أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-2-2017
3985
التاريخ: 28-2-2017
15176
التاريخ: 19-10-2017
5870
التاريخ: 20-10-2017
6709
|
قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة : 41 - 43].
قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [المائدة : 41] .
لما تقدم ذكر اليهود والنصارى ، عقبه سبحانه بتسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمانه من كيدهم فقال : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ} أي : لا يغمك . وقرئ لا يحزنك . ومعناهما واحد {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ} أي : مسارعة الذين يسارعون {فِي الْكُفْرِ} أي : يبادرون فيه بالإصرار عليه والتمسك به {مِنَ} المنافقين {الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} أي : ومن اليهود {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} قيل : هو كناية عن اليهود والمنافقين . وقيل : عن اليهود خاصة . والمعنى : سماعون قولك ليكذبوا عليك {سَمَّاعُونَ} كلامك {لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} ليكذبوا عليك إذا رجعوا (2) أي : هم عيون عليك ، لأنهم كانوا رسل خيبر ، وأهل خيبر لم يحضروا ، عن الحسن ، والزجاج ، واختاره أبو علي . وقيل :
معنى {سَمَّاعُونَ} أي : قائلون للكذب ، سماعون لقوم آخرين ، أرسلوهم في قصة زان محصن ، فقالوا لهم : إن أفتاكم محمد بالجلد ، فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم ، فلا تقبلوه ، لأنهم كانوا حرفوا حكم الرجم الذي في التوراة ، عن ابن عباس ، وجابر ، وسعيد بن المسيب ، والسدي .
وقيل : إنما كان ذلك في قتيل منهم قالوا : إن أفتاكم بالدية فاقبلوه ، وإن أفتاكم بالقود فاحذروه ، عن قتادة . وقال أبو جعفر : كان ذلك في أمر بني النضير ، وبني قريضة {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} أي : كلام الله {مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي : من بعد أن وضعه الله مواضعه أي : فرض فروضه ، وأحل حلاله ، وحرم حرامه ، يعني بذلك ما غيروه من حكم الله في الزنا ، ونقلوه من الرجم إلى أربعين جلدة عن جماعة من المفسرين . وقيل : نقلوا حكم القتل من القود إلى الدية ، حتى كثر القتل فيهم ، عن قتادة . وقيل : أراد به تحريفهم التوراة بتحليلهم الحرام ، وتحريمهم الحلال فيها .
وقيل : معناه يحرفون كلام النبي بعد سماعه ، ويكذبون عليه ، عن الحسن ، وأبي علي الجبائي . وكانوا يكتبون بذلك إلى خيبر ، وكان أهل خيبر حربا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، يقول : إن اليهود كيف يؤمنون بك مع أنهم يحرفون كلام الله في التوراة ويحرفون كلامك {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} أي : يقول يهود خيبر ليهود المدينة : إن أعطيتم هذا أي : إن أمركم محمد بالجلد ، فاقبلوه ، وإن لم تعطوه يعني الجلد أي : إن أفتاكم محمد بالرجم فاحذروه ، عن الحسن (3) معناه : إن أوتيتم الدية فاقبلوه ، وإن أوتيتم القود فلا تقبلوه .
{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} قيل فيه أقوال أحدها : إن الفتنة العذاب أي : من يرد الله عذابه كقوله تعالى {عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} أي : يعذبون ، وقوله {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} أي :
عذابكم ، عن الحسن ، وقتادة ، واختاره الجبائي ، وأبو مسلم . وثانيها : إن معناه :
من يرد الله هلاكه عن السدي ، والضحاك . وثالثها : إن المراد من يرد الله خزيه وفضيحته بإظهار ما ينطوي عليه ، عن الزجاج . ورابعها : إن المراد من يرد الله اختياره بما يبتليه به من القيام بحدوده ، فيدع ذلك ويحرفه ، والأصح الأول {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي : فلن تستطيع ان تدفع لأجله من أمر الله الذي هو العذاب ، أو الفضيحة ، أو الهلاك ، شيئا {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} معناه : أولئك اليهود لم يرد الله أن يطهر من عقوبات الكفر التي هي الختم والطبع والضيق قلوبهم ، كما طهر قلوب المؤمنين منها ، بأن كتب في قلوبهم الإيمان ، وشرح صدورهم للإسلام ، عن الجبائي ، والحسن .
وقيل : معناه لم يرد الله أن يطهرها من الكفر بالحكم عليها ، أنها بريئة منه ، ممدوحة بالإيمان ، عن البلخي . قال القاضي : وهذا لا يدل على أنه سبحانه لم يرد منهم الإيمان ، لان ذلك لا يعقل من تطهير القلب إلا على جهة التوسع ، ولان قوله :
لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ، يقتضي نفي كونه مريدا ، وليس فيه بيان الوجه الذي لم يرد ذلك عليه . والمراد بذلك أنه لم يرد تطهير قلوبهم مما يلحقها من الغموم بالذم والاستخفاف والعقاب . ولذلك قال عقيبه : {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . ولو كان أراد ما قاله المجبرة ، لم يجعل ذلك ذما لهم ، ولا عقبه بالذم ، ولا جعله في حكم الجزاء على ما لأجله عاقبهم ، وأراد ذلك منهم ، والخزي الذي لهم في الدنيا ، هو ما لحقهم من الذل والصغار والفضيحة ، بإلزام الجزية ، وإظهار كذبهم في كتمان الرجم ، وإجلاء بني النضير من ديارهم ، وخزي المنافقين باطلاع النبي على كفرهم .
{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة : 42 - 43] .
ثم وصفهم تعالى فقال : {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} قد مر تفسيره ، أعاد الله تعالى ذمهم على استماع الكذب أو قبوله ، تأكيدا وتشديدا ومبالغة في الزجر عنه {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أي : يكثرون الأكل للسحت ، وهو الحرام ، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن السحت هو الرشوة في الحكم وهو المروي عن ابن مسعود ، والحسن . وقيل : السحت هو الرشوة في الحكم ، ومهر البغي ، وكسب الحجام ، وعسيب الفحل (4) ، وثمن الكلب ، وثمن الخمر ، وثمن الميتة ، وحلوان الكاهن (5) ، والاستجعال (6) في المعصية ، عن علي عليه السلام . وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أن السحت أنواع كثيرة فأما الرشى في الحكم فهو الكفر بالله . وقيل في اشتقاق السحت أقوال .
أحدها : إن الحرام إنما سمي سحتا ، لأنه يعقب عذاب الاستئصال والبوار ، عن الزجاج . وثانيها : إنه إنما سمي سحتا لأنه لا بركة فيه لأهله ، فيهلك هلاك الاستئصال ، عن الجبائي . وثالثها : إنه إنما سمي سحتا ، لأنه القبيح الذي فيه العار نحو ثمن الكلب ، والخمر ، فعلى هذا يسحت مروءة الإنسان عن الخليل {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} أراد به اليهود الذين تحاكموا إلى النبي في حد الزنا ، عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد . وقيل : أراد بني قريظة ، وبني النضير ، لما تحكموا إليه ، فخيره الله تعالى بين أن يحكم بينهم ، وبين أن يعرض عنهم ، عن ابن عباس في رواية أخرى ، وقتادة ، وابن زيد .
والظاهر في روايات أصحابنا أن هذا التخيير ثابت في الشرع للأئمة والحكام ، وهو قول قتادة ، وعطاء ، والشعبي ، وإبراهيم . وقيل : إنه منسوخ بقوله : {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} عن الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة . {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ} أي . عن الحكم بينهم {فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} أي : لا يقدرون لك على ضرر في دين أو دنيا ، فدع النظر بينهم إن شئت {وَإِنْ حَكَمْتَ} أي : وإن اخترت أن تحكم (7) ، {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أي : العدل . وقيل : بما في القرآن ، وشريعة الإسلام {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي : العادلين . {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} أي : كيف يحكمك يا محمد هؤلاء اليهود فيهم ، فيرضون بك حكما {وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ} التي أنزلناها على موسى ، وهي التي يقرون بها أنها كتابي الذي أنزلته ، وأنه حق ، وإن ما فيه من حكمي يعلمونه ، ولا يتناكرونه {فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} أي : أحكامه التي لم تنسخ ، عن أبي علي . وقيل : عنى به الحكم بالرجم ، عن الحسن . وقيل : معناه فيها حكم الله بالقود ، عن قتادة .
{ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي : يتركون الحكم به جرأة علي . وفي هذا تعجيب للنبي ، وتقريع لليهود الذين نزلت الآية فيهم ، فكأنه قال : كيف تقرون أيها اليهود بحكم نبيي محمد ، مع إنكاركم نبوته ، وتكذيبكم إياه ، وأنتم تتركون حكمي الذي تقرون بوجوبه ، وتعترفون بأنه جاءكم من عندي . وقوله : {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} إشارة إلى حكم الله في التوراة ، عن عبد الله بن كثير . وقيل : {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي :
من بعد تحكيمك أو حكمك بالرجم ، لأنهم ليسوا منه على ثقة ، وإنما طلبوا به الرخصة {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي : وما هم بمؤمنين بحكمك أنه من عند الله ، مع جحدهم نبوتك . وقيل : إن هذا إخبار من الله سبحانه ، عن أولئك اليهود ، أنهم لا يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبحكمه .
__________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 335-340 .
2 . [إليهم] .
3 . [وقيل] .
4 . أي أجرة ضرابه .
5 . هو ما يعطى عند كهانته .
6 . أي طلب الجعالة .
7 . [بينهم] .
{ يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ ولَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ } . هذا خطاب من اللَّه لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، يهون عليه أمر المنافقين واليهود ، لأن العاقبة ستكون عليهم لا لهم . . وهذه الجملة تختص بالمنافقين ، لأن الإيمان بالأفواه ، دون القلوب حقيقتهم وهويتهم .
والنهي عن الحزن نهي عن لوازمه ، وعدم ترتب الأثر عليه ، لأن الإنسان لا اختيار له فيه ، وأي عاقل يختار الحزن لنفسه ؟ ولكن تبقى السيطرة معه للعقل والدين ، قال الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) : تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول ما يسخط الرب . وبعد أن ذكر سبحانه المنافقين أشار إلى قوم من اليهود بقوله :
{ ومِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } . عاد الحديث عن اليهود ، وفي هذه الآيات أخبار اعتمدها المفسرون ، وتتلخص بأن التوراة كانت تنص على وجوب رجم الزاني . . وصادف في عهد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ان زنى رجل وامرأة من أشرافهم ، فكره قوم من اليهود رجمهما ، وأرسلوا وفدا منهم إلى رسول اللَّه ليسألوه عن حكم الزنا ، وقالوا للوفد : ان أفتى بغير الرجم فاقبلوا ، وان أفتى بالرجم فارفضوا . . فجاؤوا الرسول ، فأفتاهم بالرجم ، فرفضوا زاعمين ان التوراة ليس فيها رجم ، ولما حاجّ الرسول بعض علمائهم اعترف بأن حكم التوراة هو الرجم ، تماما كما أفتى الرسول ، وان اليهود خصوا حكم الرجم بالضعفاء ، وجعلوا الجلد مكان الرجم إذا زنى الشرفاء .
فالمراد بقوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } ان اليهود يقبلون الكذب من المنافقين ، ومن بعضهم البعض . والمراد من القوم في قوله : { لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أولئك الذين أرسلوا الوفد ليسألوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولم يأتوه بأنفسهم .
{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ } . حيث وضعوا الجلد مكان الرجم .
وتقدمت هذه الجملة بالمعنى في سورة البقرة الآية 75 : { يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } . وأيضا تقدمت بحروفها في الآية 45 من سورة النساء .
{ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا } . أي قال الذين أرسلوا الوفد للوفد : ان أفتى محمد ( صلى الله عليه وآله ) بغير الرجم فاقبلوا ، وإن أفتى بالرجم فارفضوا .
{ ومَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً } . اختلف المفسرون في المراد من الفتنة . . قال الأشاعرة ، أي السنة : المراد من الفتنة الكفر ، ويكون المعنى ان أي عبد جعله اللَّه كافرا وضالا فلن يقدر أحد أن يدفع عنه الكفر والضلال . . وإنما ذهب الأشاعرة إلى هذا التفسير ، وفي مقدمتهم الرازي لأنهم يجيزون على اللَّه أن يريد الكفر من عبده ، وأن يفعله فيه ، ثم يعذبه عليه .
وقال الشيعة والمعتزلة : المراد من الفتنة في هذه الآية العذاب ، ويكون المعنى ان من يرد اللَّه عذابه فلن يقدر أحد أن يدفع العذاب عنه . . وإنما قالوا ذلك لأنهم لا يجيزون على اللَّه أن يفعل الشيء ، ثم يعاقب غيره عليه .
والذي نراه في تفسير هذه الآية ان اللَّه سبحانه نهى اليهود عن الكذب والتحريف ، والمكر والخداع ، وتوعدهم بالعذاب إن خالفوا وتمردوا . ولكنهم أصروا على العناد ، ولم يكترثوا بالنهي ، ولا بالوعيد . . فتركهم اللَّه وشأنهم ولم يردعهم بالقسر والقهر عن الفتنة ، لأنه تعالى يعامل الناس - فيما يعود إلى أفعالهم - معاملة المرشد الناصح ، لا معاملة القاهر الغالب .
وقد أكد سبحانه ذلك بقوله : { أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } .
أي لم يرد أن يلجئهم إلجاء إلى تطهير القلوب وتزكية النفوس ، بل جعل لهم الخيار في ذلك ، وبهذا الاعتبار صحت نسبة الفتنة إليه تعالى . . وقد أوضحنا ذلك عند تفسير الآية 88 من سورة النساء ، فقرة « الإضلال من اللَّه سلبي لا إيجابي » .
{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } . كرر سبحانه { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } مبالغة في الذم والقدح ، والردع والزجر ، والمراد بالسحت المال الحرام ، كالربا وما إليه . . وأشد جرما من الربا الأموال التي يقبضها العملاء من الدول الاستعمارية لتبقى شعوبهم متخلفة بائسة تتسول الرغيف ممن ينهب أقواتها وثرواتها .
{ فَإِنْ جاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهً يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } . هذا بيان لوظيفة الحاكم المسلم إذا تحاكم لديه خصمان من غير المسلمين . . وقد اتفق الفقهاء على انه إذا كان الخصمان من غير أهل الذمة فللحاكم الخيار ، إن شاء حاكمهما ، وإن شاء رفض ، حسبما يرجحه من المصلحة . . واختلفوا فيما إذا كان الخصمان من أهل الذمة ، فقال صاحب المنار - من السنة - : يجب على الحاكم أن يحاكمهما .
وقال فقهاء الشيعة : بل هو مخير ان شاء حاكم ، وان شاء رفض .
وإذا حاكم يجب عليه أن يفصل بينهما بحكم الإسلام ، لا بأحكام دينهم ، لقوله تعالى : { وإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } .
وإذا كان أحد المتخاصمين مسلما ، والآخر غير مسلم وجب على الحاكم قبول الدعوى والحكم بما أنزل اللَّه باتفاق المسلمين .
{ وكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ } .
تحاكم اليهود في أمر الزاني عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولما حكم بينهم تولوا عنه ورفضوا حكمه بعد أن اختاروه حكما . . وما كان أغناهم عن الحالين ؟ . فالأولى بهم أن لا يحكمّوه منذ البداية ، أما أن يرضوا به حكما ، ثم يرفضوا حكمه فغريب . . هذا مع أنهم يعلمون علم اليقين بأنه ( صلى الله عليه وآله ) حكم بحكم اللَّه الموجود في التوراة . . فقوله تعالى : { بَعْدِ ذلِكَ } إشارة إلى التحكيم ، وإلى حكم النبي بحكم اللَّه . ولفظ ذلك يشار به إلى المفرد والمثنى والجمع .
{ وما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } . أي لا غرابة في أن يتولوا عن حكم النبي بعد أن رضوا به حكما ، وبعد ان حكم بحكم اللَّه ، لأنهم لا يؤمنون باللَّه ولا بالتوراة إيمانا صادقا ، وإنما يؤمنون بأهوائهم ورغباتهم . . وكل من لا يرضى بالحق وحكمه فما هو من الإيمان الحق في شيء يهوديا كان أو مسلما . قال تعالى : { فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً }[ النساء : 64 ] .
_________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 57-60 .
قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } ، تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وتطييب لنفسه مما لقي من هؤلاء المذكورين في الآية ، وهم الذين يسارعون في الكفر أي يمشون فيه المشية السريعة ، ويسيرون فيه السير الحثيث ، تظهر من أفعالهم وأقوالهم موجبات الكفر واحدة بعد أخرى فهم كافرون مسارعون في كفرهم ، والمسارعة في الكفر غير المسارعة إلى الكفر .
وقوله : { مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ } بيان لهؤلاء الذين يسارعون في الفكر أي من المنافقين ، وفي وضع هذا الوصف موضع الموصوف إشارة إلى علة النهي كما أن الأخذ بالوصف السابق أعني قوله : { الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } للإشارة إلى علة المنهي عنه ، والمعنى ـ والله أعلم ـ : لا يحزنك هؤلاء بسبب مسارعتهم في الكفر فإنهم إنما آمنوا بألسنتهم لا بقلوبهم وما أولئك بالمؤمنين ، وكذلك اليهود الذين جاءوك وقالوا ما قالوا .
وقوله : { وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا } عطف على قوله : { مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا } (إلخ) على ما يفيده السياق ، وليس من الاستئناف في شيء ، وعلى هذا فقوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } خبر لمبتدأ محذوف أي هم سماعون (إلخ) .
وهذه الجمل المتسقة بيان حال الذين هادوا ، وأما المنافقون المذكورون في صدر الآية فحالهم لا يوافق هذه الأوصاف كما هو ظاهر .
فهؤلاء المذكورون من اليهود هم سماعون للكذب أي يكثرون من سماع الكذب مع العلم بأنه كذب ، وإلا لم يكن صفة ذم ، وهم كثير السمع لقوم آخرين لم يأتوك ، يقبلون منهم كل ما ألقوه إليهم ويطيعونهم في كل ما أرادوه منهم ، واختلاف معنى السمع هو الذي أوجب تكرار قوله : { سَمَّاعُونَ } فإن الأول يفيد معنى الإصغاء والثانية معنى القبول .
وقوله : { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ } أي بعد استقرارها في مستقرها والجملة صفة لقوله : { لِقَوْمٍ آخَرِينَ } وكذا قوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا } .
ويتحصل من المجموع أن عدة من اليهود ابتلوا بواقعة دينية فيما بينهم ، لها حكم إلهي عندهم لكن علماءهم غيروا الحكم بعد ثبوته ثم بعثوا طائفة منهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وأمروهم أن يحكموه في الواقعة فإن حكم بما أنبأهم علماؤهم من الحكم المحرف فليأخذوه وإن حكم بغير ذلك فليحذروا .
وقوله : { وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً } الظاهر أنها معترضة يبين بها أنهم في أمرهم هذا مفتونون بفتنة إلهية ، فلتطب نفس النبي صلى الله عليه وآله بأن الأمر من الله وإليه وليس يملك منه تعالى شيء في ذلك ، ولا موجب للتحزن فيما لا سبيل إلى التخلص منه .
وقوله : { أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } فقلوبهم باقية على قذارتها الأولية لما تكرر منهم من الفسق بعد الفسق فأضلهم الله به ، وما يضل به إلا الفاسقين .
وقوله : { لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ } إيعاد لهم بالخزي في الدنيا وقد فعل بهم ، وبالعذاب العظيم في الآخرة .
قوله تعالى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } قال الراغب في المفردات : السحت القشر الذي يستأصل ، قال تعالى : { فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ } وقرئ : ( فَيُسْحِتَكُمْ ) ( أي بفتح الياء ) يقال : سحته وأسحته ، ومنه السحت للمحظور الذي يلزم صاحبه العار كأنه يسحت دينه ومروءته ، قال تعالى : { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي لما يسحت دينهم ، وقال عليه السلام : كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به ، وسمي الرشوة سحتا . انتهى .
فكل مال اكتسب من حرام فهو سحت ، والسياق يدل على أن المراد بالسحت في الآية هو الرشا ويتبين من إيراد هذا الوصف في المقام أن علماءهم الذين بعثوا طائفة منهم إلى النبي صلى الله عليه وآله كانوا قد أخذوا في الواقعة رشوة لتحريف حكم الله فقد كان الحكم مما يمكن أن يتضرر به بعضه فسد الباب بالرشوة ، فأخذوا الرشوة وغيروا حكم الله تعالى .
ومن هنا يظهر أن قوله تعالى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } باعتبار المجموع وصف لمجموع القوم ، وأما بحسب التوزيع فقوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } وصف لقوله : { الَّذِينَ هادُوا } وهم المبعوثون إلى النبي صلى الله عليه وآله ومن في حكمهم من التابعين ، وقوله : { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } وصف لقوم آخرين ، والمحصل أن اليهود منهم علماء يأكلون الرشا ، وعامة مقلدون سماعون لأكاذيبهم .
قوله تعالى : { فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } ( إلى آخر الآية ) تخيير للنبي صلى الله عليه وآله بين أن يحكم بينهم إذا حكموه أو يعرض عنهم ، ومن المعلوم أن اختيار أحد الأمرين لم يكن يصدر منه صلى الله عليه وآله إلا لمصلحة داعية فيئول إلى إرجاع الأمر إلى نظر النبي صلى الله عليه وآله ورأيه .
ثم قرر تعالى هذا التخيير بأنه ليس عليه صلى الله عليه وآله ضرر لو ترك الحكم فيهم وأعرض عنهم ، وبين له أنه لو حكم بينهم فليس له أن يحكم إلا بالقسط والعدل .
فيعود المضمون بالآخرة إلى أن الله سبحانه لا يرضى أن يجري بينهم إلا حكمه فإما أن يجري فيهم ذلك أو يهمل أمرهم فلا يجري من قبله صلى الله عليه وآله حكم آخر .
قوله تعالى : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } تعجيب من فعالهم أنهم أمة ذات كتاب وشريعة وهم منكرون لنبوتك وكتابك وشريعتك ثم يبتلون بواقعة في كتابهم حكم الله فيها ، ثم يتولون بعد ما عندهم التوراة فيها حكم الله والحال أن أولئك المبتعدين من الكتاب وحكمه ليسوا بالذين يؤمنون بذلك .
وعلى هذا المعنى فقوله : { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ } أي عن حكم الواقعة مع كون التوراة عندهم وفيها حكم الله ، وقوله : { وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } أي بالذين يؤمنون بالتوراة وحكمها ، فهم تحولوا من الإيمان بها وبحكمها إلى الكفر .
ويمكن أن يفهم من قوله : { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ } ، التولي عما حكم به النبي صلى الله عليه وآله ومن قوله : { وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } نفي الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله على ما كان يظهر من رجوعهم إليه وتحكيمهم إياه ، أو نفي الإيمان بالتوراة وبالنبي صلى الله عليه وآله جميعا ، لكن ما تقدم من المعنى أنسب لسياق الآيات .
وفي الآية تصديق ما للتوراة التي عند اليهود اليوم ، وهي التي جمعها لهم عزراء بإذن ( كورش ) ملك إيران بعد ما فتح بابل ، وأطلق بني إسرائيل من أسر البابليين وأذن لهم في الرجوع إلى فلسطين وتعمير الهيكل ، وهي التي كانت بيدهم في زمن النبي صلى الله عليه وآله ، وهي التي بيدهم اليوم ، فالقرآن يصدق أن فيها حكم الله ، وهو أيضا يذكر أن فيها تحريفا وتغييرا .
ويستنتج من الجميع : أن التوراة الموجودة الدائرة بينهم اليوم فيها شيء من التوراة الأصلية النازلة على موسى عليه السلام وأمور حرفت وغيرت إما بزيادة أو نقصان أو تغيير لفظ أو محل أو غير ذلك ، وهذا هو الذي يراه القرآن في أمر التوراة ، والبحث الوافي عنها أيضا يهدي إلى ذلك .
____________________________
1. تفسير الميزان ، ج5 ، ص 290-292 .
التّحكيم بين الأنصار والأعداء:
تدلّ هاتان الآيتان والآيات التي تليهما ، على أنّ للقاضي المسلم الحق ـ في ظل شروطه خاصّة ـ في الحكم في جرائم الطوائف الأخرى من غير المسلمين ، وسيأتي شرح هذا الموضوع في تفسير نفس هذه الآيات.
لقد بدأت الآية الأولى ـ من الآيتين الأخيرتين ـ الخطاب بعبارة {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ} وقد وردت هذه العبارة في مكانين من القرآن : أوّلهما في الآية موضوع البحث ، والثّاني في الآية (٦٧٧) من نفس هذه السورة والتي تتعرض لقضية الولاية والخلافة. وربّما جاء استخدام هذا التعبير من أجل إثارة أكثر لدافع الشعور بالمسؤولية لدى النّبي صلى الله عليه و آله وسلم وتعزيز إرادته ، ومخاطبته بأنّه هو رسول الله ، وعليه أن يستقيم ويصمد في إبلاغ الحكم المكلّف به .
بعد ذلك تطمئن الآية النّبي صلى الله عليه و آله وسلم ـ كتمهيد لبيان الحكم التالي ـ فتقول : {لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} .
ويرى البعض أن عبارة {يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} تختلف عن عبارة «يسارعون إلى الكفر» وذلك لأنّ العبارة الأولى تقال بشأن أفراد كافرين غارقين في كفرهم ، ويتسابقون فيما بينهم للوصول إلى آخر مرحلة من الكفر ، أمّا العبارة الثّانية فتقال في من يعيشون خارج حدود الكفر لكنّهم يتسابقون للوصول إليه (2) .
وبعد أن تذكر الآية تجاوزات المنافقين والأعداء الداخليين ، تتناول وضع الأعداء الخارجيين واليهود الذين كانوا سببا لحزن النّبي صلى الله عليه و آله وسلم فتقول الآية : {وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا ...}.
ثمّ تشير الآية إلى قسم من تصرفات هؤلاء المشوبة بالنفاق والرياء ، وفتؤكّد أنّهم إنّما يستمعون كلام النّبي لا لأجل أطاعته ، بل لكي يجعلوا من ذلك وسيلة لتكذيب النّبي والافتراء عليه حيث تقول الآية : {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}.
ولهذه الجملة القرآنية تفسير آخر ، هو أنّ هؤلاء اليهود يستمعون كثيرا إلى أكاذيب قادتهم وزعمائمهم ، لكنّهم لا يبدون استعدادا لاستماع قول الحق والإذعان له (3) .
ثمّ تفضح الآية الصفة الثالثة لليهود ، فتبيّن أنّهم يتجسّسون على المسلمين لمصلحة قوم آخرين ممّن لا يحضرون الاجتماعات الإسلامية التي تعقد في مجلس النّبي صلى الله عليه و آله وسلم فتقول الآية : {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ...} .
وفي تفسير آخر لهذه الجملة قيل أن هؤلاء اليهود كانوا يستمعون إلى أوامر جماعتهم ـ فقط ـ وقد كلّفهم قومهم بأن يقبلوا ما وافق أهواءهم من أقوال النّبي صلى الله عليه و آله وسلم ، وأن يخالفوا أو يرفضوا ما كان عكس ذلك من أقواله صلى الله عليه و آله وسلم ، وبناء على هذا السلوك فإنّ ما كان يظهر من طاعة هؤلاء لبعض أقوال النّبي صلى الله عليه و آله وسلم لم يكن في الحقيقة إلّا طاعة منهم لأقوال كبارهم ووجهائهم الذين أمروهم باتباع هذا الأسلوب ، ولذلك أشارت الآية على النّبي صلى الله عليه و آله وسلم أن لا يحزن لمخالفات هؤلاء ، فهم لم يحضروا عنده أبدا من أجل الاستماع إلى الحقّ واتّباعه!
ثمّ تذكر الآية انحرافا آخر لهؤلاء اليهود ، فتشير إلى تحريفهم لكلام الله سبحانه وتعالى من خلال تحريف الألفاظ أو تحريف المعاني الواردة في هذا الكلام ، فهم إن وجدوا في كلام الله حكما يخالف مصالحهم أوّلوه أو رفضوه جملة وتفصيلا ، كما تقول الآية : {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ ...} (4) .
والأعجب من ذلك أنّ هؤلاء قبل أن يحضروا مجلس النّبي كانوا يقررون كما يأمرهم كبارهم أنّهم إن تلقوا من محمّد صلى الله عليه و آله وسلم حكما موافقا لميولهم وأهوائهم قبلوا به ، وإن كان مخالفا لهوى أنفسهم ردوه وابتعدوا عنه ، تقول الآية الكريمة : {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ...}.
فهؤلاء قد غرقوا في الضلال وتحجرت عقولهم لغاية أنّهم كانوا يرفضون كل شيء يخالف ما عندهم من أحكام محرفة ، دون أن يبذلوا جهدا أو عناء في التفكير لمعرفة الحقيقة ، وقد أبعدتهم هذه الحالة عن طريق الرشاد وأخرجتهم من جادة الصواب ، بحيث لم يبق أمل في هدايتهم ، فاستحقوا بذلك عذاب الله ، ولم تعد تنفع فيهم شفاعة الشافعين ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة : {وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئا} وقد تدنست قلوب هؤلاء إلى درجة لم تعد قابلة للتطهير ، وحرمهم الله لذلك طهارة القلوب ، فتقول الآية : {أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ...} وعمل الله مقرون بالحكمة دائما ، لأن من يقضي عمرا في الانحراف ويمارس النفاق والكذب ويخالف الحق ويرفض الحقيقة ، ويحرف قوانين الله لن يبقى له مجال للتوبة والعودة إلى الحق ، حيث تقول الآية الكريمة في هذا المجال : {لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ}.
أمّا الآية الثّانية فتؤكّد ـ مرّة أخرى ـ على أن هؤلاء لديهم آذان صاغية لاستماع حديث النّبي صلى الله عليه و آله وسلم لا لإطاعته بل لتكذيبه ، أو كما يقول تفسير آخر فإنّ هؤلاء آذانهم صاغية لاستماع أكاذيب كبارهم ، فتقول الآية : {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ...}وقد تكررت هذه الجملة في آيتين متتاليتين تأكيدا وإثباتا لوجود هذه الصفة الشنيعة في هؤلاء.
كما أضافت الآية صفة شنيعة أخرى اتصف بها اليهود ، وهي تعودهم وإدمانهم على أكل الأموال المحرمة والباطلة من الرّبا والرّشوة وغير ذلك ، حيث تقول الآية : {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ...} (5) .
ثمّ تخير الآية النّبي بين أن يحكم بينهم أو أن يتجنبهم ويتركهم ، حيث تقول الآية : فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ...} ولا يعني التخيير أن يستخدم النّبي صلى الله عليه و آله وسلم ميله ورغبته في اختيار أحد الأمرين المذكورين ، بل إن المراد من ذلك هو أن يراعي النّبي الظروف والملابسات المحيطة بكل حالة ، فإن رأى الوضع يقتضي الحكم بينهم حكم ، وإن رأى خلاف ذلك تركهم وأعرض عنهم.
ولكي تعزز الآية الاطمئنان في نفس النّبي صلى الله عليه و آله وسلم ، إن هو ارتأى الإعراض عن هؤلاء لمصلحة أكّدت قائلة : {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً ...}.
كما أكّدت ضرورة اتباع العدل وتطبيقه إذا كانت الحالة تقتضي أن يحكم النّبي بين هؤلاء فقالت الآية : {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
وقد اختلف المفسّرون في قضية تخيير النظام الإسلامي بين الحكم في غير المسلمين بأحكام الإسلام أو الإعراض عنهم ، وهل أن هذا التخيير باق على قوته أو أنّه أصبح منسوخا؟
ويرى البعض أنّ الناس في ظل الحكم الإسلامي مشمولون من الناحيتين الحقوقية والجزائية بالقوانين الإسلامية ، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين. وبناء على هذا الرأي فإن حكم التأخير إمّا أن يكون منسوخا وإمّا أنّه يخص غير الكفار الذميين ، أي يخض أولئك الكفار الذين لا يعيشون في ظل حكم إسلامي ، بل يرتبطون بالمسلمين باتفاقيات أو مواثيق ، أو يكون بينهم علاقات ود وتزاور.
ويعتقد مفسّرون آخرون أنّ الحاكم المسلم يكون مخيرا ـ حتى في الوقت الحاضر لدى التعامل مع غير المسلمين ، فهو إمّا أن يطبق فيهم الأحكام الإسلامية إذا اقتضت الضرورة والمصلحة ذلك ، وإمّا أن يعرض عنهم ويحيلهم إلى قوانينهم الخاصّة بهم ، بحسب ظروف وملابسات كل حالة «للاطلاع أكثر على تفاصيل هذا الحكم تراجع كتب الفقه».
{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } [المائدة : 43] .
تتابع هذه الآية موضوع الحكم بين اليهود تطرقت إليه الآيتان السابقتان ، اللتان بيّنتا أنّ اليهود كانوا يأتون إلى النّبي صلى الله عليه و آله وسلم ويطلبون منه الحكم فيهم ، وقد أظهرت هذه الآية الأخيرة الاستغراب من حالة اليهود الذين كانوا مع وجود التّوراة بينهم ، واحتوائها على حكم الله ، يأتون إلى النّبي محمّد صلى الله عليه و آله وسلم ويطلبون منه الحكم فيهم بالرغم من وجود التّوراة عندهم ، فتقول : {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ...}.
ويجب الانتباه إلى أنّ المقصود من الحكم في الآية هو حكم الرجم للزاني المحصن من الرجال والنساء والذي ورد في التّوراة أيضا ، في سفر التثنية الفصل الثّاني والعشرين.
والعجيب في أمر هؤلاء اليهود أنّهم مع وجود التّوراة بينهم وعدم اعترافهم بنسخها من قبل القرآن ورفضهم للشريعة الإسلامية ، كانوا حين يرون حكما في التّوراة لا يوافق ميولهم وأهوائهم يتركون ذلك الحكم ويبحثون عن حكم آخر في مصادر لم يقرّوا ولم يعترفوا بها.
والأعجب من ذلك أنّهم حين كانوا يطلبون التحكيم من نبي الإسلام بينهم ، كانوا لا يقبلون بحكمه إذا كان مطابقا لحكم التّوراة لكنه لم يوافق ميولهم ورغباتهم حيث تقول الآية : {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} وما ذلك إلّا لأن هؤلاء لم يكونوا بمؤمنين في الحقيقة ، ولو كانوا مؤمنين لما استهزءوا هكذا بأحكام الله ، حيث تؤكّد الآية قائلة : {وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}.
وقد يرد اعتراض في هذا المجال وهو : إن الآية الشريفة تقرّ بوجود حكم الله في التّوراة ونحن نعلم عن طريق القرآن والرّوايات الإسلامية ، بأن التّوراة قد أصابها التحريف قبل ظهور نبي الإسلام محمّد صلى الله عليه و آله وسلم ؟
إنّ جوابنا على هذا الاعتراض هو أننا أوّلا : لا نقول بأن التحريف قد أصاب التّوراة كلّها ، بل نقر بوجود أحكام في التّوراة تطابق الحقيقة والواقع ، وحكم الرجم ـ الذي هو موضوع بحثنا الآن ـ من الأحكام التي لم تصبها يد التحريف في التّوراة .
ثانيا : إنّ التّوراة مهما كان حالها لا يعتبرها اليهود كتابا محرفا ، ولذلك فإن الغرابة هنا تكمن في رفض اليهود العمل بحكم الله مع وجوده في توراتهم.
___________________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 514-519 .
2. المنار ، ج ٦ ، ص ٣٨٨.
3. في التّفسير الأوّل تكون اللاء في عبارة (للكذب) لام التعليل بينما في التّفسير الثّاني فهي لام التعدية.
4. تحدثنا عن أساليب التحريف التي اتبعها اليهود في تفسير الآية (١٣) من نفس هذه السورة .
5. تعني كلمة (سحت) في الأصل نزع القشرة ، أو شدّة الجوع ، ثمّ أطلقت على كل مال غير مشروع ، أي محرم ، وبالأخص الرشوة ، لأن مثل هذه الأموال تنزع الصفاء والمودة عن المجتمع وتزيل عنه البركة والرخاء مثلما يؤدي نزع قشر الشجرة إلى ذبولها وجفافها وعلى هذا الأساس فإن لكلمة (سحت) معنى واسعا ، وإذا ورد في بعض الرّوايات مصداق خاص لها فلا يدل ذلك على اختصاص الكلمة بذلك.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|