أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-3-2016
15367
التاريخ: 25-3-2016
2742
التاريخ: 22-4-2017
3494
التاريخ: 17-4-2017
2606
|
هو النشاط المادي الخارجي الذي يأتيه الجاني فيتدخل القانون للعقاب عليه ويطلق عليه الفقهاء (الفعل) أو (النشاط الإجرامي) أو غير ذلك من التعبيرات التي تؤدي المعنى نفسه، وهذا النشاط أمر ضروري لكي تتحقق الجريمة(1) وبغير حدوث هذا النشاط فإن المشرع لا يتدخل بالعقاب، فكل ما لا ينطبق عليها وصف النشاط الإجرامي لا يكون محلاً للتجريم، وعلى ذلك فالأفكار التي تدور في ذهن الفرد بشأن ارتكاب جريمة الإيذاء العمد بل وتصميمه على ارتكاب جريمة الاعتداء على حق الإنسان في التكامل الجسدي لا تعد من قبيل النشاط الإجرامي، ولذا فهي ليست محلاً للمساءلة الجنائية، إذ أن ما يدور داخل النفس لا شأن للقانون به(2)، لأن القانون لا يعاقب على مجرد النوايا والرغبات والشهوات، ويختلف هذا النشاط من جريمة عنها في أخرى فهو في القتل يتمثل في فعل إزهاق الروح وفي جرائم الاعتداء على حق الإنسان في التكامل الجسدي في فعل المساس بسلامة الجسم وقد يكون السلوك الإجرامي نشاطاً إيجابياً أي ارتكاباً ويتحقق عند قيام الجاني بعمل يحرمه القانون كالضرب أو الجرح أو إعطاء مادة ضارة أو العنف أو بارتكاب أي فعل آخر يخالف القانون كما في جرائم الإيذاء التي تعد من الأمثلة على جرائم الاعتداء على الحق في التكامل الجسدي، والسلوك الإجرامي الإيجابي هو شأن غالبية الجرائم وقد يكون موقفاً سلبياً أي تركاً ويتحقق عند امتناع الجاني عن أداء عمل يأمر به القانون وأن يكون في استطاعة الممتنع عنه القيام به بإرادته كامتناع الممرضة في رعاية مرضاها بقصد الإيذاء، ويتمثل النشاط الإجرامي في العمل وذلك فيما إذا استخدم الفاعل فيه أجزاء جسمه كأن يستعمل يده في الضرب، وقد يتمثل هذا النشاط بالقول أو الكتابة أو ما إليها كالصور والرموز في جرائم القذف والسب وإفشاء الأسرار وغيرها(3).
والسؤال الذي يطرح هنا هو:
ما هي صور سلوك جرائم الاعتداء على حق الإنسان في التكامل الجسدي؟
تبعاً لما تقدم فإن الجاني لا يسأل عن جريمة الاعتداء على الحق في التكامل الجسدي ما لم يصدر منه سلوك يجرمه الشارع، ويتخذ السلوك الإجرامي للاعتداء المذكور على وفق قانون العقوبات العراقي صوراً متعددة وتكون على مستوى واحد من المساواة ولا يرجع السبب في ذلك إلى الشكل الذي يحصل بواسطته سلوك الاعتداء وإنما يعود إلى ما ينجم عن هذا السلوك من مساس بجسم المجني عليه نتيجة إلى تلك الصور من الاعتداء والذي تتحدد عقوبته بحسب جسامة الإيذاء(4). إن الصور التي أوردها المشرع في قانون العقوبات العراقي في المواد (412 – 415) منه هي:
أولاً: الجرح: لم ينص قانون العقوبات العراقي على تعريف الجرح، والبعض من الفقهاء يعرفه بأنه (مساس بنسج الجسم تؤدي إلى تمزيقها)(5). وبالمعنى نفسه أنه (إحداث قطع أو شق أو تمزيق بنسج جسم المجني عليه أياً كانت جسامته)(6) سواءً أكان سطحياً أم عميقاً ضيقاً أم عريضاً خارجياً كالتسلخ والحروق أم داخلياً كتمزيق الكلى والكبد والمعدة والأمعاء، ولا تعد الإصابة جرحاً إذا لم يترتب عليها تمزيق النسج في جسم المجني عليه، وهذا ما يفرقها عن الضربات لأن الاثنان يقعان على مادة الجسم والأولى دون الثانية تسبب تمزيق النسج فيطلق على الإيذاء في تلك الحالة بالجروح، فقد قضت محكمة التمييز في العراق: (إذا طعن المتهم المشتكي بسكين كان يحملها لهذا الغرض وأحدث له جروح في ظهره فإن الفعل ينطبق على الفقرة (3) من المادة (413) عقوبات)(7). يتحقق الجرح بقطع الجلد أو ببتر جزء من الجسم، وتطبيقاً لذلك جاء في قرار المحكمة المذكورة آنفاً: (أن بتر جزء من الإصبع يشكل عاهة مستديمة)(8). ويتحقق الجرح أيضاً بمجرد إحداث فتحة صغيرة كوخز إبرة وفي كل ذلك لا يعد نزف الدم إلى الخارج شرطاً لإحداث الجروح فربما ينتشر تحت الجلد ويصبح أزرق اللون، ولا يعتد بالوسيلة التي تحدث الجروح سواءً استخدم الجاني السلاح الناري أو أعضاء جسمه كالأسنان، فقد قضت محكمة التمييز في العراق بأن (عض المشتكية وكيها بالسيجارة يعد إيذاءً منطبقاً على المادة 413 عقوبات)(9). وفي كل ما تقدم لا يشترط في الجرح أن يكون مؤلماً فربما لا يشعر المجني عليه بألم كما لو كان مغمى عليه أو مخدر ويعد كسر العظم من الجروح لأنه يؤدي إلى تهتك النسج الذي يغطي العظم فضلا عن ذلك يفضي إلى تجزئته(10).
ثانياً: الضرب: هو كل مساس أو تأثير بنسج الجسم للمجني عليه من خلال الضغط دون تمزيقه أو قطعه(11). والمساس الحاصل في صورة الضرب يعني الإخلال بحالة الهدوء والاسترخاء التي تتمتع بها نسج الجسم الطبيعي قبل الضرب فإذا لم يكن هذا الضغط الخارجي قاطعاً أو ممزقاً للنسج عد من قبيل الضرب ويخرج من نطاق الجروح، وبالنسبة للوسيلة التي يقع الضرب بوساطتها لا عبرة بها أياً كانت فقد يقع بالصفع أو اللكم أو الركل أو الوساطة كما لو استخدم الجاني حيوانا يحرشه باتجاه المجني عليه أو باستخدام الجاني للعصا، فقد جاء في قرار لمحكمة التمييز في العراق بأن (الإيذاء الواقع باستعمال العصا يعاقب مرتكبه بالحبس)(12). لا يشترط أن يكون جسم المجني عليه ساكناً وتكون الحركة من نصيب الجسم الخارجي فقد يقع الجسم على الأرض نتيجة دفع المجني عليه من قبل الجاني وتطبيقاً لذلك فقد قضت محكمة التمييز في العراق بأن (الإيذاء الواقع بالزوجة يعاقب مرتكبه على وفق المادة 413 عقوبات)(13).وذلك في قضية تتلخص وقائعها بقيام أحد الأزواج أثناء مشاجرة مع زوجته بدفعها على الأرض وأصابها بأضرار، ومن الجدير بالذكر لا يشترط في الضرب أن يكون على درجة معينة من الجسامة فهو يخضع للعقاب مهما كان بسيطاً وغير تارك لأثر لأن التفرقة بين جسامة الاعتداء من المسائل الموضوعية التي يترك أمر تقديرها لقاضي الموضوع.
ثالثاً: إعطاء مادة ضارة: لم يعرف القانون المادة الضارة واكتفى بوصفها، ويمكن القول بأن المادة الضارة هي تلك التي تسبب اضطراباً في صحة المجني عليه الجسمية أو العقلية أو النفسية عندما يجعلها الجاني بسلوكه تحت متناوله فتحدث إخلالاً بصحته، وعليه يفترض في هذه الصورة لسلوك الإيذاء أن تنطوي على شقين، الأول أن يتخذ السلوك صورة الإعطاء والثاني أن يكون موضوع الإعطاء لمادة ضارة. وسنتولى دراسة ذلك وكما يأتي:
أ- ماهية المادة الضارة:
إن تحديد ماهية المادة الضارة يتماشى مع تحديد صحة الإنسان وحقه في التكامل الجسدي، فكون المادة ضارة ناجم عن إخلالها بصحة البدن وكون صحة البدن تعرضت للاضطراب الناجم عن كون المادة ضارة، لذا نوضح معنى الصحة وكيفية حدوث الإضرار بها، إذ أن الصحة وصف يطلق على السير الطبيعي لوظائف الأعضاء أو الحياة في الجسم، فتعد المادة ضارة عندما تأخذ بالحسبان الأثر النهائي الذي تحدثه وتعكسه هذه المادة على صحة المجني عليه ثم مقارنة ذلك الأثر بالحالة التي كان عليها سير وظائف الحياة قبل تناول تلك المادة من خلال الإعطاء، فإذا كانت النتيجة تتمثل في ابتعاد السير الاعتيادي لهذه الوظائف عن السبيل السابق الذي تقتضيه وتحدد القوانين الطبيعية قبل الإعطاء تعد المادة ضارة وتعد عكس ذلك إذا لم يبتعد السير الاعتيادي لوظائف الأعضاء عن سابق أوانه قبل الإعطاء ولا تعد ضارة كذلك إذا كانت قد أحدثت اضطراباً عارضاً في صحة المجني عليه ثم أدت في نهاية الأمر إلى تحقيق تحسن في صحته أو بقائها(14) على ما كانت عليه قبل الإعطاء(15). ويختلف تحديد المادة الضارة في جرائم الإيذاء العمد عن تحديد المادة السامة في جريمة القتل بوساطة السم، إذ يشترط في القتل بالسم أن تكون المادة بطبيعتها سامة فضلاً عن اتجاه إرادة الجاني إلى إزهاق روح المجني عليه، أما المادة الضارة في جرائم الإيذاء لا يشترط أن تكون سامة بطبيعتها مادام إعطائه يؤدي إلى الإخلال بالصحة ولا يتعداه إلى إزهاق روح المجني عليه، لذا عندما تكون المادة سامة بطبيعتها فإن محور التفرقة بين جريمتي الإيذاء والقتل يكمن في النية أي قصد الجاني عند ارتكابه الجريمة فنكون إزاء إيذاء عمد إذا اتجهت إرادة الجاني إلى مجرد الإيذاء باستخدام تلك المادة وإزاء جريمة قتل بالسم إذا اتجهت الإرادة إلى إزهاق الروح، وفي تلك التفرقة أهمية كبيرة لاسيما إذا علمنا أن بعض التشريعات العقابية تعاقب على جريمة قتل بالسم بمجرد الشروع(16). وعن تحديد المادة بكونها ضارة أم لا يعود إلى قناعة القاضي التي يكونها من ملابسات الموضوع وتقارير الخبراء بالركون إلى الأثر النهائي الذي ترتبه على الصحة بغض النظر عن شكل المادة إذ لا عبرة له في نظر القانون.
ب-تحديد الإعطاء:
لم يحدد القانون صورة معينة للإعطاء فهو ذو دلالة واسعة وينصرف إلى كل سلوك يأتيه الجاني من شأنه أن يجعل المادة الضارة في متناول المجني عليه فتصل إلى جسمه وتحدث أثرها السيئ عليه، فقد يتم الإعطاء من قبل الجاني مباشرةً أو يستعين بشخص آخر، و لربما يكون الأخير المجني عليه نفسه لو تم تناولها وهو يعلم بخصائصها الضارة وتناولها عن علم كي يحقق غرضاً معيناً أو كان يجهل ضررها عليه فيتناولها مخدوعاً معتقداً أنها ذات نفع له نتيجة إيهام الجاني أو إرغامه على تعاطي المادة الضارة بالإكراه أو التهديد. ولا يشترط التسليم في الإعطاء بل من الممكن أن يكون بأية وسيلة تجعل المادة الضارة في متناول المجني عليه كما لو وضعت في مكان يرجح فيه أن السير العادي للأمور يؤدي إلى تناولها من قبل المجني عليه كما لو امتزجت بدوائه أو شرابه، أما عن الكيفية التي يتم تناول المادة الضارة من خلالها فلا يعتد بها سواءً تناولها المجني عليه من خلال الأنف كما لو استنشقها أو الفم أو تسربت من خلال الجلد كما لو تم وضعها عليه وتسربت إلى جسمه من خلال المسامات، فكلها على مستوى واحد من المساواة عندما تكون المادة الضارة تؤدي إلى اعتلال في صحة المجني عليه الناجم عن سلوك الإعطاء الذي سبب الضرر الصحي(17).
رابعاً: العنف: هناك صور من السلوك تصيب سلامة جسم المجني عليه ولا يمكن إدخالها ضمن الصور المار ذكرها على وفق المعنى الاصطلاحي الدقيق لكنها تحدث خللاً للمجني عليه في قوته الجسدية أو العقلية أو النفسية فتسبب له إزعاجاً أو رعباً شديداً، لذلك نص قانون العقوبات العراقي على تجريم هذا السلوك الإجرامي والذي يسمى بالعنف(18)، ومن أمثلته الإمساك بشدة بجسم المجني عليه أو دفعه بجسم صلب أو قص الشعر أو شواربه أو الخنق أو الضغط على الأعضاء أو إطلاق النار في الهواء مع التلويح بالتصويب نحو المجني عليه أو تفجير مفرقعات بالقرب منه أو إطلاق أصوات مزعجة، كل ذلك يدخل في وصف العنف(19)، وضمن نطاق تجريم سلوك الإيذاء العمد على قدم المساواة مع باقي صور السلوك الأخرى ويحدد لها العقاب ذاته لكي تكفل حماية كاملة لسلامة الجسم.
خامساً: ارتكاب أي فعل مخالف للقانون: يصاب الحق في التكامل الجسدي بصور أخرى من السلوك الإجرامي التي يتعذر إدخالها في مفهوم الضرب والجرح وإعطاء المواد الضارة والعنف فأضيف مصطلح ارتكاب أي فعل مخالف للقانون للنصوص الخاصة بجرائم الإيذاء لكي يتسع نطاق التجريم لكل صور السلوك التي تفضي إلى تحقيق الإيذاء بالمجني عليه، وقد أحسن المشرع العراقي بإضافة هذه العبارة لأنها توسع من نطاق الحق في سلامة الجسم على أنه ينبغي ملاحظة تجريم الإيذاء المعنوي تحت هذه العبارة عندما يشكل مساساً بسلامة الجسم، فصور الإيذاء السالفة نعتقد بقصورها عن استيعاب تجريم سلوك من يقتحم مسكناً في الليل توجد فيه امرأة بقصد إشباع رغبة جنسية فتصاب بالرعب وتتعرض لانهيار عصبي من جراء ذلك، فيمكن القول بأن ارتكاب أي فعل مخالف للقانون من بين صور الإيذاء الأكثر رجاحة إذا لم تكن الفريدة في استيعاب تجريم الإيذاء الواقع على المرأة في المثال سابقاً أو كما لو قام الجاني بخدش مشاعر المجني عليه بكلام جارح(20) مما أفضى إلى إصابته بنوبة قلبية تحدث شللاً نصفياً في جسمه.
السؤال الذي يطرح: هل تتحقق جرائم الاعتداء على حق الإنسان في التكامل الجسدي بالامتناع؟ لدى الاطلاع على صور السلوك الإجرامي في جرائم الاعتداء على حق الإنسان في التكامل الجسدي التي نص عليها قانون العقوبات العراقي في المواد (412 – 415) منه يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أنها لا تتحقق إلا بالارتكاب ولكن قد يتوصل الجاني بالامتناع إلى تحقيق الاعتداء على سلامة الجسم والذي يحصل عادة بسلوك إيجابي. إن الإيذاء بالامتناع يتنازعه في الفقه اتجاهين، الاتجاه الأول يرى أن الامتناع لا يصلح أن يكون سلوك الاعتداء في الإيذاء العمد وهذا الاتجاه هو الغالب في فرنسا ويؤيده جانب من الفقه المصري الذي يرفض فكرة قيام الامتناع لتكوين سلوك الإيذاء العمد وإمكانية ذلك في غير العمد، ويستند أصحاب هذا الرأي في كون النصوص لا تسمح بمساءلة الممتنع كما لو ارتكب الإيذاء العمد بسلوك إيجابي والقول بعكس ذلك يشكل انتهاكاً لمبدأ (قانونية الجرائم والعقوبات) ويعترف هذا الرأي بما يسببه ذلك القول من انتهاك للضمير والعدالة(21). ولا يعترف أصحاب هذا الاتجاه في فرنسا ومصر بما أورده المشرع من نصوص تعاقب الممتنع الذي يتسبب عن امتناعه مساس بجسم الغير ويعدون ما يرد على لسان المشرع في هذه النصوص من قبيل الجرائم الخاصة والنص عليها يؤكد أن الامتناع لا يساوي السلوك الإيجابي في قيام الجريمة(22). أما الاتجاه الثاني فيعترف بصلاحية الامتناع قيام سلوك الإيذاء العمد حاله حال السلوك الإيجابي على السواء وإذا كان هذا هو الخط العريض في ذلك الاتجاه فيمكن التمييز داخله بين رأيين:
الرأي الأول: يرى أصحاب هذا الرأي بصلاحية الامتناع لقيام السلوك الإجرامي في الإيذاء العمد عند توافر بقية أركانه، ويذهب هذا الرأي إلى المساواة بين الارتكاب والامتناع بصورة مطلقة(23).
الرأي الثاني: يرى أصحاب هذا الرأي عدم قيام المسؤولية قبل الممتنع الذي يتسبب بامتناعه المساس بسلامة جسم المجني عليه إلا إذا كان على الممتنع واجب قانوني يقضي بأن يتدخل لمنع حصول هذا الاعتداء، والواجب القانوني قد يكون مصدره القانون كالواجب المفروض على الممرضة في رعاية مرضاها، أو الاتفاق كواجب الدليل في إرشاد مخدومه البصير، فإذا امتنع الشخص عن القيام بواجبه قاصداً إحداث المساس بجسم المجني عليه يُسأل عن جريمة الإيذاء العمد تكون عقوبتها بحسب نتيجة الإيذاء الحاصل من جراء ذلك(24).
أما بالنسبة للمشرع العراقي فقد نص في المادة (34) من قانون العقوبات العراقي بأن (تكون الجريمة عمدية إذا توفر القصد الجرمي لدى فاعلها، وتعد الجريمة عمدية كذلك –أ- إذا فرض القانون أو الاتفاق واجباً على شخص وامتنع عن أدائه قاصداً إحداث الجريمة التي نشأت مباشرةً عن هذا الامتناع).
من دراسة نص هذه المادة يتبين لنا صلاحية الامتناع لقيام السلوك المادي في جرائم الاعتداء على حق الإنسان في التكامل الجسدي متى كان سبباً مباشراً(25) في حدوث النتيجة ومخالفا لواجب قانوني أو الاتفاق، ولعل الأمثلة التي يمكن ذكرها في هذا المجال لا حصر لها كالدليل الذي يمتنع عمداً عن إرشاد مخدومه البصير فيؤدي به إلى السقوط في حفرة فتكسر قدمه، أو الشخص الذي يمتنع عن رد كلبه لدى مهاجمته أحد الأشخاص بقصد تحقيق المساس بسلامة جسمه أو الممرضة التي تمتنع عن إعطاء الدواء للمريض الذي تحت رعايتها بقصد إيذائه. ونلاحظ أن الواجب القانوني له أهمية خاصة في نطاق جرائم الامتناع، فمنذ أن بحث الفقهاء هذه الجرائم وفقاً للصيغ القانونية فإنهم يشترطون عنصر الإلزام في تحقق جرائم الامتناع. مادمنا بشأن بحث سلوك الاعتداء ونتساءل عن صلاحية الوسيلة المعنوية لقيام الركن المادي في الاعتداء على التكامل الجسدي إذا أصيب المجني عليه إثر تعرضه لفعل اعتداء غير مادي مثل الترويع وخلق الرعب وسرد الأنباء المزعجة وتوجيه الإهانات الشديدة وخلق الخوف كالتصويب بمسدس دون إطلاق النار، وغيرها من الأمثلة، فقد انقسم الفقه في هذه المسألة على اتجاهين:
الاتجاه الأول: ينكر أصحابه قيام الركن المادي للإيذاء العمد بالوسائل المعنوية لأنه يتطلب المساس بجسم المجني عليه ولا يغنى عنه الإيذاء بنفسه وطبقاً لذلك أن التعذيب أو الإيلام النفسي لا يعد من قبيل الاعتداء الذي يعاقب عليه القانون وأن الوسائل المعنوية التي تقوم بأقوال أو إشارات لا تؤثر في جسم المجني عليه مهما كانت جسامتها وأيا كان أثرها على نفس المجني عليه، ويستند أصحاب هذا الاتجاه في تدعيم موقفهم إلى الحجج الآتية:
أ-أن النصوص القانونية قاصرة عن استيعاب وسائل الإيلام النفسي لقيام الإيذاء العمد لأنها تتطلب عملاً مادياً يقع على الجسم. حتى عند قيام قصد الإيذاء والرابطة السببية وتوفر الأدلة عليها.
ب-من العسير جداً إثبات توافر علاقة السببية بين وسيلة الإيلام النفسي والأذى الذي ينال من جسم المجني عليه، لأنه بحسب المجرى العادي للأمور ليس من شأن الاعتداء بالوسائل المعنوية المساس بجسم المجني عليه فضلاً عن صعوبة إثبات توافر القصد الجرمي فيها(26).
الاتجاه الثاني: يأخذ هذا الاتجاه بصلاحية الوسيلة المعنوية لقيام فعل الإيذاء العمد ويدعم مسلكه بتفنيد حجج الاتجاه السالف بيانه فالحجة بكون النصوص لا تساعد على توسيع نطاق الأفعال الماسة بسلامة الجسم لتشمل الوسيلة المعنوية، يرى أصحاب الاتجاه الثاني أن القانون لا يشترط لتحقيق النتيجة الجرمية أن تكون الوسيلة معنوية أم مادية فلا أهمية بذلك للوسيلة من حيث قيام فعل الاعتداء بالإيذاء فهي على السواء إن كانت مادية أم معنوية(27). ويذكر أصحاب هذا الاتجاه لتفنيد الحجة التي تتضمن بوجوب أن تكون الأفعال التي تحدث إيلاماً نفسياً ذات طبيعة مادية حتى وإن دخلت في نطاق التجريم، إذ يفند أصحاب الاتجاه الثاني هذه الحجة بأن معيار الطبيعة المادية للسلوك هو أن يحدث آثاراً خارجية تلمسها الحواس وتحدث هذه الأخيرة تغييراً مادياً للأوضاع الخارجية، وكل ذلك ينطبق على وسائل الإيلام النفسي ليجعل منها ذات طبيعة مادية فهي يمكن لمسها بالحواس فضلاً عن كونها تحدث تغييراً مادياً للأوضاع الخارجية وتكون الأخيرة في شكل موجات صوتية أو علامات مادية ظاهرة كما في الكتابة أو الإشارة(28). أما عن صعوبات الإثبات المتعلقة بالرابطة السببية والقصد الجرمي يرى أصحاب الاتجاه الثاني بأن هذه الحجة (صعوبة الإثبات) لا تمنع من عد الوسيلة المعنوية صالحة لتكوين الركن المادي في جرائم الاعتداء على حق الإنسان في التكامل الجسدي ويذهب هذا الاتجاه بأنه إذا قررنا أن الإثبات بهذه الوسيلة لقيام الإيذاء العمد عسيراً فإن هذه المشكلة من المسائل الشكلية التي لا ينبغي أن تحول دون القول بصلاحية الإيلام النفسي لارتكاب جرائم الاعتداء على سلامة الجسم لعدم وجود حائل قانوني. إن الاتجاه الثاني الذي يأخذ بصلاحية الوسيلة المعنوية لقيام الإيذاء العمد قد وسع من حق الإنسان في التكامل الجسدي ولم نجد قرار قضائي في العراق يتضمن عقوبة عن جريمة الاعتداء على حق الإنسان في سلامة جسده بالوسيلة المعنوية. وتجدر الإشارة أن الاتجاه الثاني يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية في إمكانية قيام فعل الاعتداء في جناية ما دون النفس عمداً بوسائل معنوية، كمن يذعر رجلاً ويصاب بشلل أو يذهب عقله أو يسقط فيجرح، وفي هذا المجال روي عن رسول الله e وهو يصون الحياة الإنسانية من مظاهر الترويع والإخافة بأن (من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي)(29). ومن التشريعات التي أخذت بصلاحية الوسائل المعنوية لتكوين الركن المادي في جرائم الاعتداء على سلامة الجسم، ومن هذه الوسائل نقل خبر مفجع لمريض أو العمل على إيصال أخبار كاذبة تؤثر على صحة المريض، فإذا ما ترتب على ذلك حدوث خلل في وظائف الجسم كان بمثابة المساس بسلامة الجسم(30)، هو القانون الفرنسي الصادر عام 1863 وإن لم يصرح القانون بذلك مباشرة وبصريح العبارة لكن يمكن القول أنه شملها ضمناً فقد ساوى المشرع الفرنسي في هذا القانون بين الجرح والضرب وأنواع التعدي والإيذاء الأخرى التي لا تمس جسم المجني عليه مباشرةً ولكنها تسبب الإزعاج الشديد له الأمر الذي ينطبق على هذه الوسائل. أما المشرع المصري فقد استعمل ألفاظ الجرح والضرب وإعطاء المادة الضارة ولم ينص على عبارة شاملة لتجريم الاعتداء على سلامة الجسم، فالأمر لا يتوقف عن قصور استيعاب الوسائل المعنوية في جرائم الإيذاء العمد فحسب وإنما عن استيعاب أنواع الإيذاء المادية التي لا تمس جسم المجني عليه مباشرةً كمن يطلق عياراً نارياً بجوار المجني عليه فيصيبه بأذى فألفاظ نص قانون العقوبات المصري لا تتضمن تجريم الجاني في هذه الحالة كما في الوسيلة المعنوية(31). ونؤيد الاتجاه الثاني للحجج المنطقية التي أثارها أصحاب هذا الاتجاه ومن أجل أن لا يفلت المجرم من العقاب. إن وسيلة الفعل المعنوي أو ما يسمى بارتكاب الجريمة بوسيلة نفسية أو معنوية وأثره في بلوغ النتيجة الجرمية وإثبات هذه السببية بين الوسيلة المعنوية والنتيجة الجرمية هي مسألة فنية يقول الطب فيها كلمته في كل قضية على حدة، بيد أن الفقه المصري والسوري والألماني والسويسري والروسي فإن الغالب فيه عدم التفرقة في المعاقبة على جرائم الاعتداء على سلامة الجسم بين أن يقع بوسيلة مادية أو نفسية(32). فليس من العدل في شيء أن يفلت من العقاب مجرما يلقي على مسامع مريضٍ ما خبراً مؤلماً ويكون عالماً بأن حالته الصحية لا تحتمل ذلك قاصداً إيذاءه.
______________________
1- حول خصائص السلوك الإجرامي أنظر:
Cross and Jones, Introduction to Criminal Law, 8th ed., London, 1976, p.I.
2- الدكتور سمير الجنزوري، الأسس العامة لقانون العقوبات مقارناً بأحكام الشريعة الإسلامية، مطبعة دار نشر الثقافة، شارع كامل صدقي، 1977، ص272.
3- الدكتور أكرم نشأت إبراهيم، القواعد العامة في قانون العقوبات المقارن، الطبعة الأولى، مطبعة الفتيان، بغداد، 1998، ص168.
4- الدكتور أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات، القسم الخاص، مصدر سابق، ص611.
5- الدكتور محمود نجيب حسني، قانون العقوبات، القسم الخاص، جرائم الاعتداء على الأشخاص، مطبعة جامعة القاهرة، 1978، ص194.
6- الدكتور عبد الحميد الشواربي، المصدر السابق، ص292.
7- رقم القرار 478/جزاء ثانية /1981 في 2/5/1981، الأحكام العدلية، العدد الثاني، السنة الثانية عشر، ص116.
8- رقم القرار 457/ تمييزية/ 1975 في 7/6/1975، الأحكام العدلية، العدد الثاني، السنة السادسة، 1975، ص247.
9- رقم القرار 1042/تمييزية/ 1973 في 21/3/1973، النشرة القضائية، العدد الثاني، السنة الرابعة، ص376.
10- الدكتور محمود محمود مصطفى، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، الطبعة الثامنة، مطبعة جامعة القاهرة، 1982، ص231؛ والدكتورة فوزية عبد الستار، قانون العقوبات، القسم الخاص، الطبعة الثانية، مطبعة جامعة القاهرة، دار النهضة العربية، 1988، ص151.
11- الدكتور عوض محمد، المصدر السابق، ص147.
12- رقم القرار 827/ تمييزية/ 72 في 21/8/1972، النشرة القضائية، العدد الثالث، السنة الثالثة، 1975، ص220
13- رقم القرار 1022/تمييزية/72 في 3/12/1972، النشرة القضائية، العدد الثاني، السنة الثالثة، ص209.
14- الدكتور ماهر عبد شويش، قانون العقوبات، القسم الخاص، الطبعة الأولى، مديرية دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل، 1988، ص225.
15- الدكتور ماهر عبد شويش، المصدر السابق، ص225.
16- الدكتور سليم إبراهيم حربة، المصدر السابق، ص221.
17- الدكتور محمد سامي السيد الشوا، الحماية الجنائية للحق في سلامة الجسم، جامعة الزقازيق، 1986، ص242؛ والدكتور عبد المهيمن بكر سالم، قانون العقوبات، القسم الخاص، دار النهضة العربية، القاهرة، 1977، ص616؛ والدكتور عبد الحميد الشواربي، المصدر السابق، ص293.
18- أنظر المواد (412 – 416) من قانون العقوبات العراقي.
19-الدكتور حميد السعدي، جرائم الاعتداء على الأشخاص، مطبعة المعارف، بغداد، 1965، ص404.
20- إن دخول المسكن بدون رضا صاحبه يعاقب عليه قانون العقوبات العراقي في المادة (428/1) وعاقب القانون المذكور على القذف والسب في المواد (433 – 436) منه وهذه الأفعال (دخول المسكن والقذف والسب) لا تعد ضرباً أو جرحاً أو إعطاء مادة ضارة أو عنف.
21- الدكتور جلال ثروت، نظرية الجريمة متعدية القصد، دار المعارف، الإسكندرية، 1964، مصدر سابق، ص74.
22- الدكتور محمد الفاضل، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، مطبعة جامعة دمشق، دمشق، 1959، ص157.
23- الدكتور محمود محمود مصطفى، شرح قانون العقوبات، القسم العام، الطبعة العاشرة، 1983، مصدر سابق، ص271.
24- الدكتور جلال ثروت، نظرية الجريمة متعدية القصد، المصدر السابق، ص72.
25- الدكتور سليم إبراهيم حربة، المصدر السابق، ص48؛ الدكتور مزهر جعفر عبد، جريمة الامتناع في التشريع العراقي، دراسة مقارنة، الطبعة الأولى، بغداد، 1987، ص225.
26- الدكتور حسن محمد أبو السعود، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، مطبعة الرشيد، بغداد، 1943، ص159؛ والدكتور محمد زكي أبو عامر، قانون العقوبات، القسم الخاص، القاهرة، 1989، ص416.
27-الدكتور جلال ثروت، جرائم الاعتداء على الأشخاص، القسم الخاص، الجزء الأول، الدار الجامعية للطباعة، الإسكندرية، 1984، ص353.
28-الدكتور محمود نجيب حسني، قانون العقوبات، القسم الخاص، المصدر السابق، ص212.
29- الشيخ عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنة بالقانون الوضعي، الجزء الثاني، القسم الخاص، المصدر السابق، ص209.
30- الدكتور محمد الفاضل، الجرائم الواقعة على الأشخاص، الطبعة الثانية، مطبعة جامعة دمشق، دمشق، 1963، ص475.
31- أنظر المواد (236، 240، 241، 242) من قانون العقوبات المصري.
32- الدكتور محمد الفاضل، الجرائم الواقعة على الأشخاص، الطبعة الثانية، المصدر السابق، ص476.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|