أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-10-2014
2223
التاريخ: 14-11-2014
1856
التاريخ: 2024-08-26
294
التاريخ: 21-11-2020
2212
|
هناك من حسب من تأويل القرآن شيئا وراء المفاهيم الذهنية او التعابير الكلامية ، وكان من نمط الاعيان الخارجية ، وكان ما ورد في القرآن من حكم وآداب وتكاليف واحكام كلها تعود اليه ، اذ تنتزع منه وتنتهي اليه في نهاية المطاف ، فكان ذلك تأويلا للقرآن في جميع آياته الكريمة .
وقد اختلفوا في تبيين تلك الحقيقة التي تعود اليها جميع الحقائق القرآنية في اصول معارفه والاحكام :
ذكر ابن تيمية ـ في رسالة وضعها بشان المتشابه والتأويل ـ : ان التأويل في عرف المتأخرين صرف اللفظ عن معناه الراجح الى معنى مرجوح ، لدليل يقترن به فالتأويل ـ على هذا ـ يحتاج الى دليل ، والمتاول عليه وظيفتان : بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي يدعيه ، وبيان الدليل الموجب للصرف اليه عن المعنى الظاهر.
قال : واما التأويل ـ في عرف السلف ـ فله معينان : احدهما : ما يرادف التفسير والبيان ، وهو الذي عناه مجاهد بقوله : ان العلماء يعلمون تأويل القرآن ، اي تفسيره وتبيينه .
والثاني : نفس المراد بالكلام ، ان كان طلبا فتأويله نفس العمل المطلوب ، وان كان خبرا فتأويله نفس الشي المخبر به .
قال : وبين هذا المعنى ـ الاخير ـ والذي قبله ـ الذي جاء اولا في عرف السلف ، والذي جاء في عرف المتأخرين ـ بون ، فان الذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام كالتفسير والشرح والايضاح ويكون وجود التأويل في القلب واللسان ، له الوجود الذهني واللفظي والرسمي .
واما هذا ـ المعنى الثاني في عرف السلف ـ فالتأويل فيه نفس الامور الموجودة في الخارج ، سواء كانت ماضية او مستقبلة فاذا قيل : طلعت الشمس ، فتأويل هذا نفس طلوعها.
قال : وهذا الوضع والعرف الثالث ـ الذي جاء ثانيا في عرف السلف ـ هو لغة القرآن التي نزل بها (1) .
وقال في تفسير سورة الاخلاص ـ بعد كلام تفصيلي له عن تأويل المتشابه من الآيات ، وان الراسخين في العلم يعلمون تأويله ، واستعظام ان يكون جبرائيل ومحمد(صلى الله عليه واله)و الصحابة والتابعون لهم بإحسان وائمة المسلمين لا يعرفون تأويل متشابه القرآن ، ويكون اللّه تعالى قد استأثر بعلم معاني هذه الآيات كما استاثربعلم الساعة ، وانهم جميعا كانوا يقراون الفاظا لا يفهمون لها معنى ، كما يقرأ احدنا كلاما ليس من لغته فلا يعرف معناه ، من قال ذلك فقد كذب على القوم ، والمأثور عنهم متواترا يناقض هذا الزعم ، وانهم يفهمون معنى المتشابه كما يفهمون معنى المحكم ـ قال بعد ذلك :
فان قيل : هذا يقدح فيما ذكرتم من الفرق بين التأويل الذي يراد به التفسير ، وبين التأويل الذي في كتاب اللّه .
قيل : لا يقدح في ذلك ، فان معرفة تفسير اللفظ ومعناه وتصوره في القلب ، غير معرفة الحقيقة الموجودة في الخارج ، المرادة بذلك الكلام .
فان الشي له وجود في الاعيان ، ووجود في الاذهان ، ووجود في اللسان ، ووجود في البيان فالكلام لفظ له معنى في القلب ، ويكتب ذلك اللفظ بالخط فاذا عرف الكلام وتصور معناه في القلب وعبر عنه باللسان ، فهذا غير الحقيقة الموجودة في الخارج ، وليس كل من عرف الاول عرف عين الثاني .
مثال ذلك : ان اهل الكتاب يعلمون ما في كتبهم من صفة النبي (صلى الله عليه واله) وخبره ونعته ، وهذا معرفة الكلام ومعناه وتفسيره ، وتأويل ذلك هو نفس محمد المبعوث ، فالمعرفة بعينه معرفة تأويل ذلك الكلام .
وكذلك الانسان قد يعرف الحج والمشاعر ، كالبيت والمساجد ومنى وعرفة ومزدلفة ، ويفهم معنى ذلك ولايعرف الامكنة حتى يشاهدها ، فيعرف ان الكعبة المشاهدة هي المذكورة في قوله : (وللّه على الناس حج البيت ) وكذلك ارض عرفات وغيرها.
وكذلك الرؤيا يراها الرجل ، ويذكر له العابر تأويلها فيفهمه ويتصوره ، ثم اذا كان ذلك فهو تأويل الرؤيا ، ليس تأويلها نفس علمه وتصوره وكلامه ، ولهذا قال يوسف الصديق : (هذا تأويل رؤياي من قبل ) وقال : (لا يأتيكما طعام ترزقانه الا نباتكما بتأويله قبل ان يأتيكما) فقد انباهما بالتأويل قبل ان يأتي التأويل ، فنحن نعلم تأويل ما ذكر اللّه في القرآن من الوعد والوعيد ، وان كنا لا نعرف متى يقع هذا التأويل المذكور في قوله تعالى : (هل ينظرون الا تأويله يوم يأتي تأويله) (2) .
وقد اشاد السيد محمد رشيد رضا (منشئ مجلة المنار المصرية ) من هذه النظرة التيمية بشان تأويل القرآن ، واعجبته غاية الاعجاب قال ـ بعد ان نقل عن شيخه الاستاذ محمد عبده ، ان التأويل بمعنى ما يؤول اليه الشي وينطبق عليه ، لا بمعنى ما يفسر به (3) ـ : ليس في كتب التفسير المتداولة ما يروي الغليل في هذه المسالة ، وماذكرناه آنفا هو صفوة ما قالوه ، وخيرة كلام الاستاذ الامام وقد راينا ان نرجع بعد كتابته الى كلام في المتشابه والتأويل ، لشيخ الاسلام احمد بن تيمية ، فرجعنا اليه وقراناه بإمعان ، فاذا هو منتهى التحقيق والعرفان ، والبيان الذي ليس وراه بيان ، اثبت فيه انه ليس في القرآن كلام لا يفهم معناه ، وان المتشابه اضافي اذا اشتبه فيه الضعيف لا يشتبه فيه الراسخ ، وان التأويل الذي لا يعلمه الا اللّه تعالى هو ما تؤول اليه تلك الآيات في الواقع ، ككيفية صفاته تعالى ، وكيفية عالم الغيب ، وكيفية قدرته تعالى وتعلقها بالإيجاد والاعدام ، وكيفية استوائه على العرش ولا كيفية عذاب اهل النار ، ولا نعيم اهل الجنة ، كما قال تعالى : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة : 17] فليست نار الاخرة كنار الدنيا ، وانما هي شيء آخر وليست ثمرات الجنة ولبنها وعسلها من جنس المعهود لنا في هذا العالم ، وانما هو شيء آخر يليق بذلك العالم ويناسبه .
قال : واننا نبين ذلك بالإطناب الذي يحتمله المقام ، مستمدين من كلام هذا الحبر العظيم ، ناقلين بعض ما كتبه (4) وجعل ينقل ما سرده ابن تيمية بإسهاب .
وهذا الذي ذكره ابن تيمية واشاد به رشيد رضا ، لا يعدو ما يعود اليه امر الشي ، اخذا بالمفهوم اللغوي لمادة التأويل اما العين الخارجية بالذات فلعله من اشتباه المصداق بالمفهوم ، فان الوجود العيني للاشيا هي عين تشخصاتها المعبر عنها بالمصاديق الخارجية ، ولم يعهد اطلاق لفظ (التأويل) على المصداق في متعارف الاستعمال الا ان يكون من عرفهما الخاص ، ولا مشاحة في الاصطلاح .
وعلى اى تقدير ، فانهما لم يأتيا بشي جديد ، فان مسالة الموجودات الاربعة للاشيا(الذهني واللفظي والكتبي والعيني ) امر تعارف عليه ارباب المنطق منذ عهد قديم ، الا ان الشي الذي لم يتعارف عليه هو اطلاق اسم (التأويل) على العين الخارجية ، باعتبارها مصداق اللوجودات الثلاثة المنتزعة عنها ، سوى كونه مصطلحا جديدا غير معروف .
ولسيدنا العلامة الطباطبائي كلام تحقيقي لطيف حول مسالة التأويل ، يراه متغايرا مع المفاهيم ، بعيدا عن جنس الالفاظ والمعاني والتعابير ، وانما هي حقائق راهنة ، موطنها خارج الاذهان والعبارات .
انه (ره ) تعرض لكلام ابن تيمية ، فصححه من جهة ، وخطاه من جهة اخرى ، صححه من جهة قوله : بشمول التأويل لجميع آي القرآن ، محكمه ومتشابهه ، وقوله : بانه خارج الاذهان والعبارات لكن خطاه في حصره للتأويل في العين الخارجية البحت ، فانه مصداق وليس بتأويل انما التأويل حقائق راهنة ، هي مصالح واقعية واهداف وغايات مقصودة من ورا التكاليف والاحكام ، وكذا الحكم والمواعظ والآداب ، وحتى القصص والاخبار والاثار التي جات في القرآن .
قال ـ مناقشا لراي ابن تيمية ـ : . (انه وان اصاب في بعض كلامه ، لكنه اخطأ في بعضه الاخر انه اصاب في القول : بان التأويل لا يختص بالمتشابه ، بل هو عام لجميع القرآن ، وكذا القول : بان التأويل ليس من سنخ المدلول اللفظي ، بل هو امر خارجي يبتنى عليه الكلام لكنه اخطأ في عد كل امر خارجي مرتبط بمضمون الكلام ـ حتى مصادقي الاخبار الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة ـ تأويلا للكلام) (5) .
ثم قال : (الحق في تفسير التأويل انه الحقيقة الواقعية التي تستند اليها البيانات القرآنية ، من حكم او موعظة الحكمة ، وانه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها ، وانه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ ، بل هي من الامور العينية المتعالية من ان يحيط بها شبكات الالفاظ وانما قيدها اللّه سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من اذهاننا بعض التقريب ، فهي كالأمثال تضرب ليقرب بها المقاصد وتوضح ، بحسب ما يناسب فهم السامع ، كما قال تعالى : (والكتاب المبين انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وانه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم ) (6) .
و قال ـ في شرح الآية ـ : .
(ان هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروا عربيا ، وانما البس لباس القراة والعربية ليعقله الناس ، والا فانه ـوهو في ام الكتاب ـ عند اللّه على لا تصعد اليه العقول ، حكيم لا يوجد فيه فصل وفصل فالكتاب المبين ـ في الآية ـ هو اصل القرآن العربي المبين ، وللقرآن موقع هو في الكتاب المكنون ، وان التنزيل حصل بعده ، وهو الذي عبر عنه بأم الكتاب وباللوح المحفوظ فالكتاب المبين الذي هو اصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل ، امر ورا هذا المنزل ، وانما هذا بمنزلة اللباس لذاك ان هذا المعنى ، اعني كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة الى الكتاب المبين ، ونحن نسميه بحقيقة الكتاب ، بمنزلة اللباس من المتلبس ، وبمنزلة المثال من الحقيقة ، وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام) (7).
واضاف : (فالحقيقة الخارجية التي توجب تشريع حكم من الاحكام او بيان معرفة من المعارف الالهية او وقوع حادثة هي مضمون قصة من القصص القرآنية ، وان لم تكن امرا يدل عليه بالمطابقة نفس الامر والنهي او البيان او الواقعة الكذائية ، الا ان الحكم او البيان او الحادثة ، لما كان كل منها ينشا منها ويظهر منها ، فهو اثرها الحاكي لها بنحو من الحكاية والاشارة) (8) .
واخيرا لخص كلامه في بيان التأويل بما يلي : .
(التأويل في عرف القرآن هو الحقيقة التي يتضمنها الشي ويؤول اليها ويبتنى عليها ، كتأويل الرؤيا ، وهو تعبيرها ، وتأويل الحكم ، وهو ملاكه ، وتأويل الفعل ، وهو مصلحته وغايته الحقيقية ، وتأويل الواقعة ، وهوعلتها الواقعية ، وهكذا) (9) .
غير ان وقفة فاحصة عند كلام هذا المحقق العلامة ، تجعلنا نتردد في التوافق معه ، انه (ره ) لو كان اقتصر على مالخصه اخيرا ، من جعل ملاكات الاحكام والمصالح والغايات الملحوظة في التشريعات والتكاليف تأويلا ، اي اصلا لها ومرجعها الاساسي لكل ذلك المذكور ، لامكننا مرافقته .
لكنه توسع في ذلك ، وفرض من تأويل آي القرآن كلها امرا بسيطا ذا احكام رصين ، ليس فيه شيء من هذه التجزئة والتفصيل الموجود في القرآن الحاضر الذي يتداوله المسلمون منذ اول يومهم فإلى ما لا نهاية ، فان ذاك عار عن كونه آية آية وسورة سورة ، وجودا واحدا بسيطا صرفا ، مستقرا في محل ارفع ، في كتاب مكنون لايمسه الا المطهرون .
وفرض من القرآن ذا وجودين : وجودا ظاهريا يتشكل في الفاظ وعبارات ذوات مفاهيم معروفة ، وهو الذي يتلى ويقرا ويدرس ، ويتداوله الناس حسبما الفوه طوال عهد الاسلام .
ووجودا آخر باطنيا ، هو وجوده الحقيقي الاصيل ، المترفع عن ان تناله العقول والاحلام ، فضلا عن الاوهام ، وذلك الوجود الحقيقي الرفيع هو تأويل القرآن ، اي اصله ومرجعه الاصيل .
قال ـ بصدد بيان نزول القرآن دفعة واحدة في ليلة القدر من شهر رمضان ، وانه لم يكن هذا القرآن المتلو الذي بأيدي الناس ، فانه نزل تدريجا بلا ريب ـ : .
(والذي يعطيه التدبر في آيات الكتاب امر آخر ، فان الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان او في ليلة القدر انما عبرت عن ذلك بلفظ الانزال الدال على الدفعة ، دون التنزيل ، واعتبار الدفعة اما بلحاظ المجموع والبعض ، واما لكون الكتاب ذا حقيقة اخرى ورا ما نفهمه بالفهم العادي ، الذي يقضي فيه بالتفرق والتفصيل والانبساط والتدريج ، هو المصحح لكونه واحدا غير تدريجي ونازلا بالأنزال دون التنزيل ، وهذا هو اللائحة من الآيات الكريمة : {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود : 1] فان هذا الاحكام مقابل التفصيل ، والتفصيل هو جعله فصلا فصلا وقطعة قطعة ، فالأحكام كونه بحيث لا يتفصل فيه جز من جز ، ولا يتميز بعض من بعض ، لرجوعه الى معنى واحد لا اجزأ فيه ولا فصول والآية ناطقة بان هذا التفصيل المشاهد في القرآن ، انماطرا عليه بعد كونه محكما غير مفصل ، واوضح منه قوله تعالى : {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف : 1 - 4] فانه ظاهر في ان هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروا عربيا ، وانما البس لباس القراة والعربية ليعقله الناس ، والا فانه في ام الكتاب عند اللّه على لا يصعد اليه العقول ، حكيم لا يوجد فيه فصل فصل فالكتاب المبين الذي هو اصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل امر ورا هذا المنزل وانما هذا بمنزلة اللباس لذاك (10) .
ثم احال تمام الكلام الى بيانه الاتي حول آية المتشابهات ، قال هناك : . (الحق في تفسير التأويل انه الحقيقة الواقعية التي تستند اليها البيانات القرآنية ، وانه موجود لجميع الآيات ، وانه ليس من قبيل المفاهيم بل من الامور العينية المتعالية من ان يحيط بها شبكات الالفاظ ، وانما قيدها اللّه بقيد الألفاظ لتقريبها من اذهاننا ، قال تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الزخرف : 3، 4] وفي القرآن تصريحات وتلويحات بهذا المعنى (11) .
وبعد ، فلنتسأل : ما هو السبب الداعي لفرض وجودين للقرآن الكريم : وجودا لديه تعالى في كتاب مكنون ، لايمسه الا المطهرون ، عاريا عن التجزئة والتفصيل ، متعاليا عن شبكات الالفاظ والعبارات ، ووجودا ارضيا نزل تدريجا لهداية الناس ، والبس لباس العربية لعلهم يعقلونه ؟ ولعله للنظر الى قوله تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } [البقرة : 185] وقوله : {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا } [الدخان : 1 - 5] وقوله : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر : 1] .
وقد ورد في الحديث ـ من طرق الفريقين ـ : ان القرآن نزل جملة واحدة في ليلة القدر ، ثم نزل تدريجا طوال عشرين عاما) (12) .
ولذلك فرض علامتنا الطباطبائي وجودين للقرآن الكريم ونزولين وكان نزوله الدفعي بوجوده البسيط الذي كان بمنزلة الروح لهذا القرآن ، النازل تدريجا بوجوده التفصيلي .
وبذلك نراه قد جمع بين ظواهر الآيات ودلالة الروايات ، وايد ذلك بالفارق اللغوي بين لفظتي (الانزال) و(التنزيل).
لكن تشريف شهر رمضان انما كان بنزول هذا القرآن المعهود لدى المخاطبين بهذا الخطاب ، لا بامر لا يعرفونه على ان القرآن النازل في هذا الشهر ، قد وصف بكونه {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة : 185] ومعلوم ان الهداية والبينات ، انما هي بهذا الكتاب الذي يتداولونه ، لا بكتاب مكنون عند اللّه محفوظ لديه في مكان على لا تناله الايدي والابصار.
كما ان الذي يبتغيه اهل الزيغ لاجل الفساد في الارض ، هو تفسير الآيات على غيروجهها ، لا وجودا آخر للقرآن ، هو في اعلى عليين .
فقوله (ره) : (وانه موجود لجميع الآيات محكمها ومتشابهها ، وانه ليس من قبيل المفاهيم بل من الامور العينية المتعالية من ان يحيط بها شبكات الالفاظ) غير مفهوم لنا.
والفرق بين (الانزال) و(التنزيل) امر ابدعه الراغب الاصبهاني ، ولا شاهد له .
قال : وانما خص لفظ الانزال دون التنزيل ، لما روي ان القرآن نزل دفعة واحدة الى سما الدنيا ، ثم نزل نجما فنجما ولفظ الانزال اعم من التنزيل ، قال : {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر : 21] ولم يقل : لو نزلنا ، تنبيها انا لو خولناه مرة ما خولناك مرارا.
ويرد عليه ما حكاه اللّه عن قولة العرب : {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [الفرقان : 32].
وكذلك قوله تعالى : {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأنعام : 37].
وقوله : {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} [محمد : 20].
وقوله : {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ } [الأنعام : 7].
وقوله : {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء : 95].
كما جمع بين التعبيرين بشان امر واحد في قوله تعالى : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل : 44] .
كما جاء استعمال (الانزال) بشان التدريجيات ايضا :
{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ } [البقرة : 22] .
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران : 7].-
لان الكتاب الذي منه محكم ومتشابه ، هو هذا الكتاب الذي نزل تدريجا {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام : 114] ، اذ الذي نزل مفصلا هو هذا القرآن الذي نزل منجما.
واخيرا فما هي الفائدة المتوخاة من ورا نزول القرآن دفعة واحدة الى السماء الدنيا او الى السماء الرابعة ، في البيت المعمور او بيت العزة ـ على الاختلاف في الفاظ الروايات ـ ، ثم نزوله بعد ذلك تدريجا في طول عهد الرسالة ؟.
وهل لوجود القرآن بوجوده البسيط الروحاني ـ في ذلك المكان الرفيع ـ فائدة تعود على اهل السماوات او سكان الارضين ؟.
واجاب الفخر الرازي عن ذلك ، وعلل وجود القرآن هناك ، في مكان انزل من العرش واقرب الى الارض ، ليسهل التناول منه لجبرائيل عند مسيس الحاجة (13) .
وعلل بعض الاساتذة المعاصرين ذلك ، بان الرابط بين ذلك القرآن المحفوظ لديه تعالى ، وهذا القرآن المعروض على الناس ، هو (رابط العلية) فكل ما في هذا القرآن من حكم ومواعظ وآداب ، وتعاليم ومعارف واحكام ، انما تنشا مما حواه ذلك القرآن ، على بساطته وعلو رفعته ، فهذا اشعاع من ذلك النور الساطع ، وافاضة من ذلك المقام الرفيع (14).
غير ان هذا كله تكلف في التأويل ، وتمحل في القول بلا دليل ، ولعلنا في غنى عن البسط فيه والتذييل .
واما الآيات التي استندوا اليها لا ثبات وجود آخر للقرآن محفوظ عند الله ، في كتاب مكنون لا يمسه الاالمطهرون فهي تعني امرا آخر غير ما راموه .
وليعلم ان المقصود من الكتاب المكنون ، هو : علم الل ه المخزون ، المعبر عنه ب (اللوح المحفوظ) ايضا ، وهكذاالتعبير ب (ام الكتاب ) كناية عن علمه تعالى الذاتي الازلي ، بما يكون مع الابد.
وقد ذكر العلامة الطباطبائي ـ في تفسير سورة الرعد حديثا عن الامام الصادق (عليه السلام)قال : (كل امر يريده اللّه ، فهوفي علمه قبل ان يضعه ، وليس شيء يبدو له الا وقد كان في علمه) قال ذلك تفسيرا لقوله تعالى : (يمحواللّه ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب ) (15) .
فقوله تعالى : {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الزخرف : 4] يعني قضى اللّه في علمه الازلي الحتم ان القرآن ـ في مسيرته الخالدة ـ سوف يشغل مقاما عليا ، مترفعا عن ان تناله ايدي السفهاء ، حكيما مستحكما قوائمه ، لا يتضعضع ولا يتزلزل ، يشق طريقه الى الامام بسلام (16) .
و كذا قوله : {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } [البروج : 21، 22] اي هكذا قدر في علمه تعالى المكنون (17) .
وهكذا ذكر الطبري وغيره في تفسير قوله تعالى : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة : 77 - 79] انه اشارة الى مقامه الرفيع عند اللّه ، وقد جرى في علمه تعالى انه محفوظ عن مناوشة المناوئين .
قال سيد قطب : (انه لقرآن كريم : كريم بمصدره ، وكريم بذاته ، وكريم باتجاهاته في كتاب مكنون : مصون ، وتفسير ذلك في قوله تعالى بعده : لا يمسه الا المطهرون فقد زعم المشركون ان الشياطين تنزلت به ، فهذا نفي لهذا الزعم فالشيطان لا يمس هذا الكتاب المكنون في علم اللّه وحفظه ، انما تنزل به الملائكة المطهرون ، ولذلك قال ـ بعدها ـ : تنزيل من رب العالمين ، اي لا تنزيل من الشياطين) (18) .
____________________________
1- رسالة الاكليل ، مطبوعة ضمن المجموعة الثانية من رسائله ص 10 و17 ـ 18.
2- راجع : رسالته في تفسير سورة الاخلاص ، ص 102 ـ 103 ونقله محمد رشيد رضا في تفسير المنار ، ج3 ، ص 195 ـ 196.
3- يرى الاستاذ عبده من متشابهات القرآن ، الامور الاخروية التي ورد ذكرها في القرآن ، لأنها من ضرورة الدين ومن مقاصد الوحي ، حيث العقيدة بأحوال الاخرة من اركان الدين ، فيجب الايمان بها ، الامر الذي لا يمكن الوقوف على حقيقتها الا بعد مشاهدتها في الاخرة ، فهي تأويلها ذلك اليوم ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف : 53] (المنار ، ج3 ، ص 167).
4- تفسير المنار ، ج3 ، ص 172 ـ 196.
5- الميزان ، ج3 ، ص 48.
6- الميزان ، ج3 ، ص 49 ، الزخرف / 4.
7- الميزان ، ج2 ، ص 14 ـ 16.
8- المصدر نفسه ، ج3 ، ص 53.
9- الميزان ، ج13 ، ص 376.
10- الميزان ، ج2 ، ص 14 ـ 16.
11- الميزان ، ج3 ، ص 49.
12- بحار الانوار ، ج94 ، ص 14 ، رقم23 .
13- التفسير الكبير ، ج5 ، ص 85.
14- مباني وروشهاي تفسير ، ص 73.
15- تفسير الميزان ، ج11 ، ص 420 ، الرعد/ 39.
16- راجع : الطبرسي ، مجمع البيان ، ج9 ، ص 39 والطوسي ، التبيان ، ج9 ، ص 179 وابا الفتوح الرازي ، ج10 ، ص 74 والفخر الرازي ، ج27 ، ص 194.
17- راجع : تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد ، ص 29 والفخر الرازي ، ج23 ، ص 66 وج28 ، ص 152.
18- في ظلال القرآن ، ج7 ، ص 706 وراجع : المجمع ، ج9 ، ص 226.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|