أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-2-2017
8141
التاريخ: 10-2-2017
27751
التاريخ: 27-2-2017
8971
التاريخ: 27-2-2017
12818
|
قال تعالى : {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء : 95-96] .
لما حث سبحانه على الجهاد ، عقّبهُ بما فيه من الفضل والثواب ، فقال : {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : أي لا يعتدل المتخلفون عن الجهاد في سبيل الله من أهل الإيمان بالله وبرسوله ، والمؤثرون الدعة والرفاهية ، على مقاساة الحرب ، والمشقة بلقاء العدو ،{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} : أي إلا أهل الضرر منهم ، بذهاب أبصارهم ، وغير ذلك من العلل التي لا سبيل لأهلها إلى الجهاد ، للضرر الذي بهم {وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ومنهاج دينه لتكون كلمة الله هي العليا ، والمستفرغون جهدهم ووسعهم في قتال أعداء الله ، وإعزاز دينه {بِأَمْوالِهِمْ} إنفاقا لها فيما يوهن كيد الأعداء { وَأَنْفُسِهِمْ } حملا لها على الكفاح (2) في اللقاء {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة} معناه فضيلة ومنزلة ، { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } معناه وكلا الفريقين من المجاهدين والقاعدين عن الجهاد ، وعده الله الجنة ، عن قتادة وغيره من المفسرين .
وفي هذه دلالة على أن الجهاد فرض على الكفاية لأنه لو كان فرضا على الأعيان ، لما استحق القاعدون بغير عذر أجرا . وقيل : لان المراد بالكل هنا المجاهد والقاعد من أولي الضرر ، المعذور عن مقاتل { وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ } من غير أولي الضرر { أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ } أي منازل بعضها أعلى من بعض ، من منازل الكرامة . وقيل : هي درجات الأعمال كما يقال الإسلام درجة ، والفقه درجة ، والهجرة درجة ، والجهاد في الهجرة درجة ، والقتل في الجهاد درجة ، عن قتادة .
وقيل : معنى الدرجات هي الدرجات التسع التي درجها في سورة براءة في قوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة : 120] (3) {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة : 121] فهذه الدرجات التسع عن عبد الله بن زيد { وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } هذا بيان خلوص النعيم ، بأنه لا يشوبه غم بما كان منه من الذنوب ، بل غفر له ذلك ، ثم رحمه بإعطائه النعم والكرامات { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا } لم يزل الله غفارا للذنوب ، صفوحا لعبيده من العقوبة عليها { رَحِيمًا } بهم ، متفضلا عليهم . وقد يسأل فيقال : كيف قال في أول الآية { فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } ، ثم قال في آخرها {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما} درجات وهذا متناقض الظاهر ؟ وأجيب عنه بجوابين : أحدهما : أن في أول الآية (فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر) درجة ، وفي آخرها (فضلهم على القاعدين غير أولي الضرر) درجات ، فلا تناقض لأن قوله { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } يدل على أن القاعدين لم يكونوا عاصين وإن كانوا تاركين للفضل . والثاني : ما قاله أبو علي الجبائي : وهو أنه أراد بالدرجة الأولى علو المنزلة ، وارتفاع القدر ، على وجه المدح لهم ، كما يقال فلان أعلى درجة عند الخليفة من فلان ، يريدون بذلك أنه أعظم منزلة ، وبالثانية الدرجات في الجنة، التي يتفاضل بها المؤمنون ، بعضهم على بعض ، على قدر استحقاقهم . وقال المغربي : إنما كرر لفظ التفضيل ، لان الأول أراد به تفضيلها في الدنيا ، وأراد بالثاني تفضيلهم في الآخرة . وجاء في الحديث : " إن الله فضل المجاهدين على القاعدين سبعين درجة، بين كل درجتين مسيرة سبعين خريفا للفرس الجواد المضمر " (4) .
__________________________
1 . مجمع البيان ، ج3 ، ص 166-168 .
2 . الكفاح : المواجهة .
3 . [به عمل صالح إلى قوله] .
4 . قال محمد بن أبي بكر الرازي : المراد بالأول : التفضيل على القاعدين عن الغزاة بعذر . فإن لهم فضلاً لكونهم مع الغزاة بالهمة والعزيمة والقصد الصالح . . . والمراد بالثاني : التفضيل على القاعدين عن الغزاة بغير عذر ، وأولئك لا فضل لهم ؛ بل هم مقصرون ومسيئون ، فظهر فضل الغزاة عليهم ، بدرجات ، لانتفاء الفضل لهم .
{لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ والْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ} . من تخلف عن الجهاد لعذر مشروع ، كالعمى والعرج ، وما إليه فهو معذور ، بل ومأجور إذا كان مؤمنا مخلصا يحب النصر للدين ، والخير وأهله ، ويود في واقعه لو كان معافى ليشارك المجاهدين في جهادهم ، فقد جاء في الحديث : « المرء مع من أحب » أي من أحب مجاهدا لا لشيء إلا لأنه مجاهد فله أجر المجاهدين ، ومن أحب صادقا لصدقه فله منزلته ، ومن أحب ظالما لظلمه فهو شريكه ، ومن أحب كافرا لكفره فهو مثله ، هذا حكم القاعدين غير الأصحاء .
أما الأصحاء منهم فينظر : فإن قعدوا عن الجهاد الذي وجب عليهم وعلى غيرهم ، كما في النفير العام فإنهم غير معذورين ، بل ملومين مستحقين للعقاب ، لأنهم تمردوا وعصوا ، وعليه فلا تصح المفاضلة بينهم وبين المجاهدين بحال ، لأن المفاضلة مفاعلة ، وهي تقتضي المشاركة ، وهؤلاء لا يشاركون المجاهدين في شيء . . وان كان الجهاد فرض كفاية يحصل الغرض منه بفعل البعض ، ولا حاجة إلى الكل يكون القاعدون عنه معذورين ، مع قيام غيرهم بهذا الواجب ، ولكن المجاهدين أفضل من القاعدين ، على الرغم من وجود عذرهم المشروع ، لأنهم آثروا الكسل على العمل ، والاعتزال على النضال ، وهؤلاء القاعدون هم المقصودون بقوله تعالى : {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} . وعلى هذا يكون المعنى لا يستوي عند اللَّه القاعدون الأصحاء والمجاهدون الذين لم يجب عليهم الجهاد بالخصوص ، بل وجب عليهم وعلى غيرهم كفاية ، ولكن هم الذين تصدوا لهذا الواجب ، وأدوه على أكمله ، وأسقطوه عن الباقين . وهذا المعنى هو الذي أراده اللَّه ، وأوضحه بقوله :
{ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً } . بعد أن نفى التسوية بينهم وبين القاعدين بيّن ما امتاز به المجاهدون ، وهو تفضيلهم على القاعدين بدرجة ، فيكون قوله هذا تفصيلا بعد إجمال ، وسر التفضيل ما أشرنا إليه من تحملهم مسؤولية الدفاع منفردين ، تماما كما لو هاجم العدو بلدا ، فصده عنه فريق دون فريق من أهله ، فيمتاز الفريق الأول على الثاني بالبداهة ، وان كان الثاني غير مؤاخذ بعد أن قام الأول بالواجب ، وحقق الغرض المطلوب ، ولذا قال تعالى : { وكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى } . ولكنه أعاد مؤكدا ومرغبا في الجهاد بقوله :
{ وفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً } وبيّن هذا الأجر العظيم بأنه {دَرَجاتٍ مِنْهُ ومَغْفِرَةً ورَحْمَةً} . ودرجة واحدة عند اللَّه خير من الكون بما فيه ، فكيف الدرجات ! ! أما رحمته فلا شيء خير منها إلا من هي منه . .
وكفى بمغفرته أمانا من عذابه وسخطه . . هذه هي المغفرة والرحمة والدرجة عند اللَّه ، من نال واحدة فهو في عليين ، فكيف بمن نالها مجتمعة ؟ ! .
اللهم اني أسألك يسيرا من رحمتك ومغفرتك ، وأنت تعلم ان بي فاقة إليه . . وما ذا يكون لو مننت وجبرت مسكنتي ؟ ! أتخشى نفاد مغفرتك ، وكنوز رحمتك ؟ . أم ما ذا يا مولاي ؟ ! ألا إني مذنب . . أجل ، ولكن ألا تعلم بأني أعلم ان لا ملجأ لي منك إلا إليك ، وانه يسرني أن تعفو عني وتصفح . . اللهم إن كنت كاذبا فيما قلت فعاملني بما أنا أهله ، وان كنت صادقا فيه فعاملني بما أنت أهله .
___________________________
1. تفسير الكاشف ، ج2 ، ص 412-414 .
قوله تعالى : { لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ ـ إلى قوله ـ وَأَنْفُسِهِمْ } الضرر هو النقصان في الوجود المانع من القيام بأمر الجهاد والقتال كالعمى والعرج والمرض ، والمراد بالجهاد بالأموال إنفاقها في سبيل الله للظفر على أعداء الدين ، وبالأنفس القتال .
وقوله { وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى } ، يدل على أن المراد بهؤلاء القاعدين هم التاركون للخروج إلى القتال عند ما لا حاجة إلى خروجهم لخروج غيرهم على حد الكفاية فالكلام مسوق لترغيب الناس وتحريضهم على القيام بأمر الجهاد والتسابق فيه والمسارعة إليه .
ومن الدليل على ذلك أن الله سبحانه استثنى أولي الضرر ثم حكم بعدم الاستواء مع أن أولي الضرر كالقاعدين في عدم مساواتهم المجاهدين في سبيل الله وإن قلنا : إن الله سبحانه يتدارك ضررهم بنياتهم الصالحة فلا شك أن الجهاد والشهادة أو الغلبة على عدو الله من الفضائل التي فضل بها المجاهدون في سبيل الله على غيرهم ، وبالجملة ففي الكلام تحضيض للمؤمنين وتهييج لهم ، وإيقاظ لروح إيمانهم لاستباق الخير والفضيلة .
قوله تعالى : { فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً } الجملة في مقام التعليل لقوله { لا يَسْتَوِي } ، ولذا لم توصل بعطف ونحوه ، والدرجة هي المنزلة ، والدرجات المنزلة بعد المنزلة ، وقوله « وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى » أي وعد الله كلا من القاعدين والمجاهدين ، أو كلا من القاعدين غير أولي الضرر والقاعدين أولي الضرر والمجاهدين الحسنى ، والحسنى وصف محذوف الموصوف أي العاقبة الحسنى أو المثوبة الحسنى أو ما يشابه ذلك ، والجملة مسوقة لدفع الدخل فإن القاعد من المؤمنين ربما أمكنه أن يتوهم من قوله { لا يَسْتَوِي ـ إلى قوله ـ دَرَجَةً } إنه صفر الكف لا فائدة تعود إليه من إيمانه وسائر أعماله فدفع ذلك بقوله { وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى } .
قوله تعالى : { وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } هذا التفضيل بمنزلة البيان والشرح لإجمال التفضيل المذكور أولا ، ويفيد مع ذلك فائدة أخرى ، وهي الإشارة إلى أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يقنعوا بالوعد الحسن الذي يتضمنه قوله { وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى } فيتكاسلوا في الجهاد في سبيل الله والواجب من السعي في إعلاء كلمة الحق وإزهاق الباطل فإن فضل المجاهدين على القاعدين بما لا يستهان به من درجات المغفرة والرحمة.
وأمر الآية في سياقها عجيب ، أما أولا : فلأنها قيدت المجاهدين ( أولا ) بقوله { فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } و ( ثانيا ) بقوله { بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } و ( ثالثا ) أوردته من غير تقييد . وأما ثانيا : فلأنها ذكرت في التفضيل ( أولا ) أنها درجة ، و ( ثانيا ) أنها درجات منه.
أما الأول فلأن الكلام في الآية مسوق لبيان فضل الجهاد على القعود ، والفضل إنما هو للجهاد إذا كان في سبيل الله لا في سبيل هوى النفس ، وبالسماحة والجود بأعز الأشياء عند الإنسان وهو المال ، وبما هو أعز منه ، وهو النفس ، ولذلك قيل أولا : { وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } ليتبين بذلك الأمر كل التبين ، ويرتفع به اللبس ، ثم لما قيل : { فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً } ، لم تكن حاجة إلى ذكر القيود من هذه الجهة لأن اللبس قد ارتفع بما تقدمه من البيان غير أن الجملة لما قارنت قوله { وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى } مست حاجة الكلام إلى بيان سبب الفضل ، وهو إنفاق المال وبذل النفس على حبهما فلذا اكتفي بذكرهما قيدا للمجاهدين فقيل : { الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } وأما قوله ثالثا { وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً } فلم يبق فيه حاجة إلى ذكر القيود أصلا لا جميعها ولا بعضها ولذلك تركت كلا .
وأما الثاني فقوله { فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً } {دَرَجَةً} منصوب على التمييز ، وهو يدل على أن التفضيل من حيث الدرجة والمنزلة من غير أن يعترض أن هذه الدرجة الموجبة للفضيلة واحدة أو أكثر ، وقوله { وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ } كان لفظة { فَضَّلَ } فيه مضمنة معنى الإعطاء أو ما يشابهه ، وقوله {دَرَجاتٍ مِنْهُ} بدل أو عطف بيان لقوله {أَجْراً عَظِيماً} والمعنى : وأعطى الله المجاهدين أجرا عظيما مفضلا إياهم على القاعدين معطيا أو مثيبا لهم أجرا عظيما وهو الدرجات من الله ، فالكلام يبين بأوله أن فضل المجاهدين على القاعدين بالمنزلة من الله مع السكوت عن بيان أن هذه المنزلة واحدة أو كثيرة ، ويبين بآخره أن هذه المنزلة ليست منزلة واحدة بل منازل ودرجات كثيرة ، وهي الأجر العظيم الذي يثاب به المجاهدون .
ولعل ما ذكرنا يدفع به ما استشكلوه من إيهام التناقض في قوله أولا { دَرَجَةً } وثانيا {دَرَجاتٍ مِنْهُ} ، وقد ذكر المفسرون للتخلص من الإشكال وجوها لا يخلو جلها أو كلها من تكلف .
_________________________
1. تفسير الميزان ، ج5 ، ص 41-43 .
الآيتان الأخيرتان تبيّنان التمايز بين المجاهدين وغيرهم من القاعدين ، فتؤكد عدم التساوي بين من يبذل المال والنفس رخيصين في سبيل الهدف الإلهي السامي ، وبين من يقعده عن هذا البذل سبب آخر غير المرض الذي يحول دونه ودون المشاركة في الجهاد ، {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ...}.
وواضح من هذه الآية أنّ المقصود بالقاعدين فيها هم أولئك المؤمنون بالإسلام الذين لم يشاركوا في الجهاد في سبيله بسبب افتقارهم إلى العزم الكافي لذلك ، وتبيّن هنا ـ أيضا ـ أنّ الجهاد المقصود لم يكن واجبا عينيا ، فلو كان واجبا عينيا لما تحدث القرآن عن هؤلاء التاركين للجهاد بمثل هذه اللهجة المرنة ولم يكن ليوعدهم بالثواب.
وعلى هذا الأساس فإنّ فضل المجاهدين على القاعدين لا يمكن إنكاره حتى لو كان الجهاد ليس واجبا عينيا ، ولا تشمل الآية بأي حال من الأحوال أولئك الذين أحجموا عن المشاركة في الجهاد نفاقا ، وعدوانا ويجب الانتباه ـ أيضا ـ إلى أنّ عبارة {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} لها مفهوم واسع يشمل كل أولئك الذين يعانون من نقص العضو أو المرض أو الضعف الشديد ، مما يحرمهم من المشاركة في الجهاد ، فهؤلاء مستثنون من ذلك.
وتكرر الآية من جديد مسألة التفاضل بشكل أوضح وأكثر صراحة ، وتؤكد في نهاية المقارنة ، أنّ الله وهب المجاهدين أجرا عظيما ، {فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً} (2) .
ولكن ـ كما أسلفنا ـ لما كان في الجانب المقابل لهؤلاء المجاهدين يقف أولئك الذين لم يكن الجهاد بالنسبة لهم واجبا عينيا أو لم يشاركوا في الجهاد بسبب مرض أو عجز أو علة أخرى أعجزتهم عن هذه المشاركة ، فذلك ولأجل أن لا يغفل ما لهؤلاء من نيّة صالحة وإيمانه وأعمال صالحة أخرى فقد وعدوا خيرا حيث تقول الآية الكريمة : {... وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى} إلّا أنّه من البديهي أن هناك فرقا شاسعا بين الخير الذي وعد به المجاهدون ، وبين ذلك الذي يصيب القاعدين من العاجزين عن المشاركة في الجهاد.
وتبيّن الآية القرآنية في هذا المجال : أنّ لكل عمل صالح نصيب محفوظ من الثواب لا يغفل ولا ينسى ، خاصّة وهي تتحدث عن قاعدين أحبّوا المشاركة في الجهاد وكانوا يرونه ساميا مقدسا ، وبما أن عدم كون هذا الجهاد واجبا عينيا قد حال دون تحقق هذا الهدف السامي المقدس فإن أولئك الذين قعدوا عن المشاركة فيه سينالون من الثواب على قدر رغبتهم في المشاركة ، أمّا أولئك الذين عجزوا عن المشاركة بسبب عاهة أو مرض إلّا أنّهم كانوا يرغبون في الاشتراك في الجهاد برغبة جامحة ، بل كانوا يعشقون الجهاد ، لذلك فإنّ لهم ـ أيضا ـ سهم ونصيب لا ينكر من ثواب المجاهدين ، كما جاء في حديث مروي عن الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب فيه جند الإسلام فيقول : «لقد خلفتم في المدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم ، وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم وهوت أفئدتهم للجهاد وقد منعهم عن المسير ضرر أو غيره». (3)
وبما أنّ أهمية الجهاد في الإسلام بالغة جدا ، لذلك تتطرق الآية مرّة أخرى للمجاهدين وتؤكد بأن لهم أجرا عظيما يفوق كثيرا أجر القاعدين عن الجهاد عن عجز، {... وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} .
وتشرح الآية التالية ـ وهي الآية (٩٦) من سورة النساء ـ نوع هذا الأجر العظيم فقول أنّه : {دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} فلو أنّ أفرادا من بين المجاهدين تورطوا في زلة أثناء أدائهم لواجبهم فندموا على تلك الزّلة ، فقد وعدهم الله بالمغفرة والعفو ، حيث يقول في نهاية الآية : {... وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
__________________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 262-263 .
2. لقد وردت عبارة «درجة» في الآية على صيغة النكرة ، وتؤكد كتب الأدب بأن النكرة في مثل هذه الحالات تأتي لبيان العظمة والأهمية ـ أي أن درجة المجاهدين من السمو والرفعة بحيث لا يمكن للبشر معرفتها بصورة كاملة ـ وهذا شبيه بالعبارة التي تطلق لبيان القيمة العظيمة لشيء يجهل قيمته البشر .
3. تفسير الصافي ، هامش الآية المذكورة .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|