المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17615 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
دين الله ولاية المهدي
2024-11-02
الميثاق على الانبياء الايمان والنصرة
2024-11-02
ما ادعى نبي قط الربوبية
2024-11-02
وقت العشاء
2024-11-02
نوافل شهر رمضان
2024-11-02
مواقيت الصلاة
2024-11-02

الات مقاومة الحشائش باللهب
21-2-2018
أنواع الإعراب
16-8-2020
دور اقتصاد المعرفة في تحقيق النمو الاقتصادي
10-6-2022
سياسة عثمان الماليّة
22-3-2016
وقت الشهـادة في الـزواج
27-4-2019
Chromatid
4-11-2017


تفسير آية (116-118) من سورة المائدة  
  
15620   03:46 مساءً   التاريخ: 20-10-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الميم / سورة المائدة /

قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة : 116 - 118].

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي  في تفسير هذه الآيات (1) :

عطف سبحانه على ما تقدم من أمر المسيح فقال {وإذ قال الله} والمعنى : إذ يقول الله يوم القيامة لعيسى {يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} هذا ، وإن خرج مخرج الاستفهام ، فهو تقريع وتهديد لمن ادعى ذلك عليه من النصارى ، كما جرى في العرف بين الناس أن من ادعى على غيره قولا ، فيقال لذلك الغير بين يدي المدعى عليه ذلك القول أأنت قلت هذا القول ، ليقول : لا . فيكون ذلك استعظاما لذلك القول ، وتكذيبا لقائله .

وذكر فيه وجه آخر وهو : أن يكون تعالى أراد بهذا القول تعريف عيسى أن قوما قد اعتقدوا فيه ، وفي أمه ، أنهما إلهان ، لأنه يمكن أن يكون عيسى لم يعرف ذلك إلا في تلك الحال ، عن البلخي . والأول أصح .

وقد اعترض على قوله : إلهين ، فقيل : لا يعلم في النصارى من اتخذ مريم إلها ؟ والجواب عنه من وجوه أحدها : إنهم لما جعلوا المسيح إلها ، لزمهم أن يجعلوا والدته أيضا إلها ، لان الولد يكون من جنس الوالدة ، فهذا على طريق الإلزام لهم .

والثاني : إنهم لما عظموهما تعظيم الآلهة ، أطلق اسم الآلهة عليهما ، كما أطلق اسم الرب على الرهبان والأحبار في قوله {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} لما عظموهم تعظيم الرب والثالث : إنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك ، ويعضد هذا القول ما حكاه الشيخ أبو جعفر ، عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم المريمية ، يعتقدون في مريم أنها إله ، فعلى هذا يكون القول فيه كالقول في الحكاية عن اليهود وقولهم عزير ابن الله .

{قال} يعني : عيسى {سبحانك} جل جلالك ، وعظمت ، وتعاليت ، عن عطاء . وقيل : معناه تنزيها لك ، وبراءة مما لا يجوز عليك . وقيل : تنزيها لك من أن تبعث رسولا يدعي إلهية لنفسه ، ويكفر بنعمتك ، فجمع بين التوحيد والعدل ، ثم تبرأ من قول النصارى ، فقال : {ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} أي : لا يجوز لي أن أقول لنفسي ما لا يحق لي ، فأمر الناس بعبادتي ، وأنا عبد مثلهم ، وإنما تحق العبادة لك لقدرتك على أصول النعم .

ثم استشهد الله تعالى على براءته من ذلك القول فقال {إن كنت قلته فقد علمته} يريد أني لم أقله ، لأني لو كنت قلته لما خفي عليك ، لأنك علام الغيوب {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} أي : تعلم غيبي وسري ، ولا أعلم غيبك وسرك ، عن ابن عباس . وإنما ذكر النفس لمزاوجة الكلام ، والعادة جارية بأن الانسان يسر في نفسه ، فصار قوله {ما في نفسي} عبارة عن الإخفاء ، ثم قال : {ما في نفسك} على جهة المقابلة ، وإلا فالله منزه عن أن يكون له نفس ، أو قلب ، تحل فيه المعاني ، ويقوي هذا التأويل قوله تعالى {إنك أنت علام الغيوب} لأنه علل علمه بما في نفس عيسى ، بأنه علام الغيوب ، وعيسى ليس كذلك ، فلذلك لم يعلم ما يختص الله بعلمه .

ثم قال حكاية عن عيسى في جواب ما قرره تعالى عليه : {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم} أي : لم أقل للناس إلا ما أمرتني به من الإقرار لك بالعبودية ، وإنك ربي وربهم ، وإلهي وإلههم ، وأمرتهم أن يعبدوك وحدك ، ولا يشركوا معك غيرك في العبادة {وكنت عليهم شهيدا} أي : شاهدا {ما دمت} حيا {فيهم} بما شاهدته منهم ، وعلمته ، وبما أبلغتهم من رسالتك التي حملتنيها ، وأمرتني بأدائها إليهم .

{فلما توفيتني} أي : قبضتني إليك ، وأمتني ، عن الجبائي . وقيل : معناه وفاة الرفع إلى السماء ، عن الحسن {كنت أنت الرقيب} أي : الحفيظ {عليهم} عن السدي ، وقتادة . {وأنت على كل شيء شهيد} أي : أنت عالم بجميع الأشياء ، لا تخفى عليك خافية ، ولا يغيب عنك شيء . قال الجبائي : وفي هذه الآية دلالة على أنه أمات عيسى وتوفاه ، ثم رفعه إليه لأنه بين أنه كان شهيدا عليهم ما دام فيهم ، فلما توفاه الله كان هو الشهيد عليهم ، وهذا ضعيف لان التوفي لا يستفاد من إطلاقه الموت ألا ترى إلى قوله {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} فبين أنه تعالى يتوفى الأنفس التي لم تمت .

{إن تعذبهم فإنهم عبادك} لا يقدرون على دفع شيء من أنفسهم {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} في هذا تسليم الأمر لمالكه ، وتفويض إلى مدبره ، وتبرؤ من أن يكون إليه شيء من أمور قومه ، كما يقول الواحد منا إذا تبرأ من تدبير أمر من الأمور ، ويريد تفويضه إلى غيره : هذا الأمر لا مدخل لي فيه ، فإن شئت فافعله ، وإن شئت فاتركه ، مع علمه وقطعه على أن أحد الأمرين لا يكون منه .

وقيل : إن المعنى إن تعذبهم فبإقامتهم على كفرهم ، وإن تغفر لهم فبتوبة كانت منهم عن الحسن ، فكأنه اشترط التوبة ، وإن لم يكن الشرط ظاهرا في الكلام ، وإنما لم يقل فإنك أنت الغفور الرحيم ، لان الكلام لم يخرج مخرج السؤال ، ولو قال ذلك لأوهم الدعاء لهم بالمغفرة ، على أن قوله {العزيز الحكيم} أبلغ في المعنى ، وذلك أن المغفرة قد تكون حكمة ، وقد لا تكون ، والوصف بالعزيز الحكيم ، يشتمل على معنى الغفران والرحمة ، إذا كانا صوابين ، ويزيد عليهما باستيفاء معان كثيرة ، لان العزيز هو المنيع القادر ، الذي لا يضام ، والقاهر الذي لا يرام . وهذا المعنى لا يفهم من الغفور الرحيم ، والحكيم هو الذي يضع الأشياء مواضعها ، ولا يفعل إلا الحسن الجميل . فالمغفرة والرحمة إن اقتضتهما الحكمة ، دخلتا فيه ، وزاد معنى هذا اللفظ عليهما ، من حيث اقتضى وصفه بالحكمة في سائر أفعاله .

_____________________________

1. تفسير  مجمع البيان ، ج3 ، ص 459-461 .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هذه الآيات (1) :

{إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ولا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} . استشهد على براءته من شركهم بعلم اللَّه ، وكفى به شاهدا .

{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} . جاء في إنجيل متى الفصل الرابع ما نصه بالحرف :

« حينئذ خرج يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس ، فصام أربعين يوما وأربعين ليلة ، وأخيرا جاع فدنا إليه المجرب - أي إبليس - قائلا ان كنت ابن الرب فمر أن تصير هذه الحجارة خبزا ، فأجاب قائلا مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم اللَّه ، حينئذ أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأقامه على جناح الهيكل وقال له : ان كنت ابن اللَّه فألق بنفسك إلى أسفل لأنه مكتوب انه يوصي ملائكته بك فتحملك على أيديها لئلا تصدم بحجر رجلك فقال له يسوع : مكتوب أيضا لا تجرّب الرب إلهك ، فأخذه إبليس أيضا إلى جبل عال جدا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها ، وقال له : أعطيك هذه كلها ان خررت ساجدا لي ، حينئذ قال له يسوع : اذهب يا شيطان » .

هل يصوم الإله ؟ ولمن يصوم ؟ وهل يجوع ، وهو الرزاق ؟ وكيف يجربه إبليس ، وهو علَّام الغيوب ؟ وكيف استطاع حمله ينتقل به من جبل إلى جبل وهو خالقه ، وخالق الكون بكامله ؟ .

 {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . جاء في بعض التفاسير ان قول عيسى ( عليه السلام ) للَّه جل وعز : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} يومئ إلى أن عيسى طلب لهم من اللَّه المغفرة بتأدب ورجاء ، لأن قوله : فإنهم عبادك ، يتضمن هذا الطلب ، تماما كما تقول لمن أراد القسوة على ولده : انه ولدك . أي ارفق به . . ولكن بعض المتزمتين أبى إلا أن يتمحل ويقول : « ان المعنى ان تغفر لهم بالتوبة » .

ونجيب هذا القائل بأن المغفرة مع التوبة لا تحتاج إلى شفاعة ووساطة ، لأن اللَّه قد كتبها على نفسه لكل تائب . . ثم أي مانع يمنع عيسى ومحمدا أن يطلبا من اللَّه الرحمة والمغفرة لعباده ، فقد طلبها إبراهيم من قبل لمن عصاه : {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ومَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم - 36] . هذا ، إلى أن العفو عن المسيء حسن على كل حال : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف - 32] .

____________________________

1. تفسير  الكاشف ، ج3 ، ص 151-152 .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي  في تفسير هذه الآيات (1) :

قوله تعالى : {وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ} {إِذْ} ظرف متعلق بمحذوف يدل عليه المقام ، والمراد به يوم القيامة لقوله تعالى فيها : {قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} وقول عيسى عليه‌ السلام فيها {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}.

وقد عبرت الآية عن مريم بالأمومة فقيل : {اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ} دون أن يقال : {اتخذوني ومريم إلهين للدلالة على عمدة حجتهم في الألوهية وهو ولادته منها بغير أب ، فالبنوة والأمومة الكذائيتين هما الأصل في ذلك فالتعبير به وبأمه أدل وأبلغ من التعبير بعيسى ومريم.

و {دُونِ} كلمة تستعمل بحسب المال في معنى الغير ، قال الراغب : يقال للقاصر عن الشيء {دون} قال بعضهم : هومقلوب من الدنو ، والأدون الدني ، وقوله تعالى : {لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ} أي من لم يبلغ منزلتكم في الديانة ، وقيل : في القرابة ، وقوله : {وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ} أي ما كان أقل من ذلك ، وقيل : ما سوى ذلك ، والمعنيان متلازمان ، وقوله : {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ} أي غير الله ، انتهى.

وقد استعمل لفظ {مِنْ دُونِ اللهِ} كثيرا في القرآن في معنى الإشراك دون الاستقلال بمعنى أن المراد من اتخاذ إله أو إلهين أو آلهة من دون الله هو أن يتخذ غير الله شريكا لله سبحانه في ألوهيته لا أن يتخذ غير الله إلها وتنفي ألوهية الله سبحانه فإن ذلك من لغو القول الذي لا يرجع إلى محصل فإن الذي أثبته حينئذ يكون هو الإله سبحانه وينفي غيره ، ويعود النزاع إلى بعض الأوصاف التي أثبتها فمثلا لو قال قائل : (إن الإله هو المسيح ونفى إله المسيح عاد مفاد كلامه إلى إثبات الإله تعالى وتوصيفه بصفات المسيح البشرية ، ولو قال قائل : إن الأصنام أو أرباب الأصنام آلهة ونفى الله تعالى وتقدس فإنه يقول بأن للعالم إلها فقد أثبت الله سبحانه لكنه نعته بنعت الكثرة والتعدد فقد جعل لله شركاء ، أو يقول كما يقوله النصارى : {إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ} أي واحد هو ثلاث وثلاث هو واحد .

ومن قال : إن مبدأ العالم هو الدهر أو الطبيعة ونفى أن يكون للعالم إله تعالى عن ذلك فقد أثبت للعالم صانعا وهو الله عز اسمه لكنه نعته بنعوت القصور والنقص والإمكان .

ومن نفى أن يكون لهذا النظام العجيب مبدأ أصلا ونفى العلية والتأثير على الرغم من صريح ما تقضي به فطرته فقد أثبت عالما موجودا ثابتا لا يقبل النفي والانعدام من رأس أي هو واجب الثبوت وحافظ ثبوته ووجوده إما نفسه وليس لطرو الزوال والتغير إلى أجزائه ، وإما غيره فهو الله تبارك وتعالى ، وله نعوت كماله.

فتبين أن الله سبحانه لا يقبل النفي أصلا إلا بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى معقول.

والملاك في ذلك كله أن الإنسان إنما يثبت الإله تعالى من جهة الحاجة العامة في العالم إلى من يقيم أود وجوده ويدبر أمر نظامه ثم يثبت خصوصيات وجوده فما أثبته من شيء لسد هذه الخلة ورفع تلك الحاجة فهو الله سبحانه ثم إذا أثبت إلها غيره أو أثبت كثرة فإما أن يكون قد أخطأ في تشخيص صفاته وألحد في أسمائه ، أو يثبت له شريكا أو شركاء تعالى عن ذلك ، وأما نفيه وإثبات غيره فلا معنى له.

فظهر أن معنى قوله : {إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ} شريكين لله هما من غيره ، وإن سلم أن الكلمة لا تؤدي معنى الشركة بوجه ، قلنا : إن معناها لا يتعدى اتخاذ إلهين هما من سنخ غير الله سبحانه وأما كون ذلك مقارنا لنفي ألوهيته تعالى أو إثباتها فهو مسكوت عنه لا يدل عليه لفظ وإنما يعلم من خارج ، والنصارى لا ينفون ألوهيته تعالى مع اتخاذهم المسيح وأمه إلهين من دون الله سبحانه.

وربما استشكل بعضهم الآية بأن النصارى غير قائلين بألوهية مريم العذراء (عليها السلام) ، وذكروا في توجيهها وجوها.

لكن الذي يجب أن يتنبه عليه أن الآية إنما ذكرت اتخاذهم إياها إلهة ولم يذكر قولهم بأنها إلهة بمعنى التسمية ، واتخاذ الإله غير القول بالألوهية إلا من باب الالتزام ، واتخاذ الإله يصدق بالعبادة والخضوع العبودي قال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ} : الجاثية : 23 وهذا المعنى مأثور عن أسلاف النصارى مشهود في أخلافهم.

قال الآلوسي في روح المعاني ، : إن أبا جعفر الإمامي حكى عن بعض النصارى أنه كان فيما مضى قوم يقال لهم : (المريمية) يعتقدون في مريم أنها إله.

وقال في تفسير المنار ، : أما اتخاذهم المسيح إلها فقد تقدم في مواضع من تفسير هذه السورة ، وأما أمه فعبادتها كانت متفقا عليها في الكنائس الشرقية والغربية بعد قسطنطين ، ثم أنكرت عبادتها فرقة البروتستانت التي حدثت بعد الإسلام بعدة قرون (2) .

إن هذه العبادة التي توجهها النصارى إلى مريم والدة المسيح (عليه ‌السلام) منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء واستغاثة واستشفاع ، ومنها صيام ينسب إليها ويسمى باسمها ، وكل ذلك يقرن بالخضوع والخشوع لذكرها ولصورها وتماثيلها ، واعتقاد السلطة الغيبية لها التي يمكنها بها في اعتقادهم أن تنفع وتضر في الدنيا والآخرة بنفسها أو بواسطة ابنها ، وقد صرحوا بوجوب العبادة لها ، ولكن لا يعرف عن فرقة من فرقهم إطلاق كلمة (إله) عليها بل يسمونها (والدة الإله) ويصرح بعض فرقهم أن ذلك حقيقة لا مجاز .

والقرآن يقول هنا : إنهم اتخذوها وأمها إلهين ، والاتخاذ غير التسمية فهو يصدق بالعبادة وهي واقعة قطعا ، وبين في آية أخرى أنهم قالوا : إن الله هو المسيح عيسى بن مريم ، وذلك معنى آخر ، وقد فسر النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله قوله تعالى في أهل الكتاب : {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ} أنهم اتبعوهم فيما يحلون ويحرمون لا أنهم سموهم أربابا.

وأول نص صريح رأيته في عبادة النصارى لمريم عبادة حقيقية ما في كتاب (السواعي) من كتب الروم الأرثوذكس ، وقد اطلعت على هذا الكتاب في دير يسمى (دير التلميد) وأنا في أول العهد بمعاهد التعليم ، وطوائف الكاثوليك يصرحون بذلك ويفاخرون به.

وقد زين الجزويت في بيروت العدد التاسع من السنة السابعة لمجلتهم (المشرق) بصورتها وبالنقوش الملونة إذ جعلوه تذكارا لمرور خمسين سنة على إعلان البابا بيوس التاسع : أن مريم البتول حبل بها بلا دنس الخطية} وأثبتوا في هذا العدد عبادة الكنائس الشرقية لمريم كالكنائس الغربية.

ومنه قول الأب {لويس شيخو} في مقالة له فيه عن الكنائس الشرقية : (أن تعبد الكنيسة الأرمنية للبتول الطاهرة أم الله لأمر مشهور) وقوله (قد امتازت الكنيسة القبطية بعبادتها للبتولة المغبوطة أم الله) انتهى كلامه.

ونقل أيضا بعض مقالة للأب {إنستاس الكرملي} نشرت في العدد الرابع عشر من السنة الخامسة من مجلة المشرق الكاثوليكية البيروتية قال تحت عنوان قدم (التعبد للعذراء} بعد ذكر عبارة سفر التكوين في عداوة الحية للمرأة ونسلها وتفسير المرأة بالعذراء : (ألا ترى أنك لا ترى من هذا النص شيئا ينوه بالعذراء تنويها جليا إلى أن جاء ذلك النبي العظيم (إيليا) الحي فأبرز عبادة العذراء من حيز الرمز والإبهام إلى عالم الصراحة والتبيان) .

ثم فسر هذه الصراحة والتبيان بما في سفر الملوك الثالث (بحسب تقسيم الكاثوليك) من أن إيليا حين كان مع غلامه في رأس الكرمل أمره سبع مرات أن يتطلع نحو البحر فأخبره الغلام بعد تطلعه المرة السابعة : أنه رأى سحابة قدر راحة الرجل طالعة من البحر.

قال صاحب المقالة : فمن ذلك النشئ (أول ما ينشأ من السحاب) (3) قلت : إن هو إلا صورة مريم على ما أحقه المفسرون بل وصورة الحبل بلا دنس أصلي ، ثم قال : هذا أصل عبادة العذراء في الشرق العزيز ، وهو يرتقي إلى المائة العاشرة قبل المسيح ، والفضل في ذلك عائد إلى هذا النبي إيليا العظيم ، ثم قال : ولذلك كان أجداد الكرمليين أول من آمن أيضا بالإله يسوع بعد الرسل والتلامذة ، وأول من أقام للعذراء معبدا بعد انتقالها إلى السماء بالنفس والجسد ، انتهى. (4)

قوله تعالى : {قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} إلى آخر الآية هذه الآية والتي تتلوها جواب المسيح عيسى بن مريم عليه‌ السلام عما سئل عنه وقد أتى عليه‌ السلام فيه بأدب عجيب.

فبدأ بتسبيحه تعالى لما فاجأه أن سمع ذكر ما لا يليق نسبته إلى ساحة الجلال والعظمة وهو اتخاذ الناس إلهين من دون الله شريكين له سبحانه فمن أدب العبودية أن يسبح العبد ربه إذا سمع ما لا ينبغي أن يسمع فيه تعالى أو ما يخطر بالبال تصور ذلك ، وعليه جرى التأديب الإلهي في كلامه كقوله : {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ} [ الأنبياء : 26] وقوله : {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ} [ النحل : 57] .

ثم عاد إلى نفي ما استفهم عن انتسابه إليه ، وهو أن يكون قد قال للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ، ولم ينفه بنفسه بل بنفي سببه مبالغة في التنزيه فلو قال : (لم أقل ذلك أو لم أفعل) لكان فيه إيماء إلى إمكان وقوعه منه لكنه لم يفعل ، لكن إذا نفاه بنفي سببه فقال : {ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} كان ذلك نفيا لما يتوقف عليه ذلك القول ، وهو أن يكون له أن يقول ذلك حقا فنفي هذا الحق نفي ما يتفرع عليه بنحو أبلغ نظير ما إذ قال المولى لعبده : لم فعلت ما لم آمرك أن تفعله ؟ فإن أجاب العبد بقوله : (لم أفعل) كان نفيا لما هو في مظنة الوقوع ، وإن قال : (أنا أعجز من ذلك) كان نفيا بنفي السبب وهو القدرة ، وإنكارا لأصل إمكانه فضلا عن الوقوع.

وقوله : {ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} إن كان لفظ {يَكُونُ} ناقصة فاسمها قوله : {أَنْ أَقُولَ} وخبرها قوله : {لِي} واللام للملك ، والمعنى : ما أملك ما لم أملكه وليس من حقي القول بغير حق ، وإن كانت تامة فلفظ {لِي} متعلق بها وقوله : {أَنْ أَقُولَ} ، إلخ فاعلها ، والمعنى : ما يقع لي القول بغير حق ، والأول من الوجهين أقرب ، وعلى أي حال يفيد الكلام نفي الفعل بنفي سببه .

وقوله عليه‌ السلام : {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} نفي آخر للقول المستفهم عنه لا نفيا لنفسه بنفسه بل بنفي لازمه فإن لازم وقوع هذا القول أن يعلم به الله لأنه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو القائم على كل نفس بما كسبت ، المحيط بكل شيء.

وهذا الكلام منه عليه‌ السلام يتضمن أولا فائدة إلقاء القول مع الدليل من غير أن يكتفي بالدعوى المجردة ؛ وثانيا الإشعار بأن الذي كان يعتبره في أفعاله وأقواله هو علم الله سبحانه من غير أن يعبأ بغيره من خلقه علموا أو جهلوا ، فلا شأن له معهم.

وبلفظ آخر السؤال إنما يصح طبعا في ما كان مظنة الجهل فيراد به نفي الجهل وإفادة العلم ، إما لنفس السائل إذا كان هو الجاهل بواقع الأمر ، أو لغيره إذا كان السائل عالما وأراد أن يعلم غيره بما يعلم هو من واقع الأمر كما يحمل عليه نوع السؤال الواقع في كلامه تعالى ، وقوله عليه‌ السلام في الجواب في مثل المقام (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} إرجاع للأمر إلى علمه تعالى وإشعار أنه لا يعتبر شيئا في أفعاله وأقواله غير علمه تعالى .

ثم أشار بقوله : {تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ليكون تنزيها لعلمه تعالى عن مخالطة الجهل إياه وهو وإن كان ثناء أيضا في نفسه لكنه غير مقصود لأن المقام ليس بمقام الثناء بل مقام التبري عن انتساب ما نسب إليه.

فقوله عليه‌ السلام : {تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي} توضيح لنفوذ العلم الذي ذكره في قوله : {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} وبيان أن علمه تعالى بأعمالنا وهو الملك الحق يومئذ ليس من قبيل علم الملوك منا بأحوال رعيته بارتفاع أخبار المملكة إليه ليعلم بشيء ويجهل بشيء ، ويستحضر حال بعض ويغفل عن حال بعض ، بل هو سبحانه لطيف خبير بكل شيء ومنها نفس عيسى بن مريم بخصوصه.

ومع ذلك لم يستوف حق البيان في وصف علمه تعالى فإنه سبحانه يعلم كل شيء ، لا كعلم أحدنا بحال الآخر وعلم الآخر بحاله ، بل يعلم ما يعلم بالإحاطة به من غير أن يحيط به شيء ولا يحيطون به علما فهو تعالى إله غير محدود وكل من سواه محدود مقدر لا يتعدى طور نفسه المحدود ، ولذلك ضم عليه‌ السلام إلى الجملة جملة أخرى فقال : {تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ}.

أما قوله : {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ففيه بيان العلة لقوله : {تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي} (إلخ) ، وفيه استيفاء حق البيان من جهة أخرى وهو رفع توهم أن حكم العلم في قوله : {تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ} مقصور بما بينه وبين ربه لا يطرد في كل شيء فبين بقوله : {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} أن العلم التام بجميع الغيوب منحصر فيه فما كان عند شيء من الأشياء وهو غيب عن غيره فهو معلوم لله سبحانه وهو محيط به .

ولازم ذلك أن لا يعلم شيء من الأشياء بغيبه تعالى ولا بغيب غيره الذي هو تعالى عالم به لأنه مخلوق محدود لا يتعدى طور نفسه فهو علام جميع الغيوب ، ولا يعلم شيء غيره تعالى بشيء من الغيوب لا الكل ولا البعض.

على أنه لو أحيط من غيبه تعالى بشيء فإن أحاط تعالى به لم يكن هذا المحيط محيطا حقيقة بل محاطا له تعالى ملكه الله بمشيئته أن يحيط بشيء من ملكه من غير أن يخرج بذلك من ملكه كما قال تعالى : {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ} [ البقرة : 255] .

وإن لم يحط سبحانه تعالى بما أحاط به كان مضروبا بحد فكان مخلوقا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

قوله تعالى : {ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} لما نفى عليه‌ السلام القول المسئول عنه عن نفسه بنفي سببه أولا نفاه ببيان وظيفته التي لم يتعدها ثانيا فقال : {ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ} (إلخ) ، وأتى فيه بالحصر بطريق النفي والإثبات ليدل على الجواب بنفي ما سئل عنه وهو القول : {اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ}.

وفسر ما أمره به ربه من القول بقوله : {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ} ثم وصف الله سبحانه بقوله : {رَبِّي وَرَبَّكُمْ} لئلا يبقى أدنى شائبة من الوهم في أنه عبد رسول يدعو إلى الله ربه ورب جميع الناس وحده لا شريك له.

وعلى هذه الصراحة كان يسلك عيسى بن مريم عليه‌ السلام في دعوته ما دعاهم إلى التوحيد على ما يحكي عنه القرآن الشريف ، قال تعالى حكاية عنه : {إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} [ الزخرف : 64] وقال : {وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} [ مريم : 36] .

قوله تعالى : {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ثم ذكر عليه‌ السلام وظيفته الثانية من جانب الله سبحانه وهو الشهادة على أعمال أمته كما قال تعالى : {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} [النساء : 159] .

يقول عليه‌ السلام ما كان لي من الوظيفة فيهم إلا الرسالة إليهم والشهادة على أعمالهم : أما الرسالة فقد أديتها على أصرح ما يمكن ، وأما الشهادة فقد كنت عليها ما دمت فيهم ، ولم أتعد ما رسمت لي من الوظيفة فأنا براء من أن أكون ألقي إليهم أن اتخذوني وأمي إلهين من دون الله.

وقوله : {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} الرقوب والرقابة هو الحفظ ، والمراد به في المقام بدلالة السياق هو الحفظ على الأعمال ، وكأنه أبدل الشهيد من الرقيب احترازا عن تكرر اللفظ بالنظر إلى قوله بعد : {وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ، ولا نكتة تستدعي الإتيان بلفظ (الشهيد) ثانيا بالخصوص .

واللفظ أعني قوله : {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} يدل على الحصر ، ولازمه أنه تعالى كان شهيدا ما دام عيسى عليه‌ السلام شهيدا وشهيدا بعده ؛ فشهادته عليه‌ السلام كانت وساطة في الشهادة لا شهادة مستقلة على حد سائر التدبيرات الإلهية التي وكل عليها بعض عباده ثم هو على كل شيء وكيل كالرزق والإحياء والإماتة والحفظ والدعوة والهداية وغيرها ، والآيات الشريفة في ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها.

ولذلك عقب عليه‌ السلام قوله : {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} بقوله : {وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ليدل بذلك على أن الشهادة على أعمال أمته التي كان يتصداها ما دام فيهم كانت حصة يسيرة من الشهادة العامة المطلقة التي هي شهادة الله سبحانه على شيء فإنه تعالى شهيد على أعيان الأشياء وعلى أفعالها التي منها أعمال عباده ، التي منها أعمال أمة عيسى ما دام فيهم وبعد توفيه ، وهو تعالى شهيد مع الشهداء وشهيد بدونهم .

ومن هنا يظهر أن الحصر صادق في حقه تعالى مع قيام الشهداء على شهادتهم فإنه (عليه ‌السلام) حصر الشهادة بعد توفيه في الله سبحانه مع أن لله بعده شهداء من عباده ورسله وهو (عليه ‌السلام) يعلم ذلك.

ومن الدليل على ذلك بشارته عليه‌ السلام بمجيء النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله ـ على ما يحكيه القرآن ـ بقوله : {يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [ الصف : 6 ] وقد نص القرآن على كون النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله من الشهداء قال تعالى : {وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} [ النساء : 41] .

على أن الله سبحانه حكى عنه هذا الحصر : {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} ولم يرده بالإبطال فالله سبحانه هو الشهيد لا غير مع وجود كل شهيد أي إن حقيقة الشهادة هي لله سبحانه كما أن حقيقة كل كمال وخير هو لله سبحانه ، وأن ما يملكه غيره من كمال أو خير أو حسن فإنما هو بتمليكه تعالى من غير أن يستلزم هذا التمليك انعزاله تعالى عن الملك ولا زوال ملكه وبطلانه ، وعليك بالتدبر في أطراف ما ذكرناه.

فبان بما أورده من بيان حاله المحكي عنه في الآيتين أنه بريء مما قاله الناس في حقه وأن لا عهدة عليه فيما فعلوه ، ولذلك ختم (عليه ‌السلام) كلامه بقوله : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ} إلى آخر الآية.

قوله تعالى : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} لما اتضح بما أقام (عليه ‌السلام) من الحجة أن لم يكن له من الوظيفة بالنسبة إلى الناس إلا أداء الرسالة والقيام بأمر الشهادة ، وأنه لم يشتغل فيهم إلا بذلك ولم يتعده إلى ما ليس له بحق فهو غير مسئول عما تفوهوا به من كلمة الكفر ، بان أنه (عليه ‌السلام) بمعزل عن الحكم الإلهي المتعلق بهم فيما بينهم وبين ربهم ، ولذلك استأنف الكلام ثانيا فقال من غير وصل وتفريع : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} ، إلخ .

فالآية كالصالحة لأن يوضع موضع البيان السابق ، ومفادها أنه لا عهدة علي فيما وقعوا فيه من الشرك الشنيع ، ولم أداخل أمرهم في شيء حتى أشاركهم فيما بينك وبينهم من الحكم عليهم بما شئت فهم وحكمك في حقهم بما أردت ، وهم وصنعك فيهم بما صنعت ، إن تعذبهم بما حكمت فيمن أشرك بك بدخول النار فإنهم عبادك ، وإليك تدبير أمرهم ، ولك أن تسخط عليهم به لأنك المولى الحق وإلى المولى أمر عباده ، وأن تغفر لهم بإمحاء أثر هذا الظلم العظيم فإنك أنت العزيز الحكيم لك حق العزة والحكمة ، وللعزيز (وهو الذي له من الجدة والقدرة ما ليس لغيره) ولا سيما إذا كان حكيما (لا يقدم على أمر إلا إذا كان مما ينبغي أن يقدم عليه) أن يغفر الظلم العظيم فإن العزة والحكمة إذا اعتنقتا في فاعل لم تدعا قدرة تقوم عليه ولا مغمضة في ما قضى به من أمر.

وبما تقدم من البيان ظهر أولا : أن قوله : {فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ} بمنزلة أن يقال : (فإنك مولاهم الحق) على ما هو دأب القرآن من ذكر أسماء الله بعد ذكر أفعاله كما في آخر الآية.

وثانيا : أن قوله : {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ليس مسوقا للحصر بل الإتيان بضمير الفصل وإدخال اللام في الخبر للتأكيد ، ويؤول معناه إلى أن عزتك وحكمتك مما لا يداخله ريب فلا مجال للاعتراض عليك إن غفرت لهم .

وثالثا : أن المقام (مقام المشافهة بين عيسى بن مريم عليه‌ السلام وربه) لما كان مقام ظهور العظمة الإلهية التي لا يقوم لها شيء كان مقتضاه أن يراعي فيه جانب ذلة العبودية للغاية بالتحرز عن الدلال والاسترسال والتجنب عن مداخلة في الأمر بدعاء أو سؤال ، ولذلك قال (عليه السلام) : {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ولم يقل {فإنك غفور رحيم} لأن سطوع آية العظمة والسطوة الإلهية القاهرة الغالبة على كل شيء لا يدع للعبد إلا أن يلتجئ إليه بما له من ذلة العبودية ومسكنة الرقية والمملوكية المطلقة ، والاسترسال عند ذلك ذنب عظيم.

وأما قول إبراهيم (عليه‌ السلام) لربه : {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [ إبراهيم : 36] فإنه من مقام الدعاء وللعبد أن يثير فيه ناشئة الرحمة الإلهية بما استطاع .

__________________________

1. تفسير  الميزان ، ج6 ، ص 199-208 .

2. كما أن القول برسالة المسيح ونفي ألوهيته لا يزال يشيع في هذه الأيام وهي سنة 1958 م بين نصارى أمريكا ، وقد ذكر المحقق ه. ج. فلز في مجمل التاريخ : أن هذه العبادة التي تأتي بها عامة النصارى للمسيح وأمه لا توافق تعليم المسيح لأنه نهى كما في إنجيل مرقس أن يعبد غير الله الواحد ليراجع ص 526 وص 539 من الكتاب المزبور .

3. يشير به إلى السحابة التي شاهدها الغلام ناشئة من البحر .

4. وإنما نقلنا ما نقلناه بطوله لأن فيه ما يطلع به الباحث المتأمل على نوع منطقهم في إثبات العبادة لها ويشاهد بعض مجازفاتهم في الدين .

 

تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي  في تفسير هذه الآيات (1) :

براءة المسيح من شرك أتباعه :

هذه الآيات تشير إلى حديث يدور بين الله والمسيح يوم القيامة ، بدليل أنّنا بعد بضع آيات نقرأ : {هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} ولا شك أنّه يوم القيامة.

ثمّ أنّ جملة {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} دليل آخر على أنّ الحوار قد جرى بعد عهد نبوة المسيح عليه ‌السلام ، والفعل «قال» الماضي لا يتعارض مع ما ذهبنا إليه ، لأنّ القرآن مليء بذكر أمور عن يوم القيامة استعمل فيها الزمن الماضي ، وهو إشارة إلى أنّ وقوعه حتمي ، أي أنّ مجيئه في المستقبل على درجة من الثبوت والحتمية بحيث أنّه يبدو وكأنّه قد وقع فعلا ، فيستعمل له صيغة الماضي.

على كل حال تقول الآية الاولى : {وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ}.

لا ريب أنّ المسيح عليه ‌السلام لم يقل شيئا كهذا ، بل دعا إلى التوحيد وعبادة الله ، أنّ القصد من هذا الاستفهام هو استنطاقه أمام أمّته وبيان إدانتها.

فيجيب المسيح عليه ‌السلام بكل احترام ببضع جمل على هذا السؤال :

1 ـ أوّلا ينزّه الله عن كل شرك وشبهة : {قالَ سُبْحانَكَ}.

2 ـ ثمّ يقول : {ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ} أي ما لا يحق لي قوله ولا يليق بي أن أقوله.

فهو في الحقيقة لا ينفي هذا القول عن نفسه فحسب ، بل ينفي أن يكون له حق في قول مثل هذا القول الذي لا ينسجم مع مقامه ومركزه.

3 ـ ثمّ يستند إلى علم الله الذي لا تحده حدود تأكيدا لبراءته فيقول : {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (2) .

4 ـ {ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) ، لا أكثر من ذلك .

5 ـ {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (3).

أي كنت أحول دون سقوطهم في هاوية الشرك مدّة بقائي بينهم ، فكنت الرقيب والشاهد عليهم ، ولكن بعد أن رفعتني إليك ، كنت أنت الرقيب والشاهد عليهم.

6 ـ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، أي على كل حال فالأمر أمرك والإرادة إرادتك ، إن شئت أن تعاقبهم على انحرافهم الكبير فهم عبيدك وليس بإمكانهم أن يفروا من عذابك ، فهذا حقّك بإزاء العصاة من عبيدك ، وإن شئت أن تغفر لهم ذنوبهم فإنّك أنت القوي الحكيم ، فلا عفوك دليل ضعف ، ولا عقابك خال من الحكمة والحساب.

هنا يتبادر إلى الذهن سؤالان :

1 ـ هل يوجد في تاريخ المسيحية ما يدل على أنّهم اتّخذوا من (مريم) معبودة ؟ أم أنّهم إنّما قالوا فقط بالتثليث أو الآلهة الثلاثة : (الإله الأب) و (الإله الابن) و (روح القدس) على اعتبار أن (روح القدس) هو الوسيط بين (الإله الأب) و (الإله الابن) وهو ليس (مريم).

للإجابة على هذا السؤال نقول : صحيح أنّ المسيحيين لم يؤلهوا مريم ، ولكنّهم كانوا يؤدون أمام تمثالها طقوس العبادة ، كالوثنيين الذي لم يكونوا يعتبرون الأصنام آلهة ، ولكنّهم كانوا يعتبرونها شريكة لله في العبادة.

وهناك فرق بين «الله» بمعنى الخالق ، وال «إله» بمعنى المعبود ، وكانت (مريم) عند المسيحيين (آلهة) لا أنّها بمثابة «الله».

يقول أحد المفسّرين : إنّ المسيحيين على اختلاف فرقهم ، وإن لم يطلقوا كلمة (إله) أو معبود على مريم ، واعتبروها أم الإله لا غير ، فهم في الواقع يقدمون لها طقوس الدعاء والعبادة ، سواء أطلقوا عليها هذا الاسم أم لم يطلقوه ، ثمّ يضيف قائلا : قبل مدّة صدر في بيروت العدد التاسع من السنة السابقة من مجلة (المشرق) المسيحية بمناسبة الذكرى الخمسين للبابا (بيوس التاسع) وفيها مواضيع مثيرة عن السيدة مريم ، منها تصريح بأنّ كلتا الكنيستين الشرقية والغربية تعبدان (مريم).

وفي العدد الرّابع عشر من السنة الخامسة من الجملة نفسها مقال بقلم (الأب انستانس الكرملي) حاول فيه أن يعثر عن أصول عبادة مريم حتى في العهد القديم ، فراح يفسر حكاية الأفعى (الشيطان) والمرأة (حواء) باعتبارها حكاية مريم (4).

وعليه فإنّ عبادة مريم موجودة بينهم.

2 ـ السؤال الثّاني : كيف يتحدث المسيح عليه ‌السلام عن مشركي أمّته بعبارات يشم منها رائحة الشفاعة لهم فيقول : {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}؟ أيكون المشرك أهلا للشفاعة والغفران ؟

في الجواب نقول : لو كان قصد عيسى عليه ‌السلام هو الشفاعة لهم لكان عليه أن يقول :

فإنك أنت الغفور الرحيم لأن غفران الله ورحمته هما اللذان يناسبان مقام الشفاعة ، ولكنّنا نراه يقول {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} من هذا يتّضح أنّه لم يكن في مقام الشفاعة لهم ، بل كان يريد أن ينفي عن نفسه أي اختيار وأن يوكل الأمر كلّه إلى الله ، إن شاء عفا ، وإن شاء عاقب ، وكل مشيئة منه سبحانه تستند إلى حكمة.

ثمّ ربّما كما بينهم جماعة أدركت خطأها وسارت على طريق التوبة ، فتكون هذه الجملة قد قيلت بحقها.

 

__________________________

1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص667-669 .

2. إطلاق كلمة «نفس» على الله لا يعني الروح ، فمن معاني النفس الذات.

3. في معنى «توفى» وكونها لا تعني موت المسيح عليه ‌السلام أنظر ذيل الآية (55) من سورة آل عمران في المجلد الثّاني .

4. تفسير «المنار» ، ج 7 ، ص 263.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .