المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8186 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19



مقتضى الأصل الأوّلي في المتعارضين  
  
743   10:47 صباحاً   التاريخ: 1-9-2016
المؤلف : ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : أنوَار الاُصُول
الجزء والصفحة : ج 3 ص 467.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / تعارض الادلة /

هل الأصل في التعارض التساقط، أو التخيير، أو الجمع مهما أمكن؟

قد يقال: بلزوم الجمع بينهما استناداً إلى القاعدة المعروفة «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح» ولعلّ أوّل من طرحها ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي وإن تصدّى للعمل بها شيخ الطائفة(رحمه الله) في الاستبصار (ولا يخفى أنّ الأولوية في هذه القاعدة هي الأولويّة التعيينية، أي وجوب الجمع مهما أمكن لا استحبابه نظير ما ورد في قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75].

ولكنا نقول: الجمع يتصوّر على أقسام:

أوّلها: الجمع التامّ بين الدليلين بالعمل بتمامهما من دون أي تصرّف فيهما فإن أمكن ذلك ولو بتدبير وبذل جهد فلا إشكال في وجوبه بل هو خارج عن محلّ الكلام ومن التعارض.

ثانيهما: أن يكون المراد منه العمل ببعض كلّ منهما أو بعض أحدهما وتمام الآخر عملا يوافقه العرف ويستحسنه، فلا إشكال أيضاً في تعيّنه وكونه أولى من الطرح كما في العام والخاصّ، ولكنّه أيضاً خارج عن محلّ الكلام لأنّه لو كان بينهما تعارض فإنّما هو في النظر البدوي.

ثالثها: أن يكون المراد منه الجمع بين الحقوق المتزاحمة في باب التزاحم، كالجمع بين

حقوق الغرماء في المفلّس فلا ريب أيضاً في لزوم هذا الجمع بمقدار الإمكان ولكنّه أيضاً خارج عن محلّ الكلام كما لا يخفى.

رابعها: أن يكون المراد منه مطلق الجمع ورفع اليد عن ظاهر كليهما أو أحدهما بتأويلهما أو تأويل أحدهما من دون أي شاهد عرفي، وهو ما يسمّى بالجمع التبرّعي كما قد يظهر الإصرار عليه من بعض كلمات شيخ الطائفة(رحمه الله) في كتاب الإستبصار، وهذا هو الذي يمكن أن يتكلّم فيه في محلّ الكلام.

ولكن مثل هذا الجمع يرد عليه:

أوّلا: أنّه لا دليل على أولويته عند الطرح من العرف والعقلاء.

وثانياً: أنّه يوجب الهرج والمرج في الفقه لأنّه لا ضابطة للجمع التبرّعي فيمكن لكلّ فقيه أن يختار نوع جمع خاصّ لروايتين غير ما يختاره الآخر.

وثالثاً: أنّه يعارض جميع أخبار الترجيح عند وجود المرجّحات أو حملها على مورد النادر، أي المورد الذي لا يمكن الجمع فيه ولو بالتأويل وارتكاب خلاف الظاهر، وهكذا يعارض أخبار التخيير.

فظهر أنّه لا يمكن في المقام الجمع بين المتعارضين، فيدور الأمر بين التخيير والتساقط، فهل القاعدة الأوّليّة تقتضي التساقط مطلقاً، أو التخيير مطلقاً، أو التفصيل بين المباني المختلفة في حجّية الأمارات من الطريقيّة وأنواع السببيّة؟ الصحيح هو الأخير.

توضيح ذلك: أنّ المراد من الطريقيّة أنّ الأمارة لا توجد مصلحة في مؤدّاها بل إنّها مجرّد طريق إلى الواقع فإن أصابت إلى الواقع فمؤدّيها هو الواقع، وإلاّ فلا يكون شيئاً، والمراد من السببيّة أنّ الأمارة توجب حصول مصلحة في المؤدّى وهى على أقسام أربعة:

1 ـ السببيّة الكاملة التي قال بها جمع كثير من العامّة في ما لا نصّ فيه، وحاصلها: أنّ الفقيه يجتهد في ملاحظة المصالح والمفاسد ثمّ يختار حكماً بلحاظها، وفي الواقع له وضع القانون الإلهي فيما لم يرد به نصّ، وهذا المعنى ثابت لجميع المجتهدين وإن اختلفوا في وضع هذه الأحكام اختلافاً كثيراً، فكلّ واحد منها حكم إلهي يمضيه الله، وهذا هو التصويب الأشعري المعروف عندهم الباطل عندنا، وهذا النوع من التصويب غير مذكور في كلمات أصحابنا غالباً.

وهو من أشنع ما التزموا به ممّا يلزم منه نقض التشريعات الإسلاميّة وحاجتها إلى الإكمال من ناحية البشر، بل أضعف ممّا يتداول في العصر الحاضر من وضع القوانين من ناحية الوكلاء المنتخبين من الناس فإنّ نتيجته قانون واحد لبلد واحد لا قوانين كثيرة بعدد آحاد الفقهاء، ولنعم ما قال مولانا أمير المؤمنين فيما روي عنه(عليه السلام) في نهج البلاغة في ذمّ الفتيا حيث قال: «ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثمّ ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم، فيصوّب آراءهم جميعاً وإلههم واحد ونبيّهم واحد وكتابهم واحد أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه»(1).

وهو مخالف أيضاً لحديث الثقلين المتواتر بين الفريقين المانع عن ضلالة الاُمّة بصريحه، وخطبة النبي(صلى الله عليه وآله) في حجّة الوداع: «أيّها الناس ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم عن النار إلاّ وقد أمرتكم به وما من شيء يقرّبكم إلى النار ويباعدكم عن الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه»(2)، بل هو مخالف لقوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ..} [المائدة: 3] فإنّ الدين الكامل لا يحتاج في تشريعاته إلى أبناء البشر واتّباع اُمّته، والإنصاف أنّهم لم يقعوا في هذه المشكلة إلاّ بترك الثقل الأصغر أعني أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) فهذه جريمة مترشحة عن ذاك الجرم ونتيجة لذلك الإثم.

وعلى كلّ حال لا يخفى في أنّه بناءً على هذا المعنى للسببيّة تدخل الأمارات المتعارضة في باب التزاحم ويكون مقتضى القاعدة حينئذ التخيير (بناءً على كون المصلحة السلوكيّة فيما يكون أمارة اقتضائيّة، وأمّا إذا قلنا بأنّها ثابتة في الأمارة الفعليّة فتدخل في باب التعارض كما هو ظاهر).

2 ـ ما قال به المعتزلي وهو أنّ لنا واقعاً محفوظاً قد تصيبه الأمارة وقد تخطيء، ولكنّها في صورة الخطأ توجد مصلحة أقوى من مصلحة الواقع في مؤدّيها، فتوجب سقوط الواقع عن الفعلية وانقلاب الحكم الواقعي إلى مؤدّى الأمارة.

وهذا المعنى أيضاً أجمع الأصحاب على بطلانه، ويكون مقتضى القاعدة بناءً عليه هو التخيير (على تفصيل مرّ ذكره بين الحجّية الاقتضائيّة والفعليّة) لأنّ الأخبار المتعارضة تدخل حينئذ في باب التزاحم أيضاً.

نعم قد فصّل المحقّق الخراساني(رحمه الله) هنا وقال: هذا إذا قلنا بالسببيّة مطلقاً ولو فيما علم كذبه، وأمّا إذا قلنا بسببية الأمارات في خصوص ما لم يعلم كذبه من الخبرين المتعارضين بأن لا يكون ما علم كذبه مسبّباً لحدوث مصلحة أو مفسدة في المتعلّق، فحالهما حينئذ من حيث مقتضى القاعدة الأوّليّة كحالهما بناءً على الطريقيّة عيناً (من التساقط كما سيأتي) وهذا هو المتيقّن من أدلّة اعتبار الأمارة من سيرة العقلاء والآيات والأخبار، وما ذكره قريب من الصواب.

3 ـ السببيّة الظاهريّة، والمراد منها أنّ أدلّة حجّية الأمارة تجعل حكماً ظاهرياً مماثلا لمؤدّيها، وهذا ما ذهب إليه جماعة من الأعاظم، وهو المقصود ممّا حكاه صاحب المعالم عن العلاّمة (رحمه الله) من أنّ ظنّية الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم، فمراده من الحكم القطعي إنّما هو الحكم القطعي الظاهري بلا ريب.

والنتيجة بناءً على هذا المعنى هو التساقط بناءً على كون الحكم الظاهري المماثل مجرّد طريق إلى الواقع فحسب، من دون حصول أي مصلحة فيه (كما هو الظاهر)، وأمّا إذا قلنا إنّها توجب في مؤدّيها حصول مصلحة أقوى من مصلحة الواقع أو المساوي لها فهو يشبه حينئذ مبنى السببيّة المعتزلية، ونتيجته التزاحم بين الأمارة التي أصابت إلى الواقع والأمارة التي أخطأت ولكنّها أوجبت مصلحة في مؤدّيها، فيكون مقتضى الأصل حينئذ التخيير أيضاً.

4 ـ السببيّة السلوكيّة أو المصلحة السلوكيّة، والمراد منها أنّ أدلّة حجّية الأمارة لا توجد مصلحة في مؤدّيها في صورة الخطأ بل إنّها توجب حصول مصلحة في نفس السلوك على طبقها ما يعادل مصلحة الواقع، ففي مثال الأمارة التي قامت على وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة لا توجب أدلّة حجّيتها حصول مصلحة في نفس صلاة الجمعة بل توجد مصلحة في العمل بقول الثقة مثلا وسلوك هذا الطريق.

فعلى هذا المبنى أيضاً يكون مقتضى القاعدة التخيير والدخول في باب التزاحم (على تفصيل مرّ ذكره) ولكن لا دليل على حصول هذه المصلحة في مقام الإثبات، سلّمنا ـ لكن يرد عليه ما مرّ من إشكال المحقّق الخراساني(رحمه الله) من أنّ المتيقّن من أدلّة اعتبار الأمارة هو سببيّة الأمارات في خصوص ما لم يعلم كذبه من الخبرين.

هذا كلّه بناءً على القول بالسببية.

وأمّا على مبنى الطريقيّة فذهب أكثرهم إلى التساقط، واستدلّوا لذلك بوجود العلم الإجمالي بكذب أحد الطريقين، حيث إنّه يوجب عدم اعتماد العرف بكليهما فيسقط كلّ واحد منهما عن الطريقيّة والحجّية.

وإن شئت قلت: إنّ أغلب الطرق الشرعيّة مأخوذة من الطرق العقلائيّة وامضاء لها، ولا إشكال في أنّ العرف والعقلاء في باب الشهادات والدعاوي ومقام القضاء وغيرها يحكمون ببطلان كلا الطريقين إذا شهد كلّ منهما على خلاف الآخر مثلا.

وللمحقّق الأصفهاني(رحمه الله) كلام في هذا المجال لا تخلو الإشارة إليه من فائدة، وحاصله: أنّ الاحتمالات المتصوّرة في ما نحن فيه أربعة:

1 ـ أن يكون أحدهما لا بعينه حجّة، فإنّه إذا علمنا بكذب أحدهما لا بعينه صارت الحجّة أيضاً أحدهما لا بعينه، ولا إشكال في بطلان هذا الاحتمال لأنّ عنوان أحدهما لا بعينه انتزاع ذهني لا وجود له في الخارج، فلا تتعلّق به وصف الحجّية، فإنّ الصفات سواء كانت حقيقية أو اعتبارية لا تعرض إلاّ للوجود الخارجي.

2 ـ أن تكون الحجّة ما يكون مطابقاً للواقع، وهذا أيضاً لا يمكن الالتزام به لعدم العلم بمطابقة واحد منهما للواقع وإن احتمل ذلك، فإنّ المفروض ظنّية كلّ واحد من الخبرين.

3 ـ أن يكون كلّ منهما حجّة (وكأنّ مراده حجّية كليهما في مدلولهما الإلتزامي وهو نفي الثالث) ولكنّه أيضاً لا يمكن الالتزام به لأنّه وإن كان المقتضي للحجّية في كليهما موجوداً والمانع مفقوداً ولكن سنخ المقتضي لا يقبل التعدّد، لأنّ تنجّز الواقع الواحد على تقدير الإصابة لا يعقل فعليته في كليهما، فالواقع غير قابل للفعلية إلاّ في أحدهما.

4 ـ عدم حجّية كليهما، وهذا هو المتعيّن(3).

أقول: وهنا احتمال خامس وهو التخيير، ولكنّه أيضاً منتف لعدم الدليل عليه من العقل ولا النقل (إلاّ في مورد خاصّ).

فتلخّص من جميع ذلك أنّ الأصل في المتعارضين التساقط.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من أنّ قضية التعارض بين المتعارضين هو التساقط إنّما هو بملاحظة الأصل الأوّلي والقاعدة الأوّليّة فيعمل به ما لم ينتقض بدليل خاصّ تعبّدي كما انتقض في الخبرين المتعارضين، فإنّ الإجماع والأخبار العلاجية قائمان على عدم سقوطهما بل لابدّ من العمل بأحدهما إمّا تعييناً أو تخييراً، نعم إنّها باقية على حالها في غير الخبرين سواء في الشبهة الحكميّة كما في الإجماعين المحصّلين المتعارضين أو في الشبهة الموضوعيّة كما في البيّنتين المتعارضتين.

بقي هنا شيء:

وهو أنّ الصحيح بين المبنيين (مبنى السببيّة ومبنى الطريقيّة) إنّما هو مبنى الطريقيّة، وذلك لأنّ أدلّة حجّية الأمارات في الواقع امضاءً لبناء العقلاء، ولا إشكال في أنّهم يعتمدون على مثل قول الطبيب وأهل الخبرة بلحاظ كونه طريقاً إلى الواقع لا لحصول مصلحة في قول الطبيب ورأيه ولو كان مخالفاً مع الواقع.

إن قلت: إنّ إجازه الشارع العمل بمؤدّى الأمارة مطلقاً حتّى فيما إذا كان موجباً لتفويت الواقع تكشف عن توليد مصلحة في السلوك على طبقها، أي المصلحة السلوكيّة (لا المصلحة في نفس المؤدّى حتّى يرد عليه لزوم التصويب المجمع على بطلانه).

قلنا: إنّ إذنه بالعمل بالأمارة مطلقاً يكون من باب إنقطاع يد المكلّف عن الوصول إلى العلم بالواقع غالباً، وهذا ما يشهد عليه الوجدان في باب ملكيّة الأشخاص بالنسبة إلى أموالهم وفي باب الدعاوي في القضاء، فإنّه لا يحصل للإنسان العلم بملكيّة زيد مثلا بالنسبة إلى أمواله أو بحقّانية أحد طرفي الدعوى، كما أنّه قد يوجب اعتبار حصول العلم للعسر والحرج كما في باب الطهارة والنجاسة والأملاك وغيرهما فإنّ حصول العلم فيها وإن كان ممكناً للإنسان أحياناً ولكنّه يستلزم منه العسر والحرج غالباً كما لا يخفى.

لا أقول أنّ حجّية الأمارات تكون من باب إنسداد العلم (الإنسداد الكبير) بل أقول: أنّ الحكمة في حجّية غالب الأمارات وجود انسداد صغير في مواردها.

ثمّ إنّه بناءً على تساقط الخبرين المتعارضين هل تبقى دلالتهما الالتزاميّة على نفي الثالث على حالها، أو أنّها أيضاً تسقط؟ فإذا قامت بيّنة (في الشبهة الموضوعيّة) على أنّ هذه الدار لزيد مثلا وبيّنة اُخرى على أنّها لعمرو فهل يثبت بهما عدم كونها لبكر، أو لا؟ وهكذا في الشبهات الحكميّة، فإذا قام الخبر على كون نصاب المعدن عشرين ديناراً ودلّ خبر آخر على أنّه دينار واحد فهل يبقى مدلولهما الالتزامي (وهو أصل وجود نصاب لوجوب الخمس في المعدن الدائر أمره بين العشرين والدينار الواحد) على حاله فتكون النتيجة عدم وجوب التخميس في الأقلّ من دينار، أو أنّه أيضاً يسقط وتكون النتيجة وجوب الخمس مطلقاً حتّى في الأقلّ من دينار؟ فيه قولان:

أحدهما: ما ذهب إليه المشهور منهم صاحب الكفاية والمحقّق النائيني والمحقّق الأصفهاني والمحقّق الحائري(رحمه الله) في الدرر وجماعة اُخرى من المتأخّرين، وهو عدم سقوط الدلالة بالنسبة إلى نفي الثالث.

ثانيهما: ما ذهب إليه بعض الأعلام كما في مصباح الاُصول من سقوطها حتّى من هذه الجهة.

ولابدّ قبل الورود في باب أدلّة الطرفين أن نشير إلى أنّ هذا البحث إنّما يجري فيما إذا احتملنا كذب كلا الخبرين، أي كان كلّ من الدليلين ظنّياً، وأمّا إذا علمنا صدق أحدهما من دليل خارج كالإجماع (كما أنّه كذلك في الخبرين الدالّين على وجوب صلاة الجمعة ووجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة حيث إنّ الإجماع قام على صدق أحدهما وعدم تكليف ثالث في البين كوجوب كليهما أو عدم وجوب كليهما) فلا موضع لهذا النزاع، لأننا نقطع حينئذ بنفي الثالث.

وعلى أي حال فقد استدلّ للقول الأوّل بوجهين:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني(رحمه الله) فإنّه قال: «نعم يكون نفي الثالث بأحدهما لبقائه على الحجّية وصلاحيته على ما هو عليه (من عدم التعيّن) لذلك لا بهما» وحاصله ما مرّ منه من أنّ ما يسقط عن الحجّية إنّما هو أحد الخبرين لا بعينه، فيكون أحدهما الآخر لا بعينه باق على حجّيته، فينفي به الثالث، فلا يجوز الخروج عن مؤدّى المجموع.

ولكن يرد عليه: إشكال بحسب مقام الثبوت، وإشكال بحسب مقام الإثبات، أمّا الأوّل:

فهو ما مرّ في كلام المحقّق الأصفهاني(رحمه الله) من أنّ الصفات الحقيقيّة والاعتباريّة لا تعرض إلاّ للوجود الخارجي، ولا وجود لعنوان أحدهما لا بعينه في الخارج فلا يتعلّق به وصف الحجّية بل هو أمر إنتزاعي ذهني.

وإن شئت قلت: الغرض من جعل شيء حجّة إنّما هو بعث المكلّف إليه وانبعاثه عنه في مقام العمل، ولا إشكال في عدم إمكان البعث إلى عنوان أحدهما لا بعينه، لعدم إمكان انبعاث المكلّف عنه عملا، نعم يمكن الانبعاث إلى كليهما تخييراً ولكن لا ربط له بما نحن فيه.

وأمّا الثاني: فهو أنّه لا دليل على حجّية أحدهما لا بعينه في مقام الانبعاث، إذ إنّ أدلّة حجّية الأمارات كمفهوم آية النبأ لا تعمّ أحد العدلين (مثلا) لا بعينه. وبعبارة اُخرى: ليس عنوان أحدهما لا بعينه مصداقاً من مصاديق خبر العادل في مفهوم الآية (إن جاءكم عادل فلا تبيّنوا).

الوجه الثاني: ما استدلّ به بعض الأعلام، وهو أنّ الخبرين المتعارضين يشتركان في نفي الثالث بالدلالة الالتزاميّة فيكونان معاً حجّة في عدم الثالث، وتوهّم أنّ الدلالة الالتزاميّة فرع الدلالة المطابقيّة وبعد سقوط المتعارضين في المدلول المطابقي لا مجال لبقاء الدلالة الالتزاميّة لهما في نفي الثالث ـ فاسد فإنّ الدلالة الالتزاميّة إنّما تكون فرع الدلالة المطابقية في الوجود لا في الحجّية»(4).

ولكن يرد عليه:

أوّلا: أنّ هذا صحيح في مقام الثبوت لا في مقام الإثبات لأنّ أدلّة الحجّية في مقام الإثبات إنّما تعمّ الدلالة الالتزاميّة بتبع الدلالة المطابقيّة ومن طريقها وفي طولها لا في عرضها، وبعد فرض عدم شمولها للمدلول المطابقي لا يبقى مجال لحجّية المدلول الالتزامي، وبعبارة اُخرى: أدلّة حجّية الأمارات لا تشمل شيئاً من المتعارضين من أوّل الأمر للزوم التناقض، فلا يبقى مورد للدلالة الالتزاميّة كما لا يبقى مورد للدلالة المطابقيّة.

وثانياً: أنّه مخالف للسيرة العقلائيّة والإرتكازات العرفيّة، فإنّها قائمة على سقوط الدلالة الالتزاميّة بتبع الدلالة المطابقيّة، فإذا أخبر ثقة بقدوم زيد يوم الجمعة وأخبر ثقة آخر بقدومه

يوم السبت، فلا إشكال في سقوط كليهما عن الحجّية عند العرف حتّى في مدلولهما الالتزامي، وهو عدم قدوم زيد يوم الأحد، ولذا يبقى عندهم احتمال قدومه يوم الأحد، وهكذا إذا قامت بيّنة على أنّ هذه الدار لزيد وقامت بيّنة اُخرى على كونها لعمرو، فبعد تساقطهما لا يبقى مجال لنفي احتمال كونها لشخص ثالث.

وثالثاً: أنّه مخالف لما يستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة التي تدلّ على لزوم الأخذ بأحوط الاحتمالات فيما إذا تعارض الخبران لا بأحوطهما فإنّ لازمها عدم نفي الثالث، أي سقوط دلالتهما الالتزاميّة على نفي الثالث، ولكن سيأتي الحديث عنها والنقاش في دلالتها فانتظر.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الصحيح في المسألة هو القول الثاني، وهو عدم نفي الثالث، كما قد ظهرت الثمرة المترتّبة على هذا البحث، حيث إنّه بناءً على نفي الثالث لا يمكن الرجوع إلى الإطلاقات والاُصول العمليّة بعد سقوط الخبرين، ففي مثال دوران الأمر بين العشرين والواحد في نصاب المعدن لابدّ من الجمع بين الخبرين والأخذ بأقلّ النصابين لانتفاء احتمال ثالث في البين (وهو عدم اعتبار النصاب رأساً ووجوب الخمس حتّى في الأقل من دينار) مع أنّه بناءً على القول الثاني وهو عدم نفي الثالث يمكن الرجوع إليها، وهى في المثال أصالة إطلاقات وجوب الخمس في المعدن، وهى تقتضي وجوب الخمس حتّى في الأقل من دينار، أي تقتضي عدم اعتبار النصاب رأساً.

____________

1. صبحي الصالح: خ 18.

2. اُصول الكافي: ج2، ص74.

3. راجع نهاية الدراية: ج5 ـ 6، ص285 ـ 287، طبعة مؤسسة آل البيت.

4. فوائد الاُصول: ج4، ص755 و756، طبعة جماعة المدرّسين.




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.