المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8091 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
غزوة الحديبية والهدنة بين النبي وقريش
2024-11-01
بعد الحديبية افتروا على النبي « صلى الله عليه وآله » أنه سحر
2024-11-01
المستغفرون بالاسحار
2024-11-01
المرابطة في انتظار الفرج
2024-11-01
النضوج الجنسي للماشية sexual maturity
2024-11-01
المخرجون من ديارهم في سبيل الله
2024-11-01

قسوة القلب
2023-07-25
الملغم
26-3-2018
Simple electrophilic addition mechanism
17-9-2020
مواقفه المشهودة في معركة بدر
10-02-2015
Heronian Mean
29-6-2019
مشكلات الأجهزة الإدارية في الدول النامية - دور النظم الاجتماعية والتقاليد من المعرفة والتجدد
14/9/2022


تعارض الأدلّة والتعادل والتراجيح  
  
921   10:42 صباحاً   التاريخ: 1-9-2016
المؤلف : ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : أنوَار الاُصُول
الجزء والصفحة : ج 3 ص 446.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / تعارض الادلة /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-9-2016 1136
التاريخ: 1-9-2016 797
التاريخ: 1-9-2016 455
التاريخ: 1-9-2016 1140

تعارض الأدلّة من أهمّ المسائل الاُصوليّة، أمّا كونه مسألة اُصوليّة فلأنّ موضوع علم الاُصول إمّا أن يكون هو الأدلّة بذواتها فلا إشكال في أنّ التعادل أو التراجيح وصفان عارضان على ذوات الأدلّة لأنّ المراد من التعادل هو تعادل الدليلين وتساويهما، والمراد من الترجيح هو الترجيح بين الدليلين، وإمّا أن يكون الموضوع مطلق الحجّة في الفقه كما ذهب إليه بعض الأساتذة الأعلام، فكذلك لا إشكال في أنّ البحث عن تعادل الدليلين أو الترجيح بينهما بحث عن عوارض الحجّة، وهكذا لو قلنا أنّ الموضوع هو الأدلّة بوصف حجّيتها، فإنّ البحث عن التعادل والترجيح إنّما هو بعد ثبوت الحجّية لكلّ من الدليلين في نفسه ومع قطع النظر عن التعارض، وإلاّ فلو لم يكن الدليل حجّة في ذاته لا تصل النوبة إلى مسألة التعارض، وعلى هذا يكون ما نحن فيه من المسائل الاُصوليّة حتّى عند من يرى البحث عن حجّية خبر الواحد من المبادىء.

وأمّا كونه من أهمّ المسائل الاُصوليّة فلجريانه وسريانه في جلّ الأبواب الفقهيّة، ولذلك اعترض بعض الأعلام في مصباح الاُصول على جعله خاتمة لعلم الاُصول بزعم أنّه مشعر بكونه خارجاً عنه كمبحث الاجتهاد والتقليد، ولكن الصحيح أنّه لا إشعار له بهذه الجهة، لأنّ المراد من عنوان الخاتمة أنّه يختم مسائل الاُصول ويكون أخرها، كما أنّه كذلك في سائر موارد استعماله كخاتم الأنبياء وخاتم المجتهدين والفقهاء.

وكيف كان لابدّ في المقدّمة من رسم اُمور:

الأمر الأوّل: عنوان المسألة:

وهو في كلمات بعضهم «التعادل والترجيح» (بصيغة المفرد) وفي كلمات بعض آخر «التعادل والتراجيح» (بصيغة الجمع) ولا يخفى أنّ وجه هذا التفاوت في خصوص الجزء الثاني أنّ التعادل يكون بمعنى التساوي وهو قسم واحد لا يتصوّر فيه التعدّد، وأمّا الترجيح فحيث أنّ له أنواعاً مختلفة وجهات عديدة (كالترجيح من ناحية السند والترجيح من ناحية الدلالة وهكذا الترجيح بالمرجّحات الخارجيّة) فتارةً يؤتى بلفظ المفرد ويراد منه جنس الترجيح حتّى يعمّ جميع أنواعه، واُخرى بلفظ الجمع، والأمر سهل.

الأمر الثاني: تعريف التعارض:

وهو في اللغة من التعرّض بمعنى البروز والظهور، تعارضاً أي تظاهراً وتبارزاً، ومنه المبارزة والتعبير بـ «برز إليه»، حيث إنّ المبارزة والنزاع في ميدان الحرب يلازم بروز المقاتل وظهوره في مقابل عدوّه.

وأمّا في الاصطلاح فقد عرّفه المحقّق الخراساني(رحمه الله) بـ «تنافي الدليلين أو الأدلّة بحسب الدلالة، وفي مقام الإثبات على وجه التناقض أو التضادّ حقيقة أو عرضاً بأن علم بكذب أحدهما إجمالا مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا».

والتضادّ الحقيقي مثل ما إذا أمر أحد الدليلين بصلاة الجمعة ونهى الآخر عن إتيانها، والتضادّ العرضي مثل ما إذا أمر أحدهما بصلاة الجمعة والآخر بصلاة الظهر في يوم الجمعة فإنّ وجوب كلّ من الظهر والجمعة وإن لم يمتنع اجتماعهما ذاتاً ولكن حيث نعلم بالإجماع بل الضرورة بعدم وجوب أكثر من خمس صلوات في اليوم والليلة فيتنافيان بالعرض.

والمراد من التناقض أن يقول أحدهما بوجوب صلاة الجمعة، والآخر بعدم وجوبها، ومن التضادّ أن يقول أحدهما بوجوب صلاة الجمعة والآخر بحرمتها مثلا.

والمراد من قوله «بحسب الدلالة ومقام الإثبات» نفس ما جاء في تعريف الشيخ الأعظم(رحمه الله)، وهو «تنافي الدليلين بحسب مدلولهما»، وليس هذا عدولا عن تعريف الشيخ (رحمه الله)من هذه الجهة كما ذهب إليه بعض الشرّاح للكفاية، حيث إنّه من الواضح أنّ التعارض عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين (أي الوجوب والحرمة) وإنّه لا تعارض بين الدلالتين.

أقول: ومع ذلك كلّه يرد على تعريف المحقّق الخراساني(رحمه الله) أوّلا: أنّ قيد «بحسب الدلالة ومقام الإثبات» إضافي ومن قبيل توضيح الواضح، لأنّ من الواضح أنّ التعبير بتعارض الأدلّة ناظر إلى الدليل بما هو دليل وفي مقام الإثبات، ولا ربط للتعارض بمقام الثبوت لأنّه لا يصحّ للمولى الحكيم إنشاء حكمين متضادّين أو متناقضين في الواقع.

ثانياً: التعبير بالتضادّ لا يناسب الاُمور الاعتباريّة فإنّه إنّما يتصوّر في الاُمور التكوينيّة لأنّ الاعتبار سهل المؤونة، فيمكن في عالم الاعتبار أن يعتبر وجوب شيء مع اعتبار حرمته، نعم أنّه لا يصدر من المولى الحكيم لكونه لغواً وقبيحاً.

وبعبارة اُخرى: التضادّ فيها مستحيل بالغير لا بالذات، ولذلك نعبّر عنه بشبه التضادّ.

وثالثاً: التضادّ بالعرض في مثل وجوب صلاة الجمعة بالنسبة إلى وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة يرجع إلى التضادّ الحقيقي لأنّ التضادّ فيه حقيقة يكون بين ثلاث أدلّة (لا دليلين) وإن كان إثنان منها في جانب (وهما الدليلان المذكوران في المثال) ودليل واحد في جانب آخر، وهو الإجماع أو الضرورة الدالّة على عدم جواز الجمع بينهما، فإنّ مدلولهما الالتزامي جواز الجمع، ومدلول الإجماع أو الضرورة عدم جواز الجمع، فيتضادّان.

فالأولى في تعريف التعارض أن يقال: التعارض هو تنافي الدليلين أو الأدلّة بحيث لا يمكن الجمع بينهما، فعلى هذا يخرج منه موارد التخصيص والتخصّص والورود والحكومة وجميع موارد الجمع العرفي.

الأمر الثالث: التخصيص والتخصّص والحكومة والورود وبيان الفرق بينها:

إعلم أنّ التخصص عبارة عن خروج شيء عن موضوع حكم آخر تكويناً كخروج زيد الجاهل عن قولك «أكرم العلماء» وكخروج العلم الوجداني عن أدلّة الاُصول العمليّة.

والتخصيص عبارة عن خروج شيء عن حكم دليل آخر مع حفظ موضوعه كخروج زيد العالم عن قولك «أكرم العلماء».

وأمّا الورود فهو عبارة عن خروج شيء عن موضوع حكم آخر حقيقة ولكن بعد ورود دليل شرعي، نظير خروج غسل الجمعة فيما إذا دلّ على وجوبه خبر الثقة، عن موضوع قبح العقاب بلا بيان، فإنّه خرج عن موضوع اللاّبيان حقيقة ولكن بالتعبّد الشرعي.

والحكومة عبارة عن أن يكون دليل ناظراً إلى دليل آخر ومفسّراً له وموجباً للخروج عن الموضوع (أو المتعلّق أو الحكم) ولكن تعبّداً لا حقيقة، كقولك: «زيد ليس بعالم» بالنسبة إلى قولك: «أكرم العلماء»، وكذلك دخول موضوع في أحدهما توسعة بالتعبّد.

فنلاحظ أنّ الورود شبيه التخصّص في كون كلّ منهما خروجاً عن الموضوع حقيقة، والفرق بينهما أنّ الخروج في أحدهما تكويني وفي الآخر بعد ورود الدليل الشرعي، كما أنّ الحكومة شبيه التخصيص في كون كلّ منهما إخراجاً للموضوع تعبّداً إلاّ أنّ أحدهما (وهو التخصيص) إخراج للموضوع بلسان المعارضة، بينما الحكومة إخراج له بلسان التوضيح والتفسير، نعم هذا في ما إذا كان لسان الدليل الحاكم لسان تضييق لا توسعة، وإلاّ فلا ربط بينهما.

ثمّ إنّ تعابير الأصحاب في تفسير الحكومة مختلفة فقال شيخنا الأعظم الأنصاري(رحمه الله)أنّها عبارة عن أن يكون أحد الدليلين شارحاً ومفسّراً للدليل الآخر بمدلوله اللفظي.

وقال المحقّق الخراساني(رحمه الله): هى أن يكون أحدهما ناظراً إلى بيان كميّة ما اُريد من الآخر.

وقال المحقّق النائيني(رحمه الله): هى أن يكون أحدهما بمدلوله المطابقي ناظراً إلى التصرّف في الآخر إمّا في عقد وضعه إثباتاً أو نفياً، أو عقد حمله.

أقول: أحسنها هو تعبير الشيخ الأعظم(رحمه الله) إذا إنضمّ إليه قيد، بأن نقول: الحكومة أن يكون أحد الدليلين شارحاً ومفسّراً للدليل الآخر بالدلالة اللفظيّة المطابقيّة أو التضمّنيّة أو الالتزاميّة، وبهذا التعميم في الدلالة اللفظية لا يرد إشكال المحقّق النائيني(رحمه الله) عليه بأن لا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي مفسّراً لمدلول الآخر وشارحاً له بحيث يكون مصدّراً بأحد أداة التفسير أو ما يلحق بذلك، فإنّ غالب موارد الحكومات لا ينطبق على هذا الضابط.

وممّا ذكرنا من التعميم يظهر عدم ورود هذا الإيراد، إذ إنّه وارد بناءً على انحصار الدلالة اللفظيّة في المطابقية كما لا يخفى.

وبما ذكرنا يتّضح أيضاً أنّ في تمام موارد الحكومة يوجد للدليل الحاكم نظر إلى الدليل المحكوم ويكون هو مفسّراً له ولو في حدّ الدلالة الالتزامية كما في أدلّة الأمارات كمفهوم آية البناء بالنسبة إلى أدلّة الاُصول كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة.

كما يتّضح وجه تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم، حيث إنّه مفسّر للدليل المحكوم،

ولا إشكال في أنّ المفسّر (بالكسر) يقدّم على المفسَّر (بالفتح).

وظهر بما ذكرنا أيضاً أنّ الحكومة على أقسام: فتارةً يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى التصرّف في موضع الدليل المحكوم توسعة أو تضييقاً، ومثال الأوّل قول المولى: «العادل عالم»، ومثال الثاني قوله: «إنّ العالم الفاسق ليس عندي بعالم» .

واُخرى يكون ناظراً إلى التصرّف في متعلّق الدليل المحكوم نظير قول المولى في مثال «أكرم العلماء»: «إنّ الإطعام ليس بإكرام» وقوله: «السلام إكرام».

وثالثة يكون ناظراً إلى التصرّف في حكم الدليل المحكوم كما إذا قال: «إنّما عنيت من وجوب إكرام العلماء وجوب إكرام الفقهاء خاصّة».

ورابعة يكون ناظراً إلى التصرّف في النسبة كقوله «إكرام الفاسق ليس بإكرام العالم».

بقي هنا شيء:

وهو أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله) قسّم الحكومة إلى قسمين: ظاهريّة وواقعيّة، وقال في توضيحه ما حاصله: أنّ الدليل الحاكم قد يكون في مرتبة الدليل المحكوم فتكون الحكومة واقعيّة، كما في حكومة قوله(عليه السلام): «لا شكّ لكثير الشكّ» على أدلّة الشكوك، حيث إنّه يوجب اختصاص الأحكام المجعولة للشاكّ بغير كثير الشكّ في الواقع، وقد لا يكون في مرتبته بل يكون موضوع الدليل الحاكم متأخّراً رتبةً عن موضوع الدليل المحكوم، فتكون الحكومة حينئذ ظاهريّة، كما في حكومة الأمارات على الأدلّة الواقعيّة، فإنّها لا توجب اختصاص الأحكام الواقعيّة بغير من قامت عنده الأمارة على خلافها، بل غايتها هو الاختصاص في مقام الظاهر.

ثمّ يستنتج في ذيل كلامه أنّه لا يعتبر في الحكومة تأخّر تشريع الدليل الحاكم عن تشريع الدليل المحكوم بحيث يلزم لغوية التعبّد بدليل الحاكم لولا سبق التعبّد بدليل المحكوم فإنّ من أوضح أفراد الحكومة حكومة الأمارات على الاُصول، مع أنّه يصحّ التعبّد بالأمارات

ولو لم يسبق التعبّد بالأصول، بل ولو مع عدم التعبّد بها رأساً(1).

أقول: في كلامه مواقع للنظر:

أوّلا: أنّ الحكومة لها قسم واحد من دون فرق بين مواردها فإنّها واقعيّة في جميع الموارد، وجميعها ترجع إلى التخصيص واقعاً وحقيقة، غاية الأمر الدليل المحكوم قد يكون من الأحكام الواقعيّة، وقد يكون من الأحكام الظاهريّة، وهذا غير كون الحكومة ظاهرياً في بعض الموارد وواقعياً في بعض الموارد الاُخرى، وبعبارة اُخرى: التخصيص واقعي وإن كان المخصّص أو المخصِّص ظاهرياً.

ثانياً: أنّ رتبة الدليل الحاكم والدليل المحكوم واحدة في جميع موارد الحكومة، وإلاّ لم يكن توضيحاً وتفسيراً، وأمّا في مورد الأمارات بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة فالصحيح أنّه لا معنى لحكومة الأمارات على الأحكام الواقعيّة، بل إنّها طرق إلى الواقع، وكما أنّ العلم طريق إليه تكويناً تكون الأمارات طرقاً إليه تشريعاً.

وثالثاً: أنّا نعترف بلغوية التعبّد بدليل الحاكم لولا سبق التعبّد بدليل المحكوم، لأنّ الدليل الحاكم ناظر إلى الدليل المحكوم ومفسّر له، ومن الواضح أنّه لا معنى للتفسير مع عدم سبق دليل بعنوان المفسّر (بالفتح)، وهذا صادق حتّى بالنسبة إلى حكومة الأمارات على الاُصول، لما مرّ من أنّها ناظرة إليها ومفسّرة لها ولو في حدّ الدلالة الإلتزامية اللفظية.

ومن هنا يظهر حال الأمارات في مقابل الاُصول وأنّ الصحيح كونها واردة عليها.

توضيح ذلك: يحتمل في وجه تقديم الأمارات على الاُصول أربعة وجوه: حكومتها عليها، ورودها عليها، إمكان الجمع والتوفيق العرفي بينهما، وتخصيص الاُصول بالأمارات.

ذهب المحقّق الخراساني(رحمه الله) هنا إلى الوجه الثالث (التوفيق العرفي) مع أنّه صرّح في أواخر الاستصحاب بالورود، وأراد من التوفيق العرفي ما يقابل الحكومة.

ولكنّه في غير محلّه، لأنّ المراد من الجمع العرفي إمّا كون الأمارات خاصّة بالنسبة إلى الاُصول مطلقاً فقد مرّ عدم كونها كذلك، أو أنّ أدلّتها أظهر من أدلّة الاُصول، ولا دليل عليه.

وبهذا ينتفي الوجه الثالث والرابع، ويدور الأمر بين الحكومة والورود، وقد مرّ أنّ الحقّ ورود الأمارات على الاُصول لأنّ الأمارة طريق إلى الواقع فيوجب رفع الحيرة والتردّد الذي هو معنى الشكّ المأخوذ في موضوع الاُصول، ولو تنزّلنا عن ذلك فلا أقلّ من الحكومة، لما مرّ أيضاً من أنّ أدلّة الأمارات ناظرة إلى أدلّة الاُصول ولو بمدلولها الالتزامي.

الأمر الرابع: عدم وجود التعارض بين العناوين الأوّلية والعناوين الثانويّة:

لا إشكال في تقديم العناوين الثانويّة على العناوين الأوّلية وأنّه لا تعارض بينهما كما أشار إليه الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني(رحمه الله) في كلماتهما، وهو متفرّع على التعريف المذكور للتعارض، إذ إنّه بمعنى التنافر والتضادّ، ولا ريب في أنّه لا تضادّ بين أدلّة العنوانين، إنّما الكلام في وجه تقدّم الثاني على الأوّل.

فظاهر كلمات الشيخ الأعظم(رحمه الله) أنّه من باب الحكومة، بينما ظاهر كلمات المحقّق الخراساني(رحمه الله) أنّه من باب الجمع العرفي حيث قال: «أو كانا على نحو إذا عرضا على العرف وفّق بينهما بالتصرّف في خصوص أحدهما كما هو مطّرد في مثل الأدلّة المتكفّلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأوّلية، مع مثل الأدلّة النافية للعسر والحرج والضرر والإكراه والاضطرار ممّا يتكفّل لأحكامها بعناوينها الثانوية».

وفصّل بعض المحشّين على الكفاية بين العناوين الثانويّة فقال في مثل الضرر والحرج بالحكومة، وفي مثل الشروط والنذور بالجمع العرفي، فالأقوال في المسألة ثلاثة.

ولابدّ قبل الورود في أصل البحث من تعريف الأحكام الأوّليّة والأحكام الثانويّة (وقد بحثناه تفصيلا في كتاب المكاسب مبحث ولاية الفقيه)، فنقول: الأحكام الأوّليّة أحكام ترد على الموضوعات الخارجيّة مع قطع النظر عن الطوارىء والعوارض الخارجة عن طبيعتها كحكم الحرمة العارضة على عنوان الدم أو الميتة في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]

والأحكام الثانوية ما يرد على الموضوعات الخارجيّة مع النظر إلى الطوارئ الخارجة عن ذاتها كحكم الحلّية العارضة على الميتة بما أنّها مضطرّ إليها.

وعلى هذا ليست نجاسة الماء في صورة تغيّر أحد أوصافه الثلاثة من الأحكام الثانويّة لأنّ عنوان التغيّر يكون من الإنقسامات الأوّلية للماء، فالماء بما هو ماء على قسمين: ماء متغيّر وماء غير متغيّر، كما أنّه يقسّم بذاته إلى الماء المضاف والماء المطلق أو إلى الكثير والقليل، بخلاف الاضطرار فلا يقال أنّ الماء على قسمين: ماء مضطرّ إلى شربه وماء غير مضطرّ إلى شربه.

ولذلك فإنّ من علامات العناوين الثانوية وخصوصياتها جريانها في كثير من الأبواب الفقهيّة والموضوعات المختلفة، بخلاف العناوين الأوّلية التي تجري في موضوعات خاصّة كعنوان التغيّر بالنسبة إلى الماء.

كما يظهر ممّا ذكرنا أنّ العناوين الثانوية ليست منحصرة بعنوان الضرورة والاضطرار بل لها مصاديق كثيرة نذكر هنا أحد عشر عنواناً:

1 ـ العسر والحرج.

2 ـ الضرر.

3 ـ الإكراه.

4 ـ الاضطرار.

5 ـ التقيّة.

6 و7 و8 ـ النذر والعهد والقسم.

9 ـ أمر الوالد أو نهيه.

10 ـ المقدّمية للواجب أو الحرام.

11 ـ الأهم والمهمّ.

إذا عرفت هذا فنقول: الحقّ في وجه تقديم العناوين الثانويّة على الاُوليّة ما ذهب إليه الشيخ الأعظم(رحمه الله)وهو الحكومة، كما يظهر هو من ما ذكرنا من التعريف، حيث قلنا: أنّ العناوين الثانويّة تكون طارئة وعارضة على العناوين الأوّليّة، ولازمه النظر والتفسير وأنّه لا معنى للعناوين الثانويّة بدون العناوين الأوّلية، كما لا معنى لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] إذا لم يكن في الرتبة السابقة جعل وتشريع.

وأمّا تفصيل بعض المحشّين على الكفاية فيرد عليه: أنّ الشرط لا يكون من العناوين الثانويّة بتاتاً حتّى يقال بأنّها حاكمة أو واردة، لأنّ الشرط مثل البيع والإجارة نوع معاقدة ومعاهدة، فكما أنّ قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] يشمل البيع بالعنوان الأوّلي يشمل أيضاً الشروط التي في ضمنه كذلك.

وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية من أنّه من باب التوفيق العرفي فإن كان مراده أنّ الجمع بينهما على وزان الجمع بين العام والخاصّ والظاهر والأظهر، فهذا أمر لا يمكن المساعدة عليه، لما عرفت من كون أحدهما حاكماً على الآخر، وإن كان المراد ما يشمل الحكومة (وإن كان خلاف مصطلح القوم) فلا مانع منه، ولكنّه لا يوافق ظاهر كلامه.

الأمر الخامس: موارد الجمع العرفي ليست من التعارض:

إذا كان أحد الدليلين أظهر من الآخر أو كان أحدهما نصّاً والآخر ظاهراً فلا إشكال في أنّ العرف يوفّق بينهما بتقديم الأظهر على الظاهر (إذا كان الأظهر قرينة على التصرّف في الظاهر) والنصّ على الظاهر، فهما ليسا متعارضين عندهم إلاّ في النظر البدوي.

وهذا ممّا لا إشكال فيه كبروياً، إنّما الإشكال فيما مثّلوا له بالعام والخاصّ والمطلق والمقيّد، أمّا المطلق والمقيّد فلأنّه إذا فهمنا الاطلاق من مقدّمات الحكمة (لا من اللفظ) كما هو مذهب المحقّقين من المتأخّرين، فمن المقدّمات عدم البيان في مقام البيان، ولا ريب أنّه بعد ورود المقيّد يتبدّل إلى البيان فيكون وارداً على المطلق.

وأمّا العام والخاصّ فلما مرّ في مبحث العام والخاصّ (إذا كان منفصلا كما هو موضوع البحث في المقام) من أنّهما من قبيل المتعارضين المتضادّين عند العرف سواء صدر العام على نهج الجملة الخبريّة أو الجملة الإنشائيّة، فإذا قال الولي لعبده: «بع جميع أفراد الغنم» ثمّ قال غداً: «لا تبع هذه وهذه» يحمله العرف على التناقض والتضادّ أو على الغفلة أو الندم والبداء، وكذلك إذا سأل المشتري من البائع «هل يوجد عندك شيء من ذلك الثوب؟» وقال البائع: «بعتها كلّها» ثمّ قال في ساعة اُخرى: «بعتها إلاّ هذا المقدار» فلا إشكال في تكذيب المشتري إيّاه، وهكذا في المراسلات وفي المحاكم عند سؤال القاضي عن المتّهم فلو أجاب بالعام في مجلس والخاصّ في مجلس الآخر أو في مجلس واحد مع عدم اتّصال الخاصّ بالعام، لعُدّ كلامه متناقضاً، كما لا يخفى على من راجع العرف وصرف النظر عمّا انغرس في الأذهان من كلام الاُصوليين.

ويمكن أن يستشهد على ذلك بفهم القدماء من المفسّرين حيث إنّهم كانوا يعاملون الخاصّ الوارد في القرآن الكريم معاملة الناسخ فيعدّونه ناسخاً للعام.

كما يمكن الاستشهاد أيضاً بما رواه الطبرسي(رحمه الله) في كتاب الإحتجاج في جواب مكاتبة محمّد بن عبدالله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان(عليه السلام)يسألني: بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر فإن بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول: بحول الله وقوّته أقوم وأقعد، فكتب(عليه السلام) في الجواب: أنّ فيه حديثين: أمّا أحدهما فإنّه إذا انتقل من حالة إلى حالة اُخرى فعليه التكبير، وأمّا الآخر فإنّه روي إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى، وبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صواباً»(2)حيث إنّه حكم بالتخيير بين الروايتين مع أنّ أحدهما خاصّ والآخر عام كما هو ظاهر، لكنه عاملهما معاملة المتعارضين.

ولكن الإنصاف أنّ ما ذكرنا مختصّ بالعرف العام، وأمّا العرف الخاصّ فقد يكون على خلاف ذلك إذا علمنا أنّ سيرة المقنّن والشارع فيه جرت على بيان أحكامه وقوانينه تدريجيّاً كما أنّه كذلك في الشريعة الإسلاميّة، فالعرف بعد ملاحظة هذه السيرة لا يحكم بالتعارض في موارد العام والخاصّ وإن كانا منفصلين، ولذلك يحمل ما مرّ من معاملة القدماء من المفسّرين على غفلتهم عن هذه السيرة وعدم التفاتهم إلى هذه النكتة.

نعم إنّ هذا جار بالنسبة إلى الواجبات أو المحرّمات، وأمّا في المستحبّات فللشارع سيرة اُخرى، وهى بيان سلسلة مراتب الاستحباب ودرجات المطلوبيّة، فيحمل العام فيها على بيان درجة منها والخاصّ على بيان درجة اُخرى، ونتيجته عدم كونهما فيها من باب التخصيص ولا من باب التعارض، حيث إنّهما يجريان في خصوص موارد إحراز وحدة المطلوب لا تعدّده كما قرّر في محلّه.

ومن هنا يظهر الجواب عن الشاهد الثاني، وهو حديث الإحتجاج فإنّ مورده من المستحبّات، فالتخيير الوارد فيها ليس من سنخ التخيير بين المتعارضين بل من قبيل تعدّد المطلوب والتخيير بين مراتب الاستحباب فهى خارجة عمّا نحن بصدده.

الضوابط الكلّية للجمع الدلالي العرفي

لا إشكال في أنّ الاُصول لا تبحث عن القرائن الخاصّة الجزئيّة للجمع الدلالي بين المتعارضين التي لا تدخل تحت ضابطة كلّية، بل إنّما تبحث عن القرائن الكلّية التي تشكّل قاعدة عامّة وقانوناً كلّياً للجمع الدلالي، وهذه الضوابط والقرائن كثيرة نذكر منها أهمّها وهى:

1 ـ إذا تعارض عام ومطلق، أي دار الأمر بين تخصيص عام وتقييد مطلق كما إذا قال المولى: أكرم عالماً ثمّ قال: لا تكرم الفسّاق، ووقع التعارض في العالم الفاسق (فالعالم مطلق يشمل العادل والفاسق منه، والفسّاق جمع محلّى باللام يدلّ على عموم الحكم لجميع أفراد الفاسق، فالنسبة بينهما عموم من وجه فيتعارضان في مادّة الإجتماع وهى العالم الفاسق)، ومثاله الشرعي تعارض قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] رواية «نهي النبي عن الغرر» (لو فرضنا كون الرواية بهذا النحو، حيث إنّ المعروف بل المأثور «نهي النبي عن بيع الغرر»(3)) فإنّهما يتعارضان في العقود الغررية كما لا يخفى، فقد يقال بترجيح ظهور العموم على الاطلاق أي تقديم التقييد على التخصيص، واستدلّ له بوجهين:

الأوّل: أنّ ظهور الاطلاق تعليقي أي معلّق على عدم بيان التقييد بحيث كان عدم البيان جزءاً من مقتضى الاطلاق، بخلاف ظهور العام فإنّه تنجيزي مستند إلى الوضع، فيكون ظهور العام بياناً للتقييد وليس للمطلق ظهور في ذاته.

الثاني: أنّ التقييد أغلب من التخصيص.

أقول: أمّا الوجه الثاني فواضح الفساد فإنّ التخصيص أيضاً كثير، وكثرته بمثابة حتّى قيل: «ما من عام إلاّ وقد خصّ».

وأمّا الوجه الأوّل فأورد عليه المحقّق الخراساني(رحمه الله) بأنّه مبنى على كون الاطلاق معلّقاً

على عدم البيان إلى الأبد، بينما هو معلّق على عدم البيان في مقام التخاطب كما تقدّم تحقيقه في مبحث المطلق والمقيّد، فإذا لم يأت من جانب المتكلّم بيان في مقام التخاطب كما هو المفروض إنعقد ظهور الاطلاق وتنجّز.

وذهب المحقّق النائيني(رحمه الله) في فوائد الاُصول(4) إلى اشتراط عدم البيان إلى الأبد في انعقاد ظهور الاطلاق ثمّ نقل من المحقّق الخراساني(رحمه الله) في بعض فوائده الاُصوليّة أنّه قال: «إنّ اللازم علينا جمع كلمات الأئمّة(عليهم السلام) المتفرّقة في الزمان، ونفرض أنّها وردت في زمان ومجلس واحد، ويؤخذ ما هو المتحصّل منها على فرض الاجتماع» وقال: إنّ هذا الكلام منه ينافي ما ذهب إليه من أنّ العبرة على عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقاً.

وعلّق عليه المحقّق العراقي(رحمه الله) بأنّ الحقّ مع اُستاذنا المحقّق الخراساني(رحمه الله)، وأنّ ما أفاده في بعض فوائده لا ربط له بما نحن فيه، بل مراده منه أنّ كلمات المعصومين يفسّر بعضه بعضاً، فلو جمعا في كلام واحد لكان أحدهما قرينة على التصرّف في الآخر، وهذا لا ينافي ما أفاده من أنّ قوام ظهور المطلق بعدم إقامة القرينة على مرامه متّصلا بكلامه.

أقول: أنّ العلمين وإن لم يذكرا هنا دليلا على مدّعاهما، ولكن الإنصاف أنّ أقوى الدليل على عدم صحّة مقالة المحقّق الخراساني(رحمه الله) (وهى أنّ الاطلاق معلّق على عدم البيان إلى الأبد) هو أنّ لازم ما ذهب إليه عدم انعقاد الظهور لمطلق من المطلقات إلى آخر أزمنة الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، وهو كما ترى، فإنّه لا ريب في صدور مطلقات كثيرة من جانب الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمّة الهادين(عليهم السلام) عمل بظهورها أصحابهم.

وعلى هذا فلا إشكال في أنّ ظهور الاطلاق أيضاً منجّز، ولكن ظهور العام أقوى منه في الجملة، فإذا انضمّت إليه بعض القرائن الاُخر قدّم عليه، فلابدّ حينئذ من ملاحظة المقامات المختلفة والخصوصيات والقرائن الموجودة في كلّ مقام، فإن أحرزنا من مجموع ذلك كون ظهور العموم أقوى من ظهور الاطلاق قدّمناه عليه، وإلاّ يقع التعارض بينهما وتصل النوبة إلى المرجّحات الاُخر.
 

2 ـ إذا تعارض الاطلاق الشمولي (الذي هو بمنزلة العطف بالواو) مع الاطلاق البدلي (الذي هو بمنزلة العطف بـ «أو») كقوله «أكرم عالماً» و «لا تكرم الفاسق» (فإنّ النسبة بينهما عموم من وجه ومحلّ التلاقي هو العالم الفاسق) فقد يقال أنّ اطلاق الشمولي يقدّم على الاطلاق البدلي.

واستدلّ له المحقّق النائيني(رحمه الله) بأنّ «مقدّمات الحكمة في الاطلاق الشمولي تمنع عن جريان مقدّمات الحكمة في الاطلاق البدلي، لأنّ من مقدّمات الحكمة في الاطلاق البدلي كون الافراد متساوية الأقدام، ومقدّمات الحكمة في الاطلاق الشمولي يمنع عن ذلك، ولا يمكن العكس»(5).

ويمكن أن يستدلّ له أيضاً بأنّ تقديم الاطلاق الشمولي يجتمع مع امتثال الاطلاق البدلي وعدم طرده، بخلاف العكس، فإنّه يوجب نفي بعض مصاديق المطلق الشمولي وترك العمل به.

3 ـ إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص، كما إذا قال المولى «لا تكرم زيداً» وفرضنا مجيء وقت العمل به، ثمّ قال: «أكرم العلماء» فورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاصّ، فيدور الأمر بين أن يكون الخاصّ مخصّصاً أو يكون العام ناسخاً، وهكذا إذا ورد الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعام، فيدور الأمر بين أن يكون الخاصّ ناسخاً للعام أو مخصّصاً له.

ومثاله الشرعي ما إذا فرضنا صدور النهي عن بيع الغرر في ابتداء الهجرة ونزول (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بعد سنين، أو العكس، ففي الصورة الاُولى إن قلنا بالتخصيص كانت النتيجة عدم وجوب الوفاء بالبيع الغرري، وإن قلنا بأنّ العام يكون ناسخاً للخاصّ كانت النتيجة وجوب الوفاء حتّى في البيع الغرري، وفي الصورة الثانية (وهى ما إذا كان نزول (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) قبل صدور النهي عن بيع الغرر) إن قلنا بالتخصيص لم يجب الوفاء بالبيع الغرري من الأوّل، وإن قلنا بالنسخ (أي نسخ الخاصّ للعامّ) لم يجب الوفاء به من حين ورود الخاصّ لا من الأوّل.

وكيف كان، فقد ذهب المشهور إلى تقديم التخصيص على النسخ مطلقاً، ولكن ذهب بعض إلى تقديم النسخ مطلقاً، ومال إليه المحقّق الخراساني(رحمه الله)(خلافاً لما ذهب إليه في مبحث العام والخاصّ).

واستدلّ المشهور على مقالتهم بأنّ النسخ قليل والتخصيص كثير بمثابة حتّى يقال: «ما من عام إلاّ وقد خصّ» فيوجب شيوع التخصيص وندرة النسخ أن يكون ظهور الخاصّ في الدوام أقوى من ظهور العام في العموم.

واستدلّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) في مقابل المشهور بأنّ هذا البحث من صغريات البحث السابق، أي دوران الأمر بين التقييد والتخصيص، فإنّ النسخ هنا يرجع إلى تقييد الاطلاق الزماني للخاصّ، والتقييد مقدّم على التخصيص، لأنّ تقديم التخصيص أي تقديم الخاصّ متوقّف على ظهوره في الدوام والاستمرار الزماني، وهو يستفاد من الاطلاق ومقدّمات الحكمة، فيكون معلّقاً على عدم البيان، والعموم الإفرادي للعام تنجيزي مستند إلى الوضع فيكون بياناً له.

وأجاب عن الوجه المعروف في ترجيح التخصيص على النسخ من غلبة الأوّل وندرة الثاني، بأنّ هذا ممّا لا يوجب أقوائية ظهور الكلام في الاستمرار الأزماني من ظهور العام في العموم الإفرادي، إذ ليست غلبة التخصيص مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابة تعدّ من القرائن المكتنفة بالكلام وتوجب أقوائية الظهور.

أقول: التحقيق في المسألة يستدعي تحليل ماهية النسخ أوّلا، فنقول: الصحيح أنّ النسخ ابطال للإنشاء كالفسخ.

توضيح ذلك: أنّ للحكم مرحلتين: مرحلة الإنشاء ومرحلة الفعليّة، وبعبارة اُخرى: مرحلة الإرادة الاستعماليّة ومرحلة الإرادة الجدّية، والتقييد بالمنفصل إنّما هو تصرّف في الإرادة الجدّية وهكذا التخصيص، وأمّا الإرادة الإستعماليّة فهى باقية بقوّتها بخلاف النسخ، فإنّه إبطال للإنشاء من حين وروده نظير الفسخ فإنّ الفاسخ في خيار الفسخ يبطل إنشاء البيع حين الفسخ، وهذا ممّا ندركه بوجداننا العرفي وإرتكازنا العقلائي في القوانين الجديدة العقلائيّة، فكما أنّ فيها تخصيصات وتقييدات يدرجونها تحت عنوان التبصرة، وهى تمسّ بإرادتهم الجدّية في القوانين السابقة، كذلك لهم نواسخ تتعلّق بإرادتهم الإستعمالية بالنسبة إلى القوانين الماضية، وبالجملة أنّ النسخ هو الفسخ يتعلّق بالإنشاء (إلاّ أنّ النسخ في القانون والفسخ في المعاملات والعقود) فلا يكون من قبيل التقييد الذي يتعلّق بالإرادة الجدّية.

هذا مضافاً إلى أنّ الإنشاء في القوانين كالإيجاد، ويكون بذاته باقياً في عالم الاعتبار إلى الأبد، فدوامه واستمراره لازم لذاته وماهيّته، لا أنّه يستفاد من الاطلاق اللفظي لأدلّته حتّى نتكلّم عن تقييده وعدمه، وأمّا ما ورد في الحديث الشريف «حلال محمّد (صلى الله عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة وحرامه ...» فهو ناظر إلى خاتمية الشريعة المقدّسة لا إلى الاطلاق اللفظي لأدلّة قوانينها.

فقد ظهر إلى هنا عدم تمامية ما استدلّ به على تقديم النسخ، والحقّ ما ذهب إليه المشهور وهو تقديم التخصيص، لأنّ النسخ يحتاج إلى دليل قطعي بخلاف التخصيص الذي يثبت حتّى بخبر الواحد الثقة.

هذا ـ مضافاً إلى أنّ سيرة الفقهاء في الفقه على تقديم التخصيص كما يشهد عليها عدم السؤال والفحص عن تاريخ صدور العام والخاصّ، فإنّ النسخ لابدّ فيه من الفحص عن التاريخ حتّى يتبيّن المقدّم منهما والمتأخّر فيكون المتأخّر ناسخاً والمتقدّم منسوخاً، فعدم فحصهم عن تواريخ صدور الأحاديث من أقوى الدليل على ترجيحهم التخصيص على النسخ.

بقي هنا شيء:

وهو إنّا بعد ملاحظة العمومات والتخصيصات الواردة في الكتاب والسنّة والأحاديث الصادرة عن الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم نرى أنّ هناك مخصّصات وردت بعد حضور العمل بالعمومات، فورد مثلا عام في الكتاب أو السنّة النبوية مع أنّ خاصّه ورد في عصر الصادقين(عليهما السلام)، فإن قلنا بكونه مخصّصاً للعام يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإن قلنا بكونه ناسخاً يلزم كون الإمام(عليه السلام) مشرّعاً، مع أنّه حافظ للشريعة، ولو قبلنا إمكان تشريعه ونسخه بعد توجيهه بإرادة كشف ما بيّنه النبي(صلى الله عليه وآله) عن غاية الحكم الأوّل وابتداء الحكم الثاني لم يمكن قبوله هنا، لأنّ غلبة هذا النحو من التخصيصات تأبى عن هذا التوجيه، فما هو طريق حلّ هذه المشكلة؟

وقد ذكر لحلّها وجوه:

1 ـ أن يكن الخاصّ ناسخاً، ولكنّه قد نزل في عصر النبي(صلى الله عليه وآله) ولم تكن هناك مصلحة في إبرازه فأودع النبي(صلى الله عليه وآله) أمر إبرازه بيد الإمام(عليه السلام)، وبعبارة اُخرى: أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) أودع عندهم علم أجل الحكم وانتهائه، فهم يبيّنون غاية الحكم وأمده بعد حلول أجله.

2 ـ أن يكون الخاصّ مخصّصاً (لا ناسخاً) ولكنّه كاشف عن صدوره في عصر النبي(صلى الله عليه وآله)ووقت الحاجة به، فخفي علينا بأسباب مختلفة فظهر بيد الإمام(عليه السلام)فلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، ويشهد على إمكان هذا ما ثبت في التاريخ من منع كتابة الحديث في عصر بعض الخلفاء زعماً منهم أنّه يمسّ كرامة كتاب الله والإكتفاء به، كما تشهد عليه روايات تدلّ على أنّ كلّ ما قال به الأئمّة الهادون من أهل البيت(عليهم السلام) فإنّها من النبي(صلى الله عليه وآله)، وهى كثيرة، وقد جمعها في مقدّمة جامع أحاديث الشيعة فراجع.

3 ـ أن نلتزم بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا كان لمصلحة أهمّ، وهى مصلحة تدريجية بيان الأحكام، فكان تكليف السابقين هو العمل بالعموم ظاهراً مع إرادة الخصوص واقعاً.

ولقد أجاد المحقّق الحائري(رحمه الله) في درره حيث قال (في مقام الجواب عن أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح عقلا): أنّ «تأخير البيان عن وقت العمل ليس علّة تامّة للقبح كالظلم حتّى لا يمكن تخلّفه عنه، وإذا لم يكن كذلك فقبحه فعلا منوط بعدم جهة محسّنة تقتضي ذلك»(6).

أقول: يرد على الوجه الأوّل أنّ كثيراً من هذه التخصيصات من أخبار الآحاد، مع أنّ النسخ يحتاج إلى دليل قطعي كما قرّر في محلّه.

وعلى الوجه الثاني بأنّه من البعيد جدّاً صدور هذه المخصّصات الكثيرة غاية الكثرة من جانب الرسول(صلى الله عليه وآله) ولم يصل إلينا شيء منها، وما دلّ على أنّ رواياتهم(عليهم السلام) كلّها عن النبي (صلى الله عليه وآله)يمكن أن يكون ناظراً إلى العلم الذي ورثوه عنه (صلى الله عليه وآله) لا أنّ جميع ذلك صدر عنه (صلى الله عليه وآله) بمرأى من الناس ومسمع منهم.

فيتعيّن الوجه الثالث وهو تأخيرها عن وقت الحاجة لمصلحة أهمّ.

نعم، هيهنا وجه رابع بالنسبة إلى كثير من هذه التخصيصات والتقييدات، يحتاج للدقّة، وهو أنّ كثيراً منها في الواقع تطبيقات لكبريات الكتاب والسنّة على مصاديقها (نظير التفريعات والمسائل العمليّة الواردة في الرسائل العمليّة التي لم يرد كثير منها في آية ولا رواية، ولكنّها من قبيل تطبيق الكبرى على الصغرى من جانب المجتهد) أو بيانات لتوضيح الكبريات وتعيين حدودها وخصوصياتها.

فمثلا تخصيص الإمام (عليه السلام) وجوب تقصير الصّلاة في السفر بسفر المعصية يرجع في الواقع إلى بيان أنّ آية التقصير قد وردت في مقام الإمتنان فلا تنطبق على سفر المعصية، وكذلك تخصيصه بالنسبة إلى من قصد إقامة عشرة أيّام بيان في أنّ تلك الكبرى مختصّة بمن يصدق عليه المسافر عرفاً، ومثل هذا الإنسان ليس مسافراً، وهكذا تقييد حكم صلاة المسافر بحدّ الترخّص إنّما هو لعدم كونه مسافراً عرفاً قبل بلوغ هذا الحدّ، ومثله تخصيص آية الخمس في أرباح المكاسب بمؤونة السنة فإنّه في الواقع بيان لكون موضوع الخمس في الآية إنّما هو عنوان الغنيمة، وهى عبارة عن الفائدة المحضة فلا تشمل مؤونة السنة، لأنّ من يستفيد طول السنة عشرة آلاف درهماً مثلا ولكن تكون مؤونته بهذا المقدار فهو في الواقع لم ينتفع بشيء ولم يغتنم غنيمة، وكذلك إستثناء البيع الغرري عن كبرى أُوفوا بالعقود، فهو يرجع في الواقع إلى بيان أنّ هذه الآية إرشاد إلى حكم عقلائي وأنّ بناء العقلاء لا يقوم على وجوب الوفاء بالبيع الغرري، إلى غير ذلك من الأمثلة، ولعمري أنّ هذا جواب متين بالنسبة إلى كثير من هذه التقييدات والتخصيصات.

4 ـ إذا دار الأمر بين التصرّف في منطوق أحد الخبرين ومفهوم الآخر كقوله (عليه السلام): «إذا خفى الأذان فقصّر» وقوله (عليه السلام): «إذا خفيت الجدران فقصّر» (لو فرض صدور خبرين بهذين المضمونين) فبعد قبول كبرى مفهوم الشرط يقع التعارض بينهما، لأنّ مفهوم كلّ منهما ينافي منطوق الآخر، وقد وقع الكلام في مبحث المفاهيم (مفهوم الشرط) بينهم وذكروا لحلّ هذا التعارض طرقاً عديدة، والمرتبط منها بما نحن فيه طريقان:

1 ـ تقييد اطلاق مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر، ولازمه كفاية أحد الأمرين في حصول حدّ الترخّص.

2 ـ تقييد اطلاق منطوق كلّ منهما بمنطوق الآخر، ولازمه اعتبار خفاء الأذان والجدران معاً في وجوب التقصير.

وكيف كان: إن قلنا بأنّ المنطوق أقوى ظهوراً من المفهوم فالمتعيّن هو الطريق الأوّل، وإلاّ

لا ترجيح لأحدهما على الآخر، فقد يقال: إنّ المنطوق أقوى ظهوراً من المفهوم، لأنّ الكلام إنّما سيق لبيان المنطوق، والمفهوم أمر تبعي ولازم للمنطوق، ولكنّ الإنصاف أنّ هذا دعوى بلا دليل بل كثيراً ما يساق الكلام لبيان المفهوم. كقولك: «سافر إن كان الطريق آمناً» فيما إذا كان مرادك النهي عن السفر في صورة عدم الأمن.

فالصحيح أن يقال: إنّ المقامات مختلفة، والمتّبع هو الضوابط الخاصّة والقرائن المكتنفة بالكلام، فيسقط الطريق الأوّل عن كونه ضابطة كلّية للجمع الدلالي.

5 ـ إذا دار الأمر بين التخصيص والمجاز، وبعبارة اُخرى: دار الأمر بين التصرّف في أصالة العموم أو رفع اليد عن أصالة الحقيقة، كقوله: «لا تكرم الفسّاق» مع قوله: «لا بأس بإكرام زيد الفاسق» فكما يمكن رفع اليد عن العموم بالتخصيص، كذلك يمكن رفع اليد عن ظهور النهي في الحرمة وحملها على الكراهة حتّى تجتمع مع عدم البأس.

ولا يخفى أنّ نظيره في الفقه كثير، فإنّه يتصوّر أيضاً فيما إذا كان العام بصيغة الأمر، فيدور الأمر بين رفع اليد عن ظهور العام في العموم ورفع اليد عن ظهور هيئة الأمر في الوجوب وحملها على الاستحباب.

والصحيح في هذه الموارد تقديم التخصيص على المجاز لأنّه أمر شائع معروف، والأوامر التي تحمل على الاستحباب أو النواهي التي تحمل على الكراهة وإن كانت كثيرة إلاّ أنّ تخصيص العام أكثر وأظهر.

نعم، قد يقدّم المجاز في هذه الموارد على التخصيص لبعض القرائن الخاصّة والضوابط الجزئيّة كما لا يخفى على من له إلمام بالمسائل الفقهيّة المناسبة للمقام.

الأمر السادس: الفرق بين التعارض والتزاحم:

لا إشكال في أنّ المراد من التزاحم هنا ليس هو التزاحم في الملاكات بالنسبة إلى فعل واحد، كما إذا كان في فعل واحد جهة مصلحة تقتضي إيجابه، وجهة مفسدة تقتضي تحريمه، فليس للمكلّف دخل في هذا التزاحم، بل أمره وملاحظة الجهات وما هو الأقوى من الملاكات فيه بيد المولى، فهو خارج عن محلّ الكلام، وإنّما المراد من التزاحم في ما نحن فيه هو تزاحم الأحكام في مقام الامتثال بأن توجّه إلى المكلّف تكليفان لا يقدر على الجمع بينهما، كما إذا توقّف إنقاذ الغريق على التصرّف في الأرض المغصوبة، أو كان هناك غريقان لا يقدر المكلّف إلاّ على إنقاذ أحدهما.

والفرق بين هذا النوع من التزاحم وبين التعارض يتلخّص في أمرين:

1 ـ علم المكلّف بكذب أحد الدليلين في باب التعارض مع علمه بصدقهما في باب التزاحم.

2 ـ التعارض إنّما هو بين الدليلين وفي مقام الإثبات، أي مقام الدلالة والكشف عن الواقع، وبتعبير آخر: التعارض إنّما هو بين محتواهما في مقام الإثبات، فيكون أحدهما صادقاً في كشفه والآخر كاذباً.

وأمّا التزاحم فيقع بين الحكمين المدلولين الواقعيين من ناحية الامتثال بعد الفراغ عن تمامية دليلهما وصدق كليهما، ولذلك يكون المرجّحات في التعارض بما يرجع إلى الدلالة والسند وشبههما، وفي التزاحم بأقوائية الملاك وأهميّة أحد الحكمين بالنسبة إلى الحكم الآخر.

نعم، قد يكون التزاحم سبباً للتعارض، وهو فيما إذا كان كلّ واحد من المتزاحمين ظاهراً في الفعليّة، فيقع التعارض حينئذ بين مدلوليهما للعلم بكذب أحدهما كما لا يخفى.

وقد ظهر بما ذكرنا أوّلا: أنّ الترجيح أو التخيير في باب التزاحم عقلي، لأنّ العقل يحكم بترجيح أقوى الملاكين على الآخر، ويحكم بالتخيير في المتساويين من ناحية الملاك، بخلاف باب التعارض حيث إنّ العقل يقضي بالتساقط فيه، ويكون الحكم بالتخيير أو بترجيح ما وافق كتاب الله وطرح ما خالفه مثلا، شرعياً وتعبّدياً، نعم لو صارت المرجّحات موجبة لتمييز الحجّة عن اللاّحجّة فيحكم العقل حينئذ بترجيح الحجّة فيكون الترجيح عقلياً، ولكنّه خارج عن باب التعارض لأنّه عبارة عن التنافي بين الحجّتين.

وثانياً: أنّ الحكم الأوّلي ومقتضى الأصل والقاعدة الأوّليّة في باب التعارض هو التساقط إلاّ أن يدلّ دليل شرعي تعبّدي على الترجيح أو التخيير.

بقي هنا شيء:

وهو كلام للمحقّق النائيني(رحمه الله) قابل للمناقشة ولا يخلو ذكره عن فائدة أو فوائد...

قال: إنّ الترجيح في باب التزاحم يكون باُمور خمسة مترتّبة أجنبية كلّها عن مرجّحات باب التعارض:

1 ـ أن يكون أحد الواجبين موسعاً والآخر مضيّقاً، فإنّ المضيّق يتقدّم على الموسع لا محالة.

2 ـ أن تكون القدرة المعتبرة في أحد الحكمين عقليّة وغير معتبرة في الملاك، وإنّما كان اعتبارها في الخطاب من جهة حكم العقل بقبح خطاب العاجز، وفي الآخر شرعيّة ودخيلة في الملاك فإنّ ما اعتبر القدرة فيه عقلا يتقدّم على ما اعتبر فيه شرعاً، والوجه فيه ظاهر.

3 ـ أن يكون أحد الواجبين ممّا له البدل دون الآخر، فيتقدّم ما ليس له البدل على ما له البدل، والسرّ فيه واضح أيضاً.

4 ـ أن يكون أحد المتزاحمين من دون أن يكون هناك شيء من المرجّحات السابقة أهمّ من الآخر فيقدّم الأهمّ على المهمّ.

5 ـ أن يكون أحد الحكمين سابقاً في الزمان على الآخر، فإنّ السابق منهما يكون معجّزاً مولوياً عن الآخر، فإذا دار الأمر بين القيام في الركعة الاُولى أو الثانية بحيث لا يتمكّن المكلّف من الجمع بينهما فلا محالة يكون القيام في الركعة الاُولى هو المتعيّن، وبذلك يكون المكلّف عاجزاً عن القيام في الثانية فيسقط (وكما إذا دار الأمر بين الصيام في النصف الأوّل من شهر رمضان والنصف الآخر منه بحيث لا يتمكّن المكلّف من الصيام في جميع الشهر)(7).

ولكن يرد عليه:

أوّلا: أنّ تعبيره في صدر كلامه بالمترتّبة مشعر بوجود ترتّب منطقي بين هذه الاُمور الخمسة مع أنّه لا دليل على ذلك أصلا.

وثانياً: أنّ جميع هذه الاُمور خارجة عن باب التزاحم إلاّ الأمر الرابع (وهو أن يكون أحدهما أهمّ من الآخر) وقد أشرنا إليه سابقاً.

أمّا الأمر الأوّل: فلأنّ المتزاحمين عبارة عن ما يمكن الجمع بينهما، ولا إشكال في إمكان الجمع بين الموسّع والمضيّق عرفاً.

وهكذا الأمر الثاني: لأنّ الواجب المطلق لا يكون متزاحماً مع الواجب المشروط، فإنّ الحجّ المشروط بالاستطاعة مثلا إنّما يصير واجباً فيما إذا لم يكن هناك واجب آخر، وبعبارة اُخرى: لا تتحقّق الاستطاعة (التي هى شرط فعليّة وجوب الحجّ) إذا أدّى إتيان الحجّ ترك واجب أو فعل حرام.

وأمّا الأمر الثالث: فلأنّه إمّا أن يكون البدل فيما له البدل في عرض المبدل فيكون التيمّم مثلا في عرض الوضوء، أو أنّه في طول المبدل، فإن كانا في عرض واحد كان المبدل (وهو الوضوء في المثال) واجباً تخييرياً، ولا إشكال في أنّه لا تعارض بينه وبين الواجب التعييني وهو تطهير الثوب في المثال، وإن كانا طوليين فلا محالة كان الوضوء أقوى ملاكاً من التيمّم فإتيانه مع القدرة على إتيان الوضوء موجب لتفويت درجة من المصلحة، فيدور الأمر في الواقع بين رفع اليد عن هذه الدرجة من المصلحة وبين مصلحة تطهير الثوب فتدخل المسألة في باب الأهمّ والمهمّ فلا يصحّ الحكم بتقديم ما ليس له البدل على ما له البدل دائماً، بل لعلّ تلك الدرجة من المصلحة كانت أقوى وأهمّ من مصلحة التطهير.

وأمّا الأمر الخامس: فكذلك أنّه خارج من باب التزاحم، لأنّه متفرّع على فعليّة وجوب كلا الحكمين في عرض واحد. مع أنّ وجوب الركعة الثانية أو وجوب الصيام في النصف الثاني من شهر رمضان لا يكون فعليّاً قطعاً.

الأمر السابع: موارد التعارض:

إنّ التعارض إنّما يتصوّر في ما إذا كان كلّ واحد من الدليلين ظنيّاً، إمّا من ناحية السند، أو الدلالة، أو جهة الصدور، وأمّا إذا كان أحدهما قطعيّاً من جميع الجهات والآخر ظنّياً من بعض الجهات فلا إشكال في تقديم الأوّل على الثاني، ولا معنى لتعارضهما، فالتعارض بين الآيات القرآنية إنّما يتصوّر فيما إذا كانت كلّ واحدة من الآيتين المتعارضتين ظاهرة في الحكم، أي كانت ظنّية الدلالة، وهكذا في الخبرين المتواترين والإجماعين المحصّلين، فيتصوّر التعارض فيهما فيما إذا كان الخبر المتواتر ظاهراً في الحكم وكان للإجماع المحصّل معقد لفظي ظاهر في الحكم.

ومن ذلك يعلم أنّه لا يتصوّر التعارض فيما إذا كان كلّ من الدليلين قطعيّاً من جميع الجهات لأنّه ينافي العلم بكذب أحدهما، بل لا يمكن فرض وجود دليلين قطعيين متخالفين حتّى يتكلّم فيهما من هذه الجهة.

_____________
 

1. راجع أجود التقريرات: ج2، ص507، طبعة مؤسسة مطبوعات ديني.

2. وسائل الشيعة: ج4، الباب13، من أبواب السجود، ح8.

3.       وسائل الشيعة: أبواب آداب التجارة، الباب4، ح3.

4. فوائد الاُصول: ج4، ص731، طبعة جماعة المدرّسين.

5. فوائد الاُصول: ج4 ص732، طبعة جماعة المدرّسين.

6. درر الاُصول: ص681، طبعة جماعة المدرّسين.

7. راجع أجود التقريرات: ج2، ص503 و504، طبعة مطبوعات ديني.




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.