أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-10-2017
5816
التاريخ: 19-10-2017
10911
التاريخ: 20-10-2017
4555
التاريخ: 18-10-2017
17014
|
قال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة : 51 - 53] .
لما تقدم ذكر اليهود والنصارى ، أمر سبحانه عقيب ذلك بقطع موالاتهم ، والتبرؤ منهم فقال : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} أي : لا تعتمدوا على الاستنصار بهم ، متوددين إليهم ، وخص اليهود والنصارى بالذكر ، لان سائر الكفار بمنزلتها في وجوب معاداتهم {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ابتداء كلام أخبر سبحانه : إن بعض الكفار ولي بعض في العون والنصرة ، ويدهم واحدة على المسلمين . وفي هذه دلالة على أن الكفر كله كالملة الواحدة في أحكام المواريث ، لعموم قوله {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} .
وقال الصادق : لا تتوارث أهل ملتين ، ونحن نرثهم ولا يورثوننا . {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} أي : من استنصر بهم واتخذهم أنصارا {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي : هو كافر مثلهم ، عن ابن عباس . والمعنى أنه محكوم له حكمهم في وجوب لعنه ، والبراءة منه ، وأنه من أهل النار {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} إلى طريق الجنة لكفرهم واستحقاقهم العذاب الدائم ، بل يضلهم عنها إلى طريق النار ، عن أبي علي الجبائي . وقيل : معناه لا يحكم لهم بحكم المؤمنين في المدح ، والثناء ، والنصرة على الأعداء .
{فَتَرَى} يا محمد {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي : شك ونفاق يعني عبد الله بن أبي ، عن ابن عباس . {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي : في موالاة اليهود ومناصحتهم . وقيل : في معاونتهم على المسلمين . وقيل : موالاة اليهود ، ونصارى نجران ، لأنهم كانوا يميرونهم (2) ، عن الكلبي {يَقُولُونَ} أي : قائلين وهو في موضع الحال {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أي : دولة تدور لأعداء المسلمين على المسلمين ، فنحتاج إلى نصرتهم ، عن مجاهد ، والسدي ، وقتادة . وقيل : معناه نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه ، يعنون الجدب ، فلا يميروننا ، عن الكلبي .
{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} يعني : فتح مكة ، عن السدي . وقيل : بفتح بلاد المشركين ، عن الجبائي . وقيل : المراد بالقضاء الفصل ، عن قتادة . ويجمع هذه الأقوال قول ابن عباس : يريد بفتح الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، على جميع خلقه {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} فيه إعزاز للمؤمنين ، وإذلال للمشركين ، وظهور الإسلام ، عن السدي . وقيل : هو إظهار نفاق المنافقين مع الأمر بقتالهم ، عن الحسن ، والزجاج .
وقيل : هو أمر دون الفتح الأعظم ، أو موت هذا المنافق ، عن الجبائي . وقيل : هو القتل وسبي الذراري لبني قريظة ، والإجلاء لبني النضير ، عن مقاتل . وهذا معنى قول ابن عباس : أو أمر من عنده يريد فيه هلاكهم ، وهو يحتمل هلاك اليهود ، وهلاك المنافقين {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} أي : فيصبح أهل النفاق على ما كان منهم من نفاقهم وولايتهم لليهود ، ودس الأخبار إليهم ، نادمين (3) ، عن ابن عباس ، وقتادة . والمعنى : إذا فتح الله على المؤمنين ، ندم المنافقون والكفار على تفويتهم أنفسهم ذلك ، وكذلك إذا ماتوا وتحققوا دخول النار ، ندموا على ما فعلوه في الدنيا من الكفر والنفاق {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي : صدقوا الله ورسوله ظاهرا وباطنا ، تعجبا من نفاق المنافقين ، واجترائهم على الله بالإيمان الكاذبة {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ} يعني المنافقين حلفوا بالله {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} انتصب {جَهْدَ} لأنه مصدر أي : جهدوا جهد أيمانهم . قال عطا : أي حلفوا بأغلظ الإيمان وأوكدها (4) أنهم مؤمنون ، ومعكم في معاونتكم على أعدائكم ، ونصرتكم ، يريد أنهم حلفوا أنهم لأمثالكم في الإيمان . {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي : ضاعت أعمالهم التي عملوها لأنهم أوقعوها على خلاف الوجه المأمور به ، وبطل ما أظهروه من الإيمان ، لأنه لم يوافق باطنهم ظاهرهم ، فلم يستحقوا به الثواب {فَأَصْبَحُوا} أي : صاروا {خَاسِرِينَ} أي : خسروا الدنيا والآخرة . أما الدنيا فليسوا من الأنصار . وأما الآخرة فقرنهم الله مع الكفار ، عن ابن عباس . وقيل : مغبونين بأنفسهم ومنازلهم في الجنة ، إذا صاروا إلى النار ، وورثها المؤمنون ، عن الكلبي .
_______________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 355-356 .
2 . الميرة ، جلب الطعام .
3 . [على ما فعلوا] .
4 . [(إنهم لمعكم) أي] .
{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ والنَّصارى أَوْلِياءَ } . يتسع الإسلام لجميع الأديان والأجناس ، لا فرق عنده بين الأسود والأبيض ، ولا العربي والعجمي ، ولا بين المسلم وغير المسلم من حيث المساواة أمام العدالة والقانون . .
فلكل إنسان كائنا من كان الحق في أن يعيش بحرية وأمان على نفسه وماله ، ولا سلطان لأحد عليه ما كفّ أذاه عن غيره ، فإن تعدّى وأفسد أقيم عليه الحد . . فإذا أساء المسلم إلى غيره وجب علينا نحن المسلمين أن نمقته ونبرأ منه ، وعلى العدالة أن تردعه وتعاقبه ، وإذا كفّ اليهودي أو النصراني أذاه بسطنا له يد البر والإحسان ، ولو أنكر نبوة محمد والقرآن ، قال تعالى : { لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهً يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ومَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة - 9] .
وإذا عطفنا هذه الآية التي رغَّب اللَّه بها المسلمين في البر والإحسان إلى جميع الطوائف وأهل الأديان الذين لم ينصبوا العداء للمسلمين ، إذا عطفنا هذه الآية على الآية التي نفسرها ، وجمعناهما في كلام واحد يكون المعنى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء إذا نصبوا العداء لكم ، وكانوا حربا عليكم ، أما إذا كانوا وادعين مسالمين فعليكم أن تحسنوا العشرة معهم ، وتعيشوا جميعا متعارفين متآلفين . . بل ولكم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، لأن اللَّه يحب العدل والإحسان إلى جميع خلقه ، من آمن أو كفر بشرط واحد : وهو أن لا يسيء إلى أحد ، لأن الناس ، كل الناس عيال اللَّه ، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله . . فالمبرر عنده تعالى لحسن العشرة مع أي إنسان ، هو كف الإساءة والأذى ، أما من جحد وكفر فعليه كفره . وتقدم الكلام مفصلا عن موالاة المؤمن للكافر بشتى أقسامها وأحكامها عند تفسير الآية 30 من سورة آل عمران .
وبهذه المناسبة نشير إلى أن كرهنا لليهود نحن المسلمين لا سبب له إلا انهم قاتلونا في عقر ديارنا ، وأخرجوا منها نساءنا وأطفالنا ، كما ان السبب الأول والأخير لكرهنا وعدائنا للولايات المتحدة وإنكلترا ، ومن إليهما من دول الاستعمار التي ساندت إسرائيل هو أن هذه الدول ظاهرت إسرائيل على إخراج أهل فلسطين من ديارهم . . ومرة ثانية نعيد خطاب اللَّه لنا وقوله عز من قائل : { إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ومَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .
البتول واليهود والنصارى :
{ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ } . أجمع المفسرون على ان المراد بعض اليهود أنصار بعض ، وبعض النصارى أنصار بعض ، وليس المراد ان كل طائفة توالي الأخرى ، لأن ما بين الطائفتين من العداء أكثر مما بين النصارى والمسلمين ، فإن اليهود يرمون مريم بالفاحشة ، والمسلمون يقدسونها ويبرؤونها من كل عيب .
وليس من شك ان المفسرين قد استوحوا هذا المعنى من العصر الذي عاشوا فيه ، حيث لا شركات بترول عالمية ، ولا مؤسسات احتكارية نهمة إلى التوسع والسيطرة على ثروات الشعوب ومقدراتها . . أما اليوم وبعد أن قامت هذه الشركات والمؤسسات فقد رأى أصحابها المسيحيون في اليهود خير وسيلة يعتمدون عليها لتدعيم احتكاراتهم وأطماعهم ، ومن أجل هذا أقاموا دولة إسرائيل في فلسطين وحرصوا على تعزيزها وحمايتها ، ورسموا لها خطط العدوان والتوسع ، وتعهدوا بالوقوف إلى جانبها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن . . وتعلقت هي بأذيالهم ، ودارت في فلكهم ، ونفذت خطط الاستعمار ، وامتثلت أوامر العدوان بعد أن استبان لها ان حياتها رهن بالسمع والطاعة لأوامر الاستعمار ، وتنفيذ خططه ، وإلا تخلى عنها ، وولت إلى غير رجعة . . وإذا عقد المستعمرون وأذنابهم الآمال على مخالب إسرائيل فإنا نعتمد على اللَّه ، وعلى حقنا المشروع ، واستعادة إيجابيتنا استعدادا للمعركة الحاسمة لاسترداد الحق السليب .
{ ومَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهً لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } . أي ان من يتولى اليهود والنصارى الذين نصبوا العداء للإسلام والمسلمين فهو بحكمهم يحاسب حسابهم ، ويعاقب عقابهم ، لأن من رضي عن قوم فهو منهم ، وهذه الآية دليل قاطع على ان عملاء الاستعمار الذين يقومون بدور الحارس لمصالحه هم أشد جرما ، وأكثر خطرا من المستعمرين أنفسهم ، أو مثلهم - على الأقل - لأنهم الركيزة الأولى لاستغلالهم وعدوانهم .
{ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ } . يظهر من سياق الآية إنها قضية في واقعة ، وحكاية عن حادثة خاصة تتلخص بأن بعض المنافقين المشار إليهم بقوله : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } كانوا يوالون اليهود الذين يضمرون العداء للإسلام والمسلمين ، ويخطبون ودهم ، وإذا عوتبوا على ذلك قالوا : ما يدرينا أن تدور الأيام ويضعف الإسلام ، وتصير القوة والشوكة لليهود والمشركين على المسلمين ، فإذا لم نحتط من الآن لأنفسنا ونتخذ لنا يدا عندهم خسرنا كل شيء ودارت علينا دائرة السوء ، وهذا هو المعنى الظاهر من قوله تعالى : { يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ } . . وهكذا الانتهازيون يتذبذبون بين جميع الفئات ، حتى إذا كان الغلب لفئة على فئة قالوا لمن غلب : ألم نكن معكم ؟ . . وبكلمة ان المنافقين مع الجميع بألسنتهم ، وفي واقعهم لا يستجيبون إلا لأهوائهم :
{ ويَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وما هُمْ مِنْكُمْ ولكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } [التوبة - 56] ، أي يخافون على أنفسهم ومصالحهم .
وتسأل : لما ذا قال يسارعون فيهم ، ولم يقل يسارعون إليهم ؟ .
الجواب : ان فيهم أبلغ في التأكيد والثبات ، لأن الداخل في الشيء يتمكن منه أكثر من المسارع إليه .
{ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ } . المراد بالفتح انتصار المسلمين على اليهود والمشركين ، والمراد بأمر من عنده إظهار حال المنافقين ، وإذلالهم وخزيهم ، والمعنى ان المنافقين أحكموا الخطة لأنفسهم عند أعداء الإسلام ظنا منهم ان الدائرة ستدور مع الكفار على المسلمين ، ولما انعكس الأمر ، ودارت الدائرة مع المسلمين على أعدائهم ندم المنافقون ، ولكن حيث لا ينفع الندم .
{ ويَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ } . لما أظهر اللَّه المسلمين على أعدائهم لم يستطع المنافقون أن يخفوا ما في أنفسهم من الحسرة واللوعة ، وظهر أثرها في فلتات ألسنتهم ، وصفحات وجوههم . . فتعجب المؤمنون من حال المنافقين حين تكشفت حقيقتهم ، وقال بعضهم لبعض : أ هؤلاء الذين كانوا يحلفون بالأمس أغلظ الإيمان مجتهدين في توكيدها انهم منا ومعنا ؟ .
ما أجرأهم على الكذب والرياء . { حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ } . قال الرازي وصاحب المنار : يحتمل أن تكون هذه الجملة من كلام اللَّه ، ويحتمل أن تكون من كلام المؤمنين .
ويلاحظ بأن احتمال كونها من كلام اللَّه غير وارد على الإطلاق ، لأن سياق الآية يدل على أنها من كلام المؤمنين ، وليست إخبارا مستأنفا من اللَّه سبحانه ، والمعنى ان المؤمنين بعد أن تعجبوا من حال المنافقين وألاعيبهم قالوا : لقد بطلت أعمال المنافقين التي كانوا يتظاهرون بها أمامنا كالصوم والصلاة ، وما إليهما ، ولم ينلهم من الثواب شيء { فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ } . خسروا الدنيا ، لأنهم خذلوا وخسروا الآخرة لما أعد لهم من العذاب الأليم .
_________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 72-75 .
قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ } قال في المجمع : الاتخاذ هو الاعتماد على الشيء لإعداده لأمر ، وهو افتعال من الأخذ ، وأصله الائتخاذ فأبدلت الهمزة تاء ، وأدغمتها في التاء التي بعدها ومثله الاتعاد من الوعد ، والأخذ يكون على وجوه تقول : أخذ الكتاب إذا تناوله ، وأخذ القربان إذا تقبله ، وأخذه الله من مأمنه إذا أهلكه ، وأصله جواز الشيء من جهة إلى جهة من الجهات. انتهى.
وقال الراغب في المفردات : الولاء والتوالي أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما ، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ، ومن حيث النسبة ومن حيث الدين ، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد ( انتهى موضع الحاجة ) وسيأتي استيفاء البحث في معنى الولاية.
وبالجملة الولاية نوع اقتراب من الشيء يوجب ارتفاع الموانع والحجب بينهما من حيث ما اقترب منه لأجله فإن كان من جهة التقوى والانتصار فالولي هو الناصر الذي لا يمنعه عن نصرة من اقترب منه شيء ، وإن كان من جهة الالتيام في المعاشرة والمحبة التي هي الانجذاب الروحي فالولي هو المحبوب الذي لا يملك الإنسان نفسه دون أن ينفعل عن إرادته ، ويعطيه فيما يهواه وإن كان من جهة النسب فالولي هو الذي يرثه مثلا من غير مانع يمنعه ، وإن كان من جهة الطاعة فالولي هو الذي يحكم في أمره بما يشاء.
ولم يقيد الله سبحانه في قوله : { لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ } الولاية بشيء من الخصوصيات والقيود فهي مطلقة غير أن قوله تعالى في الآية التالية : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ } ، يدل على أن المراد بالولاية نوع من القرب والاتصال يناسب هذا الذي اعتذروا به بقولهم : { نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ } وهي الدولة تدور عليهم ، وكما أن الدائرة من الجائز أن تصيبهم من غير اليهود والنصارى فيتأيدوا بنصرة الطائفتين بأخذهما أولياء النصرة كذلك يجوز أن تصيبهم من نفس اليهود والنصارى فينجو منها باتخاذهما أولياء المحبة والخلطة.
والولاية بمعنى قرب المحبة والخلطة تجمع الفائدتين جميعا أعني فائدة النصرة والامتزاج الروحي فهو المراد بالآية ، وسيجيء ما في القيود والصفات المأخوذة في الآية الأخيرة : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } ، من الدلالة على أن المراد بالولاية هاهنا ولاية المحبة لا غير.
وقد أصر بعض المفسرين على أن المراد بالولاية ولاية النصرة وهي التي تجري بين إنسانين أو قومين من الحلف أو العهد على نصرة أحد الوليين الآخر عند الحاجة ، واستدل على ذلك بما محصله أن الآيات ـ كما يلوح من ظاهرها ـ منزلة قبل حجة الوداع في أوائل الهجرة أيام كان النبي صلى الله عليه وآله والمسلمون لم يفرغوا من أمر يهود المدينة ومن حولهم من يهود فدك وخيبر وغيرهم ، ومن ورائهم النصارى وكان بين طوائف من العرب وبينهم عقود من ولاية النصرة والحلف ، وربما انطبق على ما ورد في أسباب النزول أن عبادة بن الصامت من بني عوف بن الخزرج تبرأ من بني قينقاع لما حاربت رسول الله صلى الله عليه وآله وكان بينه وبينهم ولاية حلف ، لكن عبد الله بن أبي رأس المنافقين لم يتبرأ منهم وسارع فيهم قائلا : ( نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ).
أو ما ورد في قصة أبي لبابة لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وآله ليخرج بني قريظة من حصنهم وينزلهم على حكمه ، فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه : أنه الذبح.
أو ما ورد أن بعضهم كان يكاتب نصارى الشام بأخبار المدينة ، وبعضهم كان يكاتب يهود المدينة لينتفعوا بمالهم ولو بالقرض.
أو ما ورد أن بعضهم قال : إنه يلحق بفلان اليهودي أو بفلان النصراني إثر ما نزل بهم يوم أحد من القتل والهزيمة.
وهؤلاء الروايات كالمتفقة في أن القائلين : { نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ } كانوا هم المنافقين ، وبالجملة فالآيات إنما تنهى عن المحالفة وولاية النصرة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى.
وقد أكد ذلك بعضهم حتى ادعى أن كون الولاية في الآية بمعنى ولاية المحبة والاعتماد مما تتبرأ منه لغة الآية في مفرداتها وسياقها كما يتبرأ منه سبب النزول والحالة العامة التي كان عليها المسلمون والكتابيون في عصر التنزيل .
وكيف يصح حمل الآية على النهي عن معاشرتهم والاختلاط بهم وإن كانوا ذوي ذمة أو عهد ، وقد كان اليهود يقيمون مع النبي صلى الله عليه وآله ومع الصحابة في المدينة ، وكانوا يعاملونهم بالمساواة التامة ( انتهى ما ذكره ملخصا ).
وهذا كله من التساهل في تحصيل معنى الآية أما ما ذكروه من كون الآيات نازلة قبل عام حجة الوداع وهي سنة نزول سورة المائدة فمما ليس فيه كثير إشكال لكنه لا يوجب كون الولاية بمعنى المحالفة دون ولاية المحبة.
وأما ما ذكروه من أسباب النزول ودلالتها على كون الآيات نازلة في خصوص المحالفة وولاية النصرة التي كانت بين أقوام من العرب وبين اليهود والنصارى. ففيه ( أولا ) أن أسباب النزول في نفسها متعارضة لا ترجع إلى معنى واحد يوثق ويعتمد عليه ، و ( ثانيا ) أنها لا توجه ولاية النصارى وإن وجهت ولاية اليهود بوجه إذ لم يكن بين العرب من المسلمين وبين النصارى ولاية الحلف يومئذ ، و ( ثالثا ) أنا نصدق أسباب النزول فيما تقتضيها إلا أنك قد عرفت فيما مر أن جل الروايات الواردة في أسباب النزول على ضعفها متضمنة لتطبيق الحوادث المنقولة تاريخا على الآيات القرآنية المناسبة لها ، وهذا أيضا لا بأس به.
وأما الحكم بأن الوقائع المذكورة فيها تخصص عموم آية من الآيات القرآنية أو تقيد إطلاقها بحسب اللفظ فمما لا ينبغي التفوه به ، ولا أن الظاهر المتفاهم يساعده. ولو تخصص أو تقيد ظاهر الآيات بخصوصية في سبب النزول غير مأخوذة في لفظ الآية لمات القرآن بموت من نزل فيهم ، وانقطع الحجاج به في واقعة من الوقائع التي بعد عصر التنزيل ، ولا يوافقه كتاب ولا سنة ولا عقل سليم.
وأما ما ذكره بعضهم : ( أن أخذ الولاية بمعنى المحبة والاعتماد خطأ تتبرأ منه لغة الآية في مفرداتها وسياقها كما يتبرأ منه أسباب النزول والحالة العامة التي كان عليها المسلمون والكتابيون في عصر التنزيل ) فمما لا يرجع إلى معنى محصل بعد التأمل فيه فإن ما ذكره من تبري أسباب النزول وما ذكره من الحالة العامة أن تشمل الآيات ذلك وتصدق عليه إذا لم يأب ظهور الآية من الانطباق عليه ، وأما قصر الدلالة على مورد النزول والحالة العامة الموجودة وقتئذ فقد عرفت أنه لا دليل عليه بل الدليل ـ وهو حجية الآية في ظهورها المطلق ـ على خلافه فقد عرفت أن الآية مطلقة من غير دليل على تقييدها فتكون حجة في المعنى المطلق ، وهو الولاية بمعنى المحبة .
وما ذكره من تبري الآية بمفرداتها وسياقها من ذلك من عجيب الكلام ، وليت شعري ما الذي قصده من هذا التبري الذي وصفه وحمله على مفردات الآية ولم يقنع بذلك دون أن عطف عليها سياقها.
وكيف تتبرأ من ذلك مفردات الآية أو سياقها وقد وقع فيها بعد قوله : { لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ } قوله تعالى : { بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ } ولا ريب في أن المراد بهذه الولاية ولاية المحبة والاتحاد والمودة ، دون ولاية الحلف إذ لا معنى لأن يقال : لا تحالفوا اليهود والنصارى بعضهم حلفاء بعض ، وإنما كان ما يكون الوحدة بين اليهود ويرد بعضهم إلى بعض هو ولاية المحبة القومية ، وكذا بين النصارى من دون تحالف بينهم أو عهد إلا مجرد المحبة والمودة من جهة الدين؟
وكذا قوله تعالى بعد ذلك : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } فإن الاعتبار الذي يوجب كون موالي جماعة من تلك الجماعة هو أن المحبة والمودة تجمع المتفرقات وتوحد الأرواح المختلفة وتتوحد بذلك الإدراكات ، وترتبط به الأخلاق ، وتتشابه الأفعال ، وترى المتحابين بعد استقرار ولاية المحبة كأنهما شخص واحد ذو نفسية واحدة ، وإرادة واحدة ، وفعل واحد لا يخطئ أحدهما الآخر في مسير الحياة ، ومستوى العشرة.
فهذا هو الذي يوجب كون من تولى قوما منهم ولحوقه بهم ، وقد قيل : من أحب قوما فهو منهم ، والمرء مع من أحب ، وقد قال تعالى في نظيره نهيا عن موالاة المشركين : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ ـ إلى أن قال بعد عدة آيات ـ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } : ( الممتحنة : 9 ) وقال تعالى : { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } : ( المجادلة : 22 ) وقال تعالى في تولي الكافرين ـ واللفظ عام يشمل اليهود والنصارى والمشركين جميعا ـ : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ } : ( آل عمران : 28 ) والآية صريحة في ولاية المودة والمحبة دون الحلف والعهد ، وقد كان بين النبي صلى الله عليه وآله وبين اليهود ، وكذا بينه وبين المشركين يومئذ أعني زمان نزول سورة آل عمران معاهدات وموادعات .
وبالجملة الولاية التي تقتضي بحسب الاعتبار لحوق قوم بقوم هي ولاية المحبة والمودة دون الحلف والنصرة وهو ظاهر ، ولو كان المراد بقوله : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } أن من حالفهم على النصرة بعد هذا النهي فإنه لمعصيته النهي ظالم ملحق بأولئك الظالمين في الظلم كان معنى ـ على ابتذاله ـ بعيدا من اللفظ يحتاج إلى قيود زائدة في الكلام.
ومن دأب القرآن في كل ما ينهى عن أمر كان جائزا سائغا قبل النهي أن يشير إليه رعاية لجانب الحكم المشروع سابقا ، واحتراما للسيرة النبوية الجارية قبله كقوله : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا } : ( التوبة : 28 ) وقوله : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } الآية : ( البقرة : 187 ) وقوله : { لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ } : ( الأحزاب : 52 ) إلى غير ذلك.
فقد تبين أن لغة الآية في مفرداتها وسياقها لا تتبرأ من كون المراد بالولاية ولاية المحبة والمودة ، بل إن تبرأت فإنما تتبرأ من غيرها.
وأما قولهم : إن المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون فسيجيء أن السياق لا يساعده فالمراد بقوله : { لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ } النهي عن موادتهم الموجب لتجاذب الأرواح والنفوس الذي يفضي إلى التأثير والتأثر الأخلاقيين فإن ذلك يقلب حال مجتمعهم من السيرة الدينية المبنية على سعادة اتباع الحق إلى سيرة الكفر المبنية على اتباع الهوى وعبادة الشيطان والخروج عن صراط الحياة الفطرية.
وإنما عبر عنهم باليهود والنصارى ، ولم يعبر بأهل الكتاب كما عبر بمثله في الآية الآتية لما في التعبير بأهل الكتاب من الإشعار بقربهم من المسلمين نوعا من القرب يوجب إثارة المحبة فلا يناسب النهي عن اتخاذهم أولياء ، وأما ما في الآية الآتية : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ } من وصفهم بإيتائهم الكتاب مع النهي عن اتخاذهم أولياء فتوصيفهم باتخاذ دين الله هزوا ولعبا يقلب حال ذلك الوصف ـ أعني كونهم ذوي كتاب ـ من المدح إلى الذم فإن من أوتي الكتاب الداعي إلى الحق والمبين له ثم جعل يستهزئ بدين الحق ويلعب به أحق وأحرى به أن لا يتخذ وليا ، وتجتنب معاشرته ومخالطته وموادته.
وأما قوله تعالى : { بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ } فالمراد بالولاية ـ كما تقدم ـ ولاية المحبة المستلزمة لتقارب نفوسهم ، وتجاذب أرواحهم المستوجب لاجتماع آرائهم على اتباع الهوى ، والاستكبار عن الحق وقبوله ، واتحادهم على إطفاء نور الله سبحانه ، وتناصرهم على النبي صلى الله عليه وآله والمسلمين كأنهم نفس واحدة ذات ملة واحدة ، وليسوا على وحدة من الملية لكن يبعث القوم على الاتفاق ، ويجعلهم يدا واحدة على المسلمين أن الإسلام يدعوهم إلى الحق ، ويخالف أعز المقاصد عندهم وهو اتباع الهوى ، والاسترسال في مشتهيات النفس وملاذ الدنيا.
فهذا هو الذي جعل الطائفتين : اليهود والنصارى ـ على ما بينهما من الشقاق والعداوة الشديدة ـ مجتمعا واحدا يقترب بعضه من بعض ، ويرتد بعضه إلى بعض ، يتولى اليهود النصارى وبالعكس ، ويتولى بعض اليهود بعضا ، وبعض النصارى بعضا ، وهذا معنى إبهام الجملة : { بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ } في مفرداتها ، والجملة في موضع التعليل لقوله : { لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ } والمعنى لا تتخذوهم أولياء لأنهم على تفرقهم وشقاقهم فيما بينهم يد واحدة عليكم لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودة والمحبة.
وربما أمكن أن يستفاد من قوله : { بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ } معنى آخر ، وهو أن لا تتخذوهم أولياء لأنكم إنما تتخذونهم أولياء لتنتصروا ببعضهم الذي هم أولياؤكم على البعض الآخر ، ولا ينفعكم ذلك فإن بعضهم أولياء بعض فليسوا ينصرونكم على أنفسهم.
قوله تعالى : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } التولي اتخاذ الولي ، و { من } تبعيضية والمعنى أن من يتخذهم منكم أولياء فإنه بعضهم ، وهذا إلحاق تنزيلي يصير به بعض المؤمنين بعضا من اليهود والنصارى ، ويئول الأمر إلى أن الإيمان حقيقة ذات مراتب مختلفة من حيث الشوب والخلوص ، والكدورة والصفاء كما يستفاد ذلك من الآيات القرآنية قال تعالى : { وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } : ( يوسف : 106 ) وهذا الشوب والكدر هو الذي يعبر تعالى عنه بمرض القلوب فيما سيأتي من قوله : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ }.
فهؤلاء الموالون لأولئك أقوام عدهم الله تعالى من اليهود والنصارى وإن كانوا من المؤمنين ظاهرا ، وأقل ما في ذلك أنهم غير سالكين سبيل الهداية الذي هو الإيمان بل سالكو سبيل اتخذه أولئك سبيلا يسوقه إلى حيث يسوقهم وينتهي به إلى حيث ينتهي بهم.
ولذلك علل الله سبحانه لحوقه بهم بقوله : { إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } فالكلام في معنى : أن هذا الذي يتولاهم منكم هو منهم غير سألك سبيلكم لأن سبيل الإيمان هو سبيل الهداية الإلهية ، وهذا المتولي لهم ظالم مثلهم ، والله لا يهدي القوم الظالمين.
والآية ـ كما ترى ـ تشتمل على أصل التنزيل أعني تنزيل من تولاهم من المؤمنين منزلتهم من غير تعرض لشيء من آثاره الفرعية ، واللفظ وإن لم يتقيد بقيد لكنه لما كان من قبيل بيان الملاك ـ نظير قوله : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } : ( البقرة : 184 ) وقوله : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ } : ( العنكبوت : 45 ) إلى غير ذلك ـ لم يكن إلا مهملا يحتاج التمسك به في إثبات حكم فرعي إلى بيان السنة ، والمرجع في البحث عن ذلك فن الفقه.
قوله تعالى : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ } تفريع على قوله في الآية السابقة : { إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } فمن عدم شمول الهداية الإلهية لحالهم ـ وهو الضلال ـ مسارعتهم فيهم واعتذارهم في ذلك بما لا يسمع من القول ، وقد قال تعالى : { يُسارِعُونَ فِيهِمْ } ولم يقل يسارعون إليهم ، فهم منهم وحالون في الضلال محلهم ، فهؤلاء يسارعون فيهم لا لخشية إصابة دائرة عليهم فليسوا يخافون ذلك ، وإنما هي معذرة يختلقونها لأنفسهم لدفع ما يتوجه إليهم من ناحية النبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين من اللوم والتوبيخ بل إنما يحملهم على تلك المسارعة توليهم أولئك ( اليهود والنصارى ).
ولما كان من شأن كل ظلم وباطل أن يزهق يوما ويظهر للملأ فضيحته ، وينقطع رجاء من توسل إلى أغراض باطلة بوسائل صورتها صورة الحق كما قال تعالى : { إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } كان من المرجو قطعا أن يأتي الله بفتح أو أمر من عنده فيندموا على فعالهم ، ويظهر للمؤمنين كذبهم فيما كانوا يظهرونه.
وبهذا البيان يظهر وجه تفرع قوله : { فَتَرَى الَّذِينَ } (إلخ) على قوله : { إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } وقد تقدم كلام في معنى عدم اهتداء الظالمين في ظلمهم .
فهؤلاء القوم منافقون من جهة إظهارهم للنبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين ما ليس في قلوبهم حيث يعنونون مسارعتهم في اليهود والنصارى بعنوان الخشية من إصابة الدائرة ، وعنوانه الحقيقي الموافق لما في قلوبهم هو تولي أعداء الله فهذا هو وجه نفاقهم ، وأما كونهم منافقين بمعنى الكافرين المظهرين للإيمان فسياق الآيات لا يوافقه.
وقد ذكر جماعة من المفسرين أنهم المنافقون كعبد الله بن أبي وأصحابه على ما يؤيده أسباب النزول الواردة فإن هؤلاء المنافقين كانوا يشاركون المؤمنين في مجتمعهم ويجاملونهم من جانب ، ومن الجانب الآخر كانوا يتولون اليهود والنصارى بالحلف والعهد على النصرة استدرارا للفئتين ، وأخذا بالاحتياط في رعاية مصالح أنفسهم ليغتبطوا على أي حال ، ويكونوا في مأمن من إصابة الدائرة على أي واحدة من الفئتين المتخاصمتين دارت.
وما ذكروه لا يلائم سياق الآيات فإنها تتضمن رجاء أن يندموا بفتح أو أمر من عنده ، والفتح فتح مكة أو فتح قلاع اليهود وبلاد النصارى أو نحو ذلك على ما قالوا ولا وجه لندمهم على هذا التقدير فإنهم احتاطوا في أمرهم بحفظ الجانبين ، ولا ندامة في الاحتياط ، وإنما كان يصح الندم لو انقطعوا من المؤمنين بالمرة واتصلوا باليهود والنصارى ثم دارت الدائرة عليهم ، وكذا ما ذكره الله تعالى من حبط أعمالهم وصيرورتهم خاسرين بقوله : { حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ } لا يلائم كونهم هم المنافقين الآخذين بالحائطة لمنافعهم ومطالبهم إذ لا معنى لخسران من احتاط بحائطة اتقاء من مكروه يخافه على نفسه ثم صادف إن لم يقع ما كان يخاف وقوعه ، والاحتياط في العمل من الطرق العقلائية التي لا تستتبع لوما ولا ذما.
إلا أن يقال : إن الذم إنما لحقهم لأنهم عصوا النهي الإلهي ولم تطمئن قلوبهم بما وعده الله من الفتح ، وهذا وإن كان لا بأس به في نفسه لكن لا دليل عليه من جهة لفظ الآية.
قوله تعالى : { فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ } لفظة { عسى } وإن كان في كلامه تعالى للترجي كسائر الكلام ـ على ما قدمنا أنه للترجي العائد إلى السامع أو إلى المقام ـ لكن القرينة قائمة على أنه مما سيقع قطعا فإن الكلام مسوق لتقرير ما ذكره بقوله : { إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } وتثبيت صدقه ، فما يشتمل عليه واقع لا محالة.
والذي ذكره الله تعالى من الفتح ـ وقد ردد بينه وبين أمر من عنده غير بين المصداق بل الترديد بينه وبين أمر مجهول لنا ـ لعله يؤيد كون اللام في { بِالْفَتْحِ } للجنس لا للعهد حتى يكون المراد به فتح مكة المعهود بوعد وقوعه في مثل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ } : ( القصص : 85 ) وقوله : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ } ( الفتح : 27 ) وغير ذلك.
والفتح الواقع في القرآن وإن كان المراد به في أكثر موارده هو فتح مكة لكن بعض الموارد لا يقبل الحمل على ذلك كقوله تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ } ( السجدة : 30 ) فإنه تعالى وصف هذا الفتح بأنه لا ينفع عنده الإيمان لمن كان كافرا قبله ، وأن الكفار ينتظرونه ، وأنت تعلم أنه لا ينطبق على فتح مكة ولا على سائر الفتوحات التي نالها المسلمون حتى اليوم فإن عد نفع الإيمان وهو التوبة إنما يتصور لأحد أمرين ـ كما تقدم بيانه في الكلام على التوبة (2) ـ : إما بتبدل نشأة الحياة وارتفاع الاختيار لتبدل الدنيا بالآخرة ، وإما بتكون أخلاق وملكات في الإنسان يقسو بها القلب قسوة لا رجاء معها للتوبة والرجوع إلى الله سبحانه قال تعالى : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً } : ( الأنعام : 158 ) وقال تعالى : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } : ( النساء : 18 ).
وكيف كان فإن كان المراد بالفتح أحد فتوحات المسلمين كفتح مكة أو فتح قلاع اليهود أو فتح بلاد النصارى فهو ، إلا أن في انطباق ما ذكره الله تعالى بقوله : { فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا } (إلخ) وقوله : { وَيَقُولُ الَّذِينَ } (إلخ) عليه خفاء تقدم وجهه.
وإن كان المراد به الفتح بمعنى القضاء للإسلام على الكفر والحكم الفصل بين الرسول وقومه فهو من الملاحم القرآنية التي ينبئ تعالى فيها عما سيستقبل هذه الأمة من الحوادث ، وينطبق على ما ذكره الله في سورة يونس من قوله : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ } إلى آخر الآيات : ( يونس : 47 ـ 56 ).
وأما قوله : { فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ } فإن الندامة إنما تحصل عند فعل ما لم يكن ينبغي أن يفعل أو ترك ما لم يكن ينبغي أن يترك ، وقد فعلوا شيئا ، والله سبحانه يذكر في الآية التالية حبط أعمالهم وخسرانهم في صفقتهم فإنما أسروا في أنفسهم تولي اليهود والنصارى لينالوا به وبالمسارعة فيهم ما كانت اليهود والنصارى يريدونه من انطفاء نور الله والتسلط على شهوات الدنيا من غير مانع من الدين.
فهذا ـ لعله ـ هو الذي أسروه في أنفسهم ، وسارعوا لأجله فيهم ، وسوف يندمون على بطلان سعيهم إذا فتح الله للحق.
قوله تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا } ( إلى آخر الآية ) وقرئ { يَقُولُ } بالنصب عطفا على قوله : { فَيُصْبِحُوا } وهي أرجح لكونها أوفق بالسياق فإن ندامتهم على ما أسروه في أنفسهم وقول المؤمنين : { أَهؤُلاءِ } (إلخ) جميعا تقريع لهم بعاقبة توليهم ومسارعتهم في اليهود والنصارى ، وقوله : { هؤُلاءِ } إشارة إلى اليهود والنصارى ، وقوله : { لَمَعَكُمْ } خطاب للذين في قلوبهم مرض ويمكن العكس ، وكذا الضمير في قوله : { حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا } ، يمكن رجوعه إلى اليهود والنصارى ، وإلى الذين في قلوبهم مرض.
لكن الظاهر من السياق أن الخطاب للذين في قلوبهم مرض ، والإشارة إلى اليهود والنصارى ، وقوله : { حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ } ، كالجواب لسؤال مقدر ، والمعنى : وعسى أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فيقول الذين آمنوا لهؤلاء الضعفاء الإيمان عند حلول السخط الإلهي بهم : أهؤلاء اليهود والنصارى هم الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أي أيمانهم التي بالغوا وجهدوا فيها جهدا إنهم لمعكم فلما ذا لا ينفعونكم؟! ثم كأنه سئل فقيل : فإلى م انتهى أمر هؤلاء الموالين؟ فقيل في جوابه : حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين.
___________________________
1. تفسير الميزان ، ج5 ، ص315-323 .
2. في الكلام على قوله تعالى : { إنما التوبة على الله ، الآيتين } النساء 17 : 18 في الجزء الرابع من الكتاب.
لقد حذرت الآيات الثلاث الأخيرة المسلمين ـ بشدّة ـ من الدخول في أحلاف مع اليهود والنصارى ، فالآية الأولى منها تمنع المسلمين من التحالف مع اليهود والنصارى أو الاعتماد عليهم (أي أنّ الإيمان بالله يوجب عدم التحالف مع هؤلاء إن كان ذلك لأغراض ومصالح مادية) حيث تقول الآية : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياء ...}.
وكلمة «أولياء» صيغة جمع من «ولي» وهي مشتقة من مصدر «الولاية» وهي بمعنى التقارب الوثيق بين شيئين ، وقد وردت بمعنى «الصداقة» و «التحالف» و «الإشراف».
لكن بالنظر إلى سبب النّزول والقرائن الأخرى الموجودة ، فإنّ المراد ليس منع المسلمين من إقامة أي علاقات تجارية واجتماعية مع اليهود والنصارى ، بل المقصود هو منع المسلمين من التحالف مع هؤلاء أو الاعتماد عليهم في مواجهة الأعداء.
وكانت قضية التحالف رائجة في ذلك العصر بين العرب ، وكان يطلق على ذلك «الولاء».
والملفت للنظر في هذه الآية أنّها لم تعتمد تسمية «أهل الكتاب» لدى تحدثها عن اتباع الديانتين السماويتين المعروفتين ، بل استخدمت كلمتي «اليهود والنّصارى» وربّما يكون هذا إشارة إلى أنّ اليهود والنصارى لو كانوا يعملون بكتابيهم السماويين ، لكان اتباع هذين الدينين خير حليفين للمسلمين ، لكنّهم اتّحدوا معا ـ لا بأمر من كتابيهم ـ بل لأغراض سياسية وتكتلات عنصرية وأمثال ذلك.
بعد ذلك تبيّن الآية سبب هذا النهي في جملة قصيرة ، وتقول بأن هاتين الطائفتين إنّما هما أصدقاء وحلفاء أشباههما من اليهود والنصارى حيث تقول : {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} أي أنّهما يهتمان بمصالحهما ومصالح أصدقائهما فقط ، ولا يعيران اهتماما لمصالح المسلمين ، ولذلك فإن أي مسلم يقيم صداقة أو حلفا مع هؤلاء فإنّه سيصبح من حيث التقسيم الاجتماعي والديني جزءا منهم ، حيث تؤكّد الآية في هذا المجال بقولها : {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.
وبديهي أنّ الله لا يهدي الأفراد الظالمين الذين يرتكبون الخيانة بحق أنفسهم وإخوانهم وأخواتهم المسلمين والمسلمات ، ويعتمدون على أعداء الإسلام تقول الآية : {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
وتشير الآية التّالية إلى الأعذار التي كان يتشبث بها أفراد ذوي نفوس مريضة لتبرير علاقاتهم اللاشرعية مع الغرباء ، واعتمادهم عليهم وتحالفهم معهم ، مبررين ذلك بخوفهم من الوقوع في مشاكل إن أصبحت القدرة يوما في يد حلفائهم الغرباء ، فتقول الآية : {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ} (2) .
ويذكر القرآن الكريم هؤلاء الضعفاء ذوي النفوس المريضة ردا على تعللهم في التخلي عن حلفهم مع الغرباء ، فيبيّن لهم أنّهم حين يحتملون أن يمسك اليهود والنصارى يوما بزمام القدرة والسلطة يجب أن يحتملوا ـ أيضا ـ أن ينصر الله المسلمين فتقع القدرة بأيديهم ، حيث يندم هؤلاء على ما أضمروه في أنفسهم ، كما تقول الآية : {فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ}.
ويشتمل هذا الجواب القرآني ـ في الحقيقة على جانبين :
أوّلهما : أنّ أفكارا كهذه إنما تخرج من قلوب مريضة لأفراد تزلزل إيمانهم وأصبحوا يسيئون الظن بالله ، ولو لم يكونوا كذلك لما سمحوا لهذه الأفكار بأن تداخل نفوسهم.
أمّا الجانب الثّاني في هذا الجواب فهو مواجهتهم بنفس الحجة التي أوردوها لتعللهم ذلك ، إذ أنّ احتمالهم لوقوع السلطة بيد اليهود والنصارى يقابله ـ بالضرورة ـ احتمال آخر وهو انتصار المسلمين واستلامهم لمقاليد الأمور ، وبهذا لا يكون هناك أي مجال لتشبث هؤلاء بحلفهم مع أولئك أو الاعتماد عليهم.
وعلى أساس هذا التّفسير فإنّ كلمة (عسى) التي لها مفهوم الاحتمال والأمل ، تبقى في هذه الآية محتفظة بمعناها الأصلي لكن بعض المفسّرين قالوا بأنّها تعني هنا الوعد الجازم من قبل الله للمسلمين ، وهذا ما لا يتلائم وظاهر كلمة (عسى) البتة.
أمّا المراد من جملة {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} التي جاءت بعد كلمة (الفتح) في هذه الآية فيحتمل أنّها تعني أنّ المسلمين ـ في المستقبل ـ إمّا أن يتغلبوا وينتصروا على أعدائهم عن طريق الحرب أو بدونها كأن تتوسع قدرتهم إلى درجة يضطر بعدها الأعداء إلى الخضوع والاستسلام للمسلمين دون الحاجة إلى الدخول في حرب.
وبتعبير آخر : كلمة (الفتح) تشير إلى الإنتصار العسكري للمسلمين ، وأنّ جملة (أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) إشارة إلى الانتصارات الاجتماعية والاقتصادية وما شابه ذلك .
إنّ بيان هذا الاحتمال من قبل الله سبحانه وتعالى ، مع كونه ـ عزوجل ـ عالما بجميع ما سيحصل في المستقبل ، يدل على أنّ الآية تشير إلى الانتصارات العسكرية والاجتماعية والاقتصادية التي سيحرمها المسلمون في المستقبل.
وتشير الآية في الختام إلى مصير عمل المنافقين ، وتبيّن أنّه حين يتحقق الفتح للمسلمين المؤمنين وتنكشف حقيقة عمل المنافقين يقول المؤمنون ـ بدهشة ـ : هل أنّ هؤلاء المنافقين هم أولئك الذين كانوا يتشدقون بتلك الدعاوى ويجلفون بالإيمان المغلظة بأنّهم معنا ، فكيف وصل الأمر بهم إلى هذا الحدّ؟ حيث تقول الآية : {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ...} (3) .
إنّ هؤلاء لنفاقهم هذا ذهبت أعمالهم أدراج الرياح ، لأنّها لم تكن نابعة من نيّة خالصة صادقة ، ولهذا فقد أصبحوا من الخاسرين ـ سواء في هذه الدنيا أو الآخرة معا ـ حيث تؤكّد الآية هذا الأمر بقولها : {حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ}.
والجملة الأخيرة تشبه ـ في الحقيقة ـ جوابا لسؤال مقدر ، وكأن شخصا يسأل : ماذا سيكون مصير هؤلاء ؟
فيجاب بأنّ أعمالهم أدراج الرياح ، وستطوقهم الخسارة من كل جانب ، أي أنّ هؤلاء ـ حتى لو كانت لهم أعمال صدرت عنهم بإخلاص ونية صادقة ـ فهم لا يحصلون على أي نتيجة حسنة من تلك الأعمال الصالحة لانحرافهم صوب النفاق والشّرك بعد ذلك : وقد شرحنا هذا الأمر في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا عند تفسير الآية (٢١٧) من سورة البقرة.
___________________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 536-539 .
2. إنّ كلمة (دائرة) مشتقة من المصدر (دور) أي الشيء الذي يكون في حالة دوران ، وبما أن القدرات المادية والحكومات هي في حالة دوران دائم على طول التّأريخ ، لذلك يقال لها (دائرة) كما تطلق هذه الكلمة ـ أيضا ـ على أحداث الحياة المختلفة التي تدور حول الأشخاص.
3. في هذه الآية تكون كلمة «هؤلاء» مبتدأ وخبرها جملة «الذين أقسموا بالله» أمّا جملة «جهد إيمانهم» فهي مفعول مطلق.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
المجمع العلميّ يُواصل عقد جلسات تعليميّة في فنون الإقراء لطلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف
|
|
|