أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-9-2016
1393
التاريخ: 17-12-2020
3238
التاريخ: 24-9-2016
1221
التاريخ:
748
|
انقلاب العصر الحجري الحديث وأين حدث:
ظل الإنسان طوال العصور الحجرية القديمة (التي قلنا إنها شغلت زهاء 98% من حياة الإنسان) يعيش حياة همجية يعتمد في عيشة على جمع القوت بالصيد والالتقاط، ثم بدأ ينتقل في أواخر تلك العصور إلى طور جديد من الحياة تبدلت فيه أساليب عيشة تبدلاً أساسياً، بتعليمه إنتاج قوته بيده بالزراعة وتدجين الحيوان، وهو الانقلاب الاقتصادي الذي اتضحت معالمه في العصر الحجري الحديث وظهرت بوادره الأولى في شمالي العراق في العصر الذي سميناه "العصر الحجري الوسيط" مما سبق أن تكلمنا على بعض المواضع الأثرية الممثلة له في كردستان العراق.
اهم مميزات هذا العصر:
إن انقلاب العصر الحجري الحديث بلغ من عظم الأثر في حياة الإنسان وفي مسيرته الطويلة إلى الحضارة والمدينة بحيث قرن الباحثون أهميته الاقتصادية بأهمية الانقلاب الاقتصادي الذي ظهر في الحضارة الغربية الحديثة منذ ظهور ما يسمى بالثورة الصناعية في نهاية القرن الثامن عشر وطبعها بطابعها المميّز لها.
أصل الزراعة وتدجين الحيوان:
وقبل أن نتكلم عن هذا العصر الجديد، أي العصر الحجري الحديث، والمواضع الأثرية التي ظهرت فيها أدواره وآثاره في أنحاء العراق ولا سيما الأقسام الشمالية منه، نتناول أولاً قضية حضارية على قدر عظيم من الأهمية في تطور الإنسان الحضاري، تلك هي مسألة أصل الزراعة وتدجين الحيوان، وأين وقع ذلك الانقلاب الاقتصادي الخطير على ضوء أحدث التحريات والدراسات الآثارية.
من البديهي أن يكون المنطلق الواضح لحل هذه القضية في البحث عن الموان الطبيعية للنباتات والحيوانات التي دجنها الإنسان بعد أن كان يحصل عليها في العصور السابقة للعصر الحجري الحديث بطريقة الجمع والجني والصيد. فيكون الموطن الطبيعي (Natural habitat) لهذه النباتات والحيوانات الموضع الذي ينبغي أن نبحث فيه عن أصل الزراعة وتدجين الحيوان. ويضاف إلى هذا الشرط الأساسي شرط مهم آخر لإثبات أصل الزراعة وتدجين الحيوان، ذلك أن نجد بطريق التحريات الآثارية في ذلك الموطن الطبيعي آثاراً وبقايا لتلك النباتان والحيوانات تثبت أن الناس الذين عاشوا في ذلك الموطن الطبيعي اهتدوا إلى إنتاج قوتهم بالتدجين بعد أن كانوا يحصلون عليها بالجمع والصيد. إن تحقق هذا الشرط الثاني أمر أساسي في حل القضية لأن مجرد وجود الأنواع النباتية والحيوانية الوحشية لم نتج عنه تلقائياً تدجين تلك الأنواع من داجنات الإنسان. وسنحاول إثبات تحقق هذين الشرطين في شمالي العراق. فإذا تحرينا عن الشرط الأول الخاص بالموطن الطبيعي لأصول تلك الانواع الحيوانية والنباتية التي دجنها الإنسان، وفي مقدمتها الغنم (Sheep) والماعز والبقر والخنزير والقمح والشعير والعدس (Lentils) وغيرها، وجدنا أنذلك الموطن محصور في منطقة جغرافية معيّنة منها الشرق الأدنى، على أننا إذا ضيقنا حدود تحرينا فيجب إخراج بعض الأقطار مثل وادي النيل الذي لا توجد فيه الأصول الوحشية لتلك الحيوانات والنباتات التي عددناها، ويصح هذا الحكم كذلك على بوادي بلاد الشام ومناطق الجزيرة العربية وسهل وادي الرافدين الجنوبي وسواحل البحر المتوسط وشمالي أفريقيا وأوروبا التي لا يوجد فيها من أصول تلك الانواع سوى البقر والخنزير. ولذلك يضع الباحثون هذه المناطق خارج المركز الذي حدث فيه انقلاب العصر الحجري الحديث(1). وبالإمكان حصر حدود الرافعة الخاصة بالموطن الطبيعي للنباتات وعلى ضوء هذا لسبب نفسه يمكن تفسير انقلاب العصر الحجري الحديث في شمالي أفريقيا على تدجين الحيوان ولا سيما البقر دون الزراعة، وأن ظهور الزراعة فيها قد تأخر إلى زمن أولى الهجرات التأريخية للأقوام الاخرى وفي مقدمتهم الفينيقيون في مطلع الألف الأول ق.م والإغريق إلى برقة (في ليبيا) في القرن الثامن ق.م.
والحيوانات التي دجنها إنسان العصر الحجري الحديث في المنطقة الممتدة من هضبة الأناضول وأواسط آسية والقوقاز ومرتفعات وشمالي العراق، في سفوح جبال "زاجروس" وبرادوست، ولعله أيضاً البرز الشرقية والمنحدرات الشمالية لجبال هندوكوش(2).
وعلى هذا فإن سفوح جبال "زاجروس" الغربية (شمال العراق) والشرقية (إيران) تحقق الشرط الأول من وجود الأصول الوحشية للحيوانات والنباتات التي دنها الإنسان. وفي شمالي العراق يتحقق الشرط الثاني الملازم للشرط الأول، أي العثور على مستوطنات قديمة ظهرت فيها البوادر الأولى لذلك الانقلاب. وقد سبق أن تكلمنا على بعض هذه المستوطنات مما تم التحري فيها مثل "زاوي ــ جمي" و "كريم ــ شهر" وملفعات، وسنتكلم الآن عن المستوطنات التي ظهرت فيها الآثار الواضحة للزراعة وتدجين الحيوان في العصر الحجري الحديث في شمالي العراق، حيث الأحوال الطبيعية من مناخ ملائم وديمومة مياه الأمطار ووجود حيوانات ونباتات وحشية صالحة للتدخين هيأت المسرح منذ العصر الحجري الوسيط (الألف العاشر ق.م) لظهور ذلك الانقلاب الاقتصادي الخطير في حدود الألف الثامن أو السابع ق.م ، أي في العصر الحجري الحديث التالي للحجري الوسيط، حيث ظهرت القرى الفلاحية التي وجد منها عدة نماذج في سفوح الجبال الشمالية، تذكر أشهرها بحسب قدمها:
(1) جرمو. (2) الطبقات السفلى من "شمشارة"، (3) تل حسونة، (الطبقة الأولى أIA - . (4) كهف شانيدر (الطبقة A)، وغيرها من المستوطنات القديمة الأخرى التي سنذكرها في كلامنا على أطوال العصر "الحجري ــ المعدني" التالي للعصر الحجري الحديث، حيث ترجع الطبقات السفلى في الكثير منها إلى العصر الحجري الحديث.
جرمو: أولى قرى العصر الحجري الحديث:
ونبدأ من قرى العصر الحجري الحديث في شمالي العراق بوصف الموضع الأثري المسمى "جرمو"، أقدم مستوطن زراعي من مستوطنات ذلك العصر. تقع جرمو قرب جمجمال بنحو 11كم شرقاً، و 35 شرق كركوك على الوادي المسمى "جم كورا" أحد روافد العظيم وطرق جاي، وترتفع عن سطح الأرض بنحو (2500) قدم، وتشغل مساحة تتراوح ما بين (3) و (4) ايكرات (أي زهاء 12,000 إلى 16,000 متر مربع)، وترتفع بقايا السكنى في التل نحو 23 قدماً. وقد اكتشفته مديرية الآثار العراقية في الأربعينات من هذا القرن ثم شرعت بعثة أثرية من جامعة شيكاغو (المعهد الشرقي) تنقب فيه منذ عام 1948 برئاسة الأستاذ "بريدوود" واستمرت التحريات فيع إلى 1955. وقد أسفرت تلك التحريات (3) عن إظهار ست عشرة طبقة أثرية أو دور سكني في التل الذي قلنا إن أنقاضه الأثرية تبلغ زهاء 23 قدماً في ثخنها. وكانت الإحدى عشر طبقة الأولى منه (ابتداء من الأسفل) خالية من الآثار الفخارية، فترجع هذه الطبقات الأثرية من جرمو إلى الطور القديم من العصر الحجري الحديث الذي لم يبدأ فيه صنع الفخار، ولذلك سمي طور "ما قبل الفخار" (Pre-Pottery Neolithic). وقد وجد مثل هذا الطور في جملة مستوطنات قديمة في الشرق الأدنى مثل "أريحا" (في فلسطين) و"جتل هيوك" (في تركية). وينحصر الطور الذي ظهر فيه الفخار في "جرمو" في الطبقات الخمس العليا. وقد خمن منقب "جرمو" الأستاذ "بريدوود" لطبقاتها الست عشرة أنها استغرقت زهاء أربعمائة عام. أما تحديد تأريخ الموقع بطريقة فحص "الكاربون ــ 14" فقد ظهرت له عدة أرقام كان آخرها الرقم الناتج من خلاصة عدة فحوص (6750 ق.م). وقدرت بيوت القرية ما بين 25 و 30 بيتاً وعدد سكانها نحو (150) نفساً.
كشف في قرية جرمو عن أمور مهمة عن العصر الحجري الحديث في شمالي العراق بوجه خاص ومنطقة الشرق الأدنى بوجه عام. ففي هذه القرية التي تعد أولى القرى الفلاحية نجد خلاصة تجارب الأطوار السابقة في اختيار نوع الحبوب البرية الصالحة للتدجين، وكان بعض أنواعها لا يزال غير بعيد عن أصوله البرية، منها القمح المسمى (Emmer Wheat) الذي ظل من ناحية تركيبه قريباً من أصله الوحشي، ولكن ظهر إلى جانب هذا النوع المسمى (Einkorn Wheat)، وكذلك نوع الشعير المسمى (Hulled two-row Barley)، والعدس والحمص. ووجدت كميات من هذه الأنواع من الحبوب "مكربنة" أي على هيئة فحم (Carbonized) واستمر استعمال أثمار بعض الأشجار التي كانت تجمع في أطوار ما قبل الزراعة لغناها بالمواد الدهنية المغذية مثل البلوط والفستق.
أما الحيوانات التي دجنها الإنسان في شمالي العراق ووجدت بقايا من عظامها في قرية "جرمو" فكان في مقدمتها الماعز ولعله الغنم والخنزير. أما الغنم فقد سبق أن نوهنا بتدجينه في الدور السابق، أي العصر الحجري الوسيط في قرية "زاوي ــ جمي". ووجدت في جرمو نسبة غير قابلة من عظام الغنم المدجنة، ولكن البقر لم يزل تدجينه غير مؤكد، بل إنه كان يصطاد مع الغزال والخنزير الوحشي. وكانت القواقع (Snails) تؤلف جزءاً مهماً من قوت السكان.
وتقدم فلاحو جرمو أشواطاً أبعد من سكنى الأكواخ البدائية المستديرة التي شاعت في الأطوار السابقة، غذ تعلموا بناء بيوت مستطيلة من الطين (الطوف)، وشيّدت بيوت الطبقات العليا فوق أسس من الأحجار الطبيعية، وكانت جدران البيوت "تملط" بالطين. وبطلت أرضيات الدور بالطين فوق القصب، كما استعمل القصب والخشب لتسقيف البيوت، وبلغ معدل طول الحجرات في البيت ما بين 5 إلى 6 أقدام. ويحتوي البيت الواحد على أكثر من حجرة واحدة. وخلاصة ما يقال في بيوت جرمو إنها تعد تطوراً ملحوظاً في فن تشييد دور السكنى. كما تشير الأدوات البينية التي وجدت في جرمو إلى تقدم في سلم التطور المادي عن الأطوار السابقة، فوجدت مثلاً الملاعق المصنوعة من العظام والإبر العظيمة للخياطة، وتدل أقراص المغازل الصوانية (Spindle Whorls) على معرفة بالغزل والحياكة، مثل غزل الصوف والقنب. وهناك طائفة متنوعة من الأدوات الحجرية الدقيقة (مايكروليئية) صنعت من حجر الصوان والحجر الأويزيدي، من بينها نصال ثبتت بالخشب بواسطة القبر وهي على هيئة مناجل. اما الأدوات الكبيرة فإنها صنعت من حجر الكلس (Limestone) مثل الفؤوس (Celt) وأحجار الرحى والمساحيق والمدقات والهواوين وطائفة من الأواني البيتية. ومن الكماليات التي استعملها سكان قرية "جرمو" القلائد ذوات الخرز المصنوعة من الحجارة أو من الطين والأساور المصنوعة من حجر المرمر والقلائد أو الدلايات من الصدف والمحار، كما صنعت الأواني والأوعية المنزلية من الحجر.
وكانت العادة الغالية في طرق الدفن أن يلحد الميت في قبر يحفر تحت أرضيات بيوت السكني. وفي وسعنا أن نلمح طرفاً من الحياة الدينية في قرية "جرمو" من دلالة دمى الطين التي تمثل الحيوانات المختلفة، وكذلك الدمى التي تمثل نسوة بدينات حبالى من النوع الذي فسر بأنه أقدم نموذج لما أطلق عليه أسم "الآلهة ــ الأم" (Mother Goddess) التي ترمز لقوى الخصب والإنجاب وقوى الطبيعة المولدة الغامضة.
وخلاصة القول تمثل لنا قرية " جرمو" أقدم القرى الفلاحية يوم صارت الزراعة وتدجين الحيوان عماد حياة الإنسان منذ انقلاب العصر الحجري الحديث. بيد أن ذلك النظام الاقتصادي الجديد كان في ذلك العصر ينصف بالاكتفاء الذاتي، بمعنى أن كل عائلة فلاحية كانت تنتج قوتها بنفسها وتصنع أدواتها البدائية المحدودة، فلم يظهر بعد التخصص في حياة الإنسان. ولكن رغم محدودية الإنتاج فإن العصر الحجري الحديث كان يحمل جنين التطورات التي سنشاهدها تظهر في العصور التالية لذلك العصر، مما سنفرد له بحثاً خاصاً.
ولعله من المستحسن أن نضيف إلى هذه الملاحظات عن قرية" جرمو" ظاهرة أثرية مهمة تجعل هذه القرية من القرى الفلاحية الأولى في العالم. فإن خلو معظم الطبقات الأثرية التي تمثل أدوار السكني المتعاقبة في جرمو من الأواني الفخارية (من الطبقة الأولى إلى الطبقة الحادية عشرة إلى الأعلى) يضفي ميزة على هذه القرية بكونها كما قلنا من قرى العصر الحجري الحديث القليلة في أنحاء الشرق الأدنى مما لم يعثر فيها على الفخار من أطواره الأولى. وقديماً كان الفخار من الإمارات التي يعددها الآثاريون لتمييز العصر الحجري الحديث عن العصور الحجرية السابقة. ونذكر من بين هذه القرى القليلة المضاهية لقرية "جرمو" مما تم الكشف عنها الموضع المسمى "جتل هيوك"، في تركية، وأريحا في فلسطين. وقد أسفرت التحريات التي أجرتها في "أريحا" الباحثة الأمريكية "كثلين كنيون" (4) عن العثور على أطوار ما قبل الفخار فيها، وكانت بيوت هذه القرية من تلك الأطوار تشيد من اللبن وليس من الطين كما في قرية "جرمو". وكانت قرية "أريحا" سورة يجدران من الحجارة، وأظهرت فحوص " الكاربون ــ 14" بالنسبة إلى "أريحا" أرقاماً أعلى من الأرقام التي خصصت لأطوال "جرمو".ظهر فخار العصر الحجري الحديث في جرمو كما ذكرنا في الطبقات الخمس العليا من التل. وكان فخار الطبقتين الخامسة والرابعة أحسن نوع من الفخار ظهر في الموضع، فهو من الفخار المصبوغ باللون الاحمر على أرضية صفراء فاقعة (Orange buff) ومنه نوع ضارب إلى الحمرة، وقد زين بخطوط متقطعة، وسمي (فخار جرمو المصبوغ). ووجد ما يضاهي هذا النوع من الفخار في "تبه كوران" في إيران، ويعتقد أن أحدهما أصل للآخر، وبطل استعماله في حدود 6000 ق.م.
أما فخار الطبقات التالية لذلك النوع المصبوغ، فإنه يغلب عليه النوع الخشن المصنوع باليد وهو غفل من الزخرفة والألوان، وفخره غير جيد، وهذه صفة فخار العصر الحجري والحديث بوجه عام. وتلته في نهاية هذا العصر أنواع من الفخار أحسن وأتقن صنعاً مثل فخار حسونة وغيرها مما سيأتي الكلام عليها.
ونذكر في ختام ملاحظاتنا عن جرمو العثور في ربيع عام 1966 على موضع أثري اسمه "ثامر خان" إلى الشمال من بلدة مندلي ثبت أن آثاره تضاهي آثار جرمو، حيث الأدوات الصوانية والأويزايدية والأواني الحجرية والفخارية.
ويرتقع هذا الموضع زهاء (6) أمتار ومساحته نحو 100 × 150 متراً(5).
خلاصة ميزات العصر الحجري الحديث:
بالنظر إلى أهمية العصر الحجري الحديث ليس في تأريخ حضارة وادي الرافدين حسب بل في تطور الحضارات جميعها، فيحسن أن نلخص خصائصه قبل الانتقال إلى الكلام عن الأطوار الحضارية المهمة التي تلت هذا العصر.
مع عظم الانقلاب الذي حدث في حياة الإنسان في العصر الحجري الحديث باهتداء بعض الجماعات في الشرق الأدنى وفي مقدمتها المستوطنات في شمالي العراق إلى إنتاج القوت بالزراعة وتدكي الحيوان، نقول مع أهمية هذا التطور ظلت عدة الإنسان وحياته الاقتصادية بدائية ضيقة، فقد اقتضى الأمر مراحل اخرى من التطور التكنولوجي قبل أن يتمكن الإنسان من إنتاج الادوات المتنوعة الضرورية لحياته المادية. فمن بين الأدوات البدائية التي يجدها المنقبون في مستوطنات العصر الحجري الحديث رحى الطحن المؤلفة من حجرين يدور أحدهما فوق الأخر أو يضرب أحدهما بالآخر، وكذلك الأطباق الفخارية البسيطة لفرك الحبوب وتقشيرها (Husking trays)، وقد وجدت نماذج من هذه الأطباق في تل حسونة الذي سنتكلم عنه في الفصل التالي. ونذكر أيضاً المعازق والمحاريث البدائية (Hoe) والمناجل التي قوامها نصال صغيرة من حجر الصوان، ورؤوس النبال والسهام الحجرية. والمرجع كثيراً أن الإنسان عرف الغزل والحياكة بدلالة ما وجد من أقراص المغازل. أما الأواني الفخارية فقد سبق أن رأينا كيف أن الإنسان لم يعرف صنعها في الشطر الأقدم من هذا العصر، وهو الشطر الذي اصطلح على تسميته لهذا السبب بطور ما قبل الفخار (Pre – Pottery Neolithic). ولما نعلم الإنسان صنع الفخار في الشطر الثاني منه كانت الأواني الفخارية كما ذكرنا من النوع الساذج البدائي الغفل من الزخرفة والألوان باستثناء فخار الطبقات السفلى من قرية "جرمو". كما أنها صنعت باليد حيث لم يظهر دولاب الخراف إلا من بعد قرون كثيرة، في أواخر ما يسمى بالعصر الحجري المعدني .
وإذا كانت لم تتضح بعد معالم التخصص بالصناعات البدائية فإن نوعاً من تقسيم العمل مارسته المجتمعات الزراعية الأولى في الشرق الادنى إبان هذا العصر. ولعل المرأة هي التي اهتدت إلى تدجين الحبوب البرية بالزراعة، أي إنها هي التي أوجدت الزراعة(6). وكانت أعمال المرأة بالإضافة إلى تربية الأطفال تتعلق بطحن الحبوب وتهيئة الخبز والطعام وكذلك الغزل لصنع الملابس وتهيئة جلود الحيوانات، والعناية بتلك الحيوانات المدجنة في حظائرها. أما أبرز أعمال الرجل وواجباته فكانت على ما يرجح تتعلق بصنع الأدوات الحجرية والأسلحة البسيطة، وحماية قطعة الأرض الصغيرة المزروعة وصيد الحيوانات، حيث استمر إنسان العصر الحجري الحديث على توفير قوته بالصيد، وتهيئة الحقل للزراعة. وقد سبق أن نوَّهنا بأن زراعة الإنسان في هذا العصر كانت زراعة محدودة تتصف بالاكتفاء الذاتي. أي زرع مساحة صغيرة من الأرض تكفي لإعالة الأسرة الفلاحية الواحدة، كما أنها كانت زراعة حقلية إذ لم تظهر بعد زراعة البساتين بالأشجار المثمرة (Horticulture) إلا في العصور التالية وعلى وجه التحديد في أواخر العصر الحجري المعدني التالي. وكانت زراعة العصر الحجري الحديث إلى ذلك أشبه ما تكون بالزراعة المنتقلة، حيث الأرض سرعان ما كان يستنفد خصبها فيهجرها الفلاحون إلى أرض أخرى بكر، لأن الإنسان على ما يبدو لم يعرف الطريقة المتبعة بين فلاحي العراق الآن من زرع قسم من الأرض وتر القسم الآخر بوراً إلى الموسم الآتي، أي زراعة (النير والنير).
واستتبع انقلاب العصر الحجري الحديث الاقتصادي تطورات اجتماعية مهمة، منها فكرة الملكية الفردية، أي ملكة الحقل وأدوات الإنتاج البدائية والحيوانات المدجنة، كما يرجع نشوء بذور نظام الحرب بأبسط أنواعها، حيث التنقل الزراعي واحتكاك الجماعات المنتجة للقوت بعضها ببعض والاصطدام بالجماعات البشرية الأخرى اتي لم تتعلم الزراعة بل ظلت على حياة جمع القوت بالصيد.
ولعل أهم تطور أحدثته الزراعة في حياة الإنسان تحرير القسم الأعظم من نشاطه وطاقته يضمان إنتاج القوت بالزراعة. وكانت زراعة مطرية حيث انحصرت زراعة هذا العصر في الأقسام الشمالية من العراق وفي المناطق التي يمكن الاعتماد فيها على سقوط الأمطار الكافية، فكانت محدودة الجهد لم تكن تتطلب من فلاح العصر الحجري الحديث سوى الحرث اليسير حيث الحقل الذي يزرع كان صغيراً ثم البذر والانتظار إلى موسم الحصاد والجني، إذ لم تكن زراعة ري كما قلنا. وتبدو هذه الأعمال جد طفيفة إذا قورنت مع الجهود الجسيمة المضنية التي كان يتطلبها الحصول على القوت بالصيد والجمع والالتقاط في عصر جمع القوت السابق (العصر الحجري القديم).
ولعل فكرة قياس الزمن والتقويم، ولا سيما التقويم الشمسي، أوحتها للإنسان الدورة الزراعة، إذ يمكن قياس طول السنة الشمسية من وقت بذر إلى وقت آخر أو من حصاد إلى حصاد آخر. ولعل إنسان ذلك العصر استعان في ضبط مثل هذه الدورات والمواسم وتعاقبها ومواعيدها باقترانها بطلوع بعض النجوم والكواكب، على نحو ما يمارسه الفلاحون الآن في العراق وغير العراق. ويجدر أن ننوَّه بهذا الصدد أن ضبط التقويم المصري القديم كان يستند إلى اقتران بدء فيضان النيل بظهور كوكب الشعري (Serius). أما حساب الأشهر فقد ظل على النظام القمري في جميع العصور القديمة تقريباً، ويرجح أن يكون من تراث ما قبل العهد الزراعي.
وإذا كان يشك في ظهور ديانة ما عند إنسان العصر الحجري القديم فإن نشوء بذور الديانة والعبادة عند إنسان العصر الحجري الحديث يكاد يكون من الأمور المؤكدة. ولعل أول معبود تصوره الإنسان كان على هيئة إلهة تمثل الأرض وخصبها، وهي الإلهة التي يطلق عليها اسم "الإلهة ــ الأم" (Mother – goddess) وأن دمى الطين المصنوعة بهيئة نسوه بدينات مبالغ في كبر أثدائهن، مما وجد في عدة مستوطنات من قرى العصر الحجري الحديث ومنها قرية "جرمو"، تمثل تلك الإلهة. كما يرجح أن الإنسان قرن خصب الأرض ونتاجها الزراعي بإخصاب الأنثى بعضو الذكر، الأمر الذي يفسر لنا تلك الأشكال الغريبة المصنوعة من الطين والفخار على هيئة ذلك العضو (Phallus) وقد وجدت منها نماذج عديدة في العراق والشرق الأدنى.
وظهرت معالم المجتمع والحياة الاجتماعية في هذا العصر. أما في العصر الحجري القديم السابق له فلم يكن مجتمع بالمعنى الدقيق لمفهوم المجتمع وإنما كان نوعاً من التجمع. ومثل هذا يُقال بالنسبة إلى نشوء العائلة بمفهومها الاجتماعي وليس الجنسي، حيث المشاعية الجنسية كانت هي السائدة في العصر الحجري القديم. كما يرجح ظهور البداوة (Nomadism) والرعي (Pasturalism) في العصر الحجري الحديث. وقد نشأت على ما يحتمل بطريقتين. أما من المجتمعات التي اهتدت إلى تدجين الحيوان فقط دون الزراعة كما في مجتمعات زراعية حل في مواطنها الزراعية الجفاف فلم تستطع زرع الأرض زراعة مطرية، حيث لم يتعلم الإنسان زراعة الري إلا عندما انتقل إلى سهول الأنهار الرسوبية في العصور التالية كما سنشرح ذلك في الفصل التالي، فاقتصر في مثل تلك الأحوال على تدجين الحيوانات ورعيها.
ويجدر أن نلاحظ في ختام كلامنا على انقلاب العصر الحجري الحديث أنه إلى جانب مناطق الشرق الادنى وفي مقدمتها شمالي العراق التي ظهرت فيها أولى وأقدم زراعة، ظهر ذلك الانقلاب أيضاً بوجه مستقل في مركزين آخرين من العالم ولكن في أزمان متأخرة عن ظهوره في الشرق الأدنى، وهما الشرق الأقصى (الصين) حيث زراعة الذرة في حدود 1000 ق.م. أما في سائل أنحاء العالم فقد انتقلت إليها منجزات العصر الحجري الحديث في أزمان متفاوتة من الشرق الأدنى بالدرجة الأولى، فمثلاً انتقلت إلى أوروبا عن طريق تركية واليونان وإلى جنوبي روسية ووادي الدانوب. ومع ذلك الانتشار فإن مجتمعات بشرية عديدة ظلت تعيش في طور جمع القوت بعد مرور ألوف كثيرة من السنين على ظهور الزراعة في الشرق الأدنى. ومع نقائض الحياة الاقتصادية وأساليب الإنتاج في العصر الحجري الحديث مما ألمحنا إليه من بدائية الإنتاج واتصافه بالاكتفاء الذاتي وعدم ظهور معالم التخصص وانتفاء ضمان الإنتاج للطوارئ بسبب قلة هذا الإنتاج ــ نقول على الرغم من كل هذه العيوب والنقائض كان العصر الحجري الحديث يحمل في طياته جنين إمكانات المستقبل في توسع الإنتاج وتقسيم العمل والتخصص في الفلاحة وإنتاج الأدوات إلى غير ذلك من المقومات الحضارية الأخرى في التقدم التكنولوجي.
___________
(1) مما لا شك فيه أن هذا هو السبب الذي جعل ظهور انقلاب العصر الحجري الحديث في وادي النيل يتأخر في بدايته عن وادي الرافدين فترة طويلة من الزمن، وليس من المستبعد أن تكون معرفة الزراعة وتدجين الحيوان قد انتقلت إلى مصر من العراق.
(2) انظر: Mellaart in CAH, vol. I,II, (1967), shap. VII.
وكذلك المرجع المذكور في الهامش رقم 12، الص (120) منه
(3) راجع التقارير التي نشرها الأستاذ "بريدوود" في المجلات الآتية:
American Journal of Archaeilogy, (1949), 49ff; Antiquity,(1950), 189ff; Bulletin of the American School of Oriental Research, no. 124, (1951), 12 ff
(4) راجع: K. m. Kenyon, Digging Up Jericho (1957), 151ff.
(5) كشفت هن هذا الموضع الأثري السيدة "جوان أوتس"، انظر:
Joan Oates in SUMER, 22, (1966), 15ff.
(6) انظر:
G. childe, New light on the Most Ancient East, (1952), P. 61.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|