أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-4-2016
27500
التاريخ: 20-6-2016
3419
التاريخ: 11-6-2021
2625
التاريخ: 3-05-2015
2067
|
لا شكَّ أنّ القرآن نزل على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) في ليلة القدر من شهر رمضان المبارك ، لقوله تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة : 185] ، وقوله : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان : 3] ، وقوله : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر : 1].
وليلة القدر عندنا مردَّدة بين ليلتين في العشر الأخير من شهر رمضان المبارك : إحدى وعشرين ، أمْ ثالثة وعشرين ، والأرجح أنَّها الثانية ، لحديث الجهني (1) . وقال الصدوق ( رحمه الله ) : اتَّفق مشايخنا على أنَّها ليلة ثلاث وعشرين (2) .
والكلام في تعيين ليلة القدر ليس من مبحثنا الآن ، وإنَّما يهمّنا التعرّض لجوانب من هذا التحديد ، أي نزول القرآن في ليلةٍ واحدة ـ هي ليلة القدر ـ من شهر رمضان :
أوّلاً : منافاته ـ ظاهراً ـ مع ما أسلفناه من اتّفاق الإمامية وعدد من أحاديث غيرهم ، على أنَّ البعثة كانت في رجب ، ولا شكَّ أنَّ البعثة كانت مقرونة بنزول آيٍ من القرآن ، خمس آيات من أوّل سورة العلَق ، فكيف يتمّ ذلك مع القول بنزول القرآن ـ كلّه أو بدْء نزوله ـ في شهر رمضان في ليلة القدر ؟ .
ثانياً : ماذا يكون المقصود من نزول القرآن في ليلة واحدة هي ليلة القدر ؟ هل نزل القرآن كلُّه جملة واحدة تلك الليلة ؟ مع العلم أنَّ القرآن نزل نجوماً لفترة عشرين أو ثلاثة وعشرين عاماً ، حسب المناسبات والظروف المختلفة ، ودُعيت باسم ( أسباب النزول ) ، فكيف ذلك ؟ .
ثالثاً : ما هي أوَّل آية أو سورة نزلت من القرآن ؟ فإن كانت هي سورة العلَق أو آيٍ منها ، فلِمَ سُمّيت سورة الحمد بفاتحة الكتاب ؟ إذ ليس المعنى أنَّها كتُبت في بدْء المصحف ؛ لأنَّ هذا الترتيب شيء حصل بعد وفاة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، أو لا أقلّ في عهد متأخّر من حياته ـ فرضاً ـ في حين أنّها كانت تسمّى بفاتحة الكتاب منذ بداية نزولها : ( لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب ) (3) حديث مأثور عن لسان النبي ( صلّى الله عليه وآله ) .
وللإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة ـ بصورة إجمالية ـ نقول :
إنَّ بدْء البعثة يختلف عن بدء نزول القرآن ككتاب سماوي ؛ لأنَّه ( صلّى الله عليه وآله ) نُبِّئ ولم يؤمَر بالتبليغ العامّ إلاّ بعد ثلاث سنوات ، كان خلالها يدعو في اختفاء حتّى نزلت آية {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر : 94] ، ومن هذا الحين جُعل القرآن ينزل تِباعاً ، بسِمة كونه كتاباً أُنزل من السماء ، وكان يُسجَّل على العَسْب واللخاف ، يكتبه مَن كان يعرف الكتابة من المؤمنين ، وهُم عدد قليل ، خلال عشرين عاماً .
وقد كان بدْء نزول القرآن ـ بعد تلك الفترة ـ في ليلة القدر من شهر رمضان ؛ وبهذا الاعتبار صحَّ التعبير بأنَّ القرآن نزل في ليلة القدر ، وإن كان نزوله تِباعاً استغرق عشرين عاماً ؛ إذ كلّ حدَث خطير تكون له مدَّة وامتداد ، فإنَّ تاريخه يسجَّل حسب مبدأ شروعه ، كما سنفصّل الكلام عنه .
أمّا أوَّل آية نزلت فهي الآيات الخمس من أوَّل سورة العلَق ، ونزلت بقيَّتها في فترة متأخرّة ، غير أنَّ أوّل سورة كاملة نزلت من القرآن هي سورة الحمد ، ومن ثمَّ سمّيت بفاتحة الكتاب .
هذا إجمال الكلام حول هذه المواضيع الثلاثة ، وأمّا التفصيل فهو كما يلي :
فترة ثلاث سنوات :
ولنفرض أنَّ البِعثة كانت في رجب ، حسب رواية أهل البيت ( عليهم السلام ) ولفيف من غيرهم ، لكنَّ القرآن ـ بسِمة كونه كتاباً سماويّاً ودستوراً إلهيّاً خالداً ـ لم ينزل عليه إلاّ بعد فترة ثلاث سنين ، كان النبي ( صلّى الله عليه وآله ) خلالها يكتُم أمْره من مَلأ الناس ، ويدعو إلى الله سرّاً ، ومن ثَمَّ لم يكن المشركون يتعرّضون أذاه ، سوى طعنات لِسَانية ، حيث لا يرون من شأنه ما يُخشى على دينهم .
وكان يصلّي إذ ذاك مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أربعة : عليّ ، وجعفر ، وزيد ، وخديجة ، وكلّما مرَّ بهم مَلأ من قريش سخِروا منهم .
قال عليّ بن إبراهيم القمّي : فلمّا أتى لذلك ثلاث سنين ، أنزل الله عليه : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } [الحجر : 94 ، 95] قال : وكان ذلك بعد أن نُبّئ بثلاث سنين .
وقال اليعقوبي : وأقام رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بمكّة ثلاث سنين يكتم أمْره (4) .
وقال محمَّد بن إسحاق : وبعد ثلاث سنين من مبعثه نزل { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } ، فأُمِر أن يجْهر بالدعوة ويعمَّ الإنذار (5) .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( مكث رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بمكَّة بعدما جاءه الوحي عن الله تبارك وتعالى ثلاث عشرة سنة ، منها ثلاث سنين مختفياً خائفاً لا يُظهر أمْره ، حتّى أمَره الله أن يصدع بما أُمر به ، فأظهر حينئذٍ الدعوة ) (6) .
وهذه الروايات إذا لاحظناها مع روايات قائلة : إنَّ فترة نزول القرآن على النبي ( صلّى الله عليه وآله ) استغرقت عشرين عاماً ، تُعطينا أنَّ مبدأ نزول القرآن كان متأخّراً عن البعثة بثلاث سنوات ، إذ لا شكّ أنَّ القرآن كان ينزل عليه ( صلّى الله عليه وآله ) حتّى عام وفاته ؛ وبذلك يلتئم القول بأنَّ بدْء نزول القرآن كان في شهر رمضان ، ليلة القدر ، كما نصَّ عليه القرآن الكريم .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( ثمَّ نزل القرآن عشرين عاماً ) كما جاء في رواية الكليني (7) ، والعيّاشي (8) ، وأشار إليه الصدوق (9) ، والمجلسي (10) . والنصّ على تحديد فترة نزول القرآن بعشرين عاماً كثير (11) .
وإلى هذا المعنى تشير الرواية عن سعيد بن المسيّب ، قال : أُنزل على النبي ( صلّى الله عليه وآله ) وهو ابن ثلاث وأربعين (12) ، أي أُنزل عليه القرآن عند ذلك ، إذ لا شكّ أنَّ النبوّة نزلت عليه ( صلّى الله عليه وآله ) عند اكتمال الأربعين ، وهذا إجماع الأمّة ، وعليه اتّفاق
كلمتهم ، فكيف يخفى على مثل سعيد ؟! .
وأوضح من ذلك ما رواه الإمام أحمد بسند متَّصل إلى عامر الشعبي : أنَّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) نزلت عليه النبوَّة وهو ابن أربعين سنة ، فقُرن بنبوّته إسرافيل ثلاث سنين ، فكان يعلِّمه الكلمة والشيء ، ولم ينزل القرآن ، فلمّا مضت ثلاث سنين ، قُرن بنبوَّته جبرائيل ، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة ، عشراً بمكَّة وعشراً بالمدينة ، فمات ( صلّى الله عليه وآله ) وهو ابن ثلاث وستّين سنة . قال ابن كثير : وهو إسناد صحيح إلى الشعبي (13) .
وهذه الرواية وإن كانت فيها أشياء لا نعرفها ـ ولعلَّها من اجتهاد الشعبي الخاصّ ـ لكنَّ الذي نريده من هذه الرواية هو : جانب تحديد نزول القرآن في مدَّة عشرين عاماً ، وإنَّ نزوله تأخَّر عن البعثة بثلاث سنين ، وهذا شيء متَّفق عليه .
آراء وتأويلات :
وأمّا تأويل نزول القرآن في ليلة القدر من شهر رمضان ـ مع العلم أنَّ القرآن نزل منجَّماً طول عشرين ، أو ثلاثة وعشرين عاماً في فترات ومناسبات خاصَّة ، تُدعى بأسباب النزول ـ فللعلماء في ذلك آراء وتأويلات :
1 ـ إنَّ بدْء نزوله كان في ليلة القدر من شهر رمضان .
وهذا اختيار محمَّد بن إسحاق (14) ، والشعبي (15) ، قال الإمام الرازي : وذلك لأنَّ مبادئ المِلل والدوَل هي التي تؤرَّخ بها ؛ لكونها أشرف الأوقات ؛ ولأنَّها أيضاً أوقات مضبوطة معلومة (16) . وهكذا فسَّر الزمخشري الآية بذلك ، قال : ابتدأ فيه إنزاله (17) .
وهو الذي نرتأيه ؛ نظراً لأنّ كل حادث خطير إذا كانت له مدَّة وامتداد زمني ، فإنَّ بدْء شروعه هو الذي يسجَّل تاريخياً ، كما إذا سئل عن تاريخ دولة أو مؤسَّسة أو تشكيل حزبي ، أو إذا سُئل عن تاريخ دراسة طالب عِلم أو تلبّسه الخاص وأمثال ذلك ، فإنَّ الجواب هو تعيين مبدأ الشروع أو التأسيس لا غير .
وأيضاً فإنّ قوله تعالى : { أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } والآيات الأُخَر ، حكاية عن أمرٍ سابق لا يشمل نفس هذا الكلام الحاكي ، وإلاّ لكان اللفظ بصيغة المضارع أو الوصف ، فنفس هذا الكلام دليل على أنَّ من القرآن ما نزل متأخّراً عن ليلة القدر ، اللهمّ إلاّ بضربٍ من التأويل غير المستند ، على ما سيأتي .
كما أنّ اختلاف مناسبات الآيات ـ حسب الظروف والدواعي ـ أكبر دليل على اختلاف مواقع نزولها ، إذ يربط ذلك كلّ آية بحادثة في قَيد وقتها ، وهذا في كلّ آية نزلت بشأن حدَث أو واقعة وقعت في وقتها الخاصّ ، وجاءت آية تعالجها في نفس الوقت ، كلّ ذلك دليل على أنَّ القرآن لم ينزل جملة واحدة ، وإلاّ لَمَا كان موقع لقولة المشركين : {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } قال تعالى ـ ردّاً على هذا الاعتراض ـ : {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان : 32] أي : كان نزول القرآن تِباعاً وفي فترات مناسبة أدعَم لاطمئنان قلْبك ، حيث الشعور بعناية الله المتواصلة في كلِّ آونة ومناسبة (18) .
وذهب إلى هذا الرأي أيضاً ابن شهرآشوب في المناقب ، قال : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة : 185] أي : ابتدأ نزوله (19) .
وقال في متشابهات القرآن : والصحيح أنَّ القرآن في هذا الموضع لا يفيد العموم ، وإنّما يفيد الجنس ، فأيّ شيء نزل فيه فقد طابق الظاهر (20) .
ويبدو من الشيخ المفيد ( قدّس سرّه ) من آخِر كلامه ، ردّاً على أبي جعفر الصدوق ( عليه الرحمة ) ـ فيما يأتي ـ اختيار هذا القول أيضاً ، قال : وقد يجوز في الخبر الوارد بنزول القرآن جملةً في ليلة القدر ، أنّه نزلت جملةٌ منه ليلة القدر ، ثمَّ تلاه ما نزل منه إلى وفاة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، فأمّا أن يكون نزَل بأسْره وجميعه في ليلة القدر ، فهو بعيد عمَّا يقتضيه ظاهر القرآن ، والمتواتر من الأخبار ، وإجماع العلماء على اختلافهم في الآراء (21) .
* * *
2 ـ كان ينزل على النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في كلّ ليلة قدر من كلّ عام ، ما كان يحتاج إليه الناس في تلك السنة من القرآن ، ثمّ يُنزّله جبرائيل حسب مواقع الحاجة شيئاً فشيئاً بما يأمره الله تعالى ، فيكون المقصود من شهر رمضان هو النوع ، لا رمضان خاصّ ـ وهو احتمال الإمام الرازي أيضاً ـ (22) .
وهذا اختيار ابن جريح (23) ، والسدّي ، وأسنده الأخير إلى ابن عبّاس أيضاً (24) ، ونقلة القرطبي عن مقاتل بن حيّان ، ووافقه الحليمي والماوردي وغيرهما (25) .
غير أنَّ هذا الاختيار يخالفه ظاهر قوله تعالى : ( أُنْزِلَ فِيهِ ) ، أو ( أنزَلنَاهُ ) حكاية عن حدث سابق ، فلو صحّ هذا القول ؛ لكان المناسب يقول : ( نُنزله ) صفة للحال ! .
وأيضاً يردّه ما استبعدناه على الرأي الخامس الآتي : ما هي الفائدة المتوخّاة من نزول القرآن قبل الحاجة إليه ، ولاسيَّما في صيغة جملة الماضي أو الحال ، المستدعية كونها نزلت لمناسبة وقتية ، لا موقع لنزولها قبل ذلك ، حسب التعبير اللفظي ؟! .
* * *
3 ـ شهر رمضان الذي نزل في شأنه القرآن ، أي في فرْض صيامه ، كما يقال :
نزل في فلان ، أو في مناسبة كذا قرآن ، والمراد من القرآن آية أو آيات منه (26) .
قال الضحّاك : { شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } أي الذي أُنزل صَومُه في القرآن (27) .
قال سفيان بن عيينة : معناه : أُنزل في فضْله القرآن ، واختاره الحسين بن الفضل وابن الأنباري (28) .
لكنّ هذا الوجه يخصّ آية البقرة ، ولا يجري في آيتَي الدخان والقدر ، كما لا يخفى ، فضلاً عن أنَّه تأويل في اللفظ لا مبرِّر له ولا مستند .
* * *
4 ـ إنَّ معظمه نزل في أشهر رمضان ، ومن ثَمَّ صحَّت نسبة الجميع إليه .
وهذا احتمال ثانٍ احتملهما سيّد قطب ، قال : الشَهر الذي أُنزل فيه القرآن ، إمّا بمعنى أنّ بدْء نزوله كان في رمضان ، أو أنّ معظمه نزل في أشهر رمضان (29) .
لكن لا دليل على أنَّ معظم آيات القرآن نزلت في أشهر رمضان وفي ليلة القدر بالخصوص ، ولعلَّ الواقعية تأبى هذا الاحتمال رأساً .
* * *
5 ـ القرآن نزل جملةً واحدةً في ليلةٍ واحدةٍ هي ليلة القدر ، إلى بيت العِزَّة أو البيت المعمور ، ثمَّ نزل على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) في فتَرات ومناسبات ، طول عشرين أو ثلاثة وعشرين عاماً .
ذهب إلى هذا القول جماعة من أرباب الحديث ، نظراً لظاهر أحاديث رُويت في ذلك :
قال الشيخ الصدوق ( عليه الرحمة ) : نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر ، جملةً واحدةً إلى البيت المعمور في السماء الرابعة ، ثمَّ نزل من البيت المعمور في مدَّة عشرين سنة ، وأنَّ الله أعطى نبيَّه العلم جملةً واحدةً ، ثمَّ قال له : { وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } (30) .
قال العلاَّمة المجلسي ـ تعقيباً على هذا الكلام ـ : قد دلَّت الآيات على نزول القرآن في ليلة القدر ، والظاهر نزوله جميعاً فيها ، ودلَّت الآثار والأخبار على نزول القرآن في عشرين (31) أو ثلاث وعشرين سنة (32) .
وورد في بعض الروايات أنَّ القرآن نزل في أوّل ليلة من شهر رمضان (33) ، ودلّ بعضها على أنّ ابتداء نزوله في المبعث (34) ، فيُجمع بينها بأنَّ : في ليلة القدر نزل القرآن جملةً من اللَوح المحفوظ إلى السماء الرابعة ( البيت المعمور ) ، لينزل من السماء الرابعة إلى الأرض تدريجاً .
ونزل في أوَّل ليلة من شهر رمضان جملة القرآن على النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ؛ لِيعلَمه هو ولا يتْلوه على الناس ، ثمَّ ابتدأ نزوله آية آية وسورة سورة في المبعث أو غيره ؛ ليتْلوه على الناس (35) .
وأخرج الطبراني وغيره عن ابن عبّاس ، قال : أُنزل القرآن ليلة القدر جملةً واحدةً إلى السماء الدنيا ، ووضِع في بيت العزَّة ، ثم أُنزل نجوماً على النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في عشرين سنة .
قال جلال الدين : وهذا هو أصحُّ الأقوال وأشهرها . وروى في ذلك روايات كثيرة ، حُكِمَ على أكثرها بالصحَّة ، رواها عن : الحاكم ، والطبراني ، والبيهقي ، والنسائي وغيرهم (36) .
وروى الطبري بسنده عن واثلة بن الأسقع عن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) قال : ( أُنزلت صحُف إبراهيم أوَّل ليلة من شهر رمضان ، وأُنزلت التوراة لستٍّ مضَين من رمضان ، وأُنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلَت منه ، وأُنزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان ) (37) .
وفيه عن السدّي عن ابن عبّاس ، قال : شهر رمضان ، والليلة المباركة ليلة القدر ؛ فإنَّ ليلة القدر هي الليلة المباركة ، وهي في رمضان ، نزل القرآن جملةً واحدةً من الزُبر إلى البيت المعمور ، وهي مواقع النُجوم في السماء الدنيا ، حيث وقع القرآن ، ثمَّ نزل على محمَّد ( صلّى الله عليه وآله ) بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رسْلاً (38) .
وكان عطيَّة بن الأسود قد وقع في نفسه الشكّ من هذه الآية ، وقد نزل القرآن في جميع شهور السنة ، فسأل ابن عبّاس عن ذلك ، فأجابه بما تقدَّم (39) .
وهكذا روى جلال الدين بسنده إلى جابر بن عبد الله الأنصاري ( رضوان الله عليه ) قال : أنزلَ الله صحُف إبراهيم أوَّل ليلة من رمضان ، وأنزل التوراة على موسى لستٍّ خلَون من رمضان ، وأنزل الزبور على داود لاثنتي عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الإنجيل على عيسى لثمان عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الفرقان على محمَّد ( صلّى الله عليه وآله ) لأربع وعشرين خلَت من شهر رمضان (40) .
ومن طُرقنا روى العيّاشي عن إبراهيم ، أنَّه سأل الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن قوله تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة : 185] كيف أُنزل فيه القرآن ، وإنَّما أُنزل القرآن في طول عشرين سنة ، من أوَّله إلى آخِره ؟! فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( نزل القرآن جملةً واحدةً في شهر رمضان إلى البيت المعمور ، ثمَّ أُنزل من البيت المعمور في طول عشرين سنة ، ثمَّ قال : قال النبي ( صلّى الله عليه وآله ) : ( نزلت صحُف إبراهيم في أوّل ليلة من شهر رمضان ، وأُنزلت التوراة لستٍّ مضين من شهر رمضان ، وأُنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ، وأُنزل الزبور لثماني عشرة من رمضان ، وأُنزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان ) (41) .
وجاء الحديث في الكافي ، إلاّ أنّ في آخِره : ( وأُنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان ) ، والرواية عن الحفص بن غياث (42) .
وفي التهذيب جاء قِسم من الحديث برواية أبي بصير ، وفي آخِره : ( وأُنزل الفُرقان في ليلة القدر ) (43) .
هذه جملة من روايات مأثورة ، تفسِّر نزول القرآن جملةً واحدةً في ليلة واحدة ، إمّا إلى البيت المعمور في السماء الرابعة ـ كما في روايات الخاصّة ـ أو إلى بيت العزَّة في السماء الدنيا ، كما في بعض روايات العامَّة ، ثمَّ منها نزلت آياته مفرَّقة على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) حسب الظروف والمناسبات رسْلاً رسْلاً .
وقد أخذ الظاهريون من أصحاب الحديث بظاهر هذه الروايات ، مستريحين بأنفسهم إلى مدلولها الظاهري تعبُّداً محضاً .
أمّا المحقِّقون من العلماء ، فلم يرِقْهم الأخْذ بما لا يمكن تعقّله ، ولا مقتضى للتعبّد بما لا يرجع إلى أصول العباديات ، ومن ثمَّ أخذوا ينقدون هذه الأحاديث نقداً علمياً متسائلين : ما هي الفائدة الملحوظة من وراء نزول القرآن جملةً واحدةً في إحدى السماوات العُلى ، ثمَّ ينزل تدريجياً على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ؟! .
* * *
وإجابةً على هذا السؤال ، قال الفخر الرازي : ويُحتمل أن يكون ذلك تسهيلاً على جبرائيل ، أو لمصلحة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في توقّع الوحي من أقرب الجهات (44) .
وهذا الجواب غاية في الوهْن والسقوط ، مضافاً إلى أنَّه تخرّص بالغيب ، ونستغرب صدور مثل هذا الكلام الفارغ من مثل هذا الرجل المضطلع بالتحقيق !! .
وقال المولى الفيض الكاشاني : وكأنّه أُريد بذلك نزول معناه على قلْب النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، كما قال تعالى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء : 193 ، 194] ، ثمَّ نزل طول عشرين سنة نجوماً من باطن قلْبه إلى ظاهر لسانه ، كلّما أتاه جبرائيل ( عليه السلام ) بالوحي وقرأه عليه بألفاظه (45) .
فقد أوَّل ( رحمه الله ) البيت المعمور إلى قلْب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وربَّما أراد الصدوق ( رحمه الله ) أيضاً هذا المعنى من قوله : وأعطى نبيَّه العِلم جملةً واحدةً .
وهكذا وقع اختيار الشيخ أبي عبد الله الزنجاني في تأويل هذه الرواية ، قال : ويمكن أن نقول بأنَّ روح القرآن ـ وهي أغراضه الكلّية التي يرمي إليها ـ تجلَّت لقلْبه الشريف في تلك الليلة { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} ، ثمّ ظهرت بلسانه الأطهر مفرَّقة في طول سنين {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء : 106] ... (46) .
وقد أخذ العلاّمة الطباطبائي ( دام ظلّه ) هذا التأويل وزاد عليه تحقيقاً ، قال : إنَّ الكتاب ذو حقيقة أخرى وراء ما نفْهمه بالفهْم العادي ، وهي حقيقة ذات وحدة متماسكة لا تقبل تفصيلاً ولا تجزئة ؛ لرجوعها إلى معنىً واحدٍ لا أجزاء فيه ولا فصول ، وإنَّما هذا التفصيل المشاهَد في الكتاب طرأ عليه بعد ذلك الإحكام ، قال تعالى : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود : 1] ، وقال تعالى : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة : 77 - 79] ، وقال : {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف : 52] ، إذاً فالمراد بإنزال القرآن في ليلة القدر : إنزال حقيقة الكتاب المتوحّدة إلى قلْب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) دفعةً ، كما أُنزل القرآن المفصَّل في فواصل وظروف على قلْبه ( صلّى الله عليه وآله ) أيضاً تدريجاً في مدَّة الدعوة النبوية (47) .
أقول : سامح الله التأويل ، ما أسهله طريقاً إلى التخلّص عن مآزق البحوث النظرية ، ونحن إذ لا نرى مبرِّراً لهكذا تأويلات غير مستندة إلى دليل ، نسأل هؤلاء الأعلام : بِمَ أوَّلتم البيت المعمور الذي هو في السماء الرابعة ( حسب روايات الخاصَّة ) ، أو بيت العزَّة ( حسب روايات العامَّة ) إلى قلْب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ؟! ولِمَ هذا التعبير جاء في هذا اللفظ ؟! وسوف نناقش السيّد العلاّمة في اختيار وجودٍ آخَر للقرآن بسيط ، وراء هذا الوجود المفصَّل ، أخذَه عن أحمد بن عبد الحليم وحقَّقه تحقيقاً دقيقاً ، ولكنّا رفَضْناه رأساً ، وسيأتي ذلك في فصل قادم إن شاء الله .
تحقيقٌ مفيد :
قال المحقّق العلاّمة الشيخ أبو عبد الله المفيد : الذي ذهب إليه أبو جعفر (48) ( رحمه الله ) في هذا الباب ، أصله حديث واحد ـ أي ليس من المتواتر المقطوع به ـ لا يوجب عِلماً ولا عملاً ، ونزول القرآن على الأسباب الحادثة حالاً فحالاً يدلّ على خلاف ما تضمَّنه هذا الحديث ؛ وذلك أنَّ القرآن قد تضمّن حُكم ما حدَث وذِكر ما جرى على وجهه ، وذلك لا يكون على الحقيقة إلاّ لوقت حدوثه عند السَبب .
مثلاً قوله تعالى : {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة : 1] ، نزلت هذه الآية بشأن خولة بنت خويلد جاءت تشتكي زوجها أوس بن الصامت الذي كان قد ظاهرَها ، وكان ذلك طلاقاً في الجاهلية (49) .
وقوله تعالى : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة : 11].
وقوله : {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب : 23].
وكثير في القرآن لفظة : ( قالوا ) و( قال ) و( جاؤوا ) و( جاء ) ـ بلفظ الماضي ـ كما أنّ فيه ناسخاً ومنسوخاً ... كلّ ذلك لا يتناسب ونزوله جملةً واحدةً في وقتٍ لم يحدث شيء من ذلك .
قال ( رحمه الله ) : ولو تتبَّعنا قُصص القرآن لجاء ممّا ذكرناه كثيراً لا يتّسع به المقال .
وما أشبه ما جاء به هذا الحديث بمذهب المُشبِّهة ، الذين زعموا أنَّ الله سبحانه لم يزل متكلّماً بالقرآن ـ أي القول بقِدم القرآن ـ ومخبراً عمّا سيكون بلفظ كان ، وقد ردّ عليهم أهل التوحيد بنحوِ ما ذكرناه .
قال : وقد يجوز في الخبر الوارد بنزول القرآن جملةً في ليلة القدر أنّه نزلت جملة منه ليلة القدر ، ثمَّ تلاه ما نزل منه إلى وفاة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، فأمّا أن يكون نزل بأسْره وجميعه في ليلة القدر ، فهو بعيد عمَّا يقتضيه ظاهر القرآن ، والمتواتر من الأخبار ، وإجماع العلماء على اختلافهم في الآراء ... (50) ، أضف إلى ذلك ما ذكرناه في اختيار الوجه الأوّل .
______________________________
(1) راجع وسائل الشيعة : باب 32 من أبواب أحكام شهر رمضان حديث 16 ، ج7 ، ص262 .
(2) الخصال للشيخ الصدوق : ج2 ، ص102 .
(3) صحيح مسلم : ج2 ، ص9 ، منتخب كنز العمّال ( بهامش المسند ) : ج3 ، ص180 .
(4) تاريخ اليعقوبي : ج2 ، ص19 .
(5) سيرة ابن هشام : ج1 ، ص280 / المناقب لابن شهرآشوب ، ج1 ، ص40 / البحار : ج18 ، ص194 .
(6) الغيبة للشيخ الطوسي : ص217 / كمال الدين للشيخ الصدوق : ص197 / البحار : ج18 ، ص177.
(7) الكافي : ج2 ، ص629 .
(8) تفسير العيّاشي ، ج1 ، ص80 .
(9) الاعتقادات : ص101 .
(10) بحار الأنوار : ج18 ، ص250 و253 .
(11) راجع الإتقان : ج1 ، ص40 / وتفسير شبّر : ص350 ، عند تفسير آية 32 من سورة الفرقان .
(12) مستدرك الحاكم : ج2 ، ص610 .
(13) البداية والنهاية لابن كثير : 6 ، ج3 ، ص4 / الإتقان : ج1 ، ص45 / الطبقات : ج1 ، ص127 / تاريخ اليعقوبي : ج2 ، ص18 .
(14) مجمع البيان : ج2 ، ص276 .
(15) الإتقان : ج1 ، ص40 .
(16) التفسير الكبير : ج5 ، ص85 .
(17) الكشّاف : ج1 ، ص227 .
(18) راجع الإتقان : ج1 ، ص41 .
(19) مناقب آل أبي طالب : ج1 ، ص150 .
(20) متشابهات القرآن : ج1 ، ص63 .
(21) شرح عقائد الصدوق : ص58 . وسيأتيك ردّ الشيخ المفيد عليه في ص 75 .
(22) التفسير الكبير : ج5 ، ص85 .
(23) الدرّ المنثور : ج1 ، ص189 .
(24) مجمع البيان : ج2 ، ص276 .
(25) الإتقان : ج1 ، ص40 .
(26) مجمع البيان : ج1 ، ص276 . الكشّاف : ج1 ، ص227 .
(27) الدرّ المنثور : ج1 ، 190 .
(28) التفسير الكبير : ج5 ، ص80 .
(29) في ظلال القرآن لسيّد قطب : ج2 ، ص79 .
(30) الاعتقادات : ص101 . والآية 114 من سورة طه .
(31) الكافي : كتاب فضل القرآن ج2 ، ص629 .
(32) هي مدّة نبوّته ( صلّى الله عليه وآله ) ؛ بناءً على ابتداء نزول القرآن بيوم مبعثه واختتامه بوفاته ( صلّى الله عليه وآله ) .
(33) الكافي : كتاب الصيام ، باب فضل شهر رمضان ج4 ، ص66 .
(34) وهي روايات دلّت على أنَّ أوَّل سورة نزلت هي سورة العلق ، نزلت في بدء البعثة في يوم 27 رجب . راجع بحار الأنوار : ج92 ، ص39 ، وج18 ، ص206 .
(35) بحار الأنوار : ج18 ، ص253 ـ 254 .
(36) الإتقان : ج1 ، ص39 ـ 40 .
(37) تفسير الطبري : ج2 ، ص84 .
(38) تفسير الطبري : ج2 ، ص85 .
(39) الدرّ المنثور : ج1 ، ص189 .
(40) الدرّ المنثور : ج1 ، ص189 .
(41) تفسير العيّاشي : ج1 ، ص80 .
(42) الكافي : ج2 ، ص629 .
(43) تهذيب الأحكام : ج4 ، ص194 .
(44) تفسير الرازي : ج5 ، ص85 .
(45) تفسير الصافي للفيض الكاشاني : ج1 ، ص42 المقدّمة التاسعة .
(46) تاريخ القرآن : ص10 .
(47) الميزان : ج2 ، ص15 ، 16 .
(48) نقلنا كلامه سابقاً في ص 69 ، وكلام المفيد هنا ردّ عليه وعلى كلّ مَن ذهب مذهبه ، من اختيار ظاهر تلكم الأحاديث .
(49) مجمع البيان : ج9 ، ص246 .
(50) شرح عقائد الصدوق ( تصحيح الاعتقاد ) : ص58 .
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|