المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8897 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية



الأدلّة العقليّة القطعيّة  
  
1513   11:44 صباحاً   التاريخ: 25-8-2016
المؤلف : ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : أنوَار الاُصُول
الجزء والصفحة : ج 2 ص 451-471.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / المباحث العقلية /

وهو من المباحث التي سقطت عن الاصول في الفترة الأخيرة فحذفت من مثل رسائل الشيخ الأعظم وكفاية الاصول للمحقّق الخراساني رحمهما الله مع أنّهم عدّوا من الأدلّة دليل العقل وجعلوه أحد الأدلّة الأربعة للأحكام الشرعيّة ، ( كما أنّهم لم يبحثوا بصورة عامّة عن سائرالأدلّة بل اكتفوا في دليل الكتاب بالبحث عن حجّية ظواهره في قبال الأخباريين القائلين بعدم حجّيتها ، وفي دليل السنّة بالبحث عن حجّية خبر الواحد فقط ، وفي الإجماع بالبحث عن الإجماع المنقول فقط ).

ولعلّ الوجه في ذلك كون حجّية العقل مفروغ عنها في نظرهم ، مع أنّه ليس كذلك كما سيتّضح لك عندما ننقل مقالة الأشاعرة والأخباريين والأدلّة التي استدلّوا بها على نفي حجّية العقل.

وكيف كان : الحقّ أنّ من الأدلّة الفقهيّة في أحكام الشرع دليل العقل وأنّ الملازمة ثابتة بين حكم العقل والشرع ، وفي مقابل هذا القول أقوال اخر :

منها : قول الأشاعرة ، والظاهر أنّهم أنكروا الملازمة في تمام مراحلها الثلاثة التي ستأتي الإشارة إليها عن قريب.

ومنها : قول الأخباريين ، الذين أنكروا إدراك العقل للحسن والقبح بعد قبولهم حسن الأفعال وقبحها ذاتاً.

ومنها : قول الاصوليين ، الذين فصّلوا في هذه المسألة بما سيأتي البحث عنه.

ثمّ إنّ لدلالة العقل على الأحكام الشرعيّة مراتب ثلاثة :

إحديها : مرتبة علل الأحكام ومباديها.

الثانية : مرتبة معلولاتها.

الثالثة : مرتبة نفس الحكم.

توضيح ذلك : أنّه تارةً يحكم العقل بحسن العدل والاحسان وقبح الظلم ، أي يدرك مصلحة العدل والاحسان ومفسدة الظلم ، ولا يخفى أنّ المصالح والمفاسد بمنزلة علل الأحكام ، فنستكشف من ناحيتها الوجوب الشرعي أو الحرمة الشرعيّة.

واخرى يحكم العقل أوّلاً بقبح العقاب بلا بيان ثمّ يستكشف من ناحية عدم « العقاب » الذي هو من معلولات الأحكام عدم الوجوب والحرمة الفعليين ويسمّى هذا بالبراءة العقليّة الدالّة على نفي حكم إلزامي شرعي ، أو يحكم في موارد العلم الإجمالي في الشبهات المحصورة أولاً بتنجّزه وكونه منجّزاً للعقاب الاخروي ثمّ يستكشف منه فعلية الحكم الشرعي في أطراف الشبهة.

وثالثة : يكشف العقل عن حكم شرعي مجهول من ناحية حكم شرعي آخر معلوم بوجود الملازمة بينهما عند العقل كالملازمة بين الأمر بشيء والنهي عن ضدّه أو الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة.

والظاهر أنّ الأشاعرة والأخباريين خالفوا الاصوليين في جميع هذه المراتب ولكن بعض الاصوليين فصّلوا في المسألة بالنسبة إلى المرتبة الاولى كما اشير إليه آنفاً.

الكلام في مسألة الحسن والقبح:

إذا عرفت هذا فلنشرع في أصل المسألة فنقول:

أمّا المرحلة الاُولى: فيقع الكلام فيها في ثلاث مقامات:

الأوّل: في أنّه هل للأشياء حسن أو قبح ذاتاً قبل ورود الشرع أو لا؟

الثاني: في إمكان إدراك العقل لهما بعد أن ثبتت ذاتيّتهما للأشياء.

الثالث: في أنّه كلّما حكم به العقل حكم به الشرع.

فلا يخفى أنّ المقامين الأوّلين بمنزلة الصغرى، والمقام الثالث بمنزلة الكبرى لإثبات الحكم الشرعي.

المقام الأوّل: هل للأشياء حسن وقبح ذاتاً؟

فلا بدّ فيه أوّلا من تعريف الحسن والقبح إجمالا، فنقول: المراد من حسن الفعل وقبحه ما يستحقّ المدح أو الذمّ على إتيانه، فالنزاع عنهما مقصور في عالم الأفعال ولا يشمل عالم التكوين، فإنّه لا إشكال في أنّ هناك أشياء حسنة كحسن جمال يوسف وحسن صوت العندليب وحسن كواكب السماء وغيرها، كما أنّ هناك أشياء قبيحة من قبيل قبح صوت الحمير وغيره، فالبحث في المقام مرتبط بحسن الأفعال وقبحها لا حسن الأشياء التكوينيّة وقبحها.

نعم، لا إشكال في أنّ حسن الفعل أو قبحه ناش من شيء تكويني حسن أو شيء تكويني قبيح لا محالة، فالإحسان حسن لأنّه موجب لكمال الفرد والمجتمع خارجاً، والظلم قبيح لأنّه موجب لنقصانهما كذلك، وهذا هو الذي يعبّر عنه في أيّامنا هذه بأنّ لزوم الأفعال ولزوم تركها يرتبطان بالوجودات والاعدام الخارجيّة التكوينيّة، وينشآن منهما (ويعبّر عنه أيضاً بإرتباط معرفة الكون والايدئولوجي) فقتل النفس قبيح لأنّه يوجب حرمان إنسان من الوجود، وإشباع العطشان بالماء حسن لإيجابه إحياء النفس، والأوّل نقص والثاني كمال في عالم التكوين.

نعم، قد يختلف الكمال والنقص بحسب الآراء والأنظار، فالإنسان الإلهي يرى الكمال في القرب إلى الله تعالى والنقص في البعد عنه حينما يريهما الإنسان المادّي في رفاه العيش وعدمه، وهناك اُمور مشتركة بين جميع المذاهب البشريّة مثل حسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان.

إذا عرفت ما ذكرنا من معنى الحسن والقبح نقول: لا إشكال في حسن الأفعال وقبحها ذاتاً ويدلّ عليه اُمور:

الأوّل: الوجدان، فإنّ وجدان كلّ إنسان يحكم بأنّ هناك أفعالا حسنة ذاتاً وأفعالا اُخرى قبيحة كذلك، والمنكر ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان، نظير ما يقال في باب الجبر والاختيار في علم الكلام في قبال الجبريّة، وفي باب أصل وجود أشياء في عالم الخارج في الفلسفة من أنّ الوجدان أصدق شاهد على اختيار الإنسان ووجود الواقع الخارجي، وبالجملة إنّا ندرك حسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان ولو لم تكن هناك شريعة.

وإن شئت فاختبر نفسك فيما إذا كنت عابر سبيل ومسافراً لمقصد بعيد فنفد زادك وضللت عن الطريق مضطرباً حيران فإذا رجلان قد مرّا بك ولكن أحدهما استمر في سيره ولم يَعتَنِ بك مع قدرته على نجاتك من هذه المهلكة بما عنده من الزاد والمركب، وتوقّف الآخر وآثر بنفسه بقدر استطاعته وأنجاك من المهلكة ودلّك على الطريق وأوصلك إلى مقصدك، فهل هما حينئذ عندك سيّان؟ أفلا يحكم وجدانك بقبح عمل الأوّل وحسن فعل الثاني؟ وهكذا في رجلين أحدهما أنقذ غريقاً من البحر والآخر ألقى رضيعاً في البحر، فهل تجد في نفسك إنّهما يستويان من حيث القدر والقيمة؟ كلاّ، بل يحكم وجدانك بحسن عمل الأوّل وقبح عمل الثاني بلا ريب، ولا ترتاب ولو للحظة واحدة في هذا الحكم.

الثاني: أنّ إنكار الحسن والقبح يستلزم إنكار الشريعة وعدم إمكان إثباتها لأنّه متوقّف على إظهار المعجزة على يد النبي الصادق (صلى الله عليه وآله) وهو لا يدلّ على صحّة النبوّة إلاّ إذا قلنا بقبح إظهارها على يد الكاذب، وكذلك يستلزم عدم إمكان قبول الوعد والوعيد الواردين في كتاب الله لأنّه يتوقّف على قبح الكذب وعدم الوفاء بالوعد.

الثالث: إنّه يستلزم عدم وجوب النظر في معجزة المدّعي مع أنّه لا إشكال في وجوبه اتّفاقاً بحكم العقل لاحتمال كونه صادقاً، وهو يوجب احتمال وجود الضرر الاُخروي الذي يقبح قبوله، ولذلك يوجب حكم العقل بالاحتياط ووجوب النظر وهكذا يستلزم عدم وجوب التحقيق في أصل التوحيد لأنّه متوقّف على قبح عدم دفع الضرر المحتمل وحسن شكر المنعم.

الرابع: أنّه يستلزم عدم إمكان إثبات وجوب الطاعة بعد ثبوت أصل وجود الباري تعالى وثبوت نبيّه والذي جاء به من الاُصول والفروع لأنّه متفرّع على ثبوت حسن لها في الرتبة السابقة فيحكم العقل بوجوبها، وأمّا إثباته بالشرع وبقوله تعالى: «أطيعوا» يوجب التسلسل المحال كما مرّ غير مرّة لأنّ وجوب الإطاعة عن نفس هذا الأمر (أطيعوا) أيضاً يحتاج إلى أمر آخر بالإطاعة إلى أن يتسلسل.

الخامس: ما يدلّ من الآيات على حسن بعض الأفعال وقبح بعض آخر قبل ورود الشرع من قبيل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } [الأعراف: 157] وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ص: 28].

وقوله عزّ شأنه: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] وقوله جلّ جلاله {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] وقوله عظم قدره: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [النحل: 90] ففي هذه الآيات وأشباهها دلالة واضحة على ثبوت الحسن والقبح بحكم العقل، وقبل ورود الشرع، ولذا يحتجّ بها على إثبات الحقائق الواردة في الكتاب الكريم.

 بقي هنا امور :

الأمر الأوّل : قد يقال : إنّ الحسن والقبح وإن كانا عقليين لكنّهما يختلفان بالوجوه والاعتبار ، فإنّ الضرب مثلاً حسن إن كان للتأديب ، وقبيح إن كان للتعذيب ، وكذلك القتل فإنّه حسن باعتبار القصاص ، وقبيح باعتبار الجناية ، وقد نسب هذا إلى قوم من العامّة وهم الجبائيون.

ولكن يرد عليه : أنّه من قبيل الأخذ لما بالعرض مكان ما بالذات ، ففي مثال الضرب ليس عنوان الضرب حسناً أو قبيحاً ذاتاً بل حسنه في صورة التأديب يكون بالعرض ومن باب أنّه مصداق للإحسان ، كما أنّ قبحه في صورة التعذيب عرضي من باب أنّه مصداق للظلم ، فالحسن والقبيح الذاتيان إنّما هما عنوانا الاحسان والظلم لا عنوان الضرب.

وإن شئت قلت : الأفعال على ثلاثة أقسام :

قسم منها يكون بحسب الذات علّة تامّة للحسن أو القبح كالظلم والاحسان.

وقسم منها يكون مقتضياً وعلّة ناقصة لأحدهما في حدّ ذاته كالصدق الذي يقتضي الحسن ذاتاً ما لم يمنع مانع كما إذا أوجب القاء النفس في التهلكة.

وقسم ثالث منها ليس علة تامّة للحسن أو القبح في حدّ ذاته ولا علّة ناقصة لأحدهما كذلك كالمباحات العقليّة، فما يكون حسناً أو قبيحاً بالوجوه والاعتبار إنّما هو القسم الثاني والثالث لا الأوّل.

ومن هنا يظهر الجواب عن كثير من الإشكالات الواردة في المقام التي لا طائل تحتها ولا حاجة إلى ذكرها.

الأمر الثاني: لا إشكال في أنّ حكم العقل بالحسن أو القبح مقبول على حدّ الموجبة الجزئيّة لا الكلّية، ولا يقول أحد بأنّ العقل يدرك جميع المصالح والمفاسد وما يتبعهما من الحسن والقبح، ولذلك فإنّ دلالته على الأحكام الشرعيّة تكون في الجملة لا بالجملة.

وإن شئت قلت: أنّ القضايا على ثلاثة أنواع:

نوع منها يدرك العقل الحسن أو القبيح فيها بالضرورة والبداهة كقضيتي «العدل حسن» و «الظلم قبيح».

ونوع آخر يكون درك العقل للحسن أو القبح فيها بالاستدلال والبرهان كقضية «الصدق حسن» ولو أضرّ بمنفعة الشخص، فيدرك حسن الصدق الضارّ بالتأمّل والنظر.

ونوع ثالث منها لا يدرك العقل الحسن أو القبح فيها لا بالضرورة ولا بالتأمّل وذلك كما في جزئيات الأحكام الشرعيّة في أبواب العبادات وغيرها، وبعبارة اُخرى: يحتاج العقل في إدراكه للحسن أو القبح فيها إلى توسّط من الشرع لأنّه يتوقّف على درك المصلحة أو المفسدة وعللها، وهي اُمور خارجيّة لا طريق للعقل إلى الحصول عليها إلاّ من طريق الشرع، وهذا نظير إدراك العوام لمضارّ الأدوية ومنافعها فإنّ إدراكهم لها جزئي صادق في جملة من الأدوية، وأمّا في غيرها فيحتاجون إلى نظر الطبيب.

ومن هنا يظهر الجواب عن استدلال الأخباريين ببعض الرّوايات الدالّة على قصور العقل في إدراكه لمصالح الأحكام ومفاسدها كقوله (عليه السلام) «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول» أو قوله (عليه السلام)«وما أبعد عقول الرجال عن دين الله» فإنّ الظاهر أنّ هذه الرّوايات ناظرة إلى الغالب والقسم الثالث من القضايا، ولا تدلّ على نفي الإدراك مطلقاً، كيف والشارع بنفسه يستدلّ بالعقل في كثير من الموارد ويخاطب الناس بقوله: (أفلا تتفكّرون) أو (أفلا تعقلون)وبقوله: (يا اُولي الألباب) و (هاتوا برهانكم) ولذلك اعترف كثير من الأخباريين بإدراك العقل للضروريات العقليّة واضطرّوا إلى استثنائها من مقالتهم، وقد مرّ تفصيل الجواب عنهم في مباحث القطع وحجّية القطع الحاصل من طريق العقل فراجع.

الأمر الثالث: إذا اجتمع عنوانان أو عناوين عديدة بعضها حسن وبعضها قبيح على شيء واحد كالدخول في الأرض المغصوبة(1) لإنقاذ الغريق فإنّه قبيح من جهة انطباق عنوان الغصب عليه، وحسن من جهة انطباق عنوان الإنقاذ عليه، فلا إشكال حينئذ في أنّ الفعل تابع لأقوى الجهات بعد كسر وانكسار أو يصير خالياً عن الحسن والقبح إذا كانت الجهات متساوية فلا يكون من باب اجتماع النقيضين كما توهّمه بعض واستكشف من طريق استحالته عدم حسن الأفعال وقبحها ذاتاً.

أدلّة المنكرين للحسن والقبح:

ثمّ إنّه استدلّ لعدم حسن الأفعال وعدم قبحها ذاتاً بوجوه واهية:

منها: أنّه لو كان الحسن والقبح عقليين لزم الجبر في أفعال الله تعالى (سواء في ذلك أفعاله التكوينيّة أو التشريعية) أي لزم أن يكون الشارع الحكيم مقيّداً في تشريعه للأحكام بهذه الأوصاف، وهذا ينافي اختياره تعالى في أفعاله على الإطلاق.

والجواب عنه واضح، لأنّ الجبر في فعل شيء، ووجود الصارف الاختياري عن ذلك الفعل شيء آخر، فإنّ السلوك على وفق الحكمة وعدم التخطّي عمّا تقتضيه لا ينافي الاختيار، لأنّ العاقل السويّ لا يقدم على شرب السمّ مثلا وهو مختار مع أنّه قادر عليه، فعدم وقوع الشرب منه لصارف لا ينافي قدرته واختياره بل هو بنفسه إختار عدم الشرب، كما أنّ صدور فعل منه لداع لا ينافي الاختيار، وكذلك الحكيم تعالى.

ولكن يرد عليه أنّه مغالطة واضحة فإنّ وجوب الوفاء يختصّ بما إذا كان المتعلّق راجحاً.

ومنها: أنّ أفعال العباد غير صادرة عنهم باختيارهم فلا تتّصف بالحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه، وهو استحقاق المدح أو الذمّ على إتيانها، لأنّ الاستحقاق موقوف على وجود الاختيار.

والجواب عنه حلاًّ: أنّه مبني على مبنى فاسد وهو القول بالجبر.

ونقضاً: أنّ هذا الوجه بعينه جار بعد ورود حكم الشرع بالحسن والقبح مع أنّهم ملتزمون بهما بعد ورودهما في الشرع.

ومنها: أنّ القول بحسن الأفعال وقبحها يستلزم قيام المعنى بالمعنى، والظاهر أنّ مرادهم العرض بالعرض، وهو محال، وجه الملازمة: أنّ الأفعال من مقولة الفعل كما أنّ الحسن والقبح أيضاً من مقولة الكيف.

والجواب عنه أوّلا: بالنقض بأنّ هذا يرد على الحسن والقبح الشرعيين أيضاً وثانياً: بالحلّ فإنّه لا دليل على استحالة قيام العرض بالعرض، فكم من عرض قائم بعرض آخر.

أضف إلى ذلك (وهو العمدة) أنّ الحسن والقبح ليسا من الصفات التكوينيّة الوجوديّة المتحقّقة في موضوعها بل إنّهما من الاُمور الاعتباريّة المنتزعة التي لها منشأ للانتزاع في الخارج، فينتزع الحسن في قولك: «العدل حسن» ممّا يوجبه العدل في الخارج من المنافع، وينتزع القبح في قولك: «الظلم قبيح» ممّا يوجبه من الفساد والمضارّ.

ويشبه هذا الوجه بالشبهة السوفسطائيّة التي نشأت من وقوع الخطأ في الحواس، فأوجبت إنكار السوفسطائي لعالم الوجود مع أنّه أمر وجداني لا يمكن إنكاره، والصحيح في مثل هذه الاُمور الفطريّة الوجدانيّة النهوض على جواب لحلّ بعض الشبهات الواردة لا إنكار أصل الموضوع الثابت بالوجدان قطعاً.

إلى هنا ظهر الحال في المقام الأوّل وهو ثبوت الحسن والقبح للأشياء ذاتاً.

المقام الثاني : في إمكان إدراك الحسن والقبح الذاتيين بالجملة:

وهو إمكان إدراك الحسن والقبح الذاتيين بالعقل في الجملة فالكلام فيه يظهر ممّا مرّ في المقام الأوّل ولا نطيل البحث بتكراره.

المقام الثالث : ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع:

وهي « أنّه كلّما حكم به العقل حكم به الشرع » فقبل الورود في البحث عنها لابدّ من تفسير كلمة الحكم الوارد في الجملتين فنقول : إنّه فرق بين الحكم في قولنا : « حكم به العقل » والحكم في قولنا : « حكم به الشرع » حيث إن الحكم الأوّل معناه إدراك العقل لا إنشائه وجعله لأنّ إنشاء التكليف من شأن المولى ( نعم للعقلاء بناءات واعتبارات وقوانين إنشائيّة في دائرة أحكامهم العقلائيّة وهي في الحقيقة من سنخ إنشاءات الموالي بالنسبة إلى العبيد ).

وأمّا الحكم الثاني ، فليس هو بمعنى الإدراك بل هو بمعنى التشريع والتقنين لكون الشارع مولى الموالي والناس جميعهم عباده ، هذه نكتة.

والنكتة الثانية : أنّ قضيّة الأصل في هذا العنوان ( أي قضية كلّما حكم به العقل ، حكم به الشرع ) مخالف للعكس ( وهي كلّما حكم به الشرع حكم به العقل ) فإنّ الأولى قضية مطلقة والثانية مشروطة ، لأنّها مشروطة بأن يدرك العقل من جانب الشارع فلسفة الحكم من المصلحة والمفسدة ثمّ يحكم بحسنه أو قبحه فتكون قضية العكس هكذا : « كلّما حكم به الشرع ، حكم به العقل لو اطلع على حكمة حكم الشرع ».

الأقوال في المسألة :

في المسألة أقوال أربعة :

أحدها : أنّ الملازمة ثابتة من جانب الأصل والعكس معاً.

ثانيها : قول الأشاعرة وهو إنكار الملازمة مطلقاً.

ثالثها : قول صاحب الفصول من أنّ الملازمة ثابتة بين حسن التكليف بفعل أو قبحه وبين حكم الشارع ، لا بين حسن الفعل ( المكلّف به ) أو قبحه وبين حكم الشرع.

رابعها : التفصيل بين ما إذا تطابقت آراء العقلاء على حسن فعل أو قبحه وبين ما إذا لم تتطابق آراؤهم عليه ، والملازمة ثابتة في الصورة الاولى لا الثانية ( ويستفاد هذا من تضاعيف ما ذكره في اصول الفقه ) (2).

والمختار هو القول الأوّل ، لكن المراد من حكم الشارع هو الأعمّ من الإلزامي وغيره ، والدليل على ذلك حكمة الباري تعالى ، فإذا كان الفعل واجداً لمصلحة تامّة أو مفسدة كذلك فكيف يمكن أن لا يكون للشارع فيه حكم مع أنّه قد ثبت عند الإماميّة عدم خلوّ شيء من الأشياء من حكم من الأحكام ، فبعد حكم العقل بالحسن أو القبح يثبت أوّلاً إنقداح إرادة أو كراهة في بعض المبادئ العالية ثمّ بانضمام الكبرى الثابتة في محلّه من عدم خلوّ الأشياء عن الحكم يثبت حكم الشارع ، فالطريق الصحيح عندنا هو حكمة الباري ، ومقتضاها ثبوت الملازمة مطلقاً ، وكيف يعقل ترك التكليف من المولى الحكيم إذا كان في الفعل مصلحة تامّة قطعية أو مفسدة كذلك؟ ومن المعلوم أنّ ترك الأمر والنهي في هذه المقامات منافٍ للحكمة ، فإذا أدرك العقل المصلحة التامّة في أمر ( أي مصلحة لا معارض لها ) وأدرك علّية ذلك للحكم بتبعية الأحكام الشرعيّة للمصالح والمفاسد يكشف أيضاً حكم الشارع به ، كحكمه بقبح اختلال النظام الذي يكون علّة لحكم الشارع بحرمته بلا ريب.

وإن شئت فاختبر نفسك أنّه قبل نزول قوله تعالى : {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } [النساء: 93] فهل تحتمل أن لا يكون قتل المؤمن متعمّداً مبغوضاً عند الله وحراماً في حكمه؟ وهل تحتمل أن تتنزّل الآية هكذا : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ الجنّة خَالِداً فِيهَا ) كلاّ ، لا يقول به إلاّ المكابر ، وكذا في أشباهه من الامور التي يدرك العقل حسنها وقبحها ومصالحها ومفاسدها بنحو العلّة التامّة.

واستدلّ المنكرون لعدم الملازمة مطلقاً بوجوه :

الوجه الأوّل : أنّها مخالفة لقوله تعالى : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] فإنّها تدلّ على أنّه لا عقاب من دون إرسال المرسل وقبل صدور الأدلّة السمعيّة.

واجيب عنه بوجوه :

الأوّل : أنّ الظاهر من نفي العذاب في هذه الآية إنّما هو نفي الفعليّة لا نفي الاستحقاق ، ومحلّ النزاع في المقام هو الملازمة بين حكم العقل وبين استحقاق العقاب.

ويرد عليه : إنّ هذا لا يفيد الفقيه والاصولي شيئاً ، فإنّ نتيجته على كلّ حال نفي العقاب ، وهو العمدة في المقام ، فلا تنجّز للأحكام العقليّة ولا يجب امتثالها في النتيجة ، مع أنّ القائل بالملازمة يريد أن يجعل دليل العقل من الأدلّة الأربعة التي تنكشف بها القوانين الشرعيّة الإلزاميّة.

الثاني : أنّ العقل أيضاً داخل في زمرة الرسل ، فإنّه رسول وحجّة باطنة كما أنّ النبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله حجّة ظاهرة ، وقد ورد في رواية هشام : « أنّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة وحجّة باطنة فأمّا الظاهر فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام ، وأمّا الباطنة فالعقول » (3) وفي رواية عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليه ‌السلام قال : « حجّة الله على العباد النبي ، والحجّة فيما بين العباد وبين الله العقل » (4).

وفيه : أنّ الرسول في الآية بقرينة كلمة البعث ظاهر في الرسول الظاهري ومنصرف إلى الحجج الظاهرة.

الثالث : ( وهو الحقّ ) أنّ المراد من العذاب في الآية ليس مطلق العذاب ، بل المراد منه عذاب الإستئصال الذي يوجب الهدم والهلاك في الدنيا كالطوفان لقوم نوح عليه‌ السلام والغرق لقوم فرعون والصيحة السماويّة لأقوام اخر ، فالآية إشارة إلى هذا النوع من العذاب ، ولذلك عبّرت عنه بصيغة الماضي بقوله تعالى : « ما كنّا » ويشهد لذلك أيضاً ما وردت بعدها من قوله تعالى : {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 16، 17]. ولا أقلّ من أنّه ليس للآية إطلاق يشمل غير عذاب الإستئصال فإنّها محفوفة بما يصلح للقرينة.

الرابع : أنّ الآية كناية عن إتمام الحجّة ويكون ذكر بعث الرسل فيها من باب الغلبة لأنّ جلّ الأحكام وصلت إلينا من طريق الأدلّة السمعيّة ، فيكون مفاد الآية « إنّا لا نعذّب العباد حتّى نتمّ الحجّة عليهم » ويشهد على هذا قوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134].

وهذا الجواب أيضاً لا بأس به.

الخامس : سلّمنا ولكن إطلاق الآية قابل للتقييد بالمستقلاّت العقليّة ، فإنّ هذا الظهور دليل ظنّي وذاك دليل قطعي.

فتلخّص من جميع ما ذكر أنّ الاستدلال بالآية لنفي الملازمة غير تامّ بالوجوه الثلاثة الأخيرة.

الوجه الثاني : لعدم الملازمة : ما يدلّ من الرّوايات على خلوّ كلّ شيء عن الحكم قبل ورود الشرع وأنّ كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي (5).

والجواب عن هذا الاستدلال هو الوجهان الأخيران من الوجوه الخمسة المذكورة في الجواب عن الدليل الأوّل :

أحدهما : انصراف إطلاقها إلى الغالب ، والثاني : أنّ الإطلاق على فرض ثبوته قابل للتقييد.

الوجه الثالث : ما ذكر في علم الكلام من استناد لزوم بعث الرسل إلى قاعدة اللطف لأنّ تمام اللطف وكماله متوقّف على تأكيد أحكام العقل بأدلّة سمعية وإمضائها من ناحية بعث الرسل.

والجواب عن هذا واضح ، وهو ما مرّ في البحث عن الإجماع اللطفي ، فقد ذكرنا هناك أنّ الواجب من اللطف عبارة عن إيجاد الحدّ الأقل من تهيئة أسباب الرشد والكمال بحيث لو لم يعدّها المولى لكان مقصّراً في أداء وظيفته وناقضاً لغرضه.

الوجه الرابع : ثبوت الأحكام العقليّة في حقّ الصبي المراهق إذا كان كامل العقل لطيف القريحة مع عدم كونه مكلّفاً بوجوب ولا تحريم باتّفاق جميع الفقهاء لحديث رفع القلم.

وفيه : أنّه يمكن أن يقال أنّ حديث رفع القلم ناظر إلى غالب الأحكام ويكون منصرفاً عن المستقلاّت العقليّة ، فهل يمكن أن يفتي أحد من الفقهاء بجواز قتل النفس المحترمة والظلم على الناس وغير ذلك من القبائح لمثل هذا الصبي ويحكم بعدم عقابه في الآخرة؟ كلاّ ـ ولا زال فكري مشغولاً بهذا وكنت أستبعده منذ الزمن القديم ، والإنصاف هو الحكم بتحريم مثل هذه الامور على الصبي المذكور.

فإن قلت : فلماذا لا يجري عليه أحكام القصاص بل يكتفي فيه بأخذ الديّة وصرّح الفقهاء بأنّ عمد الصبي خطأ.

قلنا : البحث في القصاص والديّات خارج عن محلّ النزاع ، لأنّ النزاع في العقاب وعدمه ، ونفي القصاص عنه في الدنيا لمصلحة خاصّة أو مفسدة خاصّة لا يلازم نفي العقاب في الآخرة، مضافاً إلى أنّ أحكام الحدود والديّات والقصاص لا تصاب بالعقول كما يشهد عليه قصّة أبان ، فإنّ الحدّ مثلاً ثابت بالنسبة إلى معصية وغير ثابت بالنسبة إلى معصية اخرى أشدّ منها ظاهراً.

هذه هي أدلّة منكري الملازمة مع الجواب عن كلّ منها على حدة ، ويمكن الجواب عن جميعها بالنقض بوجوب النظر في معجزة من يدّعي النبوّة ويقول : « انظروا في معجزتي لتعلموا صدقي » فلا إشكال في وجوب النظر عقلاً ، ولو أنكرنا الملازمة وقلنا بلزوم الاكتفاء بالشرع لزم عدم وجوب هذا النظر وسدّ باب دعوة الأنبياء.

هذا كلّه في القول الثاني وهو إنكار الملازمة مطلقاً.

وأمّا القول الثالث : وهو ما ذهب إليه صاحب الفصول ( من التفصيل بين حكم العقل بحسن التكليف وحكمه بحسن الفعل وأنّ الملازمة ثابتة في الأوّل دون الثاني ) فقد ذكر لذلك وجوهاً :

أحدها : حسن التكليف الابتلائي فإنّ الضرورة قاضية بحسن أمر المولى عبده بما لا يستحقّ فاعله ( من حيث إنّه فاعله ) المدح في نظره استخباراً لأمر العبد أو إظهاراً لحاله عند غيره ، ولو كان حسن التكليف مقصوراً على حسن الفعل لما حسن ذلك.

وحاصله : أنّ الأوامر الإمتحانيّة ممّا لا يمكن إنكارها مع عدم وجود الحسن في نفس الفعل بل في التكليف.

والجواب عن هذا الوجه يتمّ بذكر أمرين :

الأمر الأول : أنّه فرق بين الإمتحانات الإلهية والإمتحانات الواقعة من جانب الموالي العرفيّة ، لأنّ الاولى ليست للاستخبار ولا معنى له فيها لأنّ الله تبارك وتعالى عالم السرّ والخفيّات ، بل إنّها أسباب تربوية لتكامل العباد ورشدهم وبمنزلة تمرينات يعمل بها قبل الورود في ميدان المسابقات ، التي تعدّ نوعاً من التقوية والتهيّؤ الروحاني نظير التهيّؤ الجسماني ، فتكون المصلحة في نفس الفعل والمقدّمات التي تتحقّق في الخارج ، فإنّ جميعها تحوي على المصلحة، والمصلحة هي ما ذكر من التعليم والتربيّة والتقوية الروحانيّة كما حصلت لإبراهيم في قصّة ذبحه لإسماعيل أشار إليه تبارك وتعالى بقوله : {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] ، فإنّ المصلحة فيها موجودة في الفعل ، أي في جميع المقدّمات قبل حصول ذي المقدّمة والوصول إليها ، فإذا وصلت إلى ذي المقدّمة منع عن تحقّقه مانع من جانب الله تعالى.

الأمر الثاني : وإن أبيت عن ما ذكر ( من وجود المصلحة في الفعل ) فنقول : الأوامر الإمتحانية خارجة عن محلّ النزاع ، لأنّ النزاع في الأوامر الجدّية التي تنشأ عن جدٍّ ، والأوامر الإمتحانية إنشاءات صادرة بالإرادة الاستعماليّة بداعي الإمتحان لا بداعي الجدّ.

ثانيها : التكاليف التي ترد مورد التقيّة إذا لم يكن في نفس العمل تقيّة فإنّ إمكانها بل وقوعها في الأخبار المأثورة عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ممّا لا يكاد يعتريه شوب الإنكار ، وإن منعنا وقوعه في حقّه تعالى بل وفي حقّ النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله أيضاً فإنّ تلك التكاليف متّصفة بالحسن والرجحان لما فيها من صون المكلّف أو المكلَّف عن مكائد الأعادي وشرورهم وإن تجرّد ما كلّف به عن الحسن الابتدائي.

والجواب عنه هو الجواب عن الوجه الأوّل ، فإنّ هذا القسم من الأوامر أيضاً خارجة عن محلّ النزاع لخلوّها عن الإرادة الجدّية.

ثالثها : أنّ كثيراً من الأحكام المقرّرة في الشريعة معلّلة في الحقيقة ولو بحسب الظنّ أو الاحتمال بحكم غير مطرد في جميع مواردها ، ومع ذلك فقد حافظ الشارع على عمومها وكلّيتها حذراً من الأداء إلى الاخلال بموارد الحكم كتشريع العدّة لحفظ الأنساب من الاختلاط حيث أثبتها الشارع بشرائطها على سبيل الكلّية حتّى مع القطع بعدم النسب أو بعدم الاختلاط كما في المطلّقة المدخول بها دبراً أو مجرّداً عن الإنزال والغائب عنها زوجها أو المتروك وطيها مدّة الحمل وغير ذلك.

وفيه : أنّه يظهر بالتأمّل والدقّة في هذه الموارد أنّ الفعل أيضاً حسن وذو مصلحة لأنّ العدّة في موارد القطع بعدم الاختلاط مثلاً يوجب الممارسة والتربيّة لإحراز القانون وحفظها في موارد الاختلاط والالتباس ، فله حسن مقدّمي غيري نظير رعاية مقرّرات السياقة في جوف الليل وحين خلوة الشارع فإنّ فيها مصلحة حفظ هذه المقرّرات في غير ذلك الزمان.

رابعها : « الأخبار الدالّة على عدم تعلّق بعض التكاليف بهذه الامّة دفعاً للكلفة والمشقّة عنهم كقوله صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله « لولا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك » فإنّ وجود المشقّة في الفعل قد يقدح في حسن الإلزام به وإن لم يقدح في حسن الفعل ، إلاّ أن يكون في الفعل مزيد حسن بحيث يرجّح الإلزام به مع المشقّة كما في الجهاد ، فإنّ الفعل الشاقّ قد يكون حسناً بل واجباً عقليّاً لكن لا يحسن الإلزام به لما فيه من التضييق على المكلّف مع قضاء الحكمة بعدمه».

ويرد عليه : أنّ الإنصاف في مثال السواك أنّ المشقّة موجودة في الفعل بوصف الدوام وهو لا يناسب الشريعة السمحة السهلة فلا توجد فيه مصلحة حينئذٍ ، أي عمل السواك الدائمي ليس ذا مصلحة بل المصلحة موجودة فيه في الجملة ، وبعبارة اخرى : أنّ الرّواية وإن دلّت بظاهرها على وجود المشقّة في الوجوب والإلزام لكن بعد التأمّل يظهر لنا أنّ مشقّة الإلزام تنشأ من مشقّة دوام الفعل لأنّه لو كان الواجب السواك في بعض الأحيان مثلاً لم يكن في الفعل مشقّة ، فالمشقّة ناشئة من الفعل بوصف الدوام ، فلا ينشأ عدم الإلزام من عدم حسن التكليف بل ينشأ في الواقع من عدم حسن الفعل المكلّف به.

خامسها : « أنّ الصبي المراهق إذا كان كامل العقل لطيف القريحة تثبت الأحكام العقليّة في حقّه كغيره من الكاملين ومع ذلك لم يكلّفه الشارع بوجوب ولا تحريم لمصالح داعية إلى ترك تكليفه بهما من التوسعة عليه وحفظ القوانين الشرعيّة عن التشويش وعدم الانضباط ».

والجواب عنه قد مرّ سابقاً من منع عدم العقاب الأخروي في المستقلاّت العقليّة في مثل هذا الصبي ، وأمّا حديث رفع القلم فالظاهر أنّه ناظر إلى غالب الأحكام الشرعيّة.

سادسها : « أنّ جملة من الأوامر الشرعيّة المتعلّقة بجملة من الأفعال مشروطة بقصد القربة والامتثال حتّى أنّها لو تجرّدت عنه لتجرّدت عن وصف الوجوب كالصوم والصّلاة والحجّ والزّكاة ، فإنّ وقوعها موصوف بالوجوب الشرعي أو رجحانه مشروط بنيّة القربة حتّى أنّها لو وقعت بدونها لم تتّصف به ، مع أنّ تلك الأفعال بحسب الواقع لا تخلو إمّا أن تكون واجبات عقليّة مطلقاً ، أو بشرط الأمر بها ووقوعها بقصد الامتثال ، وعلى التقديرين يثبت المقصود ، أمّا على الحكم الأوّل فلحكم العقل بوجوبها عند عدم قصد الامتثال وحكم الشارع بعدم وجوبه ، وأمّا على الثاني فلانتفاء الحسن قبل التكليف وحصوله بعده فلم يتفرّع حسن التكليف على حسن الفعل ».

ويرد عليه :

أوّلاً : ما مرّ في مبحث الأوامر من عدم اعتبار قصد الأمر في تحقّق قصد القربة بل يكفي قصد كونه لله تعالى وقصد حسنه الذاتي.

وثانياً : أنّ المدّعى في المقام هو حسن الفعل في ظرف الامتثال لا حسنه في ظرف التكليف ، وأمر الشارع وإلزامه متوقّف على الأوّل لا الثاني ، ولا إشكال في أنّ حسن الفعل حاصل في ظرف الامتثال ، هذا ـ مضافاً إلى أنّه بالتأمّل يظهر أنّ أكثر هذه الإشكالات مربوطة بعكس القضية ، وهي « كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل » ، وقد مرّ أنّ المدّعى والمختار هو الأصل والعكس معاً.

هذا كلّه في القول الثالث.

وأمّا القول الرابع : وهو ما ذهب إليه بعض فضلاء العصر من التفصيل بين ما إذا تطابقت آراء العقلاء على مصلحة أو مفسدة وبين ما إذا لم تتطابق آرائهم على ذلك ، فقال في مقام توجيهه والاستدلال عليه بما نصّه : « الحقّ أنّ الملازمة ثابتة عقلاً فإنّ العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه ( أي إنّه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعاً بما هم عقلاء على حسن شيء لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع أو على قبحه لما فيه من الاخلال بذلك ) فإنّ الحكم هذا يكون بادئ رأي الجميع فلا بدّ أن يحكم الشارع بحكمهم لأنّه منهم بل رئيسهم فهو بما هو عاقل ( بل خالق العقل) كسائر العقلاء لابدّ أن يحكم بما يحكمون ولو فرضنا أنّه لم يشاركهم في حكمهم لما كان ذلك الحكم بادئ رأي الجميع ( حاصل رأي الجميع ) وهذا خلاف الفرض » (6) بل في مثل هذه الحالة صرّح في موضع آخر من كلامه بأنّ « حكم العقل حينئذٍ عين حكم الشارع لا أنّه كاشف عنه » وقال في محلّ آخر ما نصّه : « وعلى هذا فلا سبيل للعقل بما هو عقل إلى إدراك جميع ملاكات الأحكام الشرعيّة فإذا أدرك العقل المصلحة في شيء أو المفسدة في آخر ولم يكن إدراكه مستنداً إلى إدراك المصلحة أو المفسدة العامتين اللتين يتساوى في إدراكهما جميع العقلاء فإنّه ( أعني العقل ) لا سبيل له إلى الحكم بأنّ هذا المدرك يجب أن يحكم به الشارع على طبق حكم العقل ، إذ يحتمل أنّ هناك ما هو مناط لحكم الشارع غير ما أدركه العقل ، أو أنّ هناك مانعاً يمنع من حكم الشارع على طبق ما أدركه العقل وإن كان ما أدركه مقتضياً لحكم الشارع» (7).

فملخّص كلامه هذا ثبوت الملازمة في صورة التطابق وعدم ثبوتها في صورة عدم التطابق وأنّ الوجه في الأوّل كون الشارع من العقلاء ، فلو لم يكن له حكم يستلزم الخلف ، وفي الثاني احتمال كون المناط في نظر الشارع غير ما هو المناط في نظر العقل ، أو وجود المانع في فرض اتّحاد المناط ، وقال أيضاً في موضع آخر : « والقضايا المشهورة ليس لها واقع وراء تطابق الآراء ، أي أنّ واقعها ذلك فمعنى حسن العدل أو العلم عندهم أنّ فاعله ممدوح لدى العقلاء ، ومعنى قبح الظلم والجهل أنّ فاعله مذموم لديهم » (8).

ثمّ إنّه قال في محلّ آخر من كلامه ( بعد تقسيمه الأمر إلى المولوي والإرشادي وتفسيره الأمر المولوي بالتأسيسي والإرشادي بالتأكيدي ) ما نصّه : « والحقّ أنّه للإرشاد حيث يفرض أنّ حكم العقل هذا كافٍ لدعوة المكلّف إلى الفعل الحسن وإندفاع إرادته للقيام به فلا حاجة إلى جعل الداعي من قبل المولى ثانياً بل يكون عبثاً ولغواً بل هو مستحيل لأنّه يكون من باب تحصيل الحاصل » (9).

ونتيجة هذا الكلام أنّ حكم الشارع في مثل قوله تعالى : {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135] وقوله : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] بالقسط والعدل والاحسان إرشادي لأنّ العقل أيضاً يحكم بكلّ واحد منها.

أقول : كلّ هذا من عجائب الكلام لأنّه أوّلاً : أنّه لا دخل لتطابق آراء العقلاء في المباحث العقليّة، بل الميزان فيها هو القطع الحاصل ببداهة العقل أو النظر والاستدلال وكلّ إنسان من هذه الناحية تابع لعقله ويقينه ، فلو قطع أحد بوجوب المقدّمة في مبحث وجود الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة يكون قطعه هذا حجّة عليه ولو خالفه غيره.

وبعبارة اخرى : القطع في المقام نظير القطع في الامور الحسّية فكما أنّه حجّة للقاطع في الامور الحسّية ولا يضرّ بها مخالفة السائرين ، فكذلك في الامور العقليّة البرهانية ، وقد مرّ فيما سبق أنّ النزاع في المقام ليس منحصراً في الضروريات فقط فلا دور لإجماع العقلاء وتطابقهم في حجّية القطع الحاصل من الدليل العقلي ، نعم أنّها مفيدة على حدّ التأييد وإيجاد اطمئنان القلب.

وثانياً : أنّ استدلاله لعدم الملازمة في صورة عدم تطابق آراء العقلاء باحتمال أن يكون هناك مناط لحكم الشارع غير ما أدركه العقل أو مانع يمنع عنه ـ مخالف لما هو المفروض في محلّ الكلام ، لأنّ المفروض في هذه الصورة أيضاً حصول اليقين بالحسن أو القبح ( كاليقين بحسن العدل أو قبح الظلم في صورة تطابق الآراء ) جامعاً للشرائط وفاقداً للموانع ، واليقين حجّة بذاته من دون حاجة إلى تطابق الآراء.

وثالثاً : أنّ قوله باعتبار تطابق آراء العقلاء واتّفاقهم في حكم العقل بالملازمة أشبه بالتمسّك بدليل الاستقراء الذي يرجع إلى استنباط حكم عام من مشاهدة الجزئيات والمصاديق ، مع أنّ الدليل العقلي في المقام قياس يتشكّل من صغرى وكبرى ، وعبارة عن الحركة من الكلّي إلى الجزئي.

وإن شئت قلت : إن كان الاستقراء هنا استقراءً ناقصاً لا يوجب القطع بالمصلحة أو المفسدة فلا فائدة فيه ولا يستكشف منه الحكم الشرعي ، وإن كان استقراء تامّاً يشمل حكم الشارع أيضاً ، فحينئذٍ يكون الملاك ما استكشفناه من حكم الشرع ، ولا دخل أيضاً لتطابق الآراء.

ورابعاً : أنّ الملاك في مولويّة الحكم إنّما هو صدوره من المولى بما أنّه مولى ومفترض الطاعة ، أي صدوره من ناحية مولويته ، وإذاً يمكن الجمع بين التأكيد والمولويّة ، أي يمكن تأكيد أمر مولوي بأمر مولوي آخر ، فلا يكون الأمر المولوي منحصراً في التأسيس ، كما أنّ الملاك في إرشاديّة الحكم صدوره من ناحية المولى بما أنّه ناصح مرشد ( لا بما أنّه مولى ) وحينئذٍ يكون إرشاديّاً ولو كان أوّل ما صدر من المولى ، فليس منحصراً في التأكيد فالأمر في مثل قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} أو قوله : {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} مولوي قطعاً، وإن حكم العقل أيضاً بالعدل والاحسان والقسط ، لصدوره منه تعالى بما أنّه مولى مفترض الطاعة لا بما أنّه ناصح ومرشد إلى حكم العقل.

وخامساً : أنّ قوله باستحالة حكم الشارع في مورد حكم العقل أيضاً كلام عجيب لأنّه كيف يمكن أن يكون التأكيد تحصيلاً للحاصل ، وقد قرّر في علم الكلام أنّ من غايات بعث الأنبياء تأكيد الأحكام العقليّة بواسطة التشريع ، ولم يقل أحد هناك بأنّه تحصيل للحاصل ، وقد اشتهر بينهم أنّ الواجبات الشرعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة.

وسادساً : ما اشتهر بينهم من أنّ الحسن والقبح من المشهورات المبنية على التدريب والتربيّة (والظاهر أنّهم أخذوه ممّا ذكره ابن سينا في منطق الإشارات ) (10) الظاهر أنّه من المشهورات التي لا أصل لها وكذا ما ورد في كلمات بعضهم من أنّ الحسن والقبح من الامور الإنشائيّة المجعولة من جانب العقلاء ، بل الحقّ أنّه في كثير من مصاديقها من الامور الواقعيّة البديهيّة أو ما يقرب من البداهة ولا دخل للتربية ولا للإنشاء فيهما.

توضيح ذلك : أنّ العدالة والظلم ( المذكورين في المثال ) لهما آثار في المجتمع الإنساني بل في الافراد من الصلاح والفساد لا يقدر أحد على إنكارها ، لا أقول : إنّه من قبيل « الواحد نصف الإثنين » بل أقول : إنّها تدرك بأدنى تأمّل وتفكّر ، فمن ذا الذي لا يدرك المفاسد الحاصلة من الظلم ، والمصالح والعمران والتكامل الحاصلة من العدل ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في موضوعاته ومصاديقه لا في أصله.

وإن شئت قلت : هناك امور ثلاثة : المصالح والمفاسد الحاصلة من العدل والظلم ونفس هذين الوصفين ( العدل والظلم ) ثمّ مدح العقلاء وذمّهم على فعلهما.

فالمصالح والمفاسد امور واقعيّة تكوينيّة ( مثل إراقة الدماء ومصادرة الأموال والاضطرابات الحاصلة منها وخراب البلاد والعدوان على العباد أو الهدوء والراحة وعمارة البلاد ورفاه العباد، كلّ هذه وأشباهها امور تكوينيّة ) وعلى أثر ذلك يستحسن عقل الإنسان العدالة ويستقبح الظلم من غير حاجة إلى من يعلّمه ويدرّبه أو يقوم بالجعل والإنشاء.

ثمّ بعد ذلك يمدح العادل ويذمّ الظالم ، والإنشاء إنّما هو في هذه المرحلة فقط ( أعني مرحلة المدح والذمّ ) وأمّا الاستحسان والتقبيح العقليان فهما ينشئآن عن المبادئ الحاصلة من المصالح والمفاسد الخارجيّة وكأنّ الخلط بين هذه الامور الثلاثة كان سبباً للمباني الفاسدة التي أشرنا إليها آنفاً.

وفي الواقع أنّ الحسن والقبح من المعقولات الثانويّة التي يكون محلّ عروضها هو الذهن ومنشأها في الخارج ، لا من المعقولات الأوّليّة أو الامور المجعولة المحضة.

إلى هنا تمّ البحث عن المرحلة الاولى من المراحل الثلاثة المبحوث عنها في الأدلّة العقليّة ، وهو أن يكشف العقل عن حكم الشرع ويحصل القطع به من ناحية علل الأحكام التامّة ، أي المصالح والمفاسد المقتضية لحكم الشرع مع العلم بفقدان موانعها واجتماع شرائطها.

ومن هنا يظهر الكلام في المرحلة الثانية :

وهي كشف العقل حكم الشرع من ناحية معلولات الأحكام ، أي من ناحية ثبوت العقاب وعدمه ، نظير حكم العقل في الاصول العمليّة العقليّة ، وهي ثلاثة : البراءة العقليّة ، الاحتياط العقلي والتخيير العقلي.

أمّا البراءة العقليّة : فهي مبنية على كون قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة عقليّة لا عقلائيّة ، فيستكشف من حكم العقل بقبح العقاب حكم الشارع بعدم فعلية الوجوب والحرمة الواقعيين لو كانا في البين.

وأمّا الاحتياط العقلي : فهو حكم العقل بصحّة العقاب في صورة وجود العلم الإجمالي في الشبهات المحصورة ، وكذلك في الشبهات البدويّة قبل الفحص ، فيحكم العقل بفعلية الحكم الواقعي في أطراف الشبهة في الشبهات المحصورة ، ويحكم في الشبهات قبل الفحص بأنّه لو كان هناك حكم واقعي كان فعليّاً يؤخذ العبد به.

وكذلك التخيير العقلي : فإذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة يحكم العقل بقبح العقاب لمن إرتكب الفعل أو تركه ، ويكشف من هذا الطريق عدم فعلية الحكم الواقعي الشرعي ، ففي تمام موارد جريان الاصول العقليّة يكشف العقل عن حكم الشرع من طريق نتيجة الحكم ، وهي ثبوت العقاب وعدمه ، والموضع الأصلي للبحث التفصيلي عن هذه الاصول هذا المقام ، ولكن حيث إن عادة المتأخّرين من الاصوليين جرت على أن يبحثوا عنها تفصيلاً في مبحث مستقلّ تحت عنوان الاصول العمليّة فينبغي أن نتركه هنا ونحذو حذوهم.

أمّا المرحلة الثالثة : أو القسم الثالث من الأحكام العقليّة ( وهي العلاقات والملازمات العقليّة بأن يحكم العقل بالتلازم ويحصل القطع به ) فالمبحوث عنها في الاصول هي سبعة أبواب :

1 ـ باب وجوب مقدّمة الواجب ، فيدرك العقل في هذا الباب التلازم بين وجوب المقدّمة وذي المقدّمة.

2 ـ باب اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه ، وهو فيما إذا قلنا بأنّ المسألة عقليّة لا لفظيّة (كما قال به بعض ).

3 ـ باب اجتماع الأمر والنهي فإنّ القائلين بعدم الجواز يعتقدون بأنّ الأمر يلازم عدم النهي دائماً ، وكذا العكس فلا يجتمعان في شيء واحد ولو بعنوانين.

4 ـ باب الأهمّ والمهمّ ، فيحكم العقل بوجود الملازمة بين أهمّية شيء وفعلية حكمه وتقديمه على المهمّ.

5 ـ باب قياس الأولويّة ، فيحكم العقل بوجود الملازمة بين حرمة مرتبة نازلة من الشيء أو الفرد الأدنى منه مثلاً وبين حرمة المرتبة العالية أو الفرد الأعلى منه.

6 ـ باب الأدلّة النهي على الفساد بناءً على كون الدليل عليه عقليّاً كما هو المعروف فيدلّ العقل على وجوب الملازمة بين النهي عن عبادة وفسادها.

7 ـ باب الإجزاء فيبحث فيه عن وجود الملازمة بين الأمر بشيء وإجزائه.

ثمّ إنّ غالب هذه المسائل يبحث عنها في مباحث الألفاظ مع أنّ جميعها من الملازمات العقليّة ولذلك نقول : أنّ اصولنا وإن تكاملت في مفرداتها إلاّ أنّه ليس لها نظم سليم منطقي.

وحيث إنّه مرّ البحث في هذه المسائل السبعة في أبواب الألفاظ فلا وجه لتكرارها هنا.

ثمّ إنّه سيأتي إن شاء الله قياس المنصوص العلّة ليست من الأدلّة العقليّة بل هو دليل لفظي ، لأنّ كبراه مقدّرة في اللفظ ، ففي مثل « الخمر حرام لأنّه مسكر » يكون المقدّر « وكلّ مسكر حرام» والقرينة قائمة عليه.

إلى هنا تمّ الكلام في الأدلّة العقليّة القطعيّة.

___________________________
1. وقد جاء التمثيل لهذا في بعض الكلمات بقول القائل: «سأكذب غداً» فإنّ كذبه غداً قبيح من باب قبح الكذب وحسن من باب الوفاء ، ولكن يرد عليه أنّه مغالطة واضحة فإنّ وجوب الوفاء يختصّ بما إذا كان المتعلّق راجحاً.

2- اصول الفقه للعلاّمة المظفّر.

3- اصول الكافي : باب العقل والجهل ، ح 12.

4- المصدر السابق : ح 22.

5- وسائل الشيعة : الباب 12 ، من أبواب صفات القاضي ، ح 60.

6- اصول الفقه : المجلّد الأوّل ( ص 237 ، طبع دار النعمان بالنجف ، الطبعة الثانية ) للعلاّمة المحقّق الشيخ محمّد رضا المظفّر رحمه ‌الله.

7- اصول الفقه : ص 239 ـ 240.

8- المصدر السابق : ص 225.

9- المصدر السابق : ص 237.

10- بناءً على ما نقله عنه في اصول الفقه : المجلّد الأوّل ، ص 225 ، من الطبع القديم ( دار النعمان بالنجف ).




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.