أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-11-2016
743
التاريخ: 23-11-2016
626
التاريخ: 23-11-2016
817
التاريخ: 22-11-2016
721
|
عين عبد الرحمن بن عبد الله الغافقى واليا للأندلس، عينه عبيدة بن عبد الرحمن السلمى والى إفريقية بمصادقة الخليفة هشام بن عبد الملك في صفر سنة 113هـ (إبريل سنة 731) (1) فكانت ولايته الثانية, وكانت ولايته الأولى سنة 103هـ على أثر مقتل السمح.
وكان عبد الرحمن جندياً عظيماً ظهرت كل مواهبه الحربية في غزوات غاليا، وحاكماً قديراً بارعاً في شؤون الحكم والإدارة، ومصلحاً كبيراً يضطرم رغبة في الإصلاح، بل كان بلا ريب أعظم ولاة الأندلس وأقدرهم جميعاً.
وتجمع الرواية الإسلامية على تقديره والتنويه برفيع خلاله، والإشادة بعدله وحلمه وتقواه (2).
فرحبت الأندلس قاطبة بتعيينه وأحبه الجند لعدله ورفقه ولينه، وجمعت هيبته كلمة القبائل، فتراضت مضر وحمير، وعاد الوئام نوعاً في الإدارة والجيش، واستقبلت الأندلس عهداً جديدا.
وبدأ عبد الرحمن ولايته بزيارة الأقاليم المختلفة فنظم شئونها، وعهد بإدارتها إلى ذوي الكفاية والعدل، وقمع الفتن والمظالم ما استطاع، ورد إلى النصارى كنائسهم وأملاكهم المغصوبة، وعدل نظام الضرائب وفرضها على الجميع بالعدل والمساواة، وقضى صدر ولايته في إصلاح الإدارة، ومعالجة ما سرى إليها في عهد أسلافه من عوامل الاضطراب والخلل.
وعنى بإصلاح الجيش وتنظيمه عناية خاصة، فحشد الصفوف من مختلف الولايات، وأنشأ فرقاً قوية مختارة من فرسان البربر بإشراف نخبة من الضباط العرب، وحصن القواعد والثغور الشمالية، وتأهب لإخماد كل نزعة إلى الخروج والثورة (3) وكانت الثورة في الوقع توشك أن تنقض في الشمال، وبطلها في تلك المرة زعيم مسلم هو حاكم الولايات الشمالية.
فمن هو ذلك الزعيم الثائر؟
إن الرواية الإسلامية تلتزم الصمت إزاء شخصية هذا الزعيم، وإزاء الحوادث التي اقترنت باسمه. وكل ما هنالك أن صاحب البيان المغرب يقول لنا في حديثه عن ولاية الهيثم بن عبيد الكناني " وهو الذى غزا أرض منوسة " (4).
ثم يردد المقرى هذه العبارة في قوله مشيراً أيضا إلى الهيثم " وغزا أرض منوسة فافتتحها " (5).
ويبدو لأول وهله من استقراء هاتين الإشارتين القصيرتين، أن " منوسة " تنصرف فيما يرجح
إلى المكان، ومنوسة قد تكون مدينة " ماسون " وهى التي غزاها الهيثم ضمن، غزواته في أرض فرنسا.
ولكن معظم الروايات النصرانية والفرنجية المعاصرة، تحدثنا في نفس الوقت عن شخصية زعيم مسلم يدعى Munuza " منوزا" أو Munez " مونز "، وهو كما يبدو مطابق لاسم " منوسة "، تسرد لنا سلسلة من الحوادث الهامة التي اقترنت باسمه.... .
وعندئذ كشف منوسة القناع، وأعلن الثورة، فأرسل عبد الرحمن إلى الشمال حملة قوية بقيادة ابن زيان لتأديب الزعيم الثائر، والتحوط لسلامة الولايات الشمالية، فاستعصم منوسة بمواقعه الجبلية، وتحصن في عاصمة إقليمه " مدينة الباب " (6)، الواقعة على منحدر جبال البرنيه، وكان يظن أنه يستطيع أن يتحدى الجيش الإسلامى، وأن يعتصم بالصخر، كما اعتصم به الزعيم القوطي "بلاجيوس" (بلايو) ولكنه كان مخطئاً في تقديره، فقد نفذ ابن زيان بجيشه إلى مدينة الباب، وحاصر الثائر في عاصمته، ففر منها إلى شعب الجبال الداخلية، فطارده ابن زيان من صخرة إلى صخرة، حتى أخذ وقتل مدافعاً عن نفسه، وتحطمت أطماعه ومشاريعه (113هـ - 731 م) (7)، وأسرت زوجه الحسناء لامبجيا، وأرسلت إلى بلاط دمشق، واستقبلها الخليفة (هشام بن عبد الملك) بحفاوة وإكرام، وزوجت هناك من أمير مسلم لا تذكر لنا الرواية اسمه (8).
هذا، وهناك في شأن "منوسة" وزوجه رواية أخرى، أوردها الحبر ماريانا كبير مؤرخي إسبانيا، فقد ذكر أن منوسة كان زعيماً نصرانياً اختاره المسلمون لحكم المنطقة الواقعة غرب البرنيه، ولكنه كان صارماً يشتد في معاملة النصارى، وأنه كان للدون بلاجيوس زعيم جليقية القوطي أخت بارعة الحسن، شغف بها منوسة حباً، ولكن بلاجيوس لم يوافق على زواجها منه، فاحتال منوسة، وبعثه في مهمة إلى قرطبة، وأسر الأميرة أثناء غيبته وتزوج بها قصراً، فأسر بلاجيوس وأخته هذه الإهانة، ولبثا يرتقبان الفرص حتى استطاعت الأميرة فراراً من أسرها وسارت مع أخيها إلى جبال جليقية حيث اعتصم بلاجيوس مع أنصاره، وأعلن الخروج والثورة، فأخطر منوسة حكومة قرطبة، فأرسلت حملة لتأديب الثائر بقيادة " علقمة ".
ولكن بلاجيوس استطاع مع أنصاره القلائل، أن يعتصم بشعب الجبال، فارتد المسلمون منهزمين، وقتل علقمة، وارتاع منوسة لفوز خصمه، وخشى انتقام مواطنيه، فحاول الفرار إلى الجنوب، ولكنه وقع في يد شرذمة من الفلاحين النصارى فقتلوه، ويضع ماريانا تاريخ هذه الحوادث في سنة 718 م (9).
ولكن رواية ماريانا هذه ظاهرة الضعف، أولا لأنه ليس بمعقول أن تعهد حكومة الأندلس المسلمة بحكم ولاية من ولاياتها إلى زعيم نصراني.
وثانياً لأن هذه الرواية تخالف في مجموع تفاصيلها كل ما كتبته الروايات المعاصرة عن شخصية منوسة، وعن مصاهرته لأمير أكوتين.
وثالثاً لأن تاريخ هذه الحوادث متأخر عن التاريخ الذى يعينه ماريانا بأكثر من عشرة أعوام.
ولما قتل منوسة، وانهارت مشاريعه، ورأى أودو ما حل بحليفه، واستشعر الخطر الداهم تأهب للدفاع عن مملكته، وبدأ الفرنج والقوط في الولايات الشمالية بالتحرك لمهاجمة المواقع الإسلامية.
وكان عبد الرحمن يتوق إلى الانتقام لمقتل السمح وهزيمة المسلمين عند أسوار تولوشة، ويتخذ العدة منذ بدء ولايته لاجتياح مملكة الفرنج كلها.
فلما رأى الخطر محدقاً بالولايات الشمالية، لم ير بدا من السير إلى الشمال، قبل أن يستكمل كل أهبته.
على أنه استطاع أن يجمع أعظم جيش سيره وفى أوائل سنة 732 م (أوائل سنة114هـ) سار عبد الرحمن إلى الشمال مخترقا ولاية أراجون (الثغر الأعلى) ونافار(بلاد البشكس) وعبر البرنيه من طريق بنبلونة، ودخل فرنسا في ربيع سنة 732م، وزحف تواً على مدينة آرل الواقعة على نهر الرون، لتخلفها عن أداء الجزية، واستولى عليها بعد معركة عنيفة، نشبت على ضفاف النهر بينه وبين قوات الدوق أودو. ثم زحف غربا وعبر نهر الجارون، وانقض المسلمون كالسيل على ولاية أكوتين (10)، يثخنون في مدنها وبسائطها، فحاول أودو أن يقف زحفهم، والتقى الفريقان على ضفاف نهر الدردون ، فهزم الدوق هزيمة فادحة، ومزق جيشه شر ممزق.
قال إيزيدور الباجى: " والله وحده يعلم كم قتل في تلك الموقعة من النصارى ".
وطارد عبد الرحمن جيش الدوق حتى عاصمته بوردو (بردال).
واستولى عليها بعد حصار قصير (11)، وفر الدوق في نفر من صحبه إلى الشمال، وسقطت أكوتين كلها في يد المسلمين.
ثم ارتد عبد الرحمن نحو الرون كرة أخرى واخترق الجيش الإسلامى برجونية واستولى على ليون وبيزانصون (12)، ووصلت سراياه حتى صانص، التي تبعد عن باريس نحو مائة ميل فقط.
وارتد عبد الرحمن بعد ذلك غربا إلي ضفاف اللوار ليتم فتح هذه المنطقة ثم يقصد إلى عاصمة الفرنج (13).
وتم هذا السير، وافتتح نصف فرنسا الجنوبي كله من الشرق إلى الغرب، في بضعة أشهر فقط.
قال إدوارد جيبون: " وامتد خط الظفر مدى ألف ميل من صخرة طارق إلى ضفاف اللوار.
وقد كان اقتحام مثل هذه المسافة يحمل العرب إلى حدود بولونيا وربى اسكتلندا.
فليس الرَّين بأمنع من النيل أو الفرات، ولعل أسطولا عربيا كان يصل إلى مصب التيمز دون معركة بحرية، بل ربما كانت أحكام القرآن تدرس الآن في معاهد أكسفورد وربما كانت منابرها
تؤيد لمحمد صدق الوحى والرسالة "(14)........ .
استفحل خطر الفتح الإسلامى، وانساب نحو الشمال حتى برجونية، فزع الفرنج وهبت القبائل الجرمانية في أوستراسيا ونوستريا لتذود عن سلطانها وكيانها. وكان الخطر داهماً حقيقياً في تلك المرة، لأن المسلمين عبروا البرنيه عندئذ في أكبر جيش حشد، وأتم أهبة اتخذت منذ الفتح.
وكان على رأس الجيش الإسلامى قائد وافر الهمة والشجاعة والمقدرة هو عبد الرحمن الغافقى، وهو أعظم جندي مسلم عبر البرنيه.
وكان قد ظهر ببراعته في القيادة منذ موقعة تولوشة، حيث استطاع إنقاذ الجيش الإسلامى من المطاردة عقب هزيمته ومقتل قائده السمح، والارتداد إلى سبتمانيا.
وتبالغ الرواية الفرنجية في تقدير جيش عبد الرحمن وأهبته، فتقدره بأربعمائة ألف مقاتل، هذا غير جموع حاشدة أخرى صحبها لاستعمار الأرض المفتوحة.
وهو قول ظاهر المبالغة.
وتقدره بعض الروايات العربية بسبعين أو ثمانين ألف مقاتل، وهو أقرب إلى الحقيقة والمعقول.
وقد أثارت هذه الغزوة الإسلامية الشهيرة، وهذا الجيش الضخم، خيال الشاعر، الأوربي الحديث، فنرى الشاعر الإنجليزي سوذي يقول في منظومته عن ردريك آخر ملوك القوط.
" جمع لا يحصى.
" من شأم وبربر وعرب، وروم خوارج.
" وفرس وقبط وتتر عصبة واحدة.
" يجمعها إيمان، هائم راسخ الفتوة.
" وحم يه مضطرمة، وأخوة مروعة.
" ولم يك الزعماء، " أقل ثقة بالنصر، وقد شمخوا بطول ظفر
" يتيهون بتلك القوة الجارفة
" التي أيقنوا أنها كما اندفعت،
" حيثما كانوا بلا منازع،
ستندفع ظافرة إلى الأمام،
" حتى يصبح الغرب المغلوب كالشرق
" يطأطئ الرأس إجلالا لاسم محمد،
" وينهض الحاج من أقاصي المنجمد،
" ليطأ بأقدام الإيمان، الرمال المحرقة،
" المنتثرة فوق صحراء العرب وأراضي مكة الصلدة " (15).
ونفذ عبد الرحمن في جيشه الزاخر إلى فرنسا، في ربيع سنة 732 م (أوائل سنة 114 هـ)، واقتحم وادي الرون وولاية أكوتين، وشتت قوى الدوق أودو، وأشرف بعد هذا السير الباهر على ضفاف نهر اللوار.
وتقول بعض الروايات الكنسية، إن أودو هو الذى استدعى عبد الرحمن إلى فرنسا، ليعاونه على محاربة خصمه كارل مارتل (16).
ولكن هذه الرواية مردودة غير معقولة، لما قدمنا من أن أودو هو الذى بادر إلى مقاومة عبد الرحمن ورده، وكانت مملكته وعاصمته أول غنم للمسلمين.
وكان ملك الفرنج يومئذ ثيودوريك الرابع، ولكن ملوك الفرنج كانوا في ذلك العصر أشباحاً قائمة فقط.
وكان محافظ القصر كارل مارتل هو الملك الحقيقي، يستأثر بكل سلطة حقيقية، وعليه يقع عبئ الدفاع عن ملكه وأمته.
وكان منذ استفحل خطر الفتح الإسلامى يتخذ أهبته ويحشد قواه. ولكن عبد الرحمن سار إلى قلب فرنسا قبل أن يتحرك للقائه. وترد الرواية الإسلامية هذا التمهل إلى خطة مرسومة مقصودة.
فتقول في هذا الموطن: " فاجتمعت الفرنج إلى ملكها الأعظم قارلة وهذه سمة لملوكهم، فقالت له ما هذا الخزي الباقي في الأعقاب.
كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس حتى أتوا من مغربها، واستولوا على بلاد الأندلس، وعظيم ما فيها من العدة والعدد، بجمعهم القليل وقلة عدتهم وكونهم لا دروع لهم.
فقال لهم ما معناه: الرأي عندي أن لا نعترضهم في خرجتم هذه، فانهم كالسيل يحمل من يصادره، وهم في إقبال أمرهم، ولهم نيات تغنى كثرة العدد، وقلوب تغنى عن حصانة الدروع، ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم من الغنائم، ويتخذوا المساكن، ويتنافسوا في الرياسة، ويستعين
بعضهم ببعض، فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر " (17).
ونستطيع أيضاً أن نفسر تمهل كارل مارتل بأنه كان يقصد إلى ترك خصمه ومنافسه أودو دون إغاثة، حتى يقضى المسلمون على ملكه وسلطانه، فيتخلص بذلك من منافسته ومناوأته.
وعلى أي حال فإن عبد الرحمن كان قد اقتحم أكوتين وجنوبي فرنسا كله، حينما تأهب كارل مارتل للسير إلى لقائه. وجاء الدوق أودو بعد ضياع ملكه، تمزيق قواته يطلب العون والنجدة من خصمه القديم أعنى كارل مارتل (18). وكان كارل قد حشد جيشا ضخماً من الفرنج ومختلف العشائر الجرمانية المتوحشة، والعصابات المرتزقة فيما وراء الرين، يمتزج فيه المقاتلة من أمم الشمال كلها، وجله جند غير نظاميين، نصف عراة يتشحون بجلود الذئاب، وتنسدل شعورهم الجعدة، فوق أكتافهم العارية.
وسار زعيم الفرنجة في هذا الجيش الجرار نحو الجنوب لملاقاة العرب في حمى الهضاب والربى، حتى يفاجئ العدو في مراكزه قبل أن يستكمل الأهبة لرده.
وكان الجيش الإسلامى قد اجتاح عندئذ جميع أراضي أكوتين، التي تقابل اليوم من مقاطعات فرنسا الحديثة جويان وبريجور وسانتونج وبواتو، وأشرف بعد سيره المظفر على مروج نهر اللوار الجنوبية، حيثما يلتقى بثلاثة من فروعه هى " الكريز " و" الفيين " و" الكلين ".
ومن الصعب أن نعين بالتحقيق، مكان ذلك اللقاء الحاسم في تاريخ الشرق والغرب، والإسلام والنصرانية.
ولكن المتفق عليه أنه السهل الواقع بين مدينتي بواتييه وتور، حول نهرى كلين وفيين فرعى اللوار، على مقربة من مدينة تور. والرواية الإسلامية مقلة موجزة في الكلام عن تلك الموقعة العظيمة، وليس فيما لدينا من المصادر العربية عنها أي تفصيل شامل، وإنما وردت تفاصيل للرواية الإسلامية عن الموقعة، نقلها إلينا المؤرخ الإسباني كوندى سنعود إليها بعد.
وتفيض الرواية الفرنجية والكنسية بالعكس في حوادث الموقعة، وتقدم إلينا عنها تفاصيل
شائقة، ولكن يحفها الريب وتنقصها الدقة التاريخية.
وقد رأينا أن نحاول وصف الموقعة أولا مما لدينا من أقوال الروايتين، ثم نعود بعد ذلك إلى ذكر كل منهما.
انتهى الجيش الإسلامى في زحفه إلى السهل الممتد بن مدينتى بواتييه وتور كما قدمنا، واستولى المسلمون على بواتييه، ونهبوها وأحرقوا كنيستها الشهيرة.
ثم هجموا على مدينة تور الواقعة على ضفة اللوار اليسرى، واستولوا عليها وخربوا كنيستها أيضا.
وفى ذلك الحين كان جيش الفرنج قد انتهى إلى اللوار، دون أن يشعر المسلمون بمقدمه بادئ بدء، وأخطأت الطلائع الإسلامية تقدير عدده وعدته.
فلما أراد عبد الرحمن أن يقتحم اللوار، لملاقاة العدو على ضفته اليمنى، فاجأه كارل مارتل بجموعه الجرارة.
وألفى عبد الرحمن جيش الفرنج يفوقه في الكثرة، فارتد من ضفاف النهر ثانية إلى السهل الواقع بين تور وبواتييه.
وعبر كارل اللوار غربي تور، وعسكر بجيشه إلى يسار الجيش الإسلامى بأميال قليلة، بين نهرى كلين وفيين فرعى اللوار.
وكان الجيش الإسلامى في حال تدعو إلى القلق والتوجس، فإن الشقاق كان يضطرم بين قبائل البربر التي يتألف منها معظم الجيش، وكانت تتوق إلى الانسحاب ناجية بغنائمها الكبيرة.
وكان المسلمون في الواقع قد استصفوا ثروات فرنسا الجنوبية أثناء سيرهم المظفر، ونهبوا جميع كنائسها وأديارها الغنية، وأثقلوا بما لا يقدر ولا يحصى، من الذخائر والغنائم والسبي، فكانت هذه الأثقال النفيسة تحدث الخلل في صفوفهم، وتثير بينهم ضروب الخلاف والنزاع.
وقدر عبد الرحمن خطر هذه الغنائم على نظام الجيش وأهبته، وخشى مما تثيره في نفوس الجند من الحرص والانشغال، وحاول عبثا أن يحملهم على ترك شئ منها.
ولكنه لم يشدد في ذلك خيفة التمرد.
وكان المسلمون من جهة أخرى، قد أنهكتهم غزوات أشهر متواصلة، مذ دخلوا فرنسا، ونقص عددهم بسبب تخلف حاميات عديدة منهم، فى كثير من القواعد والمدن المفتوحة.
ولكن عبد الرحمن تأهب لقتال العدو وخوض المعركة الحاسمة بعزم وثقة.
وبدأ القتال في اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر من أكتوبر سنة 732 م (أواخر شعبان سنة 114 هـ) فنشبت بين الجيشين معارك محلية مدى سبعة أيام أو ثمانية، احتفظ فيها كل بمراكزه.
وفى اليوم التاسع نشبت بينهما معركة عامة، فاقتتلا بشدة وتعادل، حتى دخول الليل.
واستأنفا القتال في اليوم التالي، وأبدى كلاهما منتهى الشجاعة والجلد، حتى بدا الإعياء على الفرنج، ولاح النصر في جانب المسلمين.
ولكن حدث عندئذ أن افتتح الفرنج ثغرة إلى معسكر الغنائم الإسلامى، وخشى عليه من السقوط في أيديهم، أو حدث كما تقول الرواية أن ارتفعت صيحة مجهول في المراكز الإسلامية، بأن معسكر الغنائم سوف يقع في يد العدو.
فارتدت قوة كبيرة من الفرسان من قلب المعركة إلى ما وراء الصفوف لحماية الغنائم، وتواثب كثير من الجند للدفاع عن غنائمهم، فدب الخلل في صفوف المسلمين.
وعبثا حاول عبد الرحمن أن يعيد النظام وأن يهدئ روع الجند، وبينما هو يتنقل أمام الصفوف يقودها ويجمع شتاتها، إذ أصابه من جانب الأعداء سهم أودى حياته، فسقط قتيلا من فوق جواده، وعم الذعر والاضطراب في الجيش الإسلامى، واشتدت وطأة الفرنج على المسلمين، وكثر القتل في صفوفهم.
ولكنهم صمدوا للعدو حتى جن الليل، وافترق الجيشان دون فصل.
وكان ذلك في اليوم الحادي والعشرين من أكتوبر سنة 732 م (أوائل رمضان سنة 114 هـ) (19).
وهنا اضطرم الجدل والنزاع بين قادة الجيش الإسلامى، واختلف الرأي وهاجت الخواطر، وسرى التوجس والفزع.
ورأى الزعماء أن كل أمل في النصر قد غاض، فقرروا الانسحاب على الأثر.
وفى الحال غادر المسلمون مراكزهم، وارتدوا في جوف الليل وتحت جنح الظلام، جنوبا صوب قواعدهم في سبتمانيا، تاركين أثقالهم ومعظم أسلابهم غنماً للعدو.
وفى فجر الغد، لاحظ كارل وحليفه أودو سكون المعسكرات العربية، فتقدما منها بحذر وإحجام، فألفياها خاوية خالية إلا من بعض الجرحى الذين لم يستطيعوا مرافقة الجيش المنسحب، فذبحوا
على الأثر وخشى كارل الخديعة ولكن فاكتفى بانسحاب العدو، ولم يجرؤ على مطاردته، وآثر العود بجيشه إلى الشمال.
هذه هى أصدق صورة لحوادث تلك الموقعة الشهيرة، طبقا لمختلف الروايات..... .
والجيش الإسلامى لم يهزم في تور ولم يسحق، بالمعنى الذى تفهم به الهزيمة الساحقة، ولكنه ارتد من تلقاء نفسه بعد أن لبث طوال المعركة الفاصلة، يقاتل حتى المساء محتفظا بمراكزه أمام العدو، ولم يرتد أثناء القتال ولم يهزم.
ومن المستحيل أن يصل القتل الذريع في جيش يحافظ على ثباته ومواقعه، إلى هذه النسبة الخيالية. ومن المعقول أن تكون خسائر المسلمين فادحة في مثل هذه المعارك الهائلة، وهذا ما تسلم به الرواية الإسلامية. ولكن مثل هذه لخسائر لا يمكن أن تعدو بضع عشرات الألوف في جيش لم يزد على مائة ألف.
وأسطع دليل على ذلك هو حذر الفرنج وإحجامهم عن مطاردة العرب عقب الموقعة، وتوجسهم أن يكون انسحاب العرب خديعة حربية، فلو أن الجيش الإسلامى انتهى إلى أنقاض ممزقة، لبادر الفرنج بمطاردته والإجهاز عليه.
ولكنه كان ما يزال من القوة والكثرة إلى حد يخيف العدو ويرده (20).
على أن خسارة المسلمين كانت بالأخص فادحة في نوعها، تتمثل في مقتل عبد الرحمن وجمع كبير من زعماء الجيش وقادته.
بل كان مقتل عبد الرحمن أفدح ما في هذه الخسارة، فقد كان خير ولاة الأندلس، وكان أعظم قائد عرفه الإسلام في الغرب، وكان الرجل الوحيد الذى استطاع بهيبته وقوة خلاله، أن يجمع كلمة الإسلام في اسبانيا، فكان لمقتله في هذا المأزق العصيب، ضربة شديدة لمثل الإسلام ومشاريع الخلافة في افتتاح الغرب (21).... .
نحن مع الفريق الأول نكبر شأن بلاط الشهداء أيما إكبار، ونرى أنها كانت أعظم لقاء بين الإسلام والنصرانية، وبين الشرق والغرب، ففى سهول تور وبواتييه فقد العرب سيادة العالم بأسره، وتغيرت مصائر العالم القديم كله، وارتد تيار الفتح الإسلامى أمام الأمم الشمالية، كما ارتد قبل ذلك بأعوام أمام أسوار قسطنطينية، وأخفقت بذلك آخر محاولة بذلتها الخلافة لافتتاح أمم الغرب، واخضاع النصرانية لصولة الإسلام.
ولم تتح للإسلام المتحد فرصة أخرى، لينفد الى قلب أوربا في مثل كثرته وعزمه واعتزازه، يوم مسيره إلى بلاط الشهداء.
ولكنه أصيب غير بعيد بتفرق الكلمة، وبينما شغلت إسبانيا المسلمة بمنازعاتها الداخلية، إذ قامت فيما وراء البرنيه إمبراطورية فرنجية عظيمة موحدة الكلمة، تهدد الإسلام في الغرب وتنازعه السيادة والنفوذ.
_______
(1) تختلف الرواية الاسلامية في تارخ ولاية عبد الرحمن، فيقول الضبي إن تعيينه كان في حدود سنة 110هـ (بغية الملتمس رقم 1021)، وكذا ابن بشكوال (نفح الطيب ج 2 ص 56).
ويقول ابن عذارى إنه كان في صفر سنة 112 (ج 2 ص 28)، وابن حيان إنه كان في صفر سنة 113 (نفح ج 2 ص 56). وهى أرجح رواية فيما نعتقد وبها أخذنا لاتفاقها مع سير تواريخ الولاة المتقدمين.
(2) راجع ابن عبد الحكم ص 216، 217 وبغية الملتمس رقم 1021، والحميدي في جذوة المقتبس ص 6 و255.
(3) Conde ; ibid V.
(4) البيان المغرب ج 2 ص 27.
(5) نفح الطيب ج 1 ص 109.
(6) واسمها بالقشتالية Ciudad de la Puerta، وقد كانت تقع على أحد ممرات البرنيه
وتسمى أحيانا "بويكاردا ".
(7) تمر الرواية الإسلامية على هذه الحوادث كلها بالصمت كما قدمنا، ولا تذكر لنا أي تفصيل أو لمحة تلقى الضياء عل شخصية منوسة، ويوافق دوزى على أن ت Munuza هو اسم للزعيم البربرى المتقدم الذكر.
راجع: Dozy: Histoire V.
II.
p.
129 & note, وكذلك
Lévi - Provençal: Hist.
de l'Espagne Musulmane 1944 p.
43 & note.
(8) Dom Vissette: ibid, I.
p.
764.
وتحيط الرواية سيرة لامبجيا وزوجها بكثير من القصص الخيالية الشائقة، التي اتخذت فيما بعد مستقى لخيال بعض الشعراء والكتاب. غير أن معظم هذه القصص لا يخرج عن حد الأساطير.
(9) Mariana في تاريخ اسبانيا العام - الترجمة الفرنسية ج 3 ص 5 وما بعدها.
المسلمون إلى غاليس (فرنسا) منذ الفتح.
(10) كانت إمارة أكوتين في ذلك الحين تمتد بين نهر الرون شرقا وخليج غسقونية (بسكونية)
غربا، وبين نهر اللوار شمالا ونهر الجارون جنوبا، وتشمل من مقاطعات فرنسا الحديثة جويان
وبيرجور وسانتونج وبواتو وفنده وجزءا من أنجو.
(11) Dom Vissette: ibid, V.
I.
p.
796
(12) وهى مسقط رأس الشاعر الفرنسي الأشهر فكتور هوجو.
(13) يقدم المستشرق كاردون شرحا آخر لسير عبد الرحمن، فيقول إنه زحف أولا على آرل وحاصرها فبادر الكونت إلى إنجادها، فلقيه عبد الرحمن وهزمه وألجأه إلى الفرار، ثم عبر عبد الرحمن نهر الجارون واستولى على بوردو. وكان الكونت قد جمع جيشا جديدا وحاول رده فهزم مرة أخرى، ثم اخترق عبد الرحمن وبيرجور وسانتونج وبواتو وهو يثخن في تلك الأنحاء حتى انتهى إلى تور Cardonne: Hist.
de l'Afrique et de l'Espagne - I - 129 ولكن عبد الرحمن اقتحم وادي الرون أيضا كما بينا، وقد شرحنا سيره طبقا لجميع الروايات مجتمعة، وطبقا للمواقع الجغرافية التي تتعلق بهذه الغزوة. وقد يكون أن عبد الرحمن لم يسر بنفسه شمالا نحو برجونية، ولكن الجيش الإسلامى اقتحم هذه الأنحاء بلا ريب.
(14) Gibbon: ibid, Ch – LII
(15) Southey: Roderick the last of the Goths
(16) موسوعة Bouquet: Recueil des Historiens de la Gaule et de la France,
رواية القديس رني Vol.
III.
p.
310.
وراجع أيضا موسوعة: Bayle: Dictionnaire
Historique et Critique تحت كلمة Abderame
(17) المقرى عن الحجارى فْى المسهب (نفح الطيب ج 1 ص 129).
ويورد الحجارى هذه الرواية بمناسبة عبور موسى بن نصير إلى فرنسا.
ولكن ظاهر من اسم با قارلة (كارل) أن الأمر يتعلق بالغزوة الكبيرة التي نتحدث عنها؛ وإليها ترجعها الرواية الكنسية اللاتينية. راجع:
Gibbon: ibid, Ch.
LII حيث يورد نفس هذه الفقرة في كلامه عن موقعة تور.
(18) Dom Vissette, ibid, V.
I p.
795
(19) تجمع معظم الروايات الفرنجية والكنسية على أن الموقعة كانت في أكتوبر سنة 732 م.
وهذا التاريخ يوافق بالهجرية شعبان سنة 114. بيد أن الرواية الاسلامية تختلف في تحديد هذا
التاريخ؛ فالبعض يقول إنها كانت سنة 115 هـ (ابن عبد الحكم ص 317، والظبى في بغية الملتمس رقم 1021، وابن عذارى في البيان المغرب ج 1 ص 37؛ ولكنه يعود فيذكر أن الموقعة كانت سنة 114هـ (ج 2 ص 28).
ولكن ابن الأثير (ج 5 ص 74)، وابن خلدون (ج 4 ص 119) والمقري عن ابن حيان (ج 1 ص 109 وج 2 ص 56) متفقون عل انها كانت سنة 114هـ؛ ويقول الأخيران إنها كانت في رمضان سنة 114 هـ، وهو أصح تعيين يتفق مع الرواية الغربية.
(20) قال ادوارد جيبون تعليقا على مزاعم الرواية الفرنجية " ولكن تلك القصة الخرافية يمكن
ردها بحذر القائد الفرنسي (كارل مارتل) إذ توجس من شراك المطاردة ومفاجآتها ورد حلفاءه
الألمان إلى أوطانهم.
ان سكون الفاتح ينم عن فقد الدماء والقوة، وأن أشنع تمزيق للعدو لا يقع حين التحام الصفوف، وإنما حين الانسحاب وتولية الأدبار ".
(21) راجع موسوعة Bayle تحت كلمة Abderame، ففيها أيضا إنكار الرواية الفرنجية
عن خسائر العرب.
وفى هذه الموسوعة تعليقات وملاحظات مفيدة لطائفة من المؤرخين الفرنسيين تجمع كلها على التنديد بمبالغة الرواية الفرنجية.
وراجع أيضا Dom Vissette: ibid , V.
I.
p.
797
حيث يدحض مزاعم الروايات النصرانية.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|