أقرأ أيضاً
التاريخ: 24/9/2022
1826
التاريخ: 29-7-2016
2284
التاريخ: 1-2-2022
4182
التاريخ: 2-2-2022
2481
|
تنويه :
من الواضح أنّ التواضع يشكل النقطة المقابلة للتكبّر والغرور ، ومن العسير الفصل الكامل بين هذين البحثين ، ولذلك نجد أنّ هذين البحثين متلازمين في الآيات والروايات الإسلامية وكذلك في كلمات علماء الأخلاق ، فإنّ ذم أحدهما يلازم مدح الآخر ، وكذلك العكس فإنّ عملية التمجيد والثناء على التواضع يستلزم كذلك ذم التكبّر ، وهذا من قبيل مدح العلم والثناء على العالم والمتعلم الّذي يقترن دائماً مع ذمّ الجهل وتوبيخ الجاهل.
وعلى كلّ حال فإنّ هذا الكلام لا يعني أنّ بحثنا المتعلق بالتواضع هذا سيكون في زاوية النسيان ونكتفي بذم التكبّر وبيان قبائح وعواقب هذه الصفة الذميمة لا سيّما أن بين التكبّر والتواضع نسبة الضدّين. لا النقيضين أي أنّ التكبّر كما انه صفة وجودية فكذلك التواضع صفة وجودية نفسانية أيضاً ويقعان على الضد من الآخر في واقع الإنسان ونفسه ، وليسا من قبيل الوجود والعدم الّذي يستلزم بالضرورة وجود أحدهما عدم الآخر بالتبع.
وفي الروايات الإسلامية نجد إشارة إلى هذا المعنى أيضاً ومن ذلك قول الإمام علي (عليه السلام) : «ضَادُّوا الْكِبْرَ بِالتَّواضُعِ» ([1]).
مع هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته ما يتعلق بمسألة التواضع ونختار منها ما يُلقي الضوء على هذا البحث المهم رغم وجود آيات كثيرة تبحث هذا الموضوع بالكناية أو بالملازمة.
1 ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ...)([2])
2 ـ (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)([3]).
3 ـ (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)([4]).
تفسير واستنتاج :
«الآية الاولى» من الآيات مورد البحث تتحدّث عن مجموعة من المؤمنين الّذين شملتهم رعاية الله وعنايته فكانوا يحبون الله ويحبهم ، وإحدى الصفات البارزة لهؤلاء أنّهم يتعاملون مع أخوانهم المؤمنين من موقع التواضع والمودّة (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وكذلك في المقابل (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ).
(اذِلَّةٍ) جمع «ذلول» و«ذليل» ، ومن مادة «ذُل» على وزن حُر ، وهي في الأصل بمعنى الملائمة والتسليم والليونة والانعطاف في حين أنّ كلمة «اعِزَّة» جمع «عزيز» ومن مادّة «عزة» وتأتي بمعنى الشدّة والصلابة ، ويقال للحيوانات المطيعة «ذلول» لأنها ملائمة ومسلّمة للإنسان ، و«تذليل» في الآية الشريفة «ذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً» إشارة إلى هذا المعنى، وهو سهولة اقتطاف ثمارها ثمار الجنّة ، وأحياناً تُستخدم كلمة «ذِلّة» في موارد سلبية وذلك إذا واجه الإنسان موقفاً يُجبر فيه على شيء من غيره ، وإلّا فإنّ المعنى السلبي لهذه الكلمة لا يوجد في بطنها ومفهومها في الأصل.
وعلى أيّة حال فإنّ الآية الشريفة تدل بوضوح على أهمية التواضع وسمو مقام المتواضعين ، ذلك التواضع الّذي ينبع من أعماق الإنسان ويمتد إلى وجدانه ليذيع في النفس احترام الطرف الآخر المؤمن ويتحرّك معه من موقع المودّة والتسليم والانعطاف مع الطرف الآخر.
في «الآية الثانية» نجد إشارة أيضاً إلى الصفات البارزة والفضائل الأخلاقية لجماعة من عباد الله تعالى الّذين وصلوا في سلوكهم المعنوي إلى مرتبة عالية من الكمال الإنساني والإلهي ، حيث نقرأ في آيات سورة الفرقان من الآية 63 إلى الآية 74 اثنا عشر فضيلة مهمة وكبيرة لهؤلاء الأشخاص ، والملفت للنظر أنّ أول صفة تذكرها الآية لهؤلاء هي صفة التواضع ، وهذا يدلّ على أنّ التكبّر كما يمثل أخطر الرذائل الأخلاقية فكذلك التواضع يمثل أهم الفضائل الأخلاقية في واقع الإنسان وحركته الإجتماعية والمعنوية حيث تقول الآية (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً).
(هون) مصدر بمعنى الهدوء والليونة والتواضع ، واستعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل هنا لغرض التأكيد ، أي أنّهم يعيشون التواضع والهدوء إلى درجة وكأنهم عين التواضع ، ولهذا السبب تستمر الآية في سياقها بالقول (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) ؛ أي لو واجههم الجهلاء والأراذل من الناس من موقع الشتيمة والكلام الباطل فإنّ جوابهم لا يكون إلّا بعدم الاعتناء وغض الطرف من موقع عظمة شخصيتهم وكِبَر نفوسهم.
وفي الآية الّتي تليها وبعد أن يتم الحديث عن التواضع مع الآخرين من الناس يتحدّث القرآن الكريم عن تواضعهم أمام الله تعالى ويقول (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً).
ويقول الراغب في كتابه «مفردات القرآن» : الهوان على وجهين ، أحدهما : تذلل الإنسان في نفسه لما لا يلحق به غضاضة ، فيمدح به (ثم يورد الآية محل البحث) ونحو ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) : «المؤمن هيّن ليّن» ([5]). الثاني : أن يكون عن جهة متسلِّط مستخف به فيذمّ به ([6]).
ولا يخفى أنّ المقصود بقوله : (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) ليس هو المشي في حالة التواضع فحسب ، بل المقصود نفي كلَّ نوع من التكبّر والأنانية والسلوكيات السلبية النابعة من حالة التكبّر السلبية والّتي تتجلّى في أعمال الإنسان وأفعاله الاخرى ، وذكرت الآية المشي باعتباره نموذج عملي للدلالة على وجود التواضع كملكة نفسانية لدى هؤلاء ، لأن الملكات الأخلاقية تتجلّى دائماً على كلمات الإنسان وحركاته الخارجية إلى درجة أنّه في الكثير من الحالات يُستدل على وجود أنواع من الصفات الأخلاقية في الشخص بواسطة المشي.
أجل فإنّ أول صفة لعباد الرحمن هي التواضع الّذي يملأ وجودهم وينفذ إلى أعمال نفوسهم فيتجلّى ويظهر على حركاتهم وسكناتهم وكلماتهم ، وعند ما نرى أنّ الله تعالى في الآية 37 من سورة الإسراء يأمر نبيه الكريم بالقول «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً» فالمقصود ليس هو النهي عن حالة المشي بصورة معينة ، فحسب بل الهدف هو غرس التواضع في جميع الحالات والسلوكيات الاخرى والّذي يُعد علامة على عبودية الله تعالى.
«الآية الثالثة» تخاطب النبي الأكرم وتقول (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
«خفض» على وزن «كرب» هو في الأصل بمعنى السحب إلى الاسفل ، وعليه فجملة (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ) كناية عن التواضع المقرون بالمحبة والحنان كما هو حال الطائر الّذي يفتح جناحه ويضم إليه فراخه إظهاراً للمحبّة وبدافع الحنان ولصونهم من الأخطار المحتملة وحفظهم من التفرّق ، وعلى هذا الأساس فإنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مأمور بأن يتحرّك من هذا الموقع ليحفظ المؤمنين تحت جناحه وظلّه.
وهذا التعبير جميل جدّاً ومليء بالمعاني والنكات الدقيقة الّتي جُمعت في جملة واحدة.
وعند ما يُؤمر نبي الإسلام بالتواضع وإظهار المحبّة للمؤمنين فإنّ وظيفة المؤمنين وتكليفهم الأخلاقي تجاه بعضهم البعض واضح ، لأن النبي الأكرم يُعتبر قدوة واسوة لجميع أفراد الامّة الإسلامية.
وقد ورد هذا المضمون أيضاً في الآية 88 من سورة الحجر حيث يقول تعالى (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) وهنا نرى أنّ المخاطب في هذه الآية هو النبي الأكرم أيضاً حيث أمره الله تعالى بخفض جناحه للمؤمنين أي بالتواضع المقرون بالمحبّة في تعامله مع اتباعه من المؤمنين.
وشبيه هذه العبارة مع تفاوت بسيط ورد في سورة الإسراء كتكليف للمسلم تجاه والديه حيث تقول الآية (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ).
ومن مجموع ما ورد من الآيات أعلاه نستوحي جيداً أنّ القرآن الكريم لم يكتف بذم التكبّر والاستكبار في مجمل السلوك الأخلاقي للإنسان بل أكد على النقطة المقابلة له أي التواضع والانعطاف واثنى عليه بتعبيرات مختلفة.
التواضع في الروايات الإسلامية :
لقد ورد في المصادر الروائية لدى الشيعة وأهل السنّة أحاديث كثيرة في باب التواضع تبين أهمية هذه الصفة الأخلاقية في حركة الإنسان التكاملية والاجتماعية ، وورد في بعضها علامات المتواضعين ونتائج وثمار التواضع وحدوده وآدابه.
أما عن أهمية التواضع فقد وردت تعبيرات جميلة وجذابة في الروايات الشريفة منها :
1 ـ ورد في الحديث الشريف أنّ رسول الله قال يوماً مخاطباً أصحابه : ما لي لا ارى عليكم حلاوة العبادة؟! قالوا : وما حلاوة العبادة؟ قال : التواضع! ([7]).
ولا يخفى أنّ حقيقة العبادة هي غاية الخضوع امام الله تعالى فالشخص الّذي ذاق حلاوة الخضوع والتواضع مقابل حقيقة الالوهية والذات المقدسة فإنه سيتحلّى أيضاً بالتواضع مع الخلق.
2 ـ وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : عليك بالتواضع فانه من اعظم العبادة ([8]).
3 ـ وورد عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) : التواضع نعمة لا يحسد عليها ([9]).
ومن الطبيعي أنّ كلّ نعمة تصيب الإنسان فإنه سيتعرض في الجهة المقابلة لأذى الحساد حيث تتحرك فيهم عناصر الحسد والكراهية أكثر بحيث يضيق الفضاء على صاحب النعمة ويعيش في حالة من التوتر الّذي يفرزه حالة الحسد في الطرف المقابل ولكن التواضع مستثنى من هذه القاعدة فهو نعمة لا تتغير بحسد الحساد.
ونختم هذا البحث المفصل بحديث آخر عن النبي الأكرم :
4 ـ «يُبَاهِي اللهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِخَمْسَةٍ : بِالْمُجَاهِدِينَ ، وَالْفُقَرَاء ، وَالَّذِينَ يَتَوَاضَعُون للهِ تَعَالَى ، وَالْغَنِيِّ الّذي يُعْطِي الْفُقَرَاءَ وَلَا يَمُنُّ عَلَيْهِمْ ، وَرَجُلٍ يَبْكِي فِي الْخَلْوَةِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» ([10]).
وعن ثمرات التواضع ونتائجه الإيجابية وردت روايات كثيرة عن المعصومين نكتفي بذكر نماذج منها : ففي حديث شريف عن الإمام أمير المؤمنين : «ثَمَرَةُ التَّوَاضُعِ الْمَحَبَّةُ وَثَمَرَةُ الْكِبْرِ الْمَسَبَّةُ» ([11]).
وفي حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً : «بِخَفْضِ الْجَنَاحِ تَنْتَظِمُ الْامُورَ» ([12]).
ومن الواضح أنّ عملية تنظيم امور المجتمع لا تتسنّى إلّا بالتعاون والتكاتف الإجتماعي والعاطفي بين الأفراد ، وهذا التعاون والتكاتف لا يكون إلّا بأن يكون المدير والمدبّر والقائم على امور المجتمع لا يتعامل مع الأفراد بالضغط والإجبار أو بأن يتباهى ويتفاخر على الآخرين ويرى نفسه أفضل منهم ، فإنّ المدير الموفق في عمله هو من يعيش حالة الحزم والقاطعية في عين التواضع والمحبة مع الآخرين.
ونقرأ في حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «الَتَّوَاضُعُ لَا يَزِيدُ الْعَبْدَ الّا رَفْعَةً فَتَوَاضَعُوا يَرْفَعْكُمُ اللهُ» ([13]).
أحياناً يتصور الإنسان أنّ التواضع يقلل من قيمة الشخصية ويصغر شخصية الفرد في نظر الآخرين ، في حين أنّ هذا التصوّر ساذج ومجانب للصواب ، فإننا نرى أنّ الأشخاص المتواضعين في المجتمع يتمتعون بالاحترام البالغ من قِبل الآخرين ، وتواضعهم لا يزيدهم إلّا احتراماً وعزّة في نفوس الناس.
ويُستفاد من الأحاديث الإسلامية انّ التواضع شرط في قبول العبادات والطاعات ومن ذلك ما ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «الَتَّوَاضُعُ اصْلُ كُلِّ خَيْرٍ نَفِيسٍ وَمَرْتَبَةٌ رَفِيعَةٌ ... وَمَنْ تَوَاضَعَ للهِ شَرَّفَهُ اللهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ ... وَلَيْسَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَةٌ يَقْبَلُهَا وَيَرْضَيها الّا وَبَابُهَا التَّوَاضُعُ ، وَلَا يَعْرِفُ مَا فِي مَعْنى حَقِيقَةِ التَّوَاضُعِ الَّا الْمُقَرَّبُونَ الْمُسْتَقِلِّينَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْارْضِ هَوْناً وَاذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً» ([14]).
ونختم هذا البحث بحديث عن السيّد المسيح (عليه السلام) حيث قال : «بِالتَّوَاضُعِ تَعْمُرُ الْحِكْمَةَ لَا بِالتَّكَبُّرِ ، كَذَلِكَ فِي السَّهْلِ يَنْبُتُ الزَّرْعَ لَا فِي الْجَبَلِ» ([15]).
والخلاصة أنّ التواضع في حركة الحياة العلمية والثقافية يؤثر إيجابياً في حياة الإنسان (لأنّ الشخص المتكبّر يكون محجوباً عن رؤية حقائق الامور بسبب تكبره) وكذلك يؤثر التواضع تأثيراً إيجابياً في حركة الإنسان الإجتماعية (لأنّ الشخص المتواضع يزيده تواضعه محبة في قلوب الناس ويحترمه الجميع لأخلاقه الحسنة والطيبة) وكذلك يؤثر التواضع تأثيراً إيجابياً في علاقة الإنسان بخالقه لأن التواضع يمثل روح العبادة ومفتاح قبول الأعمال والطاعات.
وبالنسبة إلى علامات التواضع فقد وردت روايات لطيفة وجميلة في الروايات الإسلامية ، ففي حديث عن الإمام علي بن أبي طالب نقرأ : «ثَلَاثٌ هُنَّ رَأْسُ التَّوَاضُعِ : انْ يَبْدَءَ بِالسَّلَامِ مَن لَقِيَهُ ، وَيَرْضَى بِالدُّونِ مِنْ شَرَفِ الْمجْلِسِ ، وَيَكْرَهُ الرِّيَاء وَالسُّمْعَةَ» ([16]).
وفي بعض الروايات نقرأ علامات اخرى أيضاً للتواضع منها ترك المراء والجدال ، أي أنّ الإنسان لا يدخل في مناقشة وجدل فكري من أجل اشباع رغبة التفوق على الآخرين واظهار فضله عليهم ، ومن العلامات الاخرى عدم الرغبة في ثناء الناس عليه ومدحهم له ([17]).
1 ـ تعريف التواضع
«التواضع» من مادّة «وضع» ، وهي في الأصل بمعنى وضع الشيء إلى الأسفل.
وهذا التعبير ورد بالنسبة إلى النساء الحوامل اللآتي يلدن حملهن فيقال «وضعت حملها» وكذلك بالنسبة إلى الخسارة والضرر الّذي قد يتحمله الإنسان فيقال «وضيعة» ، وعند ما تُطلق هذه الكلمة ويُراد بها صفة أخلاقية في الإنسان فإنّ مفهومها أنّ الإنسان ينخفض بنفسه عن مكانته الإجتماعية ، بعكس حالة التكبّر الّتي يفهم منها استعلاء الإنسان عن واقعه الإجتماعي وطلب التفوق على الآخرين.
ويرى البعض من أهل اللغة أنّ «التواضع» بمعنى «التذلل» والمقصود من التذلل هنا الخضوع والتسليم.
وذكر المرحوم النراقي في «معراج السعادة» في تعريف التواضع أنّه قال (التواضع عبارة عن الإنكسار النفسي الّذي لا يرى معه الإنسان نفسه أعلى من الآخرين ولازمه أن يتحرك الشخص تجاه الآخرين من موقع الاحترام والتعظيم لهم بكلماته وأفعاله) ([18]).
وفي حديث آخر عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قال عند ما سُئّل: «مَا حَدُّ التَّوَاضُعِ الّذي إذَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ كَانَ مُتَوَاضِعاً؟ فَقَالَ : التَّوَاضُعُ دَرَجَاتٌ مِنْهَا انْ يَعْرِفَ الْمَرْءُ قَدْرَ نَفْسِهِ فَيُنَزِّلُهَا مَنْزِلَتَهَا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ لَا يُحِبُّ انْ يَأْتِيَ الَى احَدٍ الّا مِثْلُ مَا يُؤْتَى الَيْهِ، انْ رَأىَ سَيِّئَةً دَرَاهَا بِالْحَسَنَةِ ، كَاظِمُ الْغَيْظِ ، عَافٍ عَنِ النَّاسِ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» ([19]).
وممّا ورد في هذه الرواية الشريفة والمهمة هو في الحقيقة علامات التواضع حيث يمكننا من خلالها التوصل إلى تعريف التواضع.
وفي حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال : «التَّوَاضُعُ الرِّضَا بِالْمَجْلِسِ دُونَ شَرَفِهِ وَانْ تُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَقِيتَ وَانْ تَتْرُكَ الْمِرَاءَ وَانْ كُنْتَ مُحِقّاً» ([20]).
والحقيقة هي أن تعريف التواضع لا ينفصل عن علامات التواضع لأن من أفضل التعاريف للمفردات اللغوية والأخلاقية هو التعريف المشتمل على علامات ذلك الموضوع المراد تعريفه.
2 ـ التواضع وكرامة الإنسان
عادة نرى في مثل هذه المباحث الأخلاقية أنّ البعض يسلك فيها مسلك الافراط والبعض الآخر مسلك التفريط ، مثلاً يتصور البعض أنّ حقيقة التواضع هي أنّ الإنسان يستذل نفسه أمام الناس ولا يرى لنفسه مقداراً وشأناً من الشؤون ، وقد يقوم بأعمال واهنة يسقط بسببها من أنظار الناس فيساء الظن به كما ذكر في حالات الصوفية هذا المعنى أيضاً وأنّهم عند ما يشتهرون في منطقة بالصلاح والفضل فإنّهم يرتكبون أعمال قبيحة ومنافية للمروءة ليسقطوا في أنظار الناس ، مثلاً لا يهتمون بأمر العبادة وقد يرتكبون الخيانة في أمانات الناس بحيث يتركهم الناس ، وبهذه الطريقة يتصورون أنّ هذا الاسلوب هو نوع من التواضع ورياضة النفس.
بينما نجد أنّ الإسلام لا يُبيح للإنسان تحقير نفسه وإذلالها باسم التواضع ولا يرضى بأن يتحرّك الإنسان لإسقاط شخصيته وكرامته وسحقها ، فالمهم أنّ الإنسان في عين ممارسة التواضع يحفظ شخصيته الإجتماعية ولا يذل نفسه ، فلو أنّ الإنسان سعى للتحلي بالتواضع بصورته الصحيحة فليس لا يجد هذه الآثار السلبية فحسب بل على العكس من ذلك ، فإنّ احترامه وشخصيته ستزداد وتتعمق في أنظار الناس ، ولهذا ورد في الروايات الإسلامية عن أمير المؤمنين أنّه قال «بِالتَّوَاضُعِ تَكُونُ الرَّفْعَةُ» ([21]).
ويقول الفيض الكاشاني تحت عنوان غاية الرياضة في خلق التواضع : «اعلم إنّ هذا الخلق كسائر الأخلاق له طرفان وواسطة ، فطرفه الّذي يميل إلى الزيادة يسمى تكبراً ، وطرفه الّذي يميل إلى النقصان يسمى تخاسساً ومذلة ، والوسط يسمى تواضعاً ، والمحمود أن يتواضع في غير مذلة ومن غير تخاسس ، فإنّ كلا طرفي قصد الامور ذميم ، وأحب إلى الله تعالى أوساطها. فمن يتقدم على أمثاله فهو متكبر ، ومن يتأخر عنهم فهو متواضع ، أي أنّه وضع شيئاً من قدره الّذي يستحقه ، والعالم إذا دخل عليه اسكاف فتنحى له عن مجلسه وأجلسه فيه ثم تقدم وسوى له نعله وغدا إلى الباب خلفه فقد تخاسس وتذلل ، وهذا أيضاً غير محمود بل المحمود عند الله العدل وهو أن يعطي كل ذي حقّ حقّه ، فينبغي أن يتواضع بمثل هذا لأمثاله ولمن بقرب من درجته ، فأما تواضعه للسوقي فبالقيام والبشر في الكلام والرفق في السؤال وإجابة دعوته والسعي في حاجته وأمثال ذلك ، وأن لا يرى نفسه خيراً منه بل يكون على نفسه أخوف منه على غيره ، فلا يحتقره ولا يستصغره وهو لا يعرف خاتمة أمره وخاتمته» ([22]).
[1] تصنيف غرر الحكم ، ح 5148 ، ص 249 ، وشرح غرر الحكم ، ص 232 ، رقم 5920.
[2] سورة المائدة ، الآية 54.
[3] سورة الفرقان ، الآية 63.
[4] سورة الشعراء ، الآية 215.
[5] كنز العمال ، ح 690.
[6] مفردات الراغب ، مادة (هون).
[7] تنبيه الخواطر (مطابق لنقل ميزان الحكمة ، ج 4 ، ح 21825) ؛ المحجّة البيضاء ، ج 6 ، ص 222.
[8] بحار الأنوار ، ج 72 ، ص 119 ، ح 5.
[9] تحف العقول ، ص 363.
[10] مكارم الأخلاق ، ص 51.
[11] غرر الحكم ، ح 4614 ـ 4613.
[12] غرر الحكم ، ح 4302.
[13] كنز العمّال ، ح 5719.
[14] بحار الأنوار ، ج 72 ، ص 121.
[15] بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 62.
[16] كنز العمّال ، ح 8506.
[17] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 122 ، ح 6.
[18] معراج السعادة ، ص 300.
[19] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 124.
[20] بحار الأنوار ، ج 75 ، ص 176.
[21] الفهرست الموضوعي لغرر الحكم ، ج 7 ، ص 405 ، طبعة جامعة طهران.
[22] المحجّة البيضاء ، ج 6 ، ص 271 (مع التلخيص).
|
|
أكبر مسؤول طبي بريطاني: لهذا السبب يعيش الأطفال حياة أقصر
|
|
|
|
|
طريقة مبتكرة لمكافحة الفيروسات المهددة للبشرية
|
|
|
|
|
جامعة الكفيل تناقش تحضيراتها لإطلاق مؤتمرها العلمي الدولي السادس
|
|
|