أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-03-2015
8064
التاريخ: 15-8-2021
2548
التاريخ: 17-6-2017
5798
التاريخ: 19-9-2021
3803
|
إنّ التغنّي بالبطولة والأمجاد ظاهرة أدبية موجودة في أدب ما قبل الإسلام، عرفناها في أدب الفروسية، وشعر أيّام العرب، أو مفاخر الشعراء بقبيلتهم الذي يجعلهم يمجّدون بطولات فرسانها، أو يشيدون ببطولاتهم بالذات، دفاعاً عن القبيلة أو أخذاً للثأر، وغير ذلك من المعاني التي دارت على ألسن الشعراء الفرسان عند عنترة بن شدّاد، وشعراء الصعاليك مثل عروة بن الورد والسُليك والشنفري، وغيرهم، من الشعراء. إنّ شعر الفروسية هذا قد تطوّر في العصر الإسلامي، وقد دخلت فيه مفاهيم جديدة أغنته وأعطته طابعاً خاصّاً حين ابتعد الشعراء الفرسان عن العصبية القبلية، أو الهوى الشخصي، واكتسبت أشعار البطولة عندهم طابعاً دينياً مبعثه العقيدة الراسخة والإيمان الذي لا يتزعزع، وإذا بالشعراء المسلمين يتغنّون بأبيات تثير حماسهم، وحماس من معهم، ويتخيّلون الجنّة وظلالها الوارفة، فتتحوّل السيوف المشرعة أمامهم إلى أغصان مورفة توصلهم إلى الجنّة، وإذا بصليل تلك السيوف نغمت تطرب نفوسهم لها، لأنّها تقرّبهم من الأمل المنشود، الشهادة في سبيل الله، أو النصر على الأعداء حيث الثواب والأجر.
أ ــ الثبات على العقيدة في مكّة:
وقد ظهرت هذه الصورة منذ فجر عصر الدعوة الإسلامية، فمنذ أن ظهر الإسلام بمكّة، وقريش والمشركون يحاولون أن يثنوا المسلمين عن الدين الجديد بشتّى الطرق والوسائل، فلمّا أعياهم ذلك لجأوا إلى القوّة والبطش وتعذيب المسلمين. وقد وصلت بعض المقطوعات التي عبّر فيها أصحابها عمّا يلاقونه من عذاب وهول على أيدي المشركين، فهذا خبيب بن عدي الأنصاري الذي قتله المشركون بمكّة يدعو الله ــ قبل قتله ــ أن يصبره على تحمّل أذى المشركين، وهو غير خائف من القتل، إنّما هو خائف على عقيدته من أن تضعف، أو تهون بسبب تعذيب المشركين له، فيخاف على نفسه من عقاب الله في الآخرة. وقيل إنّه قالها حين أسره مشركو قريش في مكّة وعذّبوه:
فذو العرش صبّرني على ما أصابني |
|
فقد بضعوا لحمي وقد ضلّ مطعمي |
وما بي حذار الموت إنّي لميت |
|
ولكن حذار حرّ نار ملفّع |
ولست بمبد للعدو تخشّعاً |
|
ولا جزعاً إنّي إلى الله مرجعي |
ولست أُبالي حين أُقتل مسلماً |
|
على أي حال كان في الله مصرعي |
وحين عذّب المشركون عمّار بن ياسر وأباه وأُمّه وعدداً من المسلمين، قال عمّار قصيدة يعلن فيها صبره على الأذى وتشبّثه بدين التوحيد، ويدعو الله أن ينجيه من أذى المشركين، ويذكر بلال بن رباح وأُمّه حمامة وأصحابه، وما كانوا فيه من البلاء، معلناً إيمانه بتوحيد الله، واعترافه بالأنبياء والرسل من خلال دعائه لربّ الناس جميعاً، ربّ الأنبياء إبراهيم ويونس، وموسى، وعيسى:
جزى الله خيراً عن بلال وصحبه |
|
عتيقاً وأخزى فاكهاً وأبا جهل |
عشية همّا من بلال بسوءة |
|
ولم يحذرا ما يحذر المرء ذو العقل |
بتوحيده ربّ الأنام وقوله |
|
شهدت بأنّ الله ربّي على مهل |
فإن يقتلوني يقتلوني فلم أكن |
|
لأُشرك بالرحمن من خيفة القتل |
فياربّ إبراهيم والعبد يونس |
|
وموسى وعيسى نجّني ثمّ لا تبلي |
لمن ضلّ يهوى الغي من آل غالب |
|
على غير برّ كان منه ولا عدل |
ب ــ الهجرة في سبيل الله:
وحين أذن الرسول الكريمo للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة، ووجد المسلمون هناك الأمن والطمأنينة، بعث بعضهم رسائل شعرية إلى اخوانهم المسلمين يرغبونهم في الهجرة، فأرض الله واسعة، ويستطيع المسلم أن ينأى عن الذلّ والهوان، فيقول عبدالله بن الحارث:
ياراكباً بلّغن عنّي مغلغلة |
|
من كان يرجو بلاغ الله والدين |
كلّ امرئ من عباد الله مضطهد |
|
ببطن مكّة مشهور ومفتون |
إنّا وجدنا بلاد الله واسعة |
|
تنجي من الذلّ والمخزاة والهوان |
فلا تقيموا على ذلّ الحياة ولا |
|
خزي الممات وعيب غير مأمون |
إنّا تبعنا رسول الله فاطّرحوا |
|
قول النبي، وكالوا بالموازين |
فاجعل عذابك في القوم الذين بغوا |
|
وعائذ بك أن يعلو فيطغوني |
لقد شاء الله أن يختبر صبر المسلمين، في تحمّلهم لأذى المشركين مرّة، وتحمّل فراق الأهل والديار والأحبّة مرّة أُخرى. وتكون الهجرة هذه المرّة إلى المدينة، فيترك المسلمون ديارهم وأهليهم وأحبّاءهم مهاجرين بدينهم، ملتحقين بالنبيo.
قصيدة وتحليل
تستحقّ قصيدة أبي أحمد بن جحش الوقوف عندها لما فيها من المعاني الإنساني الرقيقة، والمبادئ الإسلامية التي تمثّلها فكر الشاعر، ووعاها منذ وقت مبكّر. لقد كان أبو أحمد بن جحش من أوائل المهاجرين من مكّة إلى المدينة مع أخيه عبدالله بن جحش، وأهله يقول:
ولمّا رأتني أُمّ أحمد غاديا |
|
بذمّة من أخشى بغيب وأرهب |
تقول فإمّا كنت لابدّ فاعلاً |
|
فيمّم بنا البلدان، ولتنأ يثرب |
فقلت لها: بل يثرب اليوم وجهنا |
|
وما يشأ الرحمن فالعبد يركب |
إلى الله وجهي والرسول ومن يقم |
|
إلى الله يوماً وجهه لا يخيّب |
فكم قد تركنا من حبيب مناصح |
|
وناصحة تبكي بدمع وتندب |
ترى أنّ وتراً نائياً عن بلادنا |
|
ونحن نرى أنّ الرغائب نطلب |
دعوت بني غنم لحقن دمائهم |
|
وللحقّ لما لاح للناس ملحب |
أجابوا بحمد الله لمّا دعاهم |
|
إلى الحقّ داع والنجاح فأوعبوا |
وكنّا وأصحاب لنا فارقوا الهدى |
|
أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا |
كفوجين: إمّا منهم فموفّق |
|
على الحقّ مهدي وفوج معذب |
طغوا وتمنّوا كذبة وأزلّهم |
|
عن الحقّ إبليس فخابوا وخيّبوا |
ورعنا إلى قول النبي محمّد |
|
فطاب ولاة الحقّ منّا وطيّبوا |
نمت بأرحام إليهم قريبة |
|
ولا قرب بالأرحام إذ لا نقرّب |
فأي ابن أُخت بعدنا يأفننكم |
|
وأية صهر بعد صهري ترقّب |
ستعلم يوماً أيّنا إذ تزايلوا |
|
وزيّل أمر الناس للحقّ أصوب |
أبو أحمد بن جحش، اسمه عبده بن جحش بن رباب الأسدي، أُمّه وأُمّ أخيه عبدالله بن جحش أُميمة بنت عبد المطّلب عمّة الرسولo قيل عنه: أنّه أوّل من خرج إلى المدينة مهاجراً من مكّة من أصحاب رسول اللهo مع أخيه عبدالله. توفّي نحو 20هـ .
إنّ أبا أحمد هذا صحابي أسلم قبل دخول النبيo دار الأرقم، وأُمّ أحمد زوجه هي الفارعة بنت أبي سفيان هاجرت معه إلى المدينة. وإذا كنّا لا نعده رائد الشعر الإسلامي لأنّه بدأ بالدفاع عن الإسلام قبل حسّان بن ثابت كما يرى الأُستاذ الدقّة، فلأنّ هناك من سبقه إلى الشعر الإسلامي الذي عبّر فيه أصحابه عن صبرهم على العذاب في مكّة قبل الهجرة إلى الحبشة أو المدينة، أو فيما أرسلوه من أشعار في هجرتهم الثانية إلى المدينة، كما مرّ بنا قبل قليل. إنّ أبا أحمد بن جحش يمكن أن يعدّ من أوائل الشعراء الذين آمنوا إيماناً قوياً بالإسلام ورسالته، وظهر هذا الإيمان في أشعارهم. فما أوردناه هنا ليس أبياتاً مفردة، ولا نفثات متألّم صابر فحسب، وإنّما هي قصيدة متكاملة المعاني، سلسلة الألفاظ، اعتمد فيها الشاعر على حواره مع زوجه، ليوصل إلينا معاناته ومعاناتها وهما يقرّران القرار الحاسم المصيري في ترك ديارهم والهجرة إلى المدينة حيث النبيo.
يجعل الشاعر قوام قصيدته ومطلعها حديثه عن أُمّ أحمد زوجه التي حاولت أن تغيّر وجهة هجرته إلى مدينة أُخرى غير يثرب، ربّما لتبعده عن المواجهة الصريحة مع المشركين وهم أهلها وذووها. والملاحظ أنّه يسمّيها يثرب وليس المدينة، لأنّها لم تشرّف بهذا الاسم بعد. والقصيدة تحمل وحدة موضوعية بدءاً من المطلع حتّى النهاية، ففكرتها الهجرة في سبيل الله، والإطار الذي يوحّدها أنّ الشاعر يريد أن يتخلّص من قبضة أهله وأحبّائه الذين ما يزالون على شركهم، بادئاً بزوجته المسلمة، منهياً الحديث عن أصهاره الذي لم يرعوا صلة القرابة التي تربطهم به، فزوجته هي بنت أبي سفيان، وأُمّه بنت عبد المطّلب ... وهو حديث عن صلة القرابة التي لم تمنع المشركين من أذى قريبهم وحليفهم، ولم تحل هي نفسها دون مغادرتهم وهجرة مكّة إلى المدينة.
لقد حمل الشاعر لغة قصيدته مفردات وأفكاراً إسلامية شغلت معظم أبياتها، ممّا يدلّ على تأثّر الشعراء بلغة القرآن منذ وقت مبكّر:
وفي البيت الثالث عشر والرابع عشر يذكر صلة الرحم التي تربطه بهم، والتي لم تعد تجدي شيئاً، لأنّهم يحاربون من يهديه الله إلى الإسلام.
ويشير في البيت الرابع عشر خاصّة إلى أبي لهب عبد العزّى وأبي سفيان صخر بن حرب، إذ كانت أُميمة بنت عبد المطّلب أُمّ الشاعر، والفارعة بنت أبي سفيان زوجه التي هاجرت معه، إنّها صلة رحم قوية يشدّها وثاق آخر وهو الحلف، ومع ذلك لم يحفظوا ذمّته، لأنّهم أعلنوا الحرب على كلّ من دخل الإسلام.
ونعود إل شعر هذا المجاهد وسيرته التي تعدّ انموذجاً رائعاً للهجرة في سبيل الله، لقد هاجر أبو أحمد وترك داره في مكّة. وهنا يردنا خبر طريف جدّاً، وهو أنّ أبا سفيان باع دار صهره أبي أحمد بعد أن هاجر إلى المدينة ويهتزّ الشاعر لنبأ بيع داره، فيخاطب
أبا سفيان، ويؤنّبه على فعلته ... وهو معنى من المعاني الجديدة التي انفرد بها أبو أحمد بن جحش:
أبلغ أبا سفيان عن |
|
أمر عواقبه ندامه |
دار ابن عمّك بعتها |
|
تقضي بها عنك الغرامة |
وحليفكم بالله ربّ الناس |
|
مجتهد الإقامة |
اذهب بها اذهب بها |
|
طوّقتها طوق الحمامة |
إنّ تكرار فعل اذهب بها مرّتين يدلّ على ألم الشاعر النفسي لضياع داره، وبيعها من قبل من تربطه به صلة قرابة قوية، إنّه والد زوجته فيحمل هذا التكرار ألم الشاعر من جهة، ودعاءه بالسوء عليه. لقد التفت السهيلي إلى تعبير الشاعر في الشطر الثاني (طوّقتها طوق الحمامة) ليقول انّه منتزع من قول النبيo: من غصب شبراً من أرض طوّقه يوم القيامة من سبع أرضين. وقال: طوق الحمامة لأنّ طوقها لا يفارقها، ولا تلقيه عن نفسها أبداً كما يفعل من لبس طوقاً من الآدميين. أيكون الشاعر قد تحدّث عن بيع داره، وشكا إلى الرسولo أمره فقال عليه السلام الحديث؟ وحين نظم الشاعر قصيدته اقتبس معنى الحديث الشريف؟. أنّنا لا نملك الدليل على الوقت الذي قال فيه الرسولo الحديث ولا عن أسبابه، إلّا أنّه يبقى اقتباساً جميلاً ومبكّراً من قول الرسول الكريم. ويعلّق جامع شعره على البيتين بقوله: (ما أرقّ طبع أبي أحمد حين يستمدّ من أقوال النبيo شعراً رائعاً مبتكراً معانيه وصوره وألفاظه).
وحين يقيم الشاعر بعد هجرته في المدينة يأخذه الحنين إلى مكّة وواديها، فقد كان رحمه الله بصيراً، ولكنّه حفظ طرق مكّة وثناياها فكان يسير فيها بلا هادٍ ولا قائد، ويحنّ إليها لأنّها الأرض التي تضمّ أهله وأحبّاءه فيقول:
ياحبّذا مكّة من واد
أرض بها أهلي وعوّادي
إنّي بها ترسخ أوتادي
إنّي بها أمشي بلا هادي
وقيل أنّ أبا بكر كان يمرّ بين يدي رسول اللهo يوم فتح مكّة ويرتجز بأبيات أبي أحمد.
جـ ــ الجهاد في سبيل الله:
لقد قيلت هذه الأشعار أوّل الدعوة الإسلامية حين كتب الله لدين الإسلام أن ينتشر، وأن يجد أنصاراً من أهل المدينة والمهاجرين، فأمرهم بالجهاد وأذن لهم في مقاتلة المشركين، وهنا تدخل أشعار الجهاد مرحلة جديدة تعطيها نفساً خاصّاً حين يشجّع المسلمون بعضهم بعضاً على الثبات في المعارك، وهو معنى وارد في شعر ما قبل الإسلام، إلّا أنّ الروح الإسلامية قد وجّهته وجهة جديدة، فالشاعر المجاهد يدعو إلى الصبر في القتال أو الموت في سبيل الله أملاً في الجنّة وثواب الله فيها. فهذا عمر بن الحمام يرتجز يوم بدر ثمّ يستشهد في المعركة نفسها قائلاً قبل استشهاده:
ركضاً إلى الله بغير زاد
والصبر في الله على الجهاد
وكلّ زاد عرضة النفاذ
إلّا التقى وعمل المعاد
غير التقي والبرّ والرشاد
وقد مرّ بنا نموذج رائع من نماذج المجاهدين الذين استماتوا في القتال، وجاهدوا بروح مفعمة بالإيمان والصبر وتمنّي الشهادة في سبيل الله من خلال دراستنا التفصيلية للشاعر المجاهد عبدالله بن رواحة، والعودة إلى أشعار هذا الشاعر بين الفينة والأُخرى يعيد إلى الذاكرة صور أبطال وجّهت مبادئ الإسلام تفكيرهم وسلوكهم فصاروا مشاعل تنير درب المجاهدين الصابرين ممّا قد مرّ بيانه من قبل، ولذلك نتابع روح الجهاد والصبر في شعر الشعراء الآخرين. فهذا مجاهد آخر يمتحن الله إيمانه في بدر فتقطع رجله، ويبقى مع ذلك صامداً ثابتاً على دينه راغباً في الجهاد والقتال، فإن كانت رجله قد قطعت في سبيل الله، فسيكون جزاؤه الجنّة ثواباً من الله تعالى، ونراه متمثّلاً فيها بآيات كريمة تصف الجنّة، وما فيها من الحور العين والظلال الوارفة يقول:
فإن تقطعوا رجلي فإنّي مسلم |
|
أُرجّى بها عيشاً من الله دانيا |
مع الحور أمثال التماثيل أُخلصت |
|
مع الجنّة العليا لمن كان عاليا |
وبعت بها عيشاً تعرّقت صفوه |
|
وعالجته حتّى فقدت الأمانيا |
فأكرمني الرحمن من فضل منّه |
|
بثوب من الإسلام غطّى المساويا |
وشاعر آخر اسمه عبدالله بن سبرة الخرشي مجاهد آخر يبارز الروم في إحدى المعارك، فتقطع يده اليمنى فيفخر بهذا الوسام الذي ناله في شرف الجهاد في سبيل الله، ويفخر بأنّه قد قطع بها أوصال ارطبون الروم، فلا يأسف لقطعها، لأنّها أدّت الرسالة، ويرى انّه ما زال فيها خير لأنّه يستطيع أن يمسك بها رمحه ويقول:
يمنى يديّ غدت منّي مفارقة |
|
لم أستطع يوم فلطاس لها تبعا |
وقائل غاب عن شأني وقائلة |
|
ألا اجتنبت عدوّ الله إذ صرعا |
وكيف أتركه يسعى بمنصله |
|
نحوي وأعجز عنه بعد ما وقعا |
ما كان ذلك يوم الروع من خلقي |
|
ولو تقارب منّي الموت فاكتنعا |
فإن يكن أطربون الروم قطّعها |
|
فقد تركت بها أوصاله قطعا |
وإن يكن أطربون الروم قطعها |
|
فإنّ فيها بحمد الله منتفعا |
بنانتين وجذمورا أُقيم بها |
|
صدر القناة إذا ما آنسوا فزعا |
أمّا عروة بن زيد الخيل فإنّه سجّل بطولاته في حروب المسلمين مع الفرس وهو وإن ذكر الجنّة إلّا أنّه تحدّث عن العقيدة من جانب آخر، حين ذكر بأنّ نيّته في الجهاد صادقة لا هدف له إلّا الأجر، أمّا الثروة التي قد تخطر في بال كثير من الفرسان قبل الإسلام فهي متوافرة، ولا شأن له بها وهو زاه فيها، ودافعه صدق العقيدة ليس إلّا. وهذا هو الذي ميّز شعر الجهاد عن شعر الحرب المعروف قبل الإسلام، كما أنّ قوله الذي سنورده بعد قليل ردّ على من حاول تفسير الفتوح الإسلامية تفسيراً مادّياً، وأنّه بسبب الحصول على الغنائم والأموال يقول عروة:
ولمّا دعوا ياعروة بن مهلهل |
|
ضربت جموع الفرس حتّى تولّت |
دفعت إليهم رحلتي وفوارسي |
|
وجرّدت سيفي فيهم ثمّ آلتي |
وكم من عدو أشرس متمرّد |
|
عليه بخيلي في الهياج أطلّت |
وقد أضحت الدنيا لدي ذميمة |
|
وسلّيت عنها النفس حتّى تسلّت |
وأصبح همّي في الجهاد ونيّتي |
|
فلله نفسي أدبرت وتولّت |
فلا ثروة الدنيا نريد اكتسابها |
|
ألا أنّها عن وفرها قد تجلّت |
وماذا أُرجّى من كنوز جمعتها |
|
وهذي المنايا شرّعاً قد أطلّت |
وإذا كان أدب البطولة معروفاً في الشعر الجهلي، فإنّ العقيدة بمفهومها الفكري لم يكن لها وجود، وإنّما نشأت بظهور الإسلام ديناً ذا فكرة واضحة قائمة على التوحيد لتنظيم الحياة الدينية والدنيوية، أو علاقات الناس بعضهم ببعض، وعلاقاتهم بخالقهم، إلى غير ذلك ممّا يشكل العقيدة الإسلامية التي وجدت طريقها إلى لغة الشعر وأخيلته بعد أن استقرّت في قلوب المسلمين. ومن الطبيعي أن يتجلّى شعر العقيدة في أشعار الدعوة الإسلامية على لسان حسّان بن ثابت وكعب بن مالك وعبدالله بن رواحة وآخرين غيرهم ممّن تصدّى للدفاع عن الدعوة الإسلامية، والذبّ عن المسلمين بوسيلة الشعر، لكنّنا سوف نتجاوز هذه الأشعار لنتحدّث عن جوانب أُخرى جدّت فيما بعد، واستحدثت نتيجة للظروف الجديدة التي عاشها المجتمع العربي الإسلامي، حيث انتقل المسلمون من أرض بلاد العرب المعروفة إلى بلاد الله الواسعة، يحملون إليها راية العقيدة والإيمان بالدين الجديد، هذه الحركة الكبيرة التي كان لها أثرها في تغيير معالم المجتمع العربي والإسلامي، تركت آثاراً واضحة في الشعر.
د ــ صور إنسانية في شعر الفتوح:
ولعلّنا لا نبالغ إذا قلنا بأنّنا نجد في الشعر الذي قيل في عصر الفتوحات الإسلامية أسمى العواطف الإنسانية في علاقة الأفراد بعضهم ببعض، وفي انفعالاتهم وهواجسهم، وتصوير ما يخالج نفوسهم من مشاعر الشوق والفرح والانفعال السريع بالانتصار، أو ربّما ما يخالج نفوس بعضهم من خوف يعتريهم أو قلق على الأهل والأحبّة.
وقد اخترنا الحديث عن هذه الصور الإنسانية المشرقة التي وردت في شعر هذا العصر، ونستطيع أن نوزّعها على مجموعتين:
1ــ شعر المقعدين والشيوخ:
وهي صور إنسانية رائعة لم ترد على لسان المجاهدين، وإنّما قالها الشعراء المقعدون الذين قعدت بهم شيخوختهم عن الجهاد والمشاركة فيه، ولم يكتفوا بهذا، بل تجاوزوه إلى المطالبة بالتشبّث بأبنائهم لأنّ ضعفهم الجسدي أدّى إلى ضعف إرادتهم وعدم قدرتهم على الصبر وتحمّل الفراق، كما أنّه يصوّر من جانب آخر ثبات الأبناء على عقيدتهم، واندفاعهم إلى الجهاد مع علمهم برغبة آبائهم وأُمّهاتهم.
وإذا كانت هذه الحالة غير شاملة ولا يمكن أن تعمّم على جميع الشيوخ، إلّا أنّها طبيعية وموجودة في المجتمعات الإنسانية على اختلاف الظروف والأزمان.
يقول المخبل السعدي مخاطباً ابنه الذي شارك في الفتوح الإسلامية واصفاً شيخوخته وخوفه وقلقه عليه إلى درجة تجعله يتصوّر بأنّه يعاني الموت والهلاك كلّ ليلة، وكأنّه يطبّق المثل العربي المشهور (أنّ الشفيق بسوء ظنّ مولع)، فهذا الشيخ يدفعه حبّه لابنه إلى القلق عليه إلى درجة تقض عليه المضاجع، وكأنّه يشرف على الموت شفقاً وخوفاً:
أيهلكني شيبان في كلّ ليلة |
|
لقلبي من خوف الفراق وجيب |
ويخبرني شيبان أن لم يعقّني |
|
تعقّ إذا فارقتني وتحوب |
فإن يك غصني أصبح اليوم بالياً |
|
وغصنك من ماء الشباب رطيب |
فإنّي حنت ظهري خطوب تتابعت |
|
فمشيي ضعيف في الرجال دبيب |
إذا قال صحبي يا ربيع ألا ترى |
|
أرى الشيء كالشيئين وهو قريب |
فالشاعر هنا يرسم لنا صورة رائعة للأُبوّة المحبّة الحانية، وكأنّه يستعطف ابنه حين يذكره في البيت الثاني بأنّ انخراطه في جيش المجاهدين وابتعاده عنه إنّما هو العقوق بعينه، وكأنّي أرى الابن وقد أعطى العهد لوالده أن يكون ملتزماً بالتعاليم الإسلامية التي وضّحتها الآية الكريمة (وقضى ربّك ألّا تعبدوا إلّا إيّاه وبالوالدين إحساناً
إمّا يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أُف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً} [الإسراء: 23]، أقول يخيّل إليّ بأنّ الابن قطع عهداً على نفسه أن يكون بارّاً بأبيه، وألّا يعقّه، فيؤكّد الأب بأنّ تصرّفه هذا هو العقوق بعينه ما دام يجرّ الأذى والألم والعذاب له، ثمّ أكمل الصورة برسم معالم جسده المتعب الفاني الذي أنهكته الخطوب المتتابعة، وانحنى ظهره، وصار مشيه في الرجال دبيباً ضعيفاً، فإن سأله أصحابه عن نظره أجابهم بأنّه ضعيف يرى الشخص كالشخصين وهو قريب منه.
إنّها صورة رائعة لملامح شيخوخة متعبة، حاول الشاعر أن يستعطف قلب ابنه، فيردّه عن عزمه على الجهاد والمشاركة في الفتح.
وأُميّة بن الاسكر شاعر اسمه أُميّة بن حرثان بن الاسكر بن عبدالله سرابيل الموت، كان شاعراً سيّداً. ذكره ابن سلام في الطبقة العاشرة من شعراء الجاهلية.
وذكر عنه انّه عمّر في الجاهلية طويلاً، وألفاه الإسلام هرماً وهذا يعني انّه كان شيخاً فانياً زمن الخليفة عمر بن الخطّاب الذي قال في أيّامه شعراً وصف فيه صورة إنسانية مماثلة لصورة المخبل السعدي، ولكنّه أضاف إليها صورة الزوجة، فإذا باللوحة متكاملة العناصر، شيخان كبيران يناشدان ابنهما البقاء، ويذكرانه بكتاب الله، وكأنّ الابن وهو يطيع داعي الله لم يقرأ القرآن، والشاعر يشير إلى آية واحدة بالذات من القرآن الكريم وهي التي أشرنا إليها من قبل والتي تأمر بالبرّ بالوالدين:
لمن شيخان قد نشدا كلابا |
|
كتاب الله إن حفظ الكتابا |
أُناديه فولاني قفاه |
|
فلا وأبي كلاب ما أصابا |
إذا سجعت حمامة بطن وج |
|
على بيضاتها أدعو كلابا |
أتاه مهاجران تكنّفاه |
|
عباد الله قد عقّا وخابا |
والشاعر هنا حين رسم صورة ابنه الذي ولّاه قفاه، والتحق بالمهاجرين بعد التحاقه هذا، وانّه مجانب للصواب، ويبالغ أكثر بسبب الانفعال الشديد والحزن على فراقه، فيصف المهاجرين الفاضلين اللذين دلّا ابنه على أفضل الأعمال، يعدهما
عاقّين أيضاً، وقد خابا في نصيحتهما، وما ذلك إلّا بسبب عاطفة الأُبوّة التي ملكت نفس الشاعر فلم يعد ينظر إلّا بها، ثمّ يستمرّ برسم معالم الصورة بأنّ الابن ذهب وارتحل تاركاً أباه مرتعشة يداه بسبب الشيخوخة والكبر، وأُمّه منغّصة العيش حزينة لا يكاد يسيغ لهما شراب، ثمّ تصل عواطفه ذروتها، فيخيّل إليه بأنّ ابنه الذي التحق بصفوف المجاهدين طلباً للأجر والثواب، لن ينال هذا الأجر فهو مثل باغي الماء يرى السراب أمامه فيخيّل إليه انّه ماء:
تركت أباك مرعشة يداه |
|
وأُمّك ما يسبغ لها شرابا |
فإنّك والتماس الأجر بعدي |
|
كباغي الماء يتّبع السرابا |
وحين لا يحفل كلاب برغبة أبيه في ردّه عن الجهاد يذهب الشيخ الضعيف الذي هدّه فراق ولده إلى الخليفة عمر بن الخطّاب ويستعطفه أن يرد عليه ابنه بأبيات يخاطب فيها زوجه، يظهر من خلالها حنينه إلى ولده، ويختم أبياته بمخاطبة الخليفة الراشد بأنّه يشكو أمره إلى الله ان لم يردد إليه ابنه:
أعاذل قد عذلت بغير علم |
|
وما تدرين عاذل ما أُلاقي |
فإمّا كنت عاذلتي فردّي |
|
كلاباً إذ توجّه للعراق |
ولم أقض اللبانة من كلاب |
|
غداة غدوا وآذن بالفراق |
فتى الفتيان في عسر ويسر |
|
شديد الركن في يوم التلاقي |
فلا وأبيك ما باليت وجدي |
|
ولا شغفي عليك ولا اشتياقي |
وإبقائي عليك إذا شتونا |
|
وضمّك تحت نحري واعتناقي |
فلو فلق الفؤاد شديد وجد |
|
لهمّ سواد قلبي بانفلاق |
سأستعدي على الفاروق ربّاً |
|
له عمد الحجيج إلى سباق |
وأدعو الله محتسباً عليه |
|
ببطن الأخشبين إلى دفاق |
إنّ الفاروق لم يردد كلاباً |
|
على شيخين هامهما زواق |
ويأمر الخليفة عمر بإقفال كلاب وإعادته إلى أبيه، وهكذا يكمل الشاعر معالم لوحة الأُبوّة والأُمومة الحانية، وتبقى صورة الابن المجاهد الثابت على عقيدته ومبدئه واضحة من خلالها، لأنّه لم تؤثّر فيه كلّ هذه النداءات الموجّهة إليه،
ولأنّ نداء الله في وجوب الجهاد ورفع كلمة الله أقوى من نداء الآباء والأُمّهات.
وقد ذكر أنّ خراش بن أبي خراش الهذلي هاجر أيّام الخليفة الراشد عمر بن الخطّاب مع الجيوش المجاهدة، فقدم أبوه وكان شاعراً إلى المدينة وشكا إلى الخليفة شوقه إلى ولده، وحاجته إليه لكونه شيخاً عاجزاً، لا أهل له ولا أُخوة يعينونه على قضاء حوائجه والأخذ بيده وأنشده قوله:
ألا من مبلغ عنّي خراشاً |
|
وقد يأتيك بالخير البعيد |
وقد يأتيك بالأخبار من لا |
|
تجهّز بالحداء ولا تزيد |
يناديه ليغبقه كليب |
|
ولا يأتي، لقد سفه الوليد |
فردّ إناءه لا شيء فيه |
|
كأنّ دموع عينيه الفريد |
وأصبح دون غابقه وأمسى |
|
جبال من حرار الشام سود |
ألا فاعلم خراش بأنّ خير الـ |
|
ـمهاجرين بعد هجرته زهيد |
رأيتك وابتغاء البرّ دوي |
|
كمحصور اللبان ولا يعيد |
ويلاحظ هنا أنّ هجرة الابن وانخراطه مع المجاهدين بصدق عقيدة وإيمان، قد هزّ عواطف أبيه الشيخ الفاني، ولكنّها عواطف نفس متعبة ضعيفة بسبب السنّ، لا فساد العقيدة، فهو ما يزال يتخيّل ابنه صغيراً، لأنّه لم يستجب لندائه، وكأنّه ناداه حقّاً ليرعاه ويسقيه اللبن كعادته معه حين كان وليدا، ولمّا لم يجبه عدّه سفيهاً، ولكنّه سرعان ما يتذكّر أنّ ابنه صار رجلاً فيتألّم لفراقه، لأنّه يعرف المسافة التي تبعده عنه، وهي ما بين المدينة والشام فتغرق عيناه بالدموع، ويذكر ابنه بأنّ جهاده الحقيقي يكون في رعايته لأبيه الضعيف، كأنّه في هذا متأثّر ببعض أقوال الرسول الكريمo التي أوصى فيها الأبناء بلزوم الوالدين، وعدّ هذا اللزوم جهاداً، إن لم يكن لهما من يرعى حقوقهما.
وتبقى إعادة الخليفة عمر لابن هذا الشيخ، صورة إنسانية رائعة لرعاية الشيخوخة والآباء، علماً أنّ مثل هذه الصور الإنسانية لم تكن هي السائدة حقّاً، فلولا قوّة إيمان المسلمين وعقيدتهم في الجهاد، وانخراطهم في صفوف الفاتحين لما
نشر الإسلام في بقاع الأرض الممتدّة. وفي أخبار الفاتحين الكثير من الاقباس النيّرة التي تصوّر انخراط الأبناء والاخوة والآباء معاً في صفوف المجاهدين غير مبالين بالأموال والأرواح راغبين في ثواب الله عزّ وجلّ.
2 ــ شعر الشباب والأبناء المجاهدين:
إنّ روح الحماس التي طغت على الشباب جعلتهم ينضوون تحت راية الجهاد الأكبر تاركين حياة الاستقرار. ويجب أن نتذكّرها هنا أنّ طبيعة تكوين الجيوش آنذاك مختلفة كلّ الاختلاف عن حالتها في الوقت الحاضر، فقد كان الانضمام إليها تطوّعاً لا إجباراً، ويكفي أن ينادي منادي الخليفة بأنّ الجيوش تتوجّه إلى فتوح العراق، أو الشام أو بلاد فارس، حتّى يسرع الرجال والمقاتلون بأسلحتهم، يدفعهم الإيمان بالله وطلب ثوابه. هذه الروح هي التي جعلتهم يتغاضون عن الانفعالات والعواطف القوية التي تربطهم بأهليهم وأحبّائهم، فالنابغة الجعدي يصوّر في أبيات له زوجته المحبّة التي ترغّبه في البقاء، وتذكّره بالمودّة التي تجمع بينهما، وتحاول أن تثنيه عن عزمه بدافع الحبّ، والخوف عليه خوف الشفيق الودود، أو تذكّره بالله ورسوله وتنهل دموعها، فيجيبها جواب العقيدة ويشير إلى قوله تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} [سورة البقرة: الآية 216] وكيف ينثني عن عزمه وواجبه وهو ممّن لم تستثنه الآيات الكريمة حين استثنت الأعمى والأعرج والمريض من فرض الجهاد؟.
باتت تذكّرني بالله قاعدة |
|
والدمع ينهل من شأنيهما سبلاً |
يابنت عمّي كتاب الله أخرجني |
|
كرهاً وهل أُمنعنّ الله ما بذلا |
فإن رجعت فربّ الناس أرجعني |
|
وإن لحقت بربّي فارتضي بدلا |
ما كنت أعرج أو أعمى فيعذرني |
|
أو ضارعاً من ضنى لم يستطع حولا |
فهو يشير في البيت الأخير إلى قوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار ومن يتولّ يعذّبه عذاباً أليماً} [الفتح: 17].
أمّا الحتّات وهو أحد الشعراء المجاهدين الذين حاول آباؤهم الشيوخ أن يبقوهم إلى جانبهم، ولكن عقيدته كانت أقوى من عاطفة بنوّته، وأكبر من حبّه لأبيه، فيقول في أبيات يخاطب بها أباه يعتذر بأنّه إنّما يجيب داعي الله وأمر الله قبل أمر الوالدين يقول:
ألا من مبلغ عنّي دريحا |
|
فإنّ الله بعدك قد دعاني |
فإن تسأل فإنّي مستفيد |
|
وإنّ الخيل قد عرفت مكاني |
هـ ـ وصف المعارك:
وإذا كان شعر الفتوح قد صوّر جانب العقيدة كما مرّ بنا، فإنّ الشعراء استمرّوا على ما عرفه الشعر قبل الإسلام من وصف دقيق للمعارك والقتلى، ممّا يمكن أن يُعدّ استمراراً له، مع ما وجد فيه من إشارات ذات طابع خاصّ. يقول ربيعة بن مقروم معركة الفيلة التي اقترنت بفتوح العراق حيث استعملها الفرس في جيوشهم:
ودعوا نزال فكنت أوّل نازل |
|
وعلام أركبه إذا لم أنزل |
ولقد جمعت المال من جمع امرئ |
|
ورفعت نفسي عن لئيم المأكل |
ودخلت أبنية الملوك عليهم |
|
ولشرّ قول المرء ما لم يفعل |
وشهدت معركة الفيول وحولها |
|
أبناء فارس بيضها كالأعبل |
متسربلي حلق الحديد كأنّهم |
|
جرب مقارفة عنية مهمل |
ووصف بسالة الأعداء مظهر من مظاهر شعر الفروسية في أدب ما قبل الإسلام ووجدنا صداه في الأدب الإسلامي حين حاول شعراء الفتوح أن يصفوا ضخامة جيش الفرس وشبهها بعضهم بالجبال، أمّا أصوات الزحف فهي أشبه ما تكون بالزفير العالي، كلّ ذلك ليصل إلى بسالة جيش العرب المسلمين الذين استطاعوا أن ينتصروا على جيش هذه مقوّماته، ولكنّه يفتقد إلى أهمّ مقوّم توافر في جيش المسلمين، وهو العقيدة، وصدق الدافع للقتال، يقول بشر بن ربيعة الخثعمي:
أنخت بباب القادسية ناقتي |
|
وسعد بن وقّاص عليّ أمير |
وسعد أمير شرّه دون خيره |
|
وخير أمير بالعراق جرير |
(يريد بجرير: جرير بن عبدالله البجلي).
تذكّر هداك الله وقع سيوفنا |
|
بباب قديس والمكر عسير |
إذا ما فرغنا من قراع كتيبة |
|
دلفنا لأُخرى كالجبال تسير |
ترى القوم فيها أجمعين كأنّهم |
|
جمال بأحمال لهنّ زفير |
عشية ودّ القوم لو أنّ بعضهم |
|
يعار جناحي طائر فيطير |
فالشاعر هنا يشبه جيش الأعداء بكثرته وضخامته بالجبال وقوّتها، ثمّ انتقل من وصف ضخامة الجيش إلى وصف الأصوات التي تسمع من العدد الثقيلة المصاحبة للفرسان، وقراع السيوف وأصوات الأبطال يشبهها الشاعر بالجمال إذا حملت أثقالاً كبيرة فتئنّ. وهو تصوير يحمل في ثناياه صورة بدوية اعتيادية قريبة من ذهن الشاعر إلّا أنّه تشبيه غير موفّق، لأنّ أصوات الجيوش الجرّارة لا يمكن أن تقارن بزفير الإبل المثقلة بالأحمال، ولكنّه وفق في البيت الأخير في تصوير شدّة المعارك حتّى ودّ بعض القوم لو أنّه يفرّ بنفسه لهولها، ولكنّه لم يقل بأنّهم فرّوا، وجعل القول في وصف هذه المعاناة عاماً يشمل الفرس والمسلمين الذين استعدّوا بكلّ قواهم لهذه الحرب، إلّا أنّ النصر كان حليف العرب المسلمين إذ أباد الله جموع الفرس وبدّدها.
ويقول عروة بن زيد الخيل مسجّلاً انتصارات المثنّى بن حارثة الشيباني في العراق، وما حقّقه من نصر على جيوش الفرس التي ولّت هاربة:
وقد أرانا بها والشمل مجتمع |
|
إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا |
أيّام سار المثنّى بالجنود لهم |
|
فقتّل القوم من رجل وركبانا |
سما لأجناد مهران وشيعته |
|
حتّى أبادهم مثنى ووحدانا |
ما إن رأينا أميراً بالعراق مضى |
|
مثل المثنّى الذي من آل شيبانا |
والقعقاع الفارس الشاعر الذي أشاد بشعره ببلائه وبلاء المسلمين في الفتوح الإسلامية، لا يجد غضاضة في الإشادة بقدرة أعدائه وبلائهم في القتال، فيصوّر شجاعتهم واستبسالهم وكثرتهم، كلّ ذلك يؤدّي حتماً إلى تصوير مواقف المسلمين الذين استطاعوا أن ينتصروا عليهم، وهم بهذه الصفة التي ذكرها:
لم أر قوماً مثل قوم رأيتهم |
|
على ولجات البرّ أحمى وأنجبا |
وأقتل للرواس في كلّ مجمع |
|
إذا ضعضع الدهر الجموع وكبكبا |
أمّا شدّة المعارك التي لم تكن في صالح المسلمين، فقد أشار إليها كثير من الشعراء في أبيات متفرّقة. فهذا الأعور بن قطبة يذكر أخاه الذي قتل بعد أن قتل قائداً من قوّاد الفرس، فأي شعور يصوّره هذا الشاعر المجاهد، وهو بين انفعالين الفرح بالنصر؛ لأنّ قائد الفرس قد قتل، والحزن والألم؛ لأنّ أخاه قد قتل أيضاً؟
لم أر يوماً كان أحلى وأمر |
|
من يوم أغوات إذا افترّ الثغر |
من غير ضحك كان أسوى وأبر
ويذكر مالك بن الريب سعيد بن عثمان بيوم عصيب من أيّام فتوح خراسان وكيف انّه رأى الرعب والفزع في وجهه حتّى كاد أو خيّل إليه بأنّ صاحبه سيعلن تنصّره، يقصد رجوعه عن عقيدته ودينه الإسلامي لهول المعركة:
وما زلت يوم السغد ترعد واقفاً |
|
من الجبن حتّى خفت أن تتنصّرا |
والبيت وان قيل في الهجاء إلّا أنّه يحمل صورة صادقة لشدّة الحروب التي خاضها المسلمون، والمواقف الحاسمة التي تعرّض لها جيش المسلمين في فتوح فارس فثبت على عقيدته وإيمانه، وإذا كان الشاعر يهجو فارساً خاض معه غمار الحرب، فإنّه ينقل لنا هذه الصورة سواء طابقت مهجوه أو طابقت غيره، وأنّه لم يرد بها أن يعلن المهجو تنصّره حقيقة وإنّما خيّل إليه بسبب حالة الرعب التي رآها على وجهه بأنّه سيعلن تراجعه عن عقيدته الإسلامية.
و ــ وصف طبيعة البلاد المفتوحة:
وهناك صور أُخرى تتعلّق بشعر الفتوحات الإسلامية وهي التي قيلت في الوصف، وأهميّتها متأتّية من أنّها تمثّل مادّة جديدة أُضيفت إلى فنّ الوصف الذي برع فيه شعراء ما قبل الإسلام وقامت قصائدهم عليه.
لقد اعتاد العربي في صحرائه أن يصف ما فيها من حيوان وطبيعة، فكان من بين الأوصاف الكثيرة وصف الفرس والناقة، لأنّها أساس حياته وقوام معيشته ولا
عجب أن نجد وصف شعراء قبل الإسلام لفرسهم أو ناقتهم دقيقاً رائعاً يدلّ على معرفة تامّة بهذين الحيوانين، وتأمّل مستمر لأعضائهما وعاداتهما، حتّى ليخيّل إليك أنّ بين العربي وفرسه علاقة وثيقة جدّاً قد تقرب من العلاقة الإنسانية بين شخص وآخر في بعض الأحيان، فتقرأ شعراً لأحدهم يصوّر لك فيه شكوى جملة من متاعب السفر ليلاً، ويجيبه الشاعر بأنّهما متساويان في هذا البلاء وما عليهما إلّا الصبر، وكأنّ هناك وحدة أحاسيس بينهما. وواقع الحال أنّ الشاعر أراد أن يعبر عن بلاء السفر الذي عاناه، فعبّر عنه بهذا الأُسلوب اللطيف:
شكى إليّ جملي طول السرى |
|
صبراً جميلاً فكلانا مبتلى |
وإذا أحسّ العربي بالتعب، وثقل الطريق وعنائه، فإنّه ينظر إلى ناقته نظرة عطف ومشاركة لأنّها صبرت معه طول هذه السفرة الطويلة لذا يبشّرها بانتهاء الرحلة أو الحصول على الماء.
تبشّري بالرفه والماء والروي |
|
وفرج منك قريب قد أُتي |
وقد تفسّر هذه المخاطبة بأنّها وسيلة من وسائل التعبير عن النفس بطريق مخاطبة الناقة، ولكنّها تبقى صورة رائعة لأحاسيس العربي، وإذا كان القعقاع بن عمر قد وصف الفيلة في شعره الذي قاله مفتخراً بسمله عيونها، فإنّ هناك شاعراً آخر نقل لنا صورة طريفة للفيل صوّرت دهشته لرؤيته، وضخامة جسمه، وقوّته حين يطأ الأرض فيحطّم كلّ ما يمرّ فوقه، ولم يجد هذا الشاعر تشبيهاً يشبه به ضخامة جسم الفيل، وقوّة وقع أقدامه إلّا الأرحاء ــ جمع الرحى ــ فشبّهه بمن يحمل أرحاء ثقيلة من الصخر، فتحطّم كلّ ما تدوسه وتطأه. ووصف طول خرطومه، وعجب من ردّه في جوفه إذا أكل، كلّ ذلك في صورة بسيطة ولكنّها مجسّدة لمنظر الفيل الضخم الذي واجه العربي:
أجرد أعلى الجسم منه أضخم
يجرّ أرحاء ثقالاً تحطّم
ومشفر حين يمدّ سرطم
يردّه في الجوف حين يطعم
ومع ورود ذكر الفيلة التي قادها ابرهة عام ولادة النبي محمّدo، لم يرو شعر في وصفها من قبل، ممّا يجعلنا نقول بأنّ حروب فتح العراق قد عرفت أوّل مرّة هذا العنصر من عناصر وصف الحيوان في أدبنا العربي، وشعور العربي بالغربة والفزع من هذا الحيوان يجعلنا نقرن بينه وبين وصفه الخيل المحبّبة إلى نفسه، صديقته في أسفاره وترحاله.
وممذا يضاف إلى عناصر الوصف ما وجد من أشعار في وصف البحرية في بداية عصر الفتوح الإسلامية، ذلك أنّ العرب اعتمدوا القوافل البرية في تجارتهم، والخيول في حروبهم، ولم يعرفوا ركوب البحر في عصر ما قبل الإسلام إلّا في مناطق معروفة وأغراض محدودة .. فورد وصف البحر على سبيل التشبيه في شعر امرئ القيس، وورد وصف السفينة وربّانها في شعر طرفة، لأنّه كما قيل عاش في البحرين المطلّة على الخليج العربي، أمّا ما سوى ذلك فلا نجد إلّا تشبيهات أو إشارات. ونتيجة لفتوح العراق واجه العرب مشكلة عبور نهر دجلة لملاحقة أعدائهم الفرس، ولحقوهم فعلاً تابعين فلولهم المهزومة، داحرين كبرياءهم وعنجهيتهم، ونرى الشاعر هنا يستعمل لفظ البحر ليدلّ به على النهر، ويشجّع كتيبة الجنود على عبوره، ويعد أوّل عابر وقاطع له هو صاحب الأجر والثواب عند الله، لأنّه يشجّع الآخرين ويسهم في القضاء على أعدائه:
أمضوا فإنّ البحر بحر مأمور |
|
والأوّل القاطع منكم مأجور |
قد خاب كسرى وأبوه سابور |
|
ما تفعلون والحديث مأثور |
ومن العناصر الجديدة التي أُضيفت إلى شعر الفتوح ما قيل من أوصاف في الطبيعة الغريبة التي وجد المسلمون أنفسهم بين أحضانها. لقد اعتادوا من قبل الحياة في الجزيرة العربية والعراق والشام ولكنّهم لم يعتادوا الحياة في المناطق الجبلية لبرودة جوّها وريحها الثلجية، ولم يعانوا في جزيرتهم من تراكم الثلوج، لذا نرى الشاعر مالك بن الريب يطلب من قائده الانسحاب من مدينة الترمذ، لا لشيء إلّا لأنّه وأصحابه معه لا يطيقون البرد الشديد، والثلج الذي تزيد الريح حدته:
هبّت شمالاً خريف أسقطت ورقاً |
|
واصفرّ بالقاع بعد الخضرة الشيح |
فارحل فديت ولا تجعل غنيمتنا |
|
ثلجاً يصفّقه بالترمذ الريح |
إنّ الشتاء عدو ما نقاتله |
|
فأقفل هديت وثوب الدقّ مطروح |
إنّ صورة الصحراء ما زالت مالكة نفس الشاعر، فالأرض التي اصفرّ نباتها شتاء لا يسمّيه الشاعر إلّا الشيح، وهو من النباتات الصحراوية ولا مكان له في المناطق الجبلية الباردة. ويرى أنّ البرد الشديد والثلج سيحولان دون النصر على الأعداء، بل إنّه يبالغ أكثر، فيرى أنّ عدوّهم لا يقاتل ولا يُغلب، لأنّه الشتاء والبرد وليس البشر!!
وهذا أحد الفاتحين يصف برودة الجو في مرو، ويعجب لمنظر الأرض التي تتابع ثلجها، ويشفق على أهلها الذين يقضون الشتاء مقرورين دائماً محتمين بأثواب يدسّون أيديهم فيها لشدّة البرد كأنّهم أسرى:
وأرى بمرو الشاهجان تنكّرت |
|
أرض تتابع ثلجها المذرور |
إذ لا ترى ذا بزّة مشهورة |
|
إلّا تخال كأنّه مقرور |
كلتا يديه لا تزايل ثوبه |
|
كلّ الشتاء كأنّه مأمور |
نعم، عرف الشعر العربي من بعد وصف برد هذه البلاد وشتائها وثلجها، ولكن ذلك بعد أن استقرّت القبائل العربية آنذاك، وربّما ورد هذا الشعر عند من ولد في تلك البلاد وترعرع فيها فشعره يمثّل وصفاً لبيئته، في حين أنّ هذه الأشعار القلائل التي تصف البرد والشتاء تمثّل شعور المسلمين تجاه هذه البيئة الجديدة التي ما اعتادوا عليها من قبل، لذا جاءت أوصافهم مغايرة لما سيرد عند شعراء العصر العبّاسي من وصف لها، كما نجد ذلك عند بعض شعراء (يتيمة الدهر) أو في كتاب التمثيل والمحاضرة للثعالبي.
ولنا أن نتساءل انّ الظروف الطبيعية القاسية التي واجهها المسلمون في بلاد فارس تكاد أن تكون الظروف القاسية نفسها في بلاد المغرب العربي فلِمَ لم يصل إلينا من شعر الفاتحين في المغرب العربي ما يصوّر هذه الحالة؟ أنّ تعليل هذه الظاهرة
بكون جلّ الفاتحين لهذه الميادين كانوا من عرب اليمن الذين لم يرزقوا ما رزق العدنانيون من اقتدار على التعبير الشعري. هذا التعليل غير مقبول، لأنّه كانت في جيوش الفتح في العراق قبائل يمانية، وكان لها نصيب وافر في الإسهام في الفتح، ونصيب وافر في الشعر المصوّر لهذه الأحداث، ويكفي أن يكون بين قوّاد فتح العراق جرير بن عبدالله البجلي، وبجيلة قبيلة من اليمن، وعمرو بن معد يكرب شاعر الفتوح هو زبيدي، وزبيد من اليمن أيضاً.
إذن لا يبقى أمامنا من تعليل سوى الاعتراف بأنّ بعد المسافة بين المشرق والمغرب وكون العرب الفاتحين قد أقاموا واستوطنوا في بلاد المغرب العربي ممّا جعل أشعارهم نادرة الذكر في مؤلّفات المؤرّخين الذين نشطت حركتهم في الشرق وفي العراق بالذات، فاعتنى هؤلاء المؤرّخون بذكر الوقائع والحوادث التي وعتها الذاكرة العربية دون الأشعار التي ضاع معظمها بعد وفاة أصحابها، وضاع القسم الآخر في طريقه إلى أفواه الرواة وذاكرة المؤرّخين. أمّا في المشرق فالأمر مختلف تماماً، لوجود مراكز الحضارة والحركة الفكرية المتمثّلة بالتأليف، ولوجود مؤرّخين تصدّوا لتسجيل التاريخ الإسلامي من أهل هذه البلاد أصلاً أو ممّن سكن العراق فكانوا أقرب إلى موارد المادّة التاريخية التي يكتبون عنها، ووسائل نقلها متوافرة لديهم مثل البلاذري والواقدي والطبري والمسعودي وغيرهم ... أمّا رواة الأدب فمدارسهم لا تتجاوز مدرسة الكوفة والبصرة اللتين ينطبق عليهما ما ذكرناه أعلاه من بعد المسافة بينهما وبين المغرب العربي.
ز ــ الرسائل الشعرية:
ومن الميادين الطريفة التي استخدم فيها الشعر، إيصاله فكرة الشاعر على شكل رسالة شعرية يبعثها إلى من يريد إبلاغه بها. وقد مرّت بنا أبيات الحتّات التي تمثّل رسالة مجاهد يخاطب بها أباه، ويبيّن له فيها ثباته على الجهاد ورغبته فيه، وأنّ شجاعته قد عرفها رفاقه المجاهدون، لذا سيبقى بينهم، لأنّ الخيل وفرسانها قد عرفوا مكانته في القتال وأهميّته. وقد كتب الجنود أبياتاً من الشعر بعثوها إلى الخليفة أو إلى قائدهم،
مخبرين عن حالهم منبّهين الخليفة إلى حالة خلاف تحدث بينهم وبين قائدهم أو بين قائدين من قوّاد الفتوح، كما ذكر البلاذري في شأن الخلاف الذي حدث بين سلمان بن ربيعة الباهلي وحبيب بن مسلمة الفهري، وكانا قائدين اختلفا حتّى تغالظ حبيب وسلمان في القول وتوعّد بعض المسلمين سلمان بالقتل فقال الشاعر:
إن تقتلوا سلمان نقتل حبيبكم |
|
وإن ترحلوا نحو ابن عفّان نرحل |
وكتب إلى عثمان بذلك.
إنّ الرسالة الشعرية كانت معروفة متداولة في شعر ما قبل الإسلام خاصّة ما يتعلّق بأيّام العرب وحروبها حين يقع الفرسان أسرى في أيدي أعدائهم ولا يجدون من يخبر قبيلتهم عن مكانهم أو حالهم إلّا أبيات الشعر ينشدونها، فينقلها بعضهم إلى قومهم، وكانت هذه الأشعار رمزية غالباً قريبة إلى التعمية والمغالطة، ليخفى شأنها على الأعداء، ولكنّها كانت في شعر الفتوح واضحة في أفكارها وأُسلوبها مصرّحة عن قصد مرسلها. من ذلك قصيدة أبي المختار يزيد بن قيس الكلابي التي رفع فيها شكواه من عمّال الاحواز وغيرهم إلى عمر بن الخطّاب ،واصفاً حالة بعضهم الذين استغلّوا وظائفهم لجمع المال دون أن يفكّروا في أنّه مال بيت المسلمين، وأنّهم عيّنوا لرعايته وحفظه وتوزيعه كما أمر الله ورسوله:
أبلغ أمير المؤمنين رسالة |
|
فأنت أمير الله في النهي والأمر |
وأنت أمين الله فينا ومن يكن |
|
أميناً لربّ العرش يسلم له صدري |
والشاعر هنا يشير إلى ثقته بالخليفة، تلك الثقة التي جعلته يكتب عن سيرة بعض عمّاله ويفضحهم، ثمّ يقول:
فلا تدعن أهل الرساتيق والقرى |
|
يسيغون مال الله في الأُدم الوفر |
فأرسل إلى الحجّاج واعرف حسابه |
|
وأرسل إلى جزء وأرسل إلى بشر |
ولا تنسينّ النافعين كليهما |
|
ولا ابن غلاب من سراة بني نصر |
وما عاصم منها بصفر عيابه |
|
وذاك الذي في السوق مولى بني بدر |
ويستمرّ بذكر أسماء من يتّهمهم بجمع المال، ويطالب الخليفة أن يردعهم
ويحاسبهم، ويأخذ منهم نصف أموالهم، ويلتمس منه ألّا يدعوه إلى الشهادة، لأنّه يكفيه أن يعلم الخليفة بالأمر، وما على الخليفة إلّا التحقّق من الأمر ومحاسبة المقصّرين:
فقاسمهم نفسي فداؤك إنّهم |
|
سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر |
ولا تدعونّي للشهادة إنّني |
|
أعيب ولكنّي أرى عجب الدهر |
نؤوب إذا آبوا ونغزو إذا غزوا |
|
فأنّى لهم وفر ولسنا أولى وفر |
إذا التاجر الداري جاء بفارة |
|
من المسك راحت في مفارقهم تجري |
وإذا كانت الأبيات الأُولى من هذه الرسالة لم ترق إلى المستوى الفنّي لاقتصارها على سرد الأسماء التي يتّهمها الشاعر، فإنّ الأبيات الأخيرة تلمح فيها جانب الإجادة الفنّية في تصوير استغلال بعضهم للمسؤولية الملقاة على عاتقهم، والثراء على حساب الآخرين، حتّى ينقل لنا صورة تضمّخهم بالعطر الغالي (المسك)، بينما الآخرون بعيدون عن هذا الثراء، وهم في الوقت نفسه قد شاركوا في الحرب، وقدّموا ما عليهم من واجبات تؤهّلهم للتمتّع بالحقوق بعد ذلك.
إذا كان غرض الرسالة الشعرية هنا الشكوى من تضخّم المال في أيدي القادة، وحرمان الجنود منها، فإنّ هناك بعض الرسائل الشعرية التي لم يقصد فيها الشاعر الشكوى ضدّ قائد معيّن، وإنّما أراد نقل وصف لحالة حربية يعيشونها، فأبو العيال يكتب قصيدة اتّخذت شكل رسالة لأنّه يفتتحها بقوله من (أبي العيال).
من أبي العيال أخي هذيل فاسمعوا |
|
قولي ولا تتجمّحوا ما أُرسل |
والرسالة مرسلة إلى معاوية وكان والياً على الشام، وإلى عبدالله بن سعد بن أبي سرح وكان والياً كان على مصر، وإلى جميع المسلمين زمن عثمان، ويصرّح بأنّه إذا كان قد أخّر ابن سعد في خطابه، فلأنّه رآه غير عادل في القسمة، ومع ذلك تركه ولم يشكّ أمره إلى الخليفة. وبعد أن يعدّد أسماءهم يبلغه بفحوى رسالته التي لا يريد منها إلّا شرح ما عاناه المسلمون الذين حاصرهم الروم تسعة أشهر فيقول:
إنّا لقينا بعدكم بديارنا |
|
في جانب الأمراج يوماً يسأل |
أمراً تضيق به الصدور ودونه |
|
مهج النفوس وليس عنه معدل |
في كلّ معترك ترى منّا فتى |
|
يهوي كعزلاء المزادة تزغل |
أو سيّداً كهلاً يمور دماغه |
|
أو جانحاً في صدر ريح يسعل |
حتّى إذا رجب تجلّى فانقضى |
|
وجماديان، وجاء شهر مقبل |
ثمّ يصف التحام المعركة وكيف أنّ النبال كانت تتطاير بينهم، وكأنّها السنابل في انتصابها وكثرتها، والرماح توغل في ضربها لهم، كما كانت توغل في صدور أعدائهم. واكتفى بهذا المعنى في رسالته، ولم يطلب ممّن أرسل إليهم قصيدته شيئاً سواء ما يتوقّع من طلب مساعدة عسكرية أو زيادة عطاء.
حـ ــ الحنين إلى الوطن ورثاء النفس:
من الموضوعات التي غذّتها الفتوحات الإسلامية، وأعطتها نكهة خاصّة نتيجة البعد المكاني عن موطن الشاعر شعر الحنين وما قيل من قصائد في الحنين إلى الديار والأهل والأحبّة، وقد ورد بعضه مصاحباً للغزل حين يتذكّر الشاعر حبيبته، فتهيج عواطفه، وتتحرّك صبابته فيذكر دياره وبعده عنها، وقد ينتقل الشاعر بعدها للحديث عن بطولته. إنّ حديث النين صار جزءاً من المقدّمة الغزلية يقول بشر بن ربيعة بن عمرو الخثعمي ذاكراً خيال أُميمة الذي راوده مع بعد المسافة بينه وبين الحجاز:
ألم خيال من أُميمة موهناً |
|
وقد جعلت أولى النجوم تغور |
ونحن بصحراء العذيب ودارها |
|
حجازية إنّ المحل شطير |
ولا غرو إلّا جوبها البيد في الدجى |
|
ومن دوننا رعن أشم وقور |
نحن بباب القادسية ناقتي |
|
وسعد بن وقّاص على أمير |
ونجد أروع أشعار الحنين في أشعار الشعراء الذين أحسّوا بدنو أجلهم، فتذكّروا أهلهم وأحبّاءهم وتشوّقوا إليهم. ورثوا أنفسهم رثاءً رائعاً زاخراً بالعاطفة الصادقة الجيّاشة، وتطلّ علينا قصيدتان رائعتان في رثاء النفس قصيدة كثير بن الغريرة النهشلي، وقصيدة مالك بن الريب. فالأوّل كان ضمن فتح جوزجان والطالقان.
والثاني صحب سعيد بن عثمان في فتح خراسان. أمّا كثير فقد تحرّكت شجونه حين استشهد بعض أصحابه، فرثاهم ببيتين فقط في مطلع القصيدة وانتقل بعدها إلى حديث الحنين يبدأ بالبرق اليماني الذي يذكره بأهله، ولكنّه يؤكّد بأنّ حنينه لم يكن جزعاً بسبب استشهاد صحبه، ولا خوفاً من الموت، ولكن لأنّ هذا البرق اليماني ذكّره بأهله الذين يتشوّقون إلى رؤيته، وينتظرون لقاءه الذي لن يكون:
سقى مزن السحاب إذا استقلّت |
|
مصارع فتية بالجوزجان |
إلى القصرين من رستاق خوط |
|
أقادهم هناك الأقرعان |
وما بي أن أكون جزعت إلّا |
|
حنين القلب للبرق اليماني |
ومحبور لرؤيتنا يرجّى الـ |
|
ـلقاء ولن أراه ولن يراني |
ثمّ يبدأ بالفخر بنفسه وكيف أنّه كان يلبّي دعوة إخوانه إذا استنجدوا به، وإنّه لم يكن في يوم من الأيّام صدوفاً عن نجدتهم في الحرب. أمّا في أيّام السلم فإنّه الفتى الشهم الذي لا تسول له نفسه أن ينظر إلى زوجة جيرانه، أو أن يسيء إلى أبناء قومه بتصرّف مشين، ثمّ يعود إلى تخيّل ما سيتركه موته من أثر في نفوس أهله المنتظرين في العراق:
فلا تستبعدا يومي فإنّي |
|
سأُوشك مرّةً أن تفقداني |
وتبكيني نوائح معولات |
|
تركن بدار معترك الزمان |
حبائس بالعراق منهنهات |
|
سواجي الطرف كالبقر الهجان |
قصيدة وتحليل
ولابدّ أن نقف عند قصيدة تعدّ من روائع قصائد رثاء الذات في أدبنا العربي، أنّها قصيدة مالك بن الريب الشاعر البدوي الذي أحسّ بدنو أجله وهو في جيش الفاتحين في إحدى قرى خراسان قال:
1ـ ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة |
|
بجنب الغضا أُزجي القلاص النواجيا |
2ـ فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه |
|
وليت الغضا ماشى الركاب ليالا |
3ـ لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا |
|
مزار ولكنّ الغضا ليس دانيا |
4ـ ألم ترني بعت الضلالة بالهدى |
|
وأصبحت في جيش ابن عفّان غازيا |
5ـ وأصبحت في أرض الأعادي بعدما |
|
أراني عن أرض الأعادي قاصيا |
6ـ دعاني الهوى من أهل ودّي وصحبتي |
|
بذي الطبسين فالتفت ورائيا |
7ـ أجبت الهوى لمّا دعاني بزفرة |
|
تقنّعت منها ـ أن أُلام ـ ردائيا
|
8ـ أقول وقد حالت قرى الكرد بيننا |
|
جزى الله عمرا خير ما كان جازيا |
9ـ إن الله يرجعني من الغزو لا أُرى |
|
وإن قلّ مالي طالباً ما ورائيا |
10ـ تقول ابنتي لمّا رأت طول رحلتي |
|
سفارك هذا تاركي لا أُباليا |
11ـ لعمري لئن غالت خراسان هامتي |
|
لقد كنت عن بابي خراسان نائيا |
12ـ فإن أنج من بابي خراسان لا أعد |
|
إليها وإن منّيتموني الأمانيا |
13ـ فلله درّي يوم أترك طائعا |
|
بنيّ بأعلى الرقمتين وماليا |
14ـ ودرّ الظباء السانحات عشية |
|
يخبّرن أنّي هالك من ورائيا |
15ـ ودرّ كبيري اللذين كلاهما |
|
عليّ شفيق ناصح لو نهانيا |
16ـ ودرّ الرجال الشاهدين تفتكي |
|
بأمري إلّا يقصروا من وثاقيا |
17ـ ودرّ الهوى من حيث يدعو صحابتي |
|
ودرّ لجاجاتي ودرّ انتهائيا |
18ـ تذكّرت من يبكي عليّ فلم أجد |
|
سوى السيف والرمح الرديني باكيا |
19ـ واشقر محبوك يجرّ عنانه |
|
إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا |
20ـ ولكن بأكناف السمينة نسوة |
|
عزيز عليهنّ العشية ما بيا |
21ـ صريع على أيدي الرجال بقفرة |
|
يسوّون لحدي حيث حمّ قضائيا |
22ـ ولمّا تراءت عند مرو منيتي |
|
وحلّ بها جسمي وحانت وفاتيا |
23ـ أقول لأصحابي ارفعوني فإنّه |
|
يقرّ بعيني أن سهيل بدا ليا |
24ـ فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا |
|
برابية إنّي مقيم لياليا |
25ـ أقيما عليّ اليوم أو بعض ليلة |
|
ولا تعجلاني قد تبيّن ما بيا |
26ـ وقوما إذا ما استلّ روحي فهيّئا |
|
لي السدر والأكفان عند فنائيا |
27ـ وخطّا بأطراف الأسنّة مضجعي |
|
وردّا على عيني فضل ردائيا |
28ـ خذاني فجرّاني بثوبي إليكا |
|
فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا |
29ـ وقد كنت عطّافاً إذا الخيل أدبرت |
|
سريعاً لدى الهيجا إلى من دعائيا |
30ـ وقد كنت صبّاراً على القرن في الوغى |
|
وعن شتمي ابن العمّ والجار وانيا |
31ـ فطوراً تراني في ظلال ونعمة |
|
وطوراً تراني والعتاق ركابيا |
32ـ ويوماً تراني في رحىً مستديرة |
|
تخرّق أطراف الرماح ثيابيا |
33ـ وقوما على بئر السمينة واسمعا |
|
بها الغرّ والبيض الحسان الروانيا |
34ـ بأنّكما خلّقتماني بقفرة |
|
تهيل عليّ الريح فيها السوافيا |
35ـ ولا تنسيا عهدي خليليّ بعدما |
|
تقطّع أوصالي وتبلى عظاميا |
36ـ ولن يعدم الوالون بثّاً يصيبهم |
|
ولن يعدم الميراث منّي المواليا |
37ـ يقولون لا تبعد وهم يدفنوني |
|
وأين مكان البعد إلّا مكانيا |
38ـ غداة غد يالهف نفسي على غد |
|
إذا أدلجوا عنّي وأصبحت ثاويا |
39ـ وأصبح مالي من طريف وتالد |
|
لغيري وكان المال بالأمس ماليا |
40ـ فياليت شعري هل تغيّرت الرحا |
|
رحا المثل أو أمست بفلج كما هيا |
41ـ إذا الحي خلّوها جميعاً وأنزلوا |
|
بها بقراً حمّ العيون سواجيا |
42ـ رعين وقد كاد الظلام يجنّها |
|
يسفن الخزامى مرّة والاقاحيا |
43ـ وهل أترك العيس العوالي بالضحى |
|
بركبانها تعلو المتان الفيافيا |
44ـ إذا عصب الركبان بين عنيزة |
|
وبولان عاجوا المبقيات النواجيا |
45ـ فياليت شعري هل بكت أُمّ مالك |
|
كما كنت لو عالوا نعيّك باكيا |
46ـ إذا مت فاعتادي القبور وسلّمي |
|
على الرمس أُسقيت السحاب الغواديا |
47ـ على جدث قد جرّت الريح فوقه |
|
تراباً كسحق المرنباني هابيا |
48ـ رهينة أحجار وترب تضمّنت |
|
قراراتها منّي العظام البواليا |
49ـ فيا صاحباً إمّا عرضت فبلّغن |
|
بني مازن والريب أن لا تلاقيا |
50ـ وعزّ قلوصي في الركاب فإنّها |
|
ستفلق أكباداً وتبكي بواكيا |
51ـ وأبصرت نار المازنيات موهناً |
|
بعلياء يثني دونها الطرف دانيا |
52ـ بعود النجوج قد أضاء وقودها |
|
مهاً في ظلال الدرّ حوراً جوازيا |
53ـ غريب بعيد الدار ثاو بقفرة |
|
يد الدهر معروفاً بأن لا تدانيا |
54ـ أُقلّب طرفي حول رحلي فلا أرى |
|
به من عيون المؤنسات مراعيا |
55ـ وبالرمل منّا نسوة لو شهدنني |
|
بكين وفدّين الطبيب المداويا |
56ـ وما كان عهد الرمل عندي وأهله |
|
ذميماً ولا ودّعت بالرمل قاليا |
57ـ فمنهنّ أُمّي وابنتاي وخالتي |
|
وباكية أُخرى تهيج البواكيا |
التحليل:
قائل القصيدة هو الشاعر مالك بن الريب من بني مازن نشأ في بادية بني تميم بالبصرة، بدأ حياته مع الفتّاك واللصوص، ثمّ مسك ــ كما قيل ــ فامنه بشر بن مروان، ولمّا رآه سعيد بن عثمان بن عفّان أعجب به لمروءته وفروسيته، وينقل لنا القالي محاورة جرت بينهما:
قال له سعيد: ويحك مالك؟ ما الذي يدعوك إلى ما يبلغني عنك من العداء وقطع الطريق؟
قال: أصلح الله الأمير، العجز عن مكافأة الاخوان.
قال: فإن أنا أغنيتك واستصحبتك؟ أتكفّ عمّا تفعل وتتبعني؟
قال: نعم، أصلح الله الأمير، أكفّ كأحسن ما كفّ أحد، فاستصحبه، وأجرى
عليه خمسمائة دينار في كلّ شهر، وتعدّ قصيدته اليائية هذه من روائع الشعر العربي، فهي انموذج فنّي عال في رثاء النفس، وتصوير الأحاسيس بدنو الأجل.
وقد قيل إنّه قالها حين حضرته الوفاة، وقيل انّه قالها قبل موته بسنة، وفصّل بعضهم في سبب وفاته. وذكر ابن عبد ربّه إنّه حين خرج مع سعيد بن عثمان بن عفّان، وكان يوماً ببعض الطرق أراد أن يلبس خفّه، فإذا بأفعى في داخلها فلسعته، فلمّا أحسّ بالموت استلقى على قفاه، ثمّ أنشأ يقول. ويبقى المهمّ في هذه الروايات أنّ الشاعر قال القصيدة وقد أحسّ بدنو أجله.
الأبيات 1 ــ 5:
بدأ الشاعر قصيدته بالتشوّق إلى ديار أهله وأحبّته، وتمنّى لو أنّه يستطيع أن يبيت ليلة فيها، يمارس حياته الاعتيادية، يسوق الإبل، شأنه شأن فتيان قبيلته، ويشتدّ شوقه إلى تلك الديار فيبرز اسمها الغضا بشكل إيقاع مؤلم موجع من خلال تكرار اللفظ خمس مرّات في الأبيات الثلاثة الأُولى، وهو يتمنّى أن يكون الغضا قريباً منه ليزوره، أو أنّه لم يبرح الغضا، ولم تقطعه ركاب المسافرين، وحين يشعر إنّها أُمنية بعيدة يحاول اقناع نفسه وتذكيرها بأنّه هو نفسه قد اختار البعد عن ديار أهله، حين اختار طريق الهداية، وانخرط مع جيش الفاتحين. وقد ترك تكرار الغضا ستّ مرّات إيقاعاً مكثّفاً لحالة الحزن والأسى وتذكّر الديار.
وهنا يصوّر الشاعر الأبيات من 6 ــ 9 خلال لوحة فنّية جميلة ما تركه تذكّر أهله وحنينه إليهم من أثر في نفسه، لقد أُيرت عواطفه ودمعت عيناه، واستحيا من موقفه فحاول إخفاء دموعه بأن تقنع بثوبه، وصحب هذا المشهد تصاعد زفرة عالية تظهر حزنه وتشوّقه. وحين يحسّ الشاعر بوطأة البعد والفرقة والغربة يعاهد نفسه ألّا يغادر دياره إن سلم من هذه الرحلة، وأنّه سيقنع بالقليل الذي عنده.
الأبيات 10 ــ 17:
إنّ من يكون في أرض غريبة بعيدة عن أهله، ويتشوّق إليهم يتذكّر في لحظات بعض مواقف الحبّ والمودّة التي تربطه بهم، والتي بقيت راسخة في مخيّلته، فابنته تحنن
قلبه لئلّا يبعد عنهم، خشية أن يهلك ويتركها يتيمة، ويتعجّب من نفسه كيف اختار بإرادته ترك دياره، كما يعجب من قدرته على مفارقة أبويه الكبيرين، ويتساءل بعد ذلك كيف استطاع البعد عن أهله واخوانه ممّن كانوا يشهدون أيّامه ونشاطه. وهذه الأبيات صور رائعة للإحساس بالأُبوّة والبنوّة معاً والارتباط بالأهل والديار والحنين إليهم.
الأبيات 18 ــ 33:
هنا ينتقل الشاعر واصفاً حاله وهو يخشى دنو أجله، فإذا كانت صور أهله الجميلة وذكرياتهم تتراءى في ذهنه فإنّه سرعان ما يعود إلى الحديث عن غربته، ماذا يحدث له إن أجله حان فيها؟ لن يبكي عليه أحد سوى سلاحيه اللذين لازماه دائماً، سيفه ورمحه، وفي هذه الصورة إشارة رائعة إلى فروسيته وشجاعته، لا يبكي السيف إلّا لفراق الفارس البطل، ويشاركهما في البكاء فرس أصيل كان رفيق الشاعر في المعارك وكان شاهداً على بطولته وبلائه، وإنّه لن يجد ندّاً لمالك ــ بعد وفاته ــ يحلّ محلّه ويأخذ بعنانه إلى الماء، فكيف بمن يصحبه في ساحة المعركة؟ أنّه أسف البطل على مفارقة حياة البطولة والفروسية.
وقد أكّد الشاعر هذه الصورة مرّة أُخرى حين خاطب صاحبيه في البيت 28 بأن يحفرا قبره بأطراف الأسنّة، مخالفاً ما هو معروف من حفر القبور بأدوات الحفر المتداولة، لأنّه فارس مقاتل، فقبره يجب أن يحفر بما يليق بمكانته وحياته، ومع هذا فإنّ ألمه على ما سيؤول إليه حاله إذا فارقت روحه الجسد كبيراً، هذا الألم يصوّر له حاله، وهو يجرّ إلى مثواه الأخير، فيذكّر صاحبيه بأنّه كان في حياته أبياً صعب القياد، فارساً يكرّ على الخيل إذا أدبرت، ويسرع إلى الحرب إذا اشتدّت. وبذا يعدّد لنا مالك مآثره وبطولاته ممّا يبعد نفسه عن الجزع لدنو الأجل.
أمّا في ديار أهله فإنّ الشاعر يسرح بمخيّلته مصوّراً ما سيحدث حين يبلغ نعيه قومه، فتبكيه نسوة يعزّ عليهنّ فراقه.
لقد عُرف الرثاء على أنّه تعداد لمآثر المرثي ومفاخره، ومالك هنا هو الراثي والمرثي معاً لذا يعدّد مآثر نفسه، فهو جلد في الحرب، عفيف في السلم، لا يشتم ابن
عمّه ولا يؤذيه، وحياته بين يومين يوم يتنعّم بالراحة مع صحبه وملاعبة خيله، ويوم يصول ويجول في ساحة الحرب.
الأبيات 34 فما بعدها:
يعود الشاعر إلى مخاطبة رفيقيه اللذين يتوقّع أن يقوما بدفنه أو تبليغ خبره إلى أهله. فيوصيهما بأن يقفا عند بئر السمينة حيث مجتمع بنات قومه، لينبئهنّ بأنّه مات غريباً، وقد أُهيل عليه التراب في أرض بعيدة مقفرة، فيتخيّل حاله وهو مفرد غريب وحيد حين يتركه رفاقه، ليبلغوا خبر وفاته لأهله فيبكي على نفسه متذكّراً مشاهد من حياته اليومية في ديار أهله، وكيف سيفتقدونه وأوّلهم أُمّه، ويتساءل تساؤل المقرّ بأنّها ستبكي عليه كما أنّها لو ماتت قبله لأشتدّ بكاؤه عليها. ويوصي أُمّه لتزور القبور وتذكر موته النائي الغريب.
ثمّ تلحّ عليه مرّة أُخرى صورة بلوغ خبر نعيه إلى مسامع أهله، وكيف يصيبهم الحزن، فتنفلق أكبادهم، وتبكيه الباكيات، ويتخيّل هذه الصورة فيرسمها ببعدين، بعد أحبّته وأهله، وقد بلغهم نعيه، ومع شدّة حزنهم وبكائهم عليه تتمنّى نسوة من أهله أن لو كنّ قريبات منه لفدّين الطبيب المداوي علّته، ويتخيّل بينهنّ وجه أُمّه وابنتيه وخالته، وامرأة رابعة لم يسمّها وإنّما وصفها بأنّها تهيج البواكيا، وهذه قد تكون أي امرأة من قومه أحزنها فقده وقد تكون زوجه، فهي تعول، وتبكي، وتهيج الباكيات إذا هدأ بكاؤهن. أمّا البعد الثاني للصورة فهو وصف قبره المفرد الغريب في أرض مقفرة موحشة غريبة.
وبعد، فإنّ هذه القصيدة وإن كانت لا تصوّر أحداث الفتوح والجهاد إلّا أنّها منبثقة من ظروفها، إذ أنّ انخراط الشاعر في جيش سعيد بن عثمان بن عفّان وسيره في أراض غريبة عن دياره أدخلت في نفسه مشاعر الشوق والحنين، وتجسّدت أحاسيسه بشكل مثير للعاطفة، حين شعر بدنو أجله مصوّراً لنا الغربة بكلّ آلامها ووحشتها، وجسّد لنا أيضاً الحنين إلى الأهل والديار بكلّ ما يحمله من مشاعر الرقّة والحبّ والألفة، وعبّر عن هذين الموقفين أروع تعبير، جعل القارئ يتخيّل من خلال
القصيدة صورة الفارس البطل المقاتل، وصورة المحبّ المتشوّق إلى أهله وموطنه. ومع ذلك نلاحظ خلو القصيدة من كلّ ما يتعلّق بمعاني الفتوح والجهاد، ولم يحاول الشاعر أن يسلّي نفسه بالأجر والثواب كما يتوقّع، وكما فعل المجاهدون، ولم ينقل لنا أمله في عدّه شهيداً، أو رغبته في الشهادة كما فعل عبدالله بن رواحة، لكن الملاحظة ليست غريبة كلّ الغرابة إذا تذكّرنا شخصية مالك بن الريب قبل انخراطه في جيوش سعيد بن عثمان، إذ لم يكن له رابط ديني قوي بالجهاد، والمجاهدين، وكلّ ما حقّقه له نسكه وتوبته هو انخراطه في هذا الجيش، فهو يختلف عن حال المجاهد الذي صرف نفسه وحياته للجهاد بفكره وسلوكه.
وتبقى صورة مالك بن الريب الإنسان الذي أحسّ بدنوّ أجله، فصوّر مشاعره الرقيقة إزاء موطنه وحنينه إلى أهله وأحبّته.
وقد سجّل بعض الشعراء حنينهم إلى ربوعهم، وديارهم وقد أحسّوا ببعد المسافة الزمنية والمكانية، وعانوا من اختلاف البيئتين أرض نجد، والديار الغريبة التي حلّوا بها مع الفتح. وقد صوّر أحد الفرسان تطلّع روحه، وحيرة بصره، وهو ينظر صوب نجد، ويشعر في الوقت نفسه أن لا جدوى من النظر، لأنّها بعيدة، لا يمكن رؤيتها والقرب منها، ولكنّه إذ يتطلّع صوب نجد تستشعر نفسه جمالها، وترتسم في ذهنه تداعيات تذكرة بها.
حبّه لنجد يجعله يستدعي صورة جمالية مثلى لها، أرضها مليئة بأزهار الاقحوان التي تكسو الأرض فتجعلها كأنّها برد موشى، وأمّا ترابها فليس كسائر تراب الأرض، إنّه مضمّخ بالعطر والمسك خاصّة إذا بلله الندى، أو أمطرت السماء، هذه الصورة الجميلة التي يرسمها من خلال حاسّتي النظر والشمّ ما هي إلّا مظهر من مظاهر حنين الشاعر وتشوّقه لدياره. ثمّ يختم الأبيات بتوجّه يتمنّى من خلاله أن يستريح بدياره، بعد أن عانى من فراقها بسبب الحرب، والنزوح عنها:
أُكرّر طرفي نحو نجد ولا أرى |
|
برغمي، وإن لم يدرك الطرف أنظر |
حنيناً إلى أرض كأنّ ترابها |
|
إذا أمطرت عود ومسك وعنبر |
أحنّ إلى أرض الحجاز وحاجتي |
|
خيام بنجد دونها الطرف يقصر |
وما نظري (من) نحو نجد بنافع |
|
أجل، لا، ولكنّي على ذاك أنظر |
متى يستريح القلب إمّا مجاور |
|
بحرب وأمّا نازح يتذكّر |
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|