على استماع القرآن عن ابن عباس والضحاك وقيل هومن قول الجن لأصحابهم حين رجعوا إليهم والمراد أن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يتزاحمون عليه لاستماع القرآن منه يود كل واحد منهم أن يكون أقرب من صاحبه فيتلبد بعضهم على بعض عن سعيد بن جبير وقيل هومن جملة ما أوحى الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بما كان من حرص الجن على استماع القرآن وقيل معناه أنه لما دعا قريشا إلى التوحيد كادوا يتراكبون عليه بالزحمة جماعات متكاثرات ليزيلوه بذلك عن الدعوة وأبى الله إلا أن ينصره ويظهره على ما ناواه عن قتادة والحسن وعلى هذا فيكون ابتداء كلام {قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا} وذلك أنهم قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إنك جئت بأمر عظيم لم يسمع مثله فارجع عنه فأجابهم بهذا عن مقاتل وأمره سبحانه بأن يجيبهم بهذا فقال {قل إنما أدعو ربي} وهذا يعضد قول الحسن وقتادة لأنه كالذم لهم على ذلك .
ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {قل} يا محمد للمكلفين {إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا} أي لا أقدر على دفع الضرر عنكم ولا إيصال الخير إليكم وإنما القادر على ذلك هو الله تعالى ولكني رسول ليس علي إلا البلاغ والدعاء إلى الدين والهداية إلى الرشاد وهذا اعتراف بالعبودية وإضافة الحول والقوة إليه تعالى ثم قال {قل} لهم يا محمد {إني لن يجيرني من الله أحد} أي لا يمنعني أحد مما قدره الله علي {ولن أجد من دونه} أي من دون الله {ملتحدا} أي ملتجأ إليه أطلب به السلامة {إلا بلاغا من الله} أي تبليغا من الله آياته {ورسالاته} فإنه ملجأي ومنجاي وملتحدي ولي فيه الأمن والنجاة عن الحسن والجبائي وقيل معناه لا أملك لكم ضرا ولا رشدا فما علي إلا البلاغ عن الله فكأنه قال لا أملك شيئا سوى تبليغ وحي الله بتوفيقه وعونه عن قتادة.
وقيل أن قوله {إلا بلاغا} يحتمل معنيين {أحدهما} إلا ما بلغني من الله أي لا يجيرني شيء إلا ما أتاني من الله فلا فرق بين أن يقول بلغني كتابه وأن يقول أتاني كتابه {والثاني} إلا تبليغ ما أنزل إلي فأما القبول والإيمان فليس إلي وإنما ذلك إليكم عن أبي مسلم وقيل أنه عطف رسالاته على البلاغ فوجب أن يكون غيره فالأولى أن يكون أراد بالبلاغ ما بلغه من توحيد الله وعدله وما يجوز عليه وما لا يجوز وأراد بالرسالة ما أرسل لأجله من بيان الشرائع.
ولما بين سبحانه أنه لا ملجأ من عذابه إلا طاعته عقبه بوعيد من قارف معصيته فقال {ومن يعص الله ورسوله} أي خالف أمره في التوحيد وارتكب الكفر والمعاصي {فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} جزاء على ذلك {حتى إذا رأوا} في الآخرة {ما يوعدون} به من العقاب في الدنيا وقيل هو عذاب الاستئصال {فسيعلمون} عند ذلك {من أضعف ناصرا وأقل عددا} المشركون أم المؤمنون وقيل أ جند الله أم الذي عبده المشركون وإنما قال {من أضعف ناصرا} ولا ناصر لهم في الآخرة لأنه جاء على جواب من توهم أنه إن كانت الآخرة فناصرهم أقوى وعددهم أكثر وفي هذا دلالة على أن المراد بقوله {ومن يعص الله ورسوله} الكفار وكانوا يفتخرون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بكثرة جموعهم ويصفونه بقلة العدد فبين سبحانه أن الأمر سينعكس عليهم.
{قل} يا محمد {إن أدري} أي لست أعلم {أ قريب ما توعدون} به من العذاب {أم يجعل له ربي أمدا} أي مهلة وغاية ينتهي إليها قال عطاء أراد أنه لا يعرف يوم القيامة إلا الله وحده {عالم الغيب} أي هو عالم الغيب يعلم متى تكون القيامة {فلا يظهر على غيبه أحدا} أي لا يطلع على الغيب أحدا من عباده ثم استثنى فقال {إلا من ارتضى من رسول} يعني الرسل فإنه يستدل على نبوتهم بأن يخيروا بالغيب لتكون آية معجزة لهم ومعناه أن من ارتضاه واختاره للنبوة والرسالة فإنه يطلعه على ما شاء من غيبه على حسب ما يراه من المصلحة وهو قوله {فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا} والرصد الطريق أي يجعل له إلى علم ما كان قبله من الأنبياء والسلف وعلم ما يكون بعده طريقا وقيل معناه أنه يحفظ الذي يطلع عليه الرسول فيجعل من بين يديه ومن خلفه رصدا من الملائكة يحفظون الوحي من أن تسترقه الشياطين فتلقيه إلى الكهنة وقيل رصدا من بين يدي الرسول ومن خلفه وهم الحفظة من الملائكة يحرسونه عن شر الأعداء وكيدهم فلا يصل إليه شرهم وقيل المراد به جبرائيل (عليه السلام) أي يجعل من بين يديه ومن خلفه رصدا كالحجاب تعظيما لما يتحمله من الرسالة كما جرت عادة الملوك بأن يضموا إلى الرسول جماعة من خواصهم تشريفا له وهذا كما روي أن سورة الأنعام نزلت ومعها سبعون ألف ملك.
{ليعلم} الرسول {أن قد أبلغوا} يعني الملائكة قال سعيد بن جبير ما نزل جبرائيل بشيء من الوحي إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة فيعلم الرسول أنه قد أبلغ الرسالة على الوجه الذي قد أمر به وقيل ليعلم من كذب الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات الله عن مجاهد وقيل ليعلم محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن الرسل قبله قد أبلغ جميعهم {رسالات ربهم} كما أبلغ هو إذ كانوا محروسين محفوظين بحفظ الله عن قتادة وقيل ليعلم الله أن قد أبلغوا عن الزجاج وقيل معناه ليظهر المعلوم على ما كان سبحانه عالما ويعلمه واقعا كما كان يعلم أنه سيقع وقيل أراد ليبلغوا فجعل بدل ذلك قوله {ليعلم} إبلاغهم توسعا عن الجبائي وهذا كما يقول الإنسان ما علم الله ذلك مني أي ما كان ذلك أصلا لأنه لوكان لعلم الله ذلك فوضع العلم موضع الكون.
{وأحاط بما لديهم} أي أحاط الله علما بما لدى الأنبياء والخلائق وهم لا يحيطون إلا بما يطلعهم الله عليه مما هو عند الله {وأحصى كل شيء عددا} أي أحصى ما خلق وعرف عدد ما خلق لم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذر والخردل عن ابن عباس وقيل معناه عد جميع المعلومات المعدومة والموجودة عدا فعلم صغيرها وكبيرها وقليلها وكثيرها وما يكون وما لا يكون وما كان وما لم يكن ولوكان كيف كان وقيل معناه لا شيء يعلمه عالم أو يذكره ذاكر إلا وهو تعالى عالم به ومحص إياه عن الجبائي قال الإحصاء فعل وليس هو بمنزلة العلم فلا يجوز أن يقال أحصى ما لا يتناهى كما يجوز أن يقال علم ما لا يتناهى فإن حمل على العلم تناول جميع المعلومات وإن حمل على العد تناول الموجودات .
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص151-156.
{وأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . اختلفوا : هل هذا من قول اللَّه أم من قول الجن ؟ وأيا كان القائل فان المعنى واحد ، وهوان جميع المعابد هي لعبادة اللَّه وطاعته فقط ، سواء أشادها وأقامها المسلمون أم غيرهم {وأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} . المراد بعبد اللَّه هنا محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ، والهاء في يدعوه للَّه سبحانه ، وواو الجماعة في كادوا لأعداء اللَّه ورسوله ، والمعنى ان رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) حين دعا دعوة الحق تظاهرت عليه أحزاب الضلال ، وكادوا من كثرتهم يكونون كالشعر أو الصوف الذي تلبد بعضه فوق بعض . وفي ذلك يقول الإمام علي (عليه السلام):
{خاض رسول اللَّه إلى رضوان اللَّه كل غمرة ، وتجرع فيه كل غصة ، وقد تلون له الأدنون ، وتألب عليه الأقصون ، وخلعت إليه العرب أعنتها ، وضربت لمحاربته بطون رواحلها ، حتى أنزلت بساحته عداوتها من أبعد الدار وإسحق المزار} أي أقصاه .
والذي يدل على ان هذا المعنى هو المراد قوله تعالى بلا فاصل : {قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي ولا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} قل يا محمد للذين تحالفوا على حربك : ما ذا جنيت ؟ هل طلبت منكم أجرا ، أو ابتغيت جاها ؟ . . كلا ، وانما أعبد اللَّه وأخلص له ، وهو الذي خلق الكون بأرضه وسمائه ، فهل هذا ذنب لا يغتفر ؟
{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولا رَشَداً} . أي نفعا . وأيضا قل يا محمد للمشركين :
أنا بشر مثلكم لا أدعي القدرة على التحكم في مصيركم وضركم أو نفعكم ، فالأمر كله للَّه وحده .
{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ولَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ ورِسالاتِهِ} لا مفر ولا ملجأ لرسول اللَّه من اللَّه إذا قصر في تأدية الرسالة التي ائتمنه عليها . . وهذه آية من عشرات الآيات التي تدل بصراحة ووضوح على ان الإسلام يرفض فكرة الواسطة بين اللَّه وعباده ، ويضع الإنسان أمام خالقه مباشرة يخاطبه ويناجيه بما شاء ، ويتقرب إليه بفعل الخيرات من غير شفيع ووسيط .
{ومَنْ يَعْصِ اللَّهً ورَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً} . هذا تهديد ووعيد للعصاة الطغاة . . على ان اللَّه سبحانه يجب أن يطاع حتى ولولم يهدد ويتوعد ، فكيف إذا هدد وتوعد {حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وأَقَلُّ عَدَداً} . كان المشركون يستضعفون أنصار رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) ويستقلون عددهم ، ويقولون له : نحن أكثر منك مالا وأعز نفرا ! . . فأجابهم سبحانه : في غد تعلمون من هو الأعز ومن هو الأذل ؟ وصدق اللَّه العظيم ، فما مضت الأيام حتى أذلهم الإسلام بعزته ، ورفع المسلمين بقدرته ، وللكافرين في الآخرة عذاب الحريق .
{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} . حين سمع المشركون قوله تعالى : {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وأَقَلُّ عَدَداً} سألوا النبي (صلى الله عليه واله وسلم) : متى يكون هذا ؟ فأمر اللَّه نبيه الكريم أن يقول لهم : علمه عند ربي ، ولا أدري أقريب هو أم بعيد ، فقوله تعالى : {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} يتلخص بكلمة {بعيد} كما في الآية 109 من سورة الأنبياء : {وإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ} .
{عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ} . الغيب للَّه ولمن ائتمنه سبحانه على وحيه ، واصطفاه من عباده لرسالته ، فإنه يعلم من الغيب ما علمه اللَّه {سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا} . وقال جماعة من المفسرين ، منهم الرازي والمراغي : ان غير الرسول قد يعلم الغيب ويخبر به ! . .
ولا يتفق هذا مع ظاهر قوله : {فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ} .
أجل ، ان ذوي الافهام يتنبئون بالمستقبل ، ويصدقون في الكثير من ظنونهم وفراستهم ، ولكنهم يستخرجونها من قرائن وأمارات تظهر لهم وتخفى على من دونهم فهما وعلما ، وأين هذا من علم الغيب الذي لا يظهره اللَّه إلا على الرسل والأنبياء ؟ .
{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} . الذي تبادر إلى فهمنا من هذه الآية هوان اللَّه سبحانه يصون الأنبياء ، وهم يبلغون عنه ويؤدون رسالاته ، يصونهم ويحفظهم من كل شيء يمنعهم عن تأدية الرسالة على وجهها ، سواء أكان هذا الشيء من الداخل كالذهول والنسيان أم من الخارج كتشويش الأعداء ، وما إلى ذلك من محاولاتهم . وبكلمة ان هذه الآية تثبت العصمة للأنبياء في تأدية الوحي {لِيَعْلَمَ} أي لينكشف علم اللَّه ويظهر على حقيقته {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا} لينكشف علم اللَّه لجميع الناس ان الأنبياء قد بلغوا {رِسالاتِ رَبِّهِمْ} على حقيقتها {وأَحاطَ} اللَّه علما {بِما لَدَيْهِمْ} أي بكل ما قاله الأنبياء لا يفوته من أقوالهم حرف واحد ، وفوق ذلك فإن اللَّه تعالى قد أحاط علما بجميع الكائنات كبيرها وصغيرها {وأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} فكيف لا يحصي على رسله أقوالهم وأنفاسهم ، وهم يبلغون رسالاته إلى عباده ؟ . . والغرض من هذا التأكيد هو التنبيه إلى ان الأنبياء معصومون عن الخطأ في تبليغ الوحي ، فلا يزيدون فيه ، ولا ينقصون منه حرفا ، ولا يبدلون حرفا بحرف {وما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُو إِلَّا وَحْيٌ يُوحى} .
_____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص441-443.
في الآيات تسجيل للنبوة وذكر وحدانيته تعالى والمعاد كالاستنتاج من القصة وتختتم بالإشارة إلى عصمة الرسالة.
قوله تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} معطوف على قوله: {إنه استمع} إلخ، وجملة {إن المساجد لله} في موضع التعليل لقوله: {فلا تدعوا مع الله أحدا} والتقدير لا تدعوا مع الله أحدا غيره لأن المساجد له.
والمراد بالدعاء العبادة وقد سماها الله دعاء كما في قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]
وقد اختلف في المراد من المساجد فقيل: المراد به الكعبة، وقيل المسجد الحرام، وقيل: المسجد الحرام وبيت المقدس، ويدفعها كون المساجد جمعا لا ينطبق على الواحد والاثنين.
وقيل: الحرم، وهو تهكم لا دليل عليه، وقيل: الأرض كلها لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وفيه أنه لا يدل على أزيد من جواز العبادة في أي بقعة من بقاع الأرض خلافا لما هو المعروف عن اليهود والنصارى من عدم جواز عبادته تعالى في غير البيع والكنائس، وأما تسمية بقاعها مساجد حتى يحمل عليها عند الإطلاق فلا.
وقيل: المراد به الصلوات فلا يصلى إلا لله، وهو تهكم لا دليل عليه.
وعن الإمام الجواد (عليه السلام): أن المراد بالمساجد الأعضاء السبعة التي يسجد عليها في الصلاة وهي الجبهة والكفان والركبتان وأصابع الرجلين، وستوافيك روايته في البحث الروائي التالي إن شاء الله، ونقل ذلك أيضا عن سعيد بن جبير والفراء والزجاج.
والأنسب على هذا أن يكون المراد بكون مواضع السجود من الإنسان لله اختصاصها به اختصاصا تشريعيا، والمراد بالدعاء السجدة لكونها أظهر مصاديق العبادة أو الصلاة بما أنها تتضمن السجود لله سبحانه.
والمعنى: وأوحي إلي أن أعضاء السجود يختص بالله تعالى فاسجدوا له بها – أو اعبدوه بها - ولا تسجدوا - أولا تعبدوا - أحدا غيره.
قوله تعالى {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} اللبد بالكسر فالفتح جمع لبدة بالضم فالسكون المجتمعة المتراكمة، والمراد بعبد الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما تدل عليه الآية التالية، والتعبير بعبد الله كالتمهيد لقوله في الآية التالية: {قل إنما أدعوا ربي}.
والأنسب لسياق الآيات التالية أن يكون مرجع ضميري الجمع في قوله: {كادوا يكونون} المشركين وقد كانوا يزدحمون عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا صلى وقرأ القرآن يستهزءون ويرفعون أصواتهم فوق صوته على ما نقل.
والمعنى: وأنه لما قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعبد الله بالصلاة كاد المشركون يكونون بازدحامهم لبدا مجتمعين متراكمين.
وقيل: الضميران للجن وأنهم اجتمعوا عليه وتراكموا ينظرون إليه متعجبين مما يشاهدون من عبادته وقراءته قرآنا لم يسمعوا كلاما يماثله.
وقيل: الضميران للمؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المجتمعين عليه اقتداء به في صلاته إذا صلى وإنصاتا لما يتلوه من كلام الله.
والوجهان لا يلائمان سياق الآيات التالية تلك الملاءمة كما تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى: {قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا} أمر منه تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبين لهم وجه عبادته بيانا يزيل عنهم الحيرة حيث رأوا منه ما لم يكونوا رأوه من أحد غيره، ويتعجبون حاملين له على نوع من المكيدة والمكر بأصنامهم أو خدعة بهم لأغراض أخر دنيوية.
ومحصل البيان: أني لست أريد بما آتي به من العمل شيئا من المقاصد التي تحسبونها وترمونني بها وإنما أدعو ربي وحدة غير مشرك به أحدا وعبادة الإنسان لمن عرفه ربا لنفسه مما لا ينبغي أن يلام عليه أو يتعجب منه.
قوله تعالى: {قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا} الذي يفيده سياق الآيات الكريمة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يبين فيها بأمر من ربه موقع نفسه وبالنسبة إلى ربه وبالنسبة إلى الناس.
أما موقعه بالنسبة إلى ربه فهو أنه يدعوه ولا يشرك به أحدا وهو قوله: {قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا}.
وأما موقعه بالنسبة إليهم فهو أنه بشر مثلهم لا يملك لهم ضرا ولا رشدا حتى يضرهم بما يريد أن يرشدهم من الخير إلى ما يريد بما عنده من القدرة، وأنه مأمور من الله بدعوتهم أمرا ليس له إلا أن يمتثله فلا مجير يجيره منه ولا ملجأ يلتجىء إليه لو خالف وعصى كما ليس لهم إلا أن يطيعوا الله ورسوله ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا، وسيعلمون إذا رأوا ما يوعدون.
ولازم هذا السياق أن يكون المراد بملك الضر القدرة على إيقاع الضر بهم فيوقعه بهم إذا أراد، والمراد بملك الرشد القدرة على إيصال النفع إليهم بإصابة الواقع أي إني لا أدعي أني أقدر أن أضركم أو أنفعكم، وقيل: المراد بالضر الغي المقابل للرشد تعبيرا باسم المسبب عن السبب.
قوله تعالى: {قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته} الإجارة إعطاء الجوار وحكمه حماية المجير للجار ومنعه ممن يقصده بسوء، والظاهر أن الملتحد اسم مكان وهو المكان الذي يعدل وينحرف إليه للتحرز من الشر، وقيل: المدخل ويتعلق به قوله: {من دونه} وهو كالقيد التوضيحي والضمير لله والبلاغ التبليغ.
وقوله: {إلا بلاغا} استثناء من قوله: {ملتحدا} وقوله: {من الله} متعلق بمقدر أي كائنا من الله وليس متعلقا بقوله: {بلاغا} لأنه يتعدى بعن لا بمن ولذا قال بعض من جعله متعلقا ببلاغا: إن {من} بمعنى عن، والمعنى على أي حال إلا تبليغ ما هو تعالى عليه من الأسماء والصفات.
وقوله: {ورسالاته} قيل: معطوف على {بلاغا} والتقدير إلا بلاغا من الله وإلا رسالاته وقيل: معطوف على لفظ الجلالة ومن بمعنى عن، والمعنى إلا بلاغا عن الله وعن رسالاته.
وفيما استثني منه بلاغا قول آخر وهو أنه مفعول {لا أملك} والمعنى لا أملك لكم ضرا ولا رشدا إلا تبليغا من الله ورسالاته، ويبعده الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بقوله: {لن يجيرني من الله أحد} إلخ وهو كلام مستأنف.
ومعنى الآيتين على ما قدمنا: قل لن يجيرني من الله أحد فيمنعني منه ولن أجد من دونه مكانا ألتجىء إليه إلا تبليغا كائنا منه ورسالاته أي إلا أن أمتثل ما أمرني به من التبليغ منه تعالى ببيان أسمائه وصفاته وإلا رسالاته في شرائع الدين.
قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} إفراد ضمير {له} باعتبار لفظ {من} كما أن جمع {خالدين} باعتبار معناها.
وعطف الرسول على الله في قوله: {ومن يعص الله ورسوله} لكون معصيته معصية لله تعالى إذ ليس له إلا رسالة ربه فالرد عليه فيما أتي به رد على الله سبحانه وطاعته فيما يأمر به طاعة لله قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [النساء: 80].
والمراد بالمعصية - كما يشهد به سياق الآيات السابقة - معصية ما أمر به من التوحيد أو التوحيد وما يتفرع عليه من أصول الدين وفروعه فلا يشمل التهديد والوعيد بخلود النار إلا الكافرين بأصل الدعوة دون مطلق أهل المعصية المتخلفين عن فروع الدين فالاحتجاج بالآية على تخليد مطلق العصاة في النار في غير محله.
والظاهر أن قوله: {ومن يعص الله} إلى آخر الآية من كلام الله سبحانه لا من تتمة كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: {حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا} لقوله: {حتى} دلالة على معنى مدخولها غاية له ومدخولها يدل على أنهم كانوا يستضعفون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ناصريه - وهم المؤمنون - ضعفاء واستقلال عدده بعد عددهم قليلا فالكلام يدل على معنى محذوف هو غايته كقولنا: لا يزالون يستضعفون ناصريك ويستقلون عددهم حتى إذا رأوا ما يوعدون إلخ.
والمراد بما يوعدون نار جهنم لأنها هي الموعودة في الآية، والآية من كلامه تعالى يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو كانت من كلامه وهي مصدرة بقوله تعالى {قل} لكان من حق الكلام أن يقال: حتى إذا رأيتم ما توعدون فستعلمون إلخ.
قوله تعالى: {قل إن أدري أ قريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا} الأمد الغاية التي ينتهي إليها، والآية بمنزلة دفع دخل تقتضيه حالهم كأنهم لما سمعوا الوعيد قالوا: متى يكون ذلك فقيل له: {قل إن أدري أ قريب} إلخ.
قوله تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} إظهار الشيء على الشيء إعانته وتسليطه عليه، و{عالم الغيب} خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير هو عالم الغيب، ومفاد الكلمة بإعانة من السياق اختصاص علم الغيب به تعالى مع استيعاب علمه كل غيب، ولذا أضاف الغيب إلى نفسه ثانيا فقال: {على غيبه} بوضع الظاهر موضع المضمر ليفيد الاختصاص ولو قال: فلا يظهر عليه لم يفد ذلك.
والمعنى هو عالم كل غيب علما يختص به فلا يطلع على الغيب وهو مختص به أحدا من الناس فالمفاد سلب كلي وإن أصر بعضهم على كونه سلبا جزئيا محصل معناه لا يظهر على كل غيبه أحدا ويؤيد ما قلنا ظاهر ما سيأتي من الآيات.
قوله تعالى: {إلا من ارتضى من رسول} استثناء من قوله: {أحدا} و{من رسول} بيان لقوله {من ارتضى} فيفيد أن الله تعالى يظهر رسله على ما شاء من الغيب المختص به فالآية إذا انضمت إلى الآيات التي تخص علم الغيب به تعالى كقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } [الأنعام: 59] ، وقوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [النحل: 77] ، وقوله: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] أفاد ذلك معنى الأصالة والتبعية فهو تعالى يعلم الغيب لذاته وغيره يعلمه بتعليم من الله.
فهذه الآيات نظيرة الآيات المتعرضة للتوفي كقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر: 42] الدال على الحصر، وقوله: { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] ، وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] فالتوفي منسوب إليه تعالى على نحو الأصالة وإلى الملائكة على نحو التبعية لكونهم أسبابا متوسطة مسخرة له تعالى.
قوله تعالى: {فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا - إلى قوله - عددا} ضمير {فإنه} لله تعالى، وضميرا {يديه} و{خلفه} للرسول، والراصد المراقب للأمر الحارس له، والرصد الراصد يطلق على الواحد والجماعة وهو في الأصل مصدر، والمراد بما بين يدي الرسول ما بينه وبين الناس المرسل إليهم، وبما خلفه ما بينه وبين مصدر الوحي الذي هو الله سبحانه وقد اعتبر في هذا التصوير ما يوهمه معنى الرسالة من امتداد متوهم يأخذ من المرسل - اسم فاعل - وينتهي إلى المرسل إليه يقطعه الرسول حتى ينتهي إلى المرسل إليه فيؤدي رسالته، والآية تصف طريق بلوغ الغيب إلى الرسول وهو الرسالات التي توحي إليه كما يشير إلى ذلك قوله: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم}.
والمعنى: فإن الله يسلك ما بين الرسول ومن أرسل إليه وما بين الرسول ومصدر الوحي مراقبين حارسين من الملائكة - ومن المعلوم أن سلوك الرصد من بين يديه ومن خلفه لحفظ الوحي من كل تخليط وتغيير بالزيادة والنقصان يقع فيه من ناحية الشياطين بلا واسطة أو معها.
وقوله: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} ضمير {ليعلم} لله سبحانه، وضميرا {قد أبلغوا و{ربهم} لقوله: {من} باعتبار المعنى أو لرسول باعتبار الجنس، والمراد بعلمه تعالى بإبلاغهم رسالات ربهم العلم الفعلي وهو تحقق الإبلاغ في الخارج على حد قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت: 3] وهو كثير الورود في كلامه تعالى.
والجملة تعليل لسلوك الرصد بين يدي الرسول ومن خلفه، والمعنى ليتحقق إبلاغ رسالات ربهم أي لتبلغ الناس رسالاته تعالى على ما هي عليه من غير تغير وتبدل.
ومن المحتمل أن يرجع ضميرا {بين يديه ومن خلفه} إلى {غيبه} فيكون الرصد الحرس مسلوكين بين يدي الغيب النازل ومن خلفه إلى أن يبلغ الرسول، ويضعفه أنه لا يلائم قوله: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} بالمعنى الذي تقدم لعدم استلزام بلوغ الغيب للرسول سليما من تعرض الشياطين حصول العلم بإبلاغه إلى الناس.
وإلى هذا المعنى يرجع قول بعضهم إن الضميرين يرجعان إلى جبريل حامل الوحي.
ويضعفه مضافا إلى ما مر عدم سبق ذكره.
وقيل: ضمير ليعلم للرسول وضميرا {قد أبلغوا} و{ربهم} للملائكة الرصد والمعنى يرصد الملائكة الوحي ويحرسونه ليعلم الرسول أن الملائكة قد أبلغوا إليه الوحي كما صدر فتطمئن نفسه أنه سليم من تعرض الشياطين فإن لازم العلم بإبلاغهم إياه العلم ببلوغه.
ويبعده أن ظاهر السياق - ويؤيده سبق ذكر الرسول - أن المراد بالرسالات الرسالات التي حملها الرسول ليبلغها إلى الناس لا ما حملها ملك الوحي فضمير {ربهم} للرسل دون الملائكة، على أن الآية تشير إلى الملائكة بعنوان الرصد وهو غير عنوان الرسالة وشأن الرصد الحفظ والحراسة دون الرسالة.
وقيل: المعنى ليعلم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربهم، وهو وجه سخيف لا دليل عليه، وأسخف منه ما قيل: إن المعنى ليعلم مكذب الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم إليهم.
وقوله: {وأحاط بما لديهم} ضمير الجمع للرسل بناء على ما تقدم من المعنى والظاهر أن الجملة متممة لمعنى الحراسة المذكورة سابقا فقوله: {من بين يديه} يشير إلى رصد ما بين الرسول والمرسل إليهم، وقوله: {ومن خلفه} إلى حفظ ما بينه ومصدر الوحي، وقوله: {وأحاط بما لديهم} يشير إلى ظرف نفس الرسول والإحاطة إحاطة علمية فالوحي في أمن من تطرق التغيير والتبديل فيما بين مصدر الوحي والرسول وفي نفس الرسول وفي ما بين الرسول والمرسل إليهم.
ويمكن أن يكون المراد بما لديهم جميع ما له تعلق ما بالرسل أعم من مسير الوحي أو أنفسهم كما أن قوله: {وأحصى كل شيء عددا} مسوق لإفادة عموم العلم بالأشياء غير أنه العلم بعددها وتميز بعضها من بعض.
فقد تبين مما مر في الآيات الثلاث: أولا: أن اختصاصه تعالى بعلم الغيب على نحو الأصالة بالمعنى الذي أوضحناه فهو تعالى يعلم الغيب بذاته وغيره يعلمه بتعليم منه.
وبه يظهر أن ما حكي في كلامه تعالى من إنكارهم العلم بالغيب أريد به نفي الأصالة والاستقلال دون ما كان بوحي كقوله تعالى: { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50] ، وقوله: { وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف: 188] وقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأحقاف: 9].
وثانيا: أن عموم قوله: {فلا يظهر على غيبه أحدا} لما خصص بقوله: {إلا من ارتضى من رسول} عاد عاما مخصصا لا يأبى تخصيصا بمخصص آخر كما في مورد الأنبياء فإن الآيات القرآنية تدل على أنهم يوحى إليهم كقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } [النساء: 163] وتدل على أن الوحي من الغيب فالنبي ينال الغيب كما يناله الرسول هذا على تقدير أن يكون المراد بالرسول في الآية ما يقابل النبي وأما لو أريد مطلق من أرسله الله إلى الناس والنبي ممن أرسله الله إليهم كما يشهد به قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52] ، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} [الأعراف: 94] فالنبي خارج من عموم النفي من غير تخصيص جديد.
وكذا في مورد الإمام بالمعنى الذي يستعمله فيه القرآن فإنه تعالى يصفه بالصبر واليقين كما في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] ويعرفهم بانكشاف الغطاء لهم كما في قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } [الأنعام: 75] ، وقوله: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ } [التكاثر: 4 - 6] وقد تقدم كلام في ذلك في بعض المباحث السابقة.
وأما الملائكة فما يحملونه من الوحي السماوي قبل نزوله وكذا ما يشاهدونه من عالم الملكوت شهادة بالنسبة إليهم وإن كان غيبا بالنسبة إلينا.
على أن قوله: {فلا يظهر على غيبه أحدا} إنما يشمل أهل الدنيا ممن يعيش على بسيط الأرض وإلا لانتقض بالأموات المشاهدين لأمور الآخرة وهي من الغيب بنص القرآن فلم يبق تحت عموم النفي حتى فرد واحد إذ ما من أحد إلا وهو مبعوث ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود، وكما أن الأموات نشأتهم غير نشأة الدنيا كذلك نشأة الملائكة غير نشأة المادة.
وثالثا: أن قوله: {فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه} إلى آخر الآيتين يدل على أن الوحي الإلهي محفوظ من لدن صدوره من مصدر الوحي إلى بلوغه الناس مصون في طريق نزوله إلى أن يصل إلى من قصد نزوله عليه.
أما مصونيته من حين صدوره من مصدره إلى أن ينتهي إلى الرسول فيكفي في الدلالة عليه قوله {من خلفه} وأما مصونيته حين أخذ الرسول إياه وتلقيه من ملك الوحي بحيث يعرفه ولا يغلط في أخذه، ومصونيته في حفظه بحيث يعيه كما أوحي إليه من غير أن ينساه أو يغيره أو يبدله، ومصونيته في تبليغه إلى الناس من تصرف الشيطان فيه فالدليل عليه قوله: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} حيث يدل على أن الغرض الإلهي من سلوك الرصد أن يعلم إبلاغهم رسالات ربهم أي أن يتحقق في الخارج إبلاغ الوحي إلى الناس، ولازمه بلوغه إياهم ولولا مصونية الرسول في الجهات الثلاث المذكورة جميعا لم يتم الغرض الإلهي وهو ظاهر، وحيث لم يذكر تعالى للحصول على هذا الغرض طريقا غير سلوك الرصد دل ذلك على أن الوحي محروس بالملائكة وهو عند الرسول كما أنه محروس بهم في طريقه إلى الرسول حتى ينتهي إليه، ويؤكده قوله بعد: {وأحاط بما لديهم}.
وأما مصونيته في مسيره من الرسول حتى ينتهي إلى الناس فيكفي فيه قوله: {من بين يديه} على ما تقدم من معناه.
أضف إلى ذلك دلالة قوله: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} بما تقدم من تقريب دلالته.
ويتفرع على هذا البيان أن الرسول مؤيد بالعصمة في أخذ الوحي من ربه وفي حفظه وفي تبليغه إلى الناس مصون من الخطإ في الجهات الثلاث جميعا لما مر من دلالة الآية على أن ما نزله الله من دينه على الناس من طريق الرسالة بالوحي مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس ومن مراحله مرحلة أخذ الرسول للوحي وحفظه له وتبليغه إلى الناس.
والتبليغ يعم القول والفعل فإن في الفعل تبليغا كما في القول فالرسول معصوم من المعصية باقتراف المحرمات وترك الواجبات الدينية لأن في ذلك تبليغا لما يناقض الدين فهو معصوم من فعل المعصية كما أنه معصوم من الخطإ في أخذ الوحي وحفظه وتبليغه قولا.
وقد تقدمت الإشارة إلى أن النبوة كالرسالة في دورانها مدار الوحي فالنبي كالرسول في خاصة العصمة، ويتحصل بذلك أن أصحاب الوحي سواء كانوا رسلا أو أنبياء معصومون في أخذ الوحي وفي حفظ ما أوحي إليهم وفي تبليغه إلى الناس قولا وفعلا.
ورابعا: أن الذي استثني في الآية من الإظهار على الغيب إظهار الرسول على ما يتوقف عليه تحقق إبلاغ رسالته أعم من أن يكون متن الرسالة كالمعارف الاعتقادية وشرائع الدين والقصص والعبر والحكم والمواعظ أو يكون من آيات الرسالة والمعجزات الدالة على صدق الرسول في دعواه كالذي حكي عن بعض الرسل من الإخبار بالمغيبات كقول صالح لقومه: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] ، وقول عيسى لبني إسرائيل: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ} [آل عمران: 49] ، وكذا ما ورد من مواعد الرسل، وما ورد في الكتاب العزيز من الملاحم كل ذلك من إظهارهم على الغيب.
____________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص43-52.
قال مؤمنو الجن في الآية الاولى وهم يدعون إلى التوحيد: {وأنّ المساجد للّه فلا تدعوا مع اللّه أحداً} وللمساجد في هذه الآية تفاسير عديدة منها:
أوّلاً: قيل هي المواطن التي يُسجد فيها للّه تعالى كالمسجد الحرام وبقية المساجد، وبشكل أعم هي الأرض التي يصلّي فيها ويسجد عليها، وهو مصداق القول الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً».(2)
وهذا ردّ لمن اتّخذ الأصنام والأوثان للعبادة فأشرك باللّه، ومن اتّخذ الكعبة معبداً للأصنام، أو انصرف إلى إحياء الطقوس المسيحية حيث (التثليث) أو عبد الأرباب الثّلاثة في الكنائس واللّه تعالى يقول: {إنّ المساجد للّه فلا تدعوا مع اللّه أحداً}
ثانياً: المراد بالمساجد السبعة الأعضاء السبعة، فيجب أن يكون وضعها على الأرض خالصاً للّه، ولا يجوز أن يكون لغيره، كما ورد في الحديث عن الإمام محمّد بن علي الجواد(عليهما السلام) وهو يجيب المعتصم في مجلسه الذي كان قد جمع فيه العلماء من أهل السنة حيث سأله عن يد السارق من أي موضع يجب أن تقطع؟ فقال بعض الجالسين تقطع من الساعد واستدلوا في ذلك بآية التيمم، وقال آخرون من المرفق واستدلوا في ذلك بآية الوضوء، فأراد المعتصم جواب ذلك من الإمام الجواد(عليه السلام) فرفض وقال: «أعفني عن ذلك» فأصرّ عليه المعتصم.
فقال الإمام الجواد(عليه السلام): «ما قيل في ذلك خطأ، وإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أُصول الأصابع فتترك الكف». فقال: وما الحجّة في ذلك؟
قال الإمام(عليه السلام): «قول رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): السجود على سبعة أجزاء، الوجه، واليدين، والركبتين، والرجلين، فإذا قطع من الكرسوع أو المرفق لم يدع له يد يسجد عليه، وقال اللّه تعالى شأنه: {وإنّ المساجد للّه...} أي إنّ هذه الأعضاء السبعة خاصّة للّه، فما كان للّه لا يقطع»(3).
فتعجب المعتصم لجواب الإمام(عليه السلام) وأمر أن تقطع يد السارق من مفصل اُصول الأصابع، كما قال الإمام(عليه السلام) وذكرت في ذلك أحاديث كثيرة.(4)
ولكن الأحداث المنقولة بها الشأن هي مرسلة غالباً، أو أنّ سندها ضعيف، وهناك نقائض لها ليس من السهل الإجابة عليها، فمثلاً ما هو مشهور في أوساط الفقهاء أنّ السارق إذا ما سرق للمرّة الثّانية تقطع الأقسام الأمامية لقدمه، ويتركون كعب القدم سالماً (هذا بعد إقامة الحدّ عليه جزاء السرقة الاُولى) والواضح أنّ الأصبع الكبير للقدم يعتبر من المساجد السبعة، وكذا في شأن المحارب فإنّ إحدى عقوباته هو مقطع قسم من اليد والقدم.
ثالثاً: قيل إنّ المراد بالمساجد هو السّجود، أي أنّ السجود يجب أن يكون دائماً للّه تعالى ولا يكون لغيره، وهذا خلاف ظاهر الآية حيث لا دليل عليه.
ويستفاد من مجموع ما قيل أنّ ما يناسب ظاهر الآية هو التّفسير الأوّل، وكذا يناسب ظاهر الآيات السابقة واللاحقة في شأن التوحيد، وتخصيص العبادة للّه، والتّفسير الثّاني يمكن أن يكون موسعاً لمعنى الآية، وأمّا الثّالث فلا دليل عليه.
ويضيف في إدامة الآية بياناً عن التأثير غير العادي للقرآن المجيد وقيام الرّسول للدّعاء فيقول: {وأنّه لما قام عبد اللّه يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا}(5)، أي عندما كان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يقوم للصلاة، فإنّ طائفة من الجن كانوا يجتمعون عليه بشكل متزاحم.
«لبد»: على وزن (فِعَل) وتعني الأشياء المجتمعة المتراكمة، وهذا التّعبير بيان لتعجب الجنّ ممّا يشاهدونه من عبادته(صلى الله عليه وآله وسلم) وقراءته قرآناً لم يسمعوا كلاماً يماثله، وقيل في ذلك قولان آخران:
الأوّل: أنّهم ـ أي الجن ـ يبيّنون حال أصحاب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والمجتمعين عليه المقتدين به في صلاته إذا صلّى والمنصتين لما يتلوه كلام اللّه، والمراد من ذلك هو الإقتداء الجنّ بهم والإيمان في ذلك.
الثّاني: لبيان حال المشركين، أي لمّا قام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يعبد اللّه بالصلاة كاد المشركون بازدحامهم أن يكونوا عليه لبداً مجتمعين متراكمين ليستهزئوا به.
والوجه الأخير لا يلائم هدف مبلغي الجن الذين أرادوا ترغيب الآخرين في الإيمان والمناسب هو أحد القولين السابقين.
وقوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً(20) قُلْ إِنَّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرَّاً وَلاَ رَشَداً(21) قُلْ إِنِّى لَنْ يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً(22) إِلاَّ بَلَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَلَتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَداً (23)حَتَّى إِذا رَأَوْاْ مَا يُوعَدونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً}
الأُمور كلّها بيد اللّه لا بيدي:
في هذا الآيات يأمر اللّه تعالى نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول: {قل إنّما أدعوا ربّي ولا اُشرك به أحداً} وذلك لتقوية قواعد التوحيد، ونفي كلّ أنواع الشرك، كما مرّ في الآيات السابقة، ثمّ يأمره أن : {قل إنّي لا أملك لكم ضرّاً ولا رشداً}.
ثمّ يضيف: قل لهم بأنّي لو خالفت أمر اللّه تعالى فسوف يحيق بي العذاب أيضاً ولن يستطيع أحد أن ينصرني أو يدفع عنّي عذابه: {قل إنّي لن يجيرني من اللّه أحدٌ ولا أجد من دونه ملتحداً}(6) وعلى هذا الأساس لا يستطيع أحد أن يجيرني منه تعالى ولا شيء يمكنه أن يكون لي ملجأ وهذا الخطاب يشير من جهة إلى الإقرار الكامل بالعبودية للّه تعالى، وإلى نفي كلّ أنواع الغلو في شأن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)من جهة أُخرى، ويشير من جهة ثالثة إلى أنّه الأصنام ليس فقط لا تنفع ولا تحمي، بل إنّ نفس الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً مع ما له من العظمة لا يمكنه أن يكون ملجأ من عذاب اللّه، وينهى من جهة الذرائع والآمال للمعاندين الذين كانوا يطلبون من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يريهم المعاجز الإلهية، ويثبت أن التوسل والشفاعة أيضاً لا يتحققان إلاّ بإذنه تعالى.
«ملتحداً»: هو المكان الآمن وهومن أصل (لحد)، وتعني الحفرة المتطرفة، كالذي يُتّخذ للأموات في عمق القبر حتى لا ينهال التراب على وجه الميت ويطلق على كل مكان يُلجأ ويُطمأن إليه.
ومن الملاحظ أنّ الآية: {قل إنّي لا أملك لكم ضرّاً ولا رشداً} وقد جعلت الضرّ في قابل الرشد، لأنّ النفع الحقيقي يكمن في الهداية، كما في حديث الجن في الآيات السابقة إذ اتُّخِذ الشرّ في قبال الرشد، والإثنان متماثلان معاً.
ويضيف في الآية الأُخرى: {إلاّ بلاغاً من اللّه ورسالاته}(7)، وقد مرّ ما يشابه هذا التعبير مراراً في آيات القرآن الكريم، كما في الآية (92) من سورة المائدة: {إنّما على رسولنا البلاغ المبين}.
وكذا في الآية (188) من سورة لأعراف: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]
وقيل أيضاً في تفسير هذه الآية: إنّ المعنى: قل لن يجيرني من اللّه أحد إلاّ تبليغاً منه ومن رسالاته، أي إلاّ أن أمتثل ما أمرني به من التبليغ منه تعالى.(8)
وأمّا عن الفرق بين «البلاغ» و«الرسالات» فقد قيل: إنّ البلاغ يخص اُصول الدين، والرسالات تخصّ بيان فروع الدين.
وقيل المراد من إبلاغ الأوامر الإلهية، والرسالات بمعنى تنفيذ تلك الأوامر، ولكن الملاحظ أنّ الإثنين يرجعان إلى معنى واحد، بقرينة الآيات القرآنية المتعددة: وكقوله تعالى في الآية (62) سورة الأعراف فيقول: {اُبلغكم رسالات ربّي} وغيرها من الآيات، ويحذر في نهاية الآية فيقول: {ومن يعص اللّه ورسوله فإنّ له جهنم خالدين فيها أبداً}.
الواضح أنّ المراد فيها ليس كلّ العصاة، بل المشركون والكافرون لأنّ مطلق العصاة لا يخلدون في النّار.
ثمّ يضيف: {حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً}.(9)
وفي المراد من العذاب في : (ما يوعدون} هل هو العذب الدنيوي أم الاُخروي أم الإثنان معاً؟ ورد في ذلك أقوال، والأوجه هو أن يكون المعنى عامّاً، وفيما يخصّ الكثرة والقلّة والضعف والقوّة للأنصار فإنّه متعلق بالدنيا، ولذا فسّره البعض بأنّه يتعلق بواقعة بدر التي كانت قوّة وقدرة المسلمين فيها ظاهرة وواضحة وقيل حسب الرّوايات المتعددة أنّها تخصّ الإمام المهدي (أرواحنا فده) وإذا أردنا تفسير الآية بمعانيها فإنّها تشمل كلّ ذلك.
إضافة إلى ما جاء في الآية (75) من سورة مريم (عليها السلام}: {حتى إذا رأوا ما يوعدون إمّا العذاب وإمّا الساعة فسيعلمون من هو شرّ مكاناً وأضعف جنداً} وعلى كل حال فإنّ سياق هذه الآية يشير إلى أنّ أعداء الإسلام كانوا يتبججّون قدرات جيوشهم وكثرة جنودهم أمام المسلمين يستضعفونهم، الأنصار لهذا كان القرآن يواسيهم ويبشرهم بأنّ العاقبة ستكون بانتصارهم وخسران عدوهم.
وقوله تعالى : {قُلْ إِنْ أدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّى أَمَداً(25) عَلِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً(26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُول فَاِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَداً(27) لَيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسِلَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيء عَدَداً}:
اللّه عالم الغيب:
لقد تبيّن في الآيات السابقة حقيقة أنّ العصاة يبقون على عنادهم واستهزائهم حتى يأتي وعد اللّه بالعذاب، وهنا يطرح السؤال، وهو: متى يتحقق وعد اللّه؟ وقد بيّن المفسّرون سبب نزول الآية، وذكروا أنّ بعض المشركين كالنضر بن الحارث سألوا عن وعد اللّه بعد نزول هذه الآيات أيضاً، وقد أجاب القرآن على ذلك فقال: {قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربّي أمداً}.
هذا العلم يخص ذاته المقدسة تعالى شأنه، وأراد أن يبقى مكتوماً حتى عن عباده المؤمنين، ليتحقق الإختبار الإلهي للبشرية، وإلاّ فلم يؤثر الإختبار.
«أمد»: على وزن (صمد) وتعني الزمان، وعلى ما يقوله الراغب في مفرداته: إنّ هناك اختلافاً بين الزمان والأمد، فالزمان يشمل الإبتداء والإنتهاء، وأمّا الأمد فإنّها الغاية التي ينتهي إليها.
وقيل أيضاً بتقارب المعنى في الأمد والأبد مع اختلاف، وهو أنّ الأبد يراد به المدّة غير المحدودة، وأمّا الأمد فهي المدّة المحدودة وإن طالت.
وعلى كل حال، فإنّنا كثيراً ما نواجه مثل هذه المعاني في آيات القرآن، وعندما يسأل الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن يوم القيامة يجيب بأنّه ليس لهم علم بذلك، وأن علمه عند الله، وورد في حديث أنّ جبرئيل(عليه السلام) ظهر عند النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على هيئة أعرابي، فسأله عن الساعة، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» فأعاد عليه السؤال رافعاً صوته: يا محمّد متى الساعة؟ فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ويحك، إنّها كائنة فما أعددت لها؟» فقال الأعرابي: لم أعد كثيراً من الصلاة والصيام، ولكن أُحبّ اللّه ورسوله، فقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): «فأنت مع من أحببت»، فقال أنس (وهو أحد الصحابة): فما فرح المسلمون بشيء كفرحهم بهذا الحديث.(10)
ثمّ يبيّن في هذا الحديث قاعدة كلية بشأن علم الغيب فيقول: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً).(11)
ثمّ يضيف مستثنياً: {إلاّ من ارتضى من رسول}.
أي يبلغه ما يشاء عن طريق الوحي الإلهي: {فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً}.
«رصد»: في الأصل مصدر، ويراد به الإستعداد للمراقبة من شيء، ويطلق على الإسم الفاعل والمفعول، ويستعمل في المفرد والجمع، أي يطلق على المراقب والحارس أو على المراقبين والحرّس.
ويراد به هنا الملائكة الذين يبعثهم اللّه مع الوحي إلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)ليحيطوه من كل جانب، ويحفظوا الوحي من شرّ شياطين الجنّ والإنس ووساوسهم: ومن كل شيء يخدش أصالة الوحي، ليوصلوا الرسالات إلى العباد من دون خدش أو زيادة أو نقصان، وهذا هو دليل من الأدلة على عصمة الأنبياء(عليهم السلام) المحفوظين من الزّلات والخطايا بالإمداد الإلهي والقوّة الغيبية، والملائكة.
في بحثنا للآية الأخيرة التي تنهي السورة تبيان لدليل وجود الحراس والمراقبين فيقول: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم وأحاط لما لديهم وأحصى كل شيء عدداً}(12).
المراد من العلم هنا هو العلم الفعلي، وبعبارة أُخرى ليس معنى الآية أنّ اللّه ما كان يعلم عن أنبيائه شيئاً ثمّ علم، لأنّ العلم الإلهي أزلي وأبدي وغير منتاه، بل إنّ المراد هو تحقق العلم الإلهي في الخارج، ويتخذ لنفسه صورة عينية واضحة، أي ليتحقق إبلاغ الأنبياء ورسالات ربّهم ويتمموا الحجّة بذلك.
__________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص493-504.
2 ـ وسائل الشيعة، ج2، ص970، الحديث 3.
3 ـ وسائل الشيعة، ج18، ص490 (أبواب حدّ السرقة الباب الرّابع الحديث 5).
4 ـ نور الثقلين، ج5، ص439 و440
5 ـ ما يطابق هذا التّفسير وكون هذه الآية من حديث مؤمني الجنّ فإنّ إتيان الضمير الغائب بدل المتكلم هومن باب الإلتفات، أومن باب أنّ بعضهم يبيّن حال البعض الآخر.
6 ـ قيل في سبب نزول هذا الآية: إنّ كفار قريش قالوا للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عُد إلى ديننا لنجيرك فنزلت الآية جواباً على قولهم (تفسير أبو الفتوح الرازي، ج11، ص293).
7 ـ بما أنّ البلاغ يتعدى بـ (عن) فقد قال البعض: إنّ (من) بمعنى (عن) ويتعلق بمحذوف تقديره (كائناً) فيكون المعنى (إلاّ بلاغاً كائناً من اللّه).
8 ـ هذه الجملة مستثناة من الجملة السابقة (لن أجد من دونه ملتحدا) حسب هذا التّفسير ومستثناة من الآية السابقة حسب التّفسير الأوّل.
9 ـ «متى»: تأتي عادة لبيان الغاية والنهاية للشيء وقيل في ذلك وجهان:
الأوّل: إنّ الغاية جملة محذوفة وتقديرها (ولا يزالون يستهزؤن ويستضعفون المؤمنين حتى إذا رأوا ما يوعدون...).
الثّاني: إنّ الغاية هي للآية (يكونون على لبداً} والتي مرّت سابقاً، والأوّل أوجه.
10 ـ تفسير المراغي، ج29، ص105.
11 ـ عالم الغيب خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هو عالم الغيب، وقيل: صفة أو بدل لربّي في الآية السابقة.
12 ـ أرجع بعض المفسّرين ضمير (ليعلم) إلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: المراد من ذلك هو أنّ اللّه قد جعل لأسرار الوحي والرسالة حفظة وحراساً، وليعلم الرّسول أنّ الملائكة قد أبلغوا إليه الوحي الإلهي فتطمئن نفسه ولا يتردد في أصالة الوحي، ولكن هذا القول في غاية البعد، وذلك لأنّ حمل الرسالة من عمل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا من عمل الملائكة وعبارة الرّسول في الآية السابقة والرسالات في الآيات التي مضت تخصّ شخص الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذا فإنّ التّفسير الأوّل هو الأوجه.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
قسم التربية والتعليم يكرّم الطلبة الأوائل في المراحل المنتهية
|
|
|