أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-8-2016
2750
التاريخ: 28-8-2016
2479
التاريخ: 8-8-2016
3085
التاريخ: 31-8-2016
1482
|
تمهيد: في معنى كلمة (المفهوم)، وفي النزاع في حجيته، وفي أقسامه.
فهذه ثلاثة مباحث:
1- معنى كلمة المفهوم :
تطلق كلمة المفهوم على ثلاثة معان:
1- المعنى المدلول للفظ الذي يفهم منه، فيساوي كلمة المدلول، سواء كان مدلولا لمفرد أو جملة، وسواء كان مدلولا حقيقيا أو مجازيا.
2- ما يقابل المصداق، فيراد منه كل معنى يفهم وإن لم يكن مدلولا للفظ، فيعم المعنى الأول وغيره.
3- ما يقابل المنطوق، وهو أخص من الأولين: وهذا هو المقصود بالبحث هنا, وهو اصطلاح أصولي يختص بالمدلولات الإلتزامية للجمل التركيبية سواء كانت إنشائية أو إخبارية، فلا يقال لمدلول المفرد مفهوم وإن كان من المدلولات الإلتزامية. أما المنطوق فمقصودهم منه ما يدل عليه اللفظ في حد ذاته على وجه يكون اللفظ المنطوق حاملا لذلك المعنى وقالبا له، فيسمى المعنى (منطوقا) تسمية للمدلول باسم الدال. ولذلك يختص المنطوق بالمدلول المطابقي فقط، وإن كان المعنى مجازا قد استعمل فيه اللفظ بقرينة. وعليه، فالمفهوم الذي يقابله ما لم يكن اللفظ حاملا له دالا عليه بالمطابقة ولكن يدل عليه باعتباره لازما لمفاد الجملة بنحو اللزوم البين بالمعنى الأخص (1) ولأجل هذا يختص المفهوم بالمدلول الإلتزامي مثاله: قولهم (إذا بلغ الماء كرا لا ينجسه شيء). فالمنطوق فيه هو مضمون الجملة وهو عدم تنجس الماء البالغ كرا بشيء من النجاسات. والمفهوم - على تقدير إن يكون لمثل هذه الجملة مفهوم - إنه إذا لم يبلغ كرا يتنجس.
وعلى هذا يمكن تعريفهما بما يلي: المنطوق: (هو حكم دل عليه اللفظ في محل النطق). والمفهوم: (هو حكم دل عليه اللفظ لا في محل النطق), والمراد من الحكم: الحكم بالمعنى الأعم، لا خصوص أحد الأحكام الخمسة, وعرفوهما أيضا بأنهما حكم مذكور وحكم غير مذكور، وأنهما حكم لمذكور وحكم لغير مذكور، وكلها لا تخلو عن مناقشات طويلة الذيل, والذي يهون الخطب إنها تعريفات لفظية لا يقصد منها الدقة في التعريف، والمقصود منها واضح كما شرحناه.
2- النزاع في حجية المفهوم:
لاشك إن الكلام إذا كان له مفهوم يدل عليه فهو ظاهر فيه، فيكون حجة من المتكلم على السامع، ومن السامع على المتكلم، كسائر الظواهر الأخرى, أذن، ما معنى النزاع في حجية المفهوم حينما يقولون مثلا: هل مفهوم الشرط حجة أولا؟ وعلى تقديره، فلا يدخل هذا النزاع في مباحث الألفاظ التي كان الغرض منها تشخيص الظهور في الكلام وتنقيح صغريات حجية الظهور، بل ينبغي إن يدخل في مباحث الحجة كالبحث عن حجية الظهور وحجية الكتاب ونحو ذلك.
والجواب: إن النزاع هنا في الحقيقة إنما هو في وجود الدلالة على المفهوم، أي في أصل ظهور الجملة فيه وعدم ظهورها , وبعبارة أوضح، النزاع هنا في حصول المفهوم للجملة لا في حجيته بعد فرض حصوله. فمعنى النزاع في مفهوم الشرط - مثلا - إن الجملة الشرطية مع قطع النظر عن القرائن الخاصة هل تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط؟ وهل هي ظاهرة في ذلك؟ لا إنه بعد دلالتها على هذا المفهوم وظهورها فيه يتنازع في حجيته، فإن هذا لا معنى له، وإن أوهم ذلك ظاهر بعض تعبيراتهم، كما يقولون مثلا: مفهوم الشرط حجة أم لا. ولكن غرضهم ما ذكرنا. كما إنه لا نزاع في دلالة بعض الجمل على مفهوم لها إذا كانت له قرينة خاصة على ذلك المفهوم، فإن هذا ليس موضع كلأمهم. بل موضوع الكلام ومحل النزاع في دلالة نوع تلك الجملة كنوع الجملة الشرطية على المفهوم مع تجردها عن القرائن الخاصة.
3- أقسام المفهوم:
ينقسم المفهوم إلى مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة:
1 - (مفهوم الموافقة): ما كان الحكم في المفهوم موافقا في السنخ للحكم الموجود في المنطوق، فإن كان الحكم في المنطوق الوجوب - مثلا - كان في المفهوم الوجوب أيضا، وهكذا. كدلالة الأولوية في مثل قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} على النهي عن الضرب والشتم للأبوين ونحو ذلك مما هو أشد إهانة وإيلاما من التأفيف المحرم بحكم الآية.
وقد يسمى هذا المفهوم (فحوى الخطاب), ولا نزاع في حجية مفهوم الموافقة، بمعنى دلالة الأولوية على تعدي الحكم إلى ما هو أولى في علة الحكم وله تفصيل كلأم يأتي في موضعه.
2 - (مفهوم المخالفة): ما كان الحكم فيه مخالفا في السنخ للحكم الموجود في المنطوق، وله موارد كثيرة وقع الكلام فيها نذكرها بالتفصيل، وهي ستة :
1 - مفهوم الشرط. 2 - مفهوم الوصف 3 - مفهوم الغاية. 4 - مفهوم الحصر. 5 - مفهوم العدد. 6 - مفهوم اللقب.
الأول - مفهوم الشرط تحرير محل النزاع : لاشك في إن الجملة الشرطية يدل منطوقها - بالوضع - على تعليق التالي فيها على المقدم الواقع موقع الفرض والتقدير. وهي على نحوين:
1- إن تكون مسوقة لبيان موضوع الحكم، أي إن المقدم هو نفس موضوع الحكم، حيث يكون الحكم في التالي منوطا بالشرط في المقدم على وجه لا يعقل فرض الحكم بدونه، نحو قولهم: (إن رزقت ولدا فاختنه)، فإنه في المثال لا يعقل فرض ختان الولد الا بعد فرض وجوده. ومنه قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] فإنه لا يعقل فرض الإكراه على البغاء الا بعد فرض إرادة التحصن من قبل الفتيات. وقد اتفق الأصوليون على إنه لا مفهوم لهذا النحو من الجملة الشرطية، لأن انتفاء الشرط معناه انتفاء موضوع الحكم، فلا معنى للحكم بانتفاء التالي على تقدير انتفاء المقدم إلا على نحو السالبة بانتفاء الموضوع. ولا حكم حينئذ بالانتفاء، بل هو انتفاء الحكم. فلا مفهوم للشرطية في المثالين، فلا يقال: (إن لم ترزق ولدا فلا تختنه)، ولا يقال: (إن لم يردن تحصن فأكرهوهن على البغاء).
2- ألا تكون مسوقة لبيان الموضوع، حيث يكون الحكم في التالي منوطا بالشرط على وجه يمكن فرض الحكم بدونه، نحو قولهم: (إن أحسن صديقك فأحسن إليه)، فإن فرض الإحسان إلى الصديق لا يتوقف عقلا على فرض صدور الإحسان منه، فإنه يمكن الإحسان إليه أحسن أو لم يحسن. وهذا النحو الثاني من الشرطية هو محل النزاع في مسألتنا، ومرجعه إلى النزاع في دلالة الشرطية على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، بمعنى إنه هل يستكشف من طبع التعليق على الشرط انتفاء نوع الحكم المعلق - كالوجوب مثلا - على تقدير انتفاء الشرط. وإنما قلنا (نوع الحكم)، لأن شخص كل حكم في القضية الشرطية أو غيرها ينتفي بانتفاء موضوعه أو أحد قيود الموضوع، سواء كان للقضية مفهوم أو لم يكن. وفي مفهوم الشرطية قولان أقواهما إنها تدل على الانتفاء عند الانتفاء. المناط في مفهوم الشرط: إن دلالة الجملة الشرطية على المفهوم تتوقف على دلالته - بالوضع أو بالإطلاق - على أمور ثلاثة مترتبة:
1- دلالتها على الارتباط والملازمة بين المقدم والتالي.
2- دلالتها - زيادة على الارتباط والملازمة - على إن التالي معلق على المقدم ومترتب عليه وتابع له، فيكون المقدم سببا للتالي. والمقصود من السبب هنا هو كل م يترتب عليه الشيء وإن كان شرطا ونحوه، فيكون أعم من السبب المصطلح في فن المعقول.
3- دلالتها - زيادة على ما تقدم - على انحصار السببية في المقدم، بمعنى إنه لا سبب بديل له يترتب عليه التالي, وتوقف المفهوم للجملة الشرطية على هذه الأمور الثلاثة واضح، لأنه لو كانت الجملة اتفاقية، أو كان التالي غير مترتب على المقدم، أو كان مترتبا ولكن لا على نحو الانحصار فيه - فإنه في جميع ذلك لا يلزم من انتفاء المقدم انتفاء التالي.
وإنما الذي ينبغي إثباته هنا، هو إن الجملة ظاهرة في هذه الأمور الثلاثة وضعا أو إطلاقا لتكون حجة في المفهوم. والحق ظهور الجملة الشرطية في هذه الأمور وضعا في بعضها وإطلاقا في البعض الآخر.
1- أما دلالتها على الارتباط ووجود العلقة اللزومية بين الطرفين، فالظاهر إنه بالوضع بحكم التبادر. ولكن لا بوضع خصوص أدوات الشرط حتى ينكر وضعها لذلك، بل بوضع الهيئة التركيبية للجملة الشرطية بمجموعها. وعليه فاستعمالها في الاتفاقية يكون بالعناية وادعاء التلازم والارتباط بين المقدم والتالي إذا اتفقت لهما المقارنة في الوجود.
2- وأما دلالتها على إن التالي مترتب على المقدم بأي نحو من إنحاء الترتب فهو بالوضع أيضا، ولكن لا بمعنى إنها موضوعة بوضعين: وضع للتلازم ووضع آخر للترتب، بل بمعنى إنها موضوعة بوضع واحد للارتباط الخاص وهو ترتب التالي على المقدم.
والدليل على ذلك هو تبادر ترتب التالي على المقدم عنها، فإنها تدل على إن المقدم وضع فيها موضع الفرض والتقدير، وعلى تقدير حصوله فالتالي حاصل عنده تبعا أي يتلوه في الحصول. أو فقل إن المتبادر منه لا بدية الجزاء عند فرض حصول الشرط. وهذا لا يمكن إن ينكره الا مكابر أو غافل فإن هذا هو معنى التعليق الذي هو مفاد الجملة الشرطية التي لا مفاد لها غيره. ومن هنا سموا الجزء الأول منها شرطا ومقدما، وسموا الجزء الثاني جزاءا وتاليا. فإذا كانت جملة إنشائية أي إن التالي متضمن لإنشاء حكم تكليفي أو وضعي، فإنها تدل على تعليق الحكم على الشرط، فتدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط المعلق عليه الحكم. وإذا كانت جملة خبرية أي إن التالي متضمن لحكاية خبر، فإنها تدل على تعليق حكايته على المقدم، سواء كان المحكي عنه خارجا وفي الواقع مترتبا على المقدم فتتطابق الحكاية مع المحكي عنه كقولنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، أو مترتب عليه بأن كان العكس كقولنا: إن كان النهار موجودا فالشمس طالعة، أو كان لا ترتب بينهما كالمتضاعفين في مثل قولن: إن كان خالد ابنا لزيد فزيد أبوه.
3- وأما دلالتها على إن الشرط منحصر، فبالإطلاق، لأنه لو كان هناك شرط آخر للجزاء بديل لذلك الشرط، وكذا لو كان معه شيء آخر يكونان معا شرطا للحكم - لاحتاج ذلك إلى بيان زائد أما بالعطف بأو في الصورة الأولى، أو العطف بالواو في الصورة الثانية، لأن الترتب على الشرط ظاهر في إنه بعنوانه الخاص مستقلا هو الشرط المعلق عليه الجزاء فإذا أطلق تعليق الجزاء على الشرط فإنه يستكشف منه إن الشرط مستقل لا قيد آخر معه وإنه منحصر لا بديل ولا عدل له، وإلا لوجب على الحكيم بيانه وهو - حسب الفرض - في مقام البيان.
وهذا نظير ظهور صيغة أفعل بإطلاقه في الوجوب التعيني والتعييني.
وإلى هنا تم لنا ما أردنا إن نذهب إليه من ظهور الجملة الشرطية في الأمور التي بها تكون ظاهرة في المفهوم.
وعلى كل حال، إن ظهور الجملة الشرطية في المفهوم ممالا ينبغي إن يتطرق إليه الشك الا مع قرينة صارفة أو تكون واردة لبيان الموضوع. ويشهد لذلك استدلال أمامنا الصادق عليه السلام بالمفهوم في رواية أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله عن الشاة تذبح فلا تتحرك ويهراق منها دم كثير عبيط، فقال: لا تأكل! إن عليا كان يقول: إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل)، فإن استدلال الأمام بقول علي عليه السلام لا يكون إلا إذا كان له مفهوم، وهو: إذا لم تركض الرجل أو لم تطرف العين فلا تأكل.
إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء: ومن لواحق مبحث (مفهوم الشرط) مسألة ما إذا وردت جملتان شرطيتان أو أكثر، وقد تعدد الشرط فيهما وكان الجزاء واحدا. وهذا يقع على نحوين:
1- إن يكون الجزاء غير قابل للتكرار، نحو التقصير في السفر فيما ورد: (إذا خفي الأذان فقصر. وإذا خفيت الجدران فقصر).
2- إن يكون الجزاء قابلا للتكرار كما في نحو (إذا أجنبت فاغتسل. إذا مسست ميتا فاغتسل). أما (النحو الأول)، فيقع فيه التعارض بين الدليلين بناء على مفهوم الشرط، ولكن التعارض إنما هو بين مفهوم كل منهما مع منطوق الآخر، كما هو واضح. فلا بد من التصرف فيهما بأحد وجهين:
(الوجه الأول) - إن نقيد كلا من الشرطين من ناحية ظهورهما في الاستقلال بالسببية، ذلك الظهور الناشئ من الإطلاق - كما سبق - الذي يقابله التقييد بالعطف بالواو، فيكون الشرط في الحقيقة هو المركب من الشرطين وكل منهما يكون جزء السبب، والجملتان تكونان حينئذ كجملة واحدة مقدمها المركب من الشرطين، بأن يكون مؤداهما هكذا: (إذا خفي الأذان والجدران معا فقصر). وربما يكون لهاتين الجملتين معا حينئذ مفهوم واحد، وهو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرطين معا أو أحدهما، كما لو كانا جملة واحدة.
(الوجه الثاني) - إن نقيدهما من ناحية ظهورهما في الانحصار، ذلك الظهور الناشئ من الإطلاق المقابل للتقييد بأو. وحينئذ يكون الشرط أحدهما على البدلية، أو الجامع بينهما على إن يكون منهما مصداقا له، وذلك حينما يمكن فرض الجامع بينهما ولو كان عرفيا. وإذ يدور الأمر بين الوجهين في التصرف، فأيهما أولى؟ هل الأولى تقييد ظهور الشرطيتين في الاستقلال أو تقييد ظهورهما في الانحصار؟ قولان في المسألة. والأوجه - على الظاهر - هو التصرف الثاني، لأن منشأ التعارض بينهما هو ظهورهما في الانحصار الذي يلزم منه الظهور في المفهوم، فيتعارض منطوق كل منهما مع مفهوم الآخر كما تقدم، فلا بد من رفع اليد عن ظهور كل منهما في الانحصار بالإضافة إلى المقدار الذي دل عليه منطوق الشرطية الأخرى، لأن ظهور المنطوق أقوى، أما ظهور كل من الشرطيتين في الاستقلال فلا معارض له حتى ترفع اليد عنه. وإذا ترجح القول الثاني وهو التصرف في ظهور الشرطين في الانحصار. يكون كل من الشرطين مستقلا في التأثير، فإذا أنفرد أحدهما كان له التأثير في ثبوت الحكم. وإن حصلا معا، فإن كان حصولهما بالتعاقب كان التأثير للسابق. وإن تقارنا كان الأثر لهما معا ويكونان كالسبب الواحد، لامتناع تكرار الجزاء حسب الفرض.
وأما (النحو الثاني) - وهو ما إذا كان الجزاء قابلا للتكرار - فهو على صورتين:
1- إن يثبت بالدليل إن كلا من الشرطين جزء السبب. ولا كلأم حينئذ في إن الجزاء واحد يحصل عند حصول الشرطين معا.
2- إن يثبت من دليل مستقل أو من ظاهر دليل الشرط إن كلا من الشرطين سبب مستقل، سواء كان للقضية الشرطية مفهوم أم لم يكن - فقد وقع الخلاف فيم إذا اتفق وقوع الشرطين معا في وقت واحد أو متعاقبين: إن القاعدة أي شيء تقتضي؟ هل تقتضي تداخل الأسباب فيكون لها جزاء واحد كما في مثال تداخل موجبات الوضوء من خروج البول أو الغائط والنوم ونحوهما، أم تقتضي عدم التداخل فيتكرر الجزاء بتكرار الشروط، كما في مثال تعدد وجوب الصلاة بتعدد أسبابه من دخول وقت اليومية وحصول الآيات؟
أقول: لا شبهة في إنه إذا ورد دليل خاص على التداخل أو عدمه وجب الأخذ بذلك الدليل. وأما مع عدم ورود الدليل الخاص فهو محل الخلاف. والحق إن القاعدة فيه عدم التداخل. بيان ذلك: إن لكل شرطية ظهورين:
1- ظهور الشرط فيها في الاستقلال بالسببية. وهذا الظهور يقتضي إن يتعدد الجزء في الشرطيتين موضوعتي البحث، فلا تتداخل الأسباب.
2- ظهور الجزاء فيها في إن متعلق الحكم فيه صرف الوجود. ولما كان صرف الشيء ل يمكن إن يكون محكوما بحكمين، فيقتضي ذلك إن يكون لجميع الأسباب جزاء واحد وحكم واحد عند فرض اجتماعها. فتتداخل الأسباب. وعلى هذا، فيقع التنافي بين هذين الظهورين، فإذا قدمنا الظهور الأول لا بد إن نقول بعدم التداخل. وإذا قدمنا الظهور الثاني لابد إن نقول بالتداخل، فأيهما أولى بالتقديم؟ والأرجح إن الأولى بالتقديم ظهور الشرط على ظهور الجزاء، لأن الجزاء لما كان معلقا على الشرط فهو تابع له ثبوت وإثباتا، فإن كان واحدا كان الجزاء واحدا وإن كان متعددا كان متعددا. وإذا كان المقدم متعددا - حسب فرض ظهور الشرطيتين - كان الجزاء تبعا له. وعليه لا يستقيم للجزاء ظهور في وحدة المطلوب. فيخرج المقام عن باب التعارض بين الظهورين، بل يكون الظهور في التعداد رافعا للظهور في الوحدة، لأن الظهور في الوحدة لا يكون ال بعد فرض سقوط الظهور في التعداد أو بعد فرض عدمه ، أما مع وجوده فلا ينعقد الظهور في الوحدة. فالقاعدة في المقام - أذن - (عدم التداخل). وهو مذهب أساطين العلماء الأعلام قدس الله أسرارهم.
تنبيهان :
1 - تداخل المسببات: إن البحث في المسألة السابقة إنما هو عما إذا تعددت الأسباب، فيتسأل فيها عما إذا كان تعددها يقتضي المغايرة في الجزاء وتعدد المسببات - بالفتح - أو لا يقتضي فتتداخل الأسباب، وينبغي إن تسمى (بمسألة تداخل الأسباب).
وبعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب هناك، ينبغي إن يبحث إن تعدد المسببات إذا كانت تشترك في الاسم والحقيقة كالأغسال هل يصح إن يكتفى عنها بوجود واحد لها أو لا يكتفى؟. وهذه مسألة أخرى غير ما تقدم تسمى (بمسألة تداخل المسببات)، وهي من ملحقات الأولى. والقاعدة فيها أيضا: عدم التداخل. والسر في ذلك: إن سقوط الواجبات المتعددة بفعل واحد وإن أتي به بنية امتثال الجميع يحتاج إلى دليل خاص، كما ورد في الأغسال بالاكتفاء بغسل الجنابة عن باقي الأغسال وورد أيضا جواز الاكتفاء بغسل واحد عن أغسال متعددة. ومع عدم ورود الدليل الخاص فإن كل وجوب يقتضي امتثالا خاصا به لا يغني عنه امتثال الآخر وإن اشتركت الواجبات في الاسم والحقيقة. نعم قد يستثنى من ذلك ما إذا كان بين الواجبين نسبة العموم والخصوص من وجه، وكان دليل كل منهما مطلقا بالإضافة إلى مورد الاجتماع، كما إذا قال - مثل - تصدق على مسكين، وقال - ثانيا - تصدق على ابن سبيل، فجمع العنوانين شخص واحد بأن كان فقيرا وابن سبيل فإن التصدق عليه يكون مسقطا للتكليفين.
2 - الأصل العملي في المسألتين: إن مقتضى الأصل العملي عند الشك في تداخل الأسباب هو التداخل، لأن تأثير السببين في تكليف واحد متيقن، وإنما الشك في تكليف ثان زائد. والأصل في مثله البراءة. وبعكسه في مسألة تداخل المسببات، فإن الأصل يقتضي فيه عدم التداخل كما مرت الإشارة إليه، لأنه بعد ثبوت التكاليف المتعددة بتعدد الأسباب يشك في سقوط التكاليف الثابتة لو فعل فعلا واحدا. ومقتضى القاعدة - في مثله - الاشتغال، بمعنى إن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، فلا يكتفى بفعل واحد في مقام الامتثال.
الثاني - مفهوم الوصف موضوع البحث: المقصود بالوصف هنا: ما يعم النعت وغيره، فيشمل الحال والتمييز ونحوهما مما يصلح إن يكون قيدا لموضوع التكليف. كما إنه يختص بم إذا كان معتمدا على موصوف، فلا يشمل ما إذا كان الوصف نفسه موضوعا للحكم نحو {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فإن مثل هذا يدخل في باب مفهوم اللقب. والسر في ذلك إن الدلالة على انتفاء الوصف لا بد فيها من فرض موضوع ثابت للحكم يقيد بالوصف مرة ويتجرد عنه أخرى، حتى يمكن فرض نفي الحكم عنه. ويعتبر - أيضا - في المبحوث عنه هنا إن يكون أخص من الموصوف مطلق أو من وجه، لأنه لو كان مساويا أو أعم مطلقا لا يوجب تضييقا وتقييدا في الموصوف، حتى يصح فرض انتفاء الحكم عن الموصوف عند انتفاء الوصف. وأما دخول الأخص من وجه في محل البحث فإنما هو بالقياس إلى مورد افتراق الموصوف عن الوصف، ففي مثال (في الغنم السائمة زكاة) يكون مفهومه - لو كان له مفهوم - عدم وجوب الزكاة في الغنم غير السائمة وهي المعلوفة. وأما بالقياس إلى مورد افتراق الوصف عن الموصوف فلا دلالة له على المفهوم قطعا، فلا يدل المثال على عدم الزكاة في غير الغنم السائمة أو غير السائمة كالإبل - مثلا - لأن الموضوع - وهو الموصوف الذي هو الغنم في المثال - يجب إن يكون محفوظا في المفهوم، ولا يكون متعرضا لموضوع آخر لا نفيا ولا إثباتا. فما عن بعض الشافعية من القول بدلالة القضية المذكورة على عدم الزكاة في الإبل المعلوفة لا وجه له قطعا.
الأقوال في المسألة والحق فيها:
لاشك في دلالة التقييد بالوصف على المفهوم عند وجود القرينة الخاصة، ولاشك في عدم الدلالة عند وجود القرينة على ذلك، مثلما إذا ورد الوصف مورد الغالب الذي يفهم منه عدم إناطة الحكم به وجودا وعدما، نحو قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } [النساء: 23]) فإنه لا مفهوم لمثل هذه القضية مطلقا، إذ يفهم منه إن وصف الربائب بأنها في حجوركم لأنها غالبا تكون كذلك، والغرض منه الإشعار بعلة الحكم، إذ إن اللائي تربى في الحجور تكون كالبنات. وإنما الخلاف عند تجرد القضية عن القرائن الخاصة، فإنهم اختلفوا في إن مجرد التقييد بالوصف هل يدل على المفهوم أي انتفاء حكم الموصوف عند انتفاء الوصف أو لا يدل؟ نظير الاختلاف المتقدم في التقييد بالشرط وفي المسألة قولان، والمشهور القول الثاني وهو عدم المفهوم. والسر في الخلاف يرجع إلى إن التقييد المستفاد من الوصف هل هو تقييد لنفس الحكم أي إن الحكم منوط به، أو إنه تقييد لنفس موضوع الحكم أو متعلق الموضوع باختلاف الموارد، فيكون الموضوع أو متعلق الموضوع هو المجموع المؤلف من الموصوف والوصف؟. فإن كان الأول فإن التقييد بالوصف يكون ظاهرا في انتفاء الحكم عند انتفائه بمقتضى الإطلاق، لأن الإطلاق يقتضي - بعد فرض إناطة الحكم بالوصف - انحصاره فيه كم قلنا في التقييد بالشرط. وإن كان الثاني، فإن التقييد لا يكون ظاهرا في انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف، لأنه حينئذ يكون من قبيل مفهوم اللقب، إذ إنه بكون التعبير بالوصف والموصوف لتحديد موضوع الحكم فقط، لا إن الموضوع ذات الموصوف والوصف قيد للحكم عليه، مثلما إذا قال القائل: (اصنع شكلا رباعيا قائم الزوايا متساوي الأضلاع) فإن المفهوم منه إن المطلوب صنعه هو المربع فعبر عنه بهذه القيود الدالة عليه، حيث يكون الموضوع هو مجموع المعنى المدلول عليه بالعبارة المؤلفة من الموصوف والوصف، وهي في المثال (شكل رباعي قائم الزوايا متساوي الأضلاع) وهي بمنزلة كلمة مربع، فكم إن جملة (اصنع مربعا) لا تدل على الانتفاء عند الانتفاء كذلك ما هو بمنزلتها لا تدل عليه، لأنه في الحقيقة يكون من قبيل الوصف غير المعتمد على الموصوف. إذا عرفت ذلك، فنقول: إن الظاهر في الوصف - لو خلي وطبعه من دون قرينة - إنه من قبيل الثاني أي إنه قيد للموضوع لا للحكم، فيكون الحكم من جهته مطلقا غير مقيد. فلا مفهوم للوصف. ومن هذا التقرير يظهر بطلان ما استدلوا به لمفهوم الوصف بالأدلة الآتية:
1 - إنه لو لم يدل الوصف على الانتفاء عند الانتفاء لم تبق فائدة فيه. والجواب: إن الفائدة غير منحصرة برجوعه إلى الحكم. وكفى فائدة فيه تحديد موضوع الحكم وتقييده به.
2 - إن الأصل في القيود إن تكون احترازية.
والجواب: إن هذا مسلم، ولكن معنى الاحتراز هو تضييق دائرة الموضوع وإخراج ما عد القيد عن شمول شخص الحكم له. ونحن نقول به وليس هذا من المفهوم في شيء، لأن إثبات الحكم لموضوع لا ينفي ثبوت سنخ الحكم لما عداه، كما في مفهوم اللقب. والحاصل إن كون القيد احترازيا لا يلزم إرجاعه قيدا للحكم.
3 - إن الوصف مشعر بالعلية، فيلزم إناطة الحكم به. والجواب: إن هذا الإشعار وإن كان مسلما، إلا إنه ما لم يصل إلى حد الظهور لا ينفع في الدلالة على المفهوم.
4 - الاستدلال بالجمل التي ثبتت دلالتها على المفهوم، مثل قوله (صلى الله عليه وآله): (مطل الغني ظلم). والجواب: إن ذلك على تقديره لا ينفع، لأنا لا نمنع، من دلالة التقييد بالوصف على المفهوم أحيانا لوجود قرينة، وإنما موضوع البحث في اقتضاء طبع الوصف لو خلي ونفسه للمفهوم. وخصوص المثال نجد القرينة على إناطة الحكم بالغني موجودة من جهة مناسبة الحكم والموضوع، فيفهم إن السبب في الحكم كون المدين غنيا، فيكون مطلبه ظلما، بخلاف المدين الفقير، لعجزه عن أداء الدين، فلا يكون مطلبه ظلما.
الثالث - مفهوم الغاية إذا ورد التقييد بالغاية نحو (وأتموا الصيام إلى الليل)، ونحو (كل شيء حلال حتى تعرف إنه حرام بعينه) - فقد وقع خلاف الأصوليين فيه من جهتين:
(الجهة الأولى) - في دخول الغاية في المنطوق أي في حكم المغيى، فقد اختلفوا في إن الغاية وهي الواقعة بعد أداة الغاية نحو (إلى) و (حتى) هل هي داخلة في المغيى حكما، أو خارجة عنه، وإنما ينتهي إليها المغيى موضوعا وحكما؟ على أقوال: (منها ) التفصيل بين كونها من جنس المغيى فتدخل فيه نحو صمت النهار إلى الليل، وبين كونها من غير جنسه فلا تدخل كمثال كل شيء حلال. (ومنها) التفصيل بين كون الغاية واقعة بعد (إلى) فلا تدخل فيه. وبين كونها واقعة بعد (حتى) فتدخل نحو (كل السمكة حتى رأسها). والظاهر إنه لا ظهور لنفس التقييد بالغاية في دخولها في المغيى ولا في عدمه، بل يتبع ذلك الموارد والقرائن الخاصة الحافة بالكلام. نعم، لا ينبغي الخلاف في عدم دخول الغاية فيما إذا كانت غاية للحكم، كمثال كل شيء حلال، فإنه لا معنى لدخول معرفة الحرام في حكم الحلال. ثم إن المقصود من كلمة (حتى) التي يقع الكلام عنها هي (حتى الجارة)، دون العاطفة وإن كانت تدخل على الغاية أيضا، لأن العاطفة يجب دخول ما بعدها في حكم ما قبلها لأن هذا هو معنى العطف، فإذا قلت: مات الناس حتى الأنبياء فإن معناه إن الأنبياء ماتوا أيضا. بل (حتى العاطفة) تفيد إن الغاية هو الفرد الفائق على سائر أفراد المغيى في القوة أو الضعف، فكيف يتصور المعطوف بها داخلا في الحكم، بل قد يكون هو الأسبق في الحكم نحو: مات كل أب حتى آدم.
(الجهة الثانية) في مفهوم الغاية. وهي موضوع البحث هنا فإنه قد اختلفوا في إن التقييد بالغاية - مع قطع النظر عن القرائن الخاصة - هل يدل على انتفاء سنخ الحكم عما وراء الغاية ومن الغاية نفسها أيضا إذا لم تكن داخلة في المغيى، أولا؟ فنقول: إن المدرك في دلالة الغاية على المفهوم كالمدرك في الشرط والوصف، فإذا كانت قيد للحكم كانت ظاهرة في انتفاء الحكم فيما وراءها، وأما إذا كانت قيدا للموضوع أو المحمول فقط فلا دلالة لها على المفهوم. وعليه فما علم في التقييد بالغاية إنه راجع إلى الحكم فلا إشكال في ظهوره في المفهوم مثل قوله (عليه السلام) (كل شيء طاهر حتى تعلم إنه نجس) وكذلك مثال كل شيء حلال. وإن لم يعلم ذلك من القرائن فلا يبعد القول بظهور الغاية في رجوعها إلى الحكم وإنها غاية للنسبة الواقعة قبلها، وكونها غاية لنفس الموضوع أو نفس المحمول هو الذي يحتاج إلى البيان والقرينة. فالقول بمفهوم الغاية هو المرجح عندنا.
الرابع - مفهوم الحصر معنى الحصر: الحصر له معنيان:
1 - القصر بالاصطلاح المعروف عند علماء البلاغة، سواء كان من نوع قصر الصفة على الموصوف، نحو (لا سيف إلا ذو الفقار ول فتى إلا علي)، أم من نوع قصر الموصوف على الصفة، نحو (وما محمد إلا رسول، إنما أنت منذر).
2 - ما يعم القصر والاستثناء الذي لا يسمى قصرا بالاصطلاح نحو (فشربوا الا قليلا). والمقصود به هنا هو هذا المعنى الثاني.
اختلاف مفهوم الحصر باختلاف أدواته: إن مفهوم الحصر يختلف حاله باختلاف أدوات الحصر كما سترى، فلذلك كان علينا إن نبحث عنها واحدة واحدة، فنقول:
1 - (إلا). وهي تأتي لثلاثة وجوه:
1 - صفة بمعنى غير. 2 - استثنائية. 3 - أداة حصر بعد النفي.
أما (الا الوصفية) فهي تقع وصفا لما قبلها كسائر الأوصاف الأخرى. فهي تدخل من هذه الجهة في مفهوم الوصف، فإن قلنا هناك إن للوصف مفهوما فهي كذلك، وإلا فلا. وقد رجحنا فيما سبق إن الوصف لا مفهوم له، فإذا قال المقر مثلا: (في ذمتي عشرة دراهم الا درهم) بجعل (الا درهم) وصفا، فإنه يثبت في ذمته تمام العشرة الموصوفة بأنه ليست بدرهم. ولا يصح إن تكون استثنائية لعدم نصب درهم. ولا مفهوم لها حينئذ فلا تدل على عدم ثبوت شيء آخر في ذمته لزيد. وأما (الا الاستثنائية) فلا ينبغي الشك في دلالتها على المفهوم، وهو انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى، لأن (الا) موضوعة للإخراج وهو الاستثناء، ولازم هذا الإخراج باللزوم البين بالمعنى الأخص إن يكون المستثنى محكوما بنقيض حكم المستثنى منه. ولما كان هذا اللزوم بينا ظن بعضهم إن هذ المفهوم من باب المنطوق. وأما (أداة الحصر بعد النفي) نحو (لا صلاة إلا بطهور)، فهي في الحقيقة من نوع الاستثنائية.
(فرع) - لو شككنا في مورد إن كلمة (إلا) (للاستثناء) أو وصفية، مثل ما لو قال المقر: (ليس في ذمتي لزيد عشرة دراهم ال درهم)، إذ يجوز في المثال إن تكون إلا وصفية، ويجوز إن تكون استثنائية - فإن الأصل في كلمة (إلا) أن تكون للاستثناء فيثبت في ذمته في المثال درهم واحد. أما لو كانت وصفية فإنه لا يثبت في ذمته شيء، لأنه يكون قد نفي العشرة الدراهم كلها الموصوفة تلك الدراهم بأنها ليست بدرهم.
2 - (إنما). وهي أداة حصر مثل كلمة (إلا)، فإذ استعملت في حصر الحكم في موضوع معين دلت بالملازمة البينة على انتفائه عن غير ذلك الموضوع وهذا واضح.
3 - (بل). وهي للإضراب، وتستعمل في وجوه ثلاثة:
(الأول) - للدلالة على إن المضروب عنه وقع عن غفلة أو على نحو الغلط. ولا دلالة لها حينئذ على الحصر. وهو واضح.
(الثاني) - للدلالة على تأكيد المضروب عنه وتقريره، نحو: زيد عالم بل شاعر. ول دلالة لها أيضا حينئذ على الحصر.
(الثالث) - للدلالة على الردع وإيصال ما ثبت أولا، نحو {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ}. فتدل على الحصر، فيكون لها مفهوم، وهذه الآية الكريمة تدل على انتفاء مجيئه بغير الحق.
4 - وهناك هيئات غير الأدوات تدل على الحصر، مثل تقدم المفعول نحو {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5] ، ومثل تعريف المسند إليه بلأم الجنس مع تقديمه نحو (العالم محمد)، و (إن القول ما قالت حذام). ونحو ذلك مما هو مفصل في علم البلاغة. فإن هذه الهيئات ظاهرة في الحصر، فإذا استفيد منه الحصر فلا ينبغي الشك في ظهورها في المفهوم، لأنه لازم للحصر لزوما بينا. وتفصيل الكلام فيها لا يسعه هذا المختصر. وعلى كل حال، فإن كل ما يدل على الحصر فهو دال على المفهوم بالملازمة البينة.
الخامس - مفهوم العدد لا شك في إن تحديد الموضوع بعدد خاص لا يدل على انتفاء الحكم فيما عداه، فإذا قيل: (صم ثلاثة أيام من كل شهر) فإنه لا يدل على عدم استحباب صوم غير الثلاثة الأيام. فلا يعارض الدليل على استحباب صوم أيام أخر. نعم لو كان الحكم للوجوب - مثلا - وكان التحديد بالعدد من جهة الزيادة لبيان الحد الأعلى - فلا شبهة في دلالته على عدم وجوب الزيادة كدليل صوم ثلاثين يوما من شهر رمضان. ولكن هذه الدلالة من جهة خصوصية المورد لا من جهة أصل التحديد بالعدد، حتى يكون لنفس العدد مفهوم. فالحق إن التحديد بالعدد لا مفهوم له.
السادس - مفهوم اللقب المقصود باللقب: كل اسم - سواء كان مشتقا أم جامدا - وقع موضوعا للحكم كالفقير في قولهم: أطعم الفقير، وكالسارق والسارقة في قوله تعالى: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}. ومعنى مفهوم اللقب نفي الحكم عما لا يتناوله عموم الاسم. وبعد إن استشكلنا في دلالة الوصف على المفهوم فعدم دلالة اللقب أولى، فإن نفس موضوع الحكم بعنوانه لا يشعر بتعليق الحكم عليه فضلا عن إن يكون له ظهور في الانحصار. نعم غاية ما يفهم من اللقب عدم تناول شخص الحكم لغير ما يشمله عموم الاسم، وهذا لا كلأم فيه، أما عدم ثبوت نوع الحكم لموضوع آخر فلا دلالة له عليه أصلا. وقد قيل: إن مفهوم اللقب أضعف المفهومات. خاتمة في دلالة الاقتضاء والتنبيه والإشارة تمهيد: يجري كثيرا على لسان الفقهاء والأصوليين ذكر دلالة الاقتضاء والتنبيه والإشارة، ولم تشرح هذه الدلالات في أكثر الكتب الأصولية المتعارفة. ولذلك رأينا إن نبحث عنها بشيء من التفصيل لفائدة المبتدئين.
والبحث عنها يقع من جهتين: الأولى في مواقع هذه الدلالات الثلاث وإنها من أي أقسام الدلالات، والثانية في حجيتها.
الجهة الأولى - مواقع الدلالات الثلاث قد تقدم إن (المفهوم) هو مدلول الجملة التركيبية اللازمة للمنطوق لزوما بينا بالمعنى الأخص. ويقابله (المنطوق) الذي هو مدلول ذات اللفظ بالدلالة المطابقية. ولكن يبقى هناك من المدلولات ما لا يدخل في المفهوم ولا في المنطوق اصطلاحا، كما إذا دل الكلام بالدلالة الإلتزامية (2) على لفظ مفرد أو معنى مفرد ليس مذكورا في المنطوق صريحا، أو إذا دل الكلام على مفاد جملة لازمة للمنطوق الا إن اللزوم ليس على نحو اللزوم البين بالمعنى الأخص. فإن هذه كلها لا تسمى مفهوما ولا منطوقا، أذن ماذا تسمى هذه الدلالة في هذه المقامات؟ نقول: الأنسب إن نسمي مثل هذه الدلالة - على وجه العموم - (الدلالة السياقية)، كما ربما يجري هذا التعبير في لسان جملة من الأساطين لتكون في مقابل الدلالة المفهومية والمنطوقية. والمقصود بها - على هذا -: إن سياق الكلام يدل على المعنى المفرد أو المركب أو اللفظ المقدر. وقسموه إلى الدلالات الثلاث المذكورة: الاقتضاء والتنبيه والإشارة. فلنبحث عنها واحدة واحدة:
1 - دلالة الاقتضاء وهي إن تكون الدلالة مقصودة للمتكلم بحسب العرف، ويتوقف صدق الكلام أو صحته عقلا أو شرعا أو لغة أو عادة عليها. مثالها قوله (صلى الله عليه وآله) (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)، فإن صدق الكلام يتوقف على تقدير الأحكام والآثار الشرعية لتكون هي المنفية حقيقة، لوجود الضرر والضرار قطعا عند المسلمين. فيكون النفي للضرر باعتبار نفي آثاره الشرعية وأحكامه. ومثله (رفع عن أمتي ما لا يعلمون وما اضطروا إليه..). مثال آخر، قوله عليه السلام: (لا صلاة لمن جاره المسجد إلا في المسجد) فإن صدق الكلام وصحته تتوقف على تقدير كلمة (كأملة) محذوفة ليكون النفي كمال الصلاة، لا أصل الصلاة. مثال ثالث، قوله تعالى: (وأسأل القرية)، فإن صحته عقل تتوقف على تقدير لفظ (أهل)، فيكون من باب حذف المضاف، أو على تقدير معنى أهل، فيكون من باب المجاز في الإسناد. مثال رابع، قولهم: (أعتق عبدك عني على ألف) فإن صحة هذ الكلام شرعا تتوقف على طلب تمليكه أولا له بألف لأنه لا عتق إلا في ملك فيكون التقدير ملكني العبد بألف ثم أعتقه عني. مثال خامس، قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف فإن صحته لغة تتوقف على تقدير (رضوان) خبرا للمبتدأ(نحن)، لأن راض مفرد لا يصح إن يكون خبرا لنحن. وجميع الدلالات الإلتزامية على المعاني المفردة، وجميع المجازات في الكلمة أو في الإسناد ترجع إلى (دلالة الاقتضاء).
فإن قال قائل: إن دلالة اللفظ على معناه المجازي من الدلالة المطابقية فكيف جعلتم المجاز من نوع دلالة الاقتضاء - نقول له: هذا صحيح، ومقصودنا من كون الدلالة على المعنى المجازي من نوع دلالة الاقتضاء، هو دلالة نفس القرينة المحفوف بها الكلام على إرادة المعنى المجازي من اللفظ، لا دلالة نفس اللفظ عليه بتوسط القرينة.
(والخلاصة): إن المناط في دلالة الاقتضاء شيئان: الأول إن تكون الدلالة مقصودة، والثاني إن يكون الكلام لا يصدق أو لا يصح بدونها. ولا يفرق فيها بين إن يكون لفظا مضمرا، أو معنى مرادا: حقيقيا أو مجازي.
2 - دلالة التنبيه وتسمى (دلالة الإيماء) أيضا، وهي كالأولى في اشتراط القصد عرف ولكن من غير إن يتوقف صدق الكلام أو صحته عليها، وإنما سياق الكلام ما يقطع معه بإرادة ذلك اللازم أو يستبعد عدم أرادته. وبهذا تفترق عن دلالة الاقتضاء لأنها كم تقدم يتوقف صدق الكلام أو صحته عليها. ولدلالة التنبيه موارد كثيرة نذكر أهمها:
1 - ما إذا أراد المتكلم بيان أمر فنبه عليه بذكر ما يلازمه عقلا أو عرفا، كما إذا قال القائل: (دقت الساعة العاشرة) مثلا، حيث تكون الساعة العاشرة موعدا له مع المخاطب لينبهه على حلول الموعد المتفق عليه. أو قال: (طلعت الشمس) مخاطبا من قد استيقظ من نومه حينئذ، لبيان فوات وقت أداء صلاة الغداة. أو قال: (إني عطشان) للدلالة على طلب الماء. ومن هذا الباب ذكر الخبر لبيان لازم الفائدة، مثل ما لو أخبر المخاطب. بقوله: (إنك صائم) لبيان إنه عالم بصومه. ومن هذا الباب أيضا الكنايات إذا كان المراد الحقيقي مقصودا بالإفادة من اللفظ، ثم كنى به عن شيء آخر.
2 - ما إذا أقترن الكلام بشيء يفيد كونه علة للحكم أو شرطا أو مانعا أو جزءا، أو عدم هذه الأمور. فيكون ذكر الحكم تنبيها على كون ذلك الشيء علة أو شرطا أو مانعا أو جزءا أو عدم كونه كذلك. مثاله قول المفتي: (أعد الصلاة) لمن سأله عن الشك في أعداد الثنائية فإنه يستفاد منه إن الشك المذكور علة لبطلان الصلاة وللحكم بوجوب الإعادة. مثال آخر قوله عليه السلام: (كفر) لمن قال له: واقعت أهلي في نهار شهر رمضان، فإنه يفيد إن الوقاع في الصوم الواجب موجب للكفارة. ومثال ثالث، قوله: (بطل البيع) لمن قال له: (بعت السمك في النهر) فيفهم منه اشتراط القدرة على التسليم في البيع.
ومثال رابع قوله: (لا تعيد) لمن سأل عن الصلاة في الحمام، فيفهم منه عدم مانعية الكون في الحمام للصلاة.. وهكذا.
3 - ما إذا اقترن الكلام بشيء يفيد تعيين بعض متعلقات الفعل، كما إذا قال القائل: (وصلت إلى النهر وشربت)، فيفهم من هذه المقارنة إن المشروب هو الماء وإنه من النهر. ومثل ما إذا قال: (قمت وخطبت) أي وخطبت قائم.. وهكذا.
3 - دلالة الإشارة ويشترط فيها - على عكس الدلالتين السابقتين ألا تكون الدلالة مقصودة بالقصد الاستعمالي بحسب العرف، لكن مدلولها لازم لمدلول الكلام لزوما غير بين أو لزوما بينا بالمعنى الأعم، سواء استنبط المدلول من كلام واحدا أم من كلامين. مثال ذلك دلالة الآيتين على أقل الحمل، وهما أية {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وأية {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } ، فإنه بطرح الحولين من ثلاثين شهرا يكون الباقي ستة أشهر فيعرف إنه أقل الحمل. ومن هذا الباب دلالة وجوب الشيء على وجوب مقدمته، لأنه لازم لوجوب ذي المقدمة باللزوم البين بالمعنى الأعم. ولذلك جعلوا وجوب المقدمة وجوبا تبعيا لا أصليا، لأنه ليس مدلولا للكلام بالقصد، وإنم يفهم بالتبع، أي بدلالة الإشارة.
الجهة الثانية - حجية هذه الدلالات أما دلالة (الاقتضاء والتنبيه)، فلا شك في حجيتهما إذا كانت هناك دلالة وظهور، لأنه من باب حجية الظواهر. ولا كلأم في ذلك.
وأما دلالة (الإشارة) فحجيتها من باب حجية الظواهر محل نظر وشك، لأن تسميتها بالدلالة من باب المسامحة، إذ المفروض إنها غير مقصودة والدلالة تابعة للإرادة، وحقها إن تسمى إشارة وإشعارا فقط بغير لفظ الدلالة فليست هي من الظواهر في شيء حتى تكون حجة من هذه الجهة. نعم هي حجة من باب الملازمة العقلية حيث تكون ملازمة، فيستكشف منها لازمها سواء كان حكما أم غير حكم، كالأخذ بلوازم إقرار المقر وإن لم يكن قاصدا لها أو كان منكرا للملازمة.
____________________________
(1) راجع كتاب المنطق للمؤلف، الجزء الأول ص 79 عن معنى البين وأقسامه.
(2) المقصود من الدلالة الإلتزامية ما يعم الدلالة التضمنية باصطلاح المناطقة باعتبار رجوع الدلالة التضمنية إلى الإلتزامية لأنها لا تتم الا حيث يكون معنى الجزء لازما للكل فتكون الدلالة من ناحية الملازمة بينهم.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|