المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

سيرة الرسول وآله
عدد المواضيع في هذا القسم 9095 موضوعاً
النبي الأعظم محمد بن عبد الله
الإمام علي بن أبي طالب
السيدة فاطمة الزهراء
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الإمام محمد بن علي الباقر
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الإمام علي بن موسى الرّضا
الإمام محمد بن علي الجواد
الإمام علي بن محمد الهادي
الإمام الحسن بن علي العسكري
الإمام محمد بن الحسن المهدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
غزوة الحديبية والهدنة بين النبي وقريش
2024-11-01
بعد الحديبية افتروا على النبي « صلى الله عليه وآله » أنه سحر
2024-11-01
المستغفرون بالاسحار
2024-11-01
المرابطة في انتظار الفرج
2024-11-01
النضوج الجنسي للماشية sexual maturity
2024-11-01
المخرجون من ديارهم في سبيل الله
2024-11-01



الإمام الرضا عليه السلام والإمامة الربانية  
  
384   01:33 صباحاً   التاريخ: 2024-07-23
المؤلف : الشيخ علي الكوراني
الكتاب أو المصدر : الحق المبين في معرفة المعصومين
الجزء والصفحة : ص413-433
القسم : سيرة الرسول وآله / الإمام علي بن موسى الرّضا / الولادة والنشأة /

يصادف غداً ولادة الإمام علي بن موسى الرضا أرواحنا فداه ، وهو يوم عظيم . ونحن نردد كلمة ( إمام ) فهل فهمنا ما تحويه هذه الكلمة وما تشتمل عليه ، وهل استوفينا البحث فيها ، وعرفنا موضوع أي سؤال تقع ؟

نحن على العموم نعرف مسائل الفقه والأصول جيداً ، أما في مسألة الإمامة التي هي من أهم المسائل ، فنحن قاصرون ومقصرون !

فهي ليست من مسائل علم الفقه أو أصول الفقه حتى أقول إني قد استوعبتها وتسلطت عليها ! فأنا فيها في المرحلة الابتدائية ، ولا أعرف في الدنيا من هو بلغ فيها المرحلة المتوسطة ، حتى نبحث عن أهل المرحلة العليا فيها !

إن علينا أن نعرف أهمية المسألة وعظمتها ! وأول ما يجب أن نعرفه أن عنوانها عنوان مقدس . فكلمة الإمام التي هي موضوع بحثنا موضوع لسؤالين ، عن المبدأ والمتلبس به ، فالسؤال الأول : ما هي الإمامة ؟ والثاني : من هو الإمام ؟

أما السؤال الأول فنجد مفهوم الإمامة في القرآن في مخاطبة الله تعالى لنبيه إبراهيم عليه السلام : وَإِذ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( سورة البقرة : 124 ) والمفكر المستيقظ المتأمل في عمق السؤال والجواب في الآية ، يرتجف أمام عظمة الموضوع ! ويرى أن جواب السؤال يكمن في كلمة ( عهدي ) فإنْ فَهِمَ كلمة ( عهد الله ) فقد فهم الإمامة ما هي ؟

ومن يستطيع أن يدعي أنه يفهم ( عهد الله تعالى ) ما هو ؟

علينا أن نكون منصفين ونعترف بتقصيرنا وقصورنا ! فالقضية ليست مسألة من مسائل نهاية الدراية ، ولا الأسفار ، ولا الشفاء ! بل هي من المسائل لا يمكن أن تفهم إلا من أحاديث أئمة الدين أهل البيت الطاهرين عليهم السلام .

هذا جواب السؤال عن الإمامة .

أما السؤال عن الإمام من هو ؟ فقد أجاب عنه الإمام الرضا عليه السلام الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وآله لمن ذكر اسمه : قل صلى الله عليه ، ثلاثاً ! قال الصدوق أعلى الله مقامه في عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 313 : ( حدثنا أبو علي محمد بن أحمد بن محمد بن يحيى المعاذي النيسابوري قال : حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد بن علي البصري المعدل قال : رأى رجل من الصالحين فيما يرى النائم رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : يا رسول الله من أزور من أولادك ؟ فقال صلى الله عليه وآله : إن من أولادي من أتاني مسموماً ، وإن من أولادي من أتاني مقتولاً ! قال فقلت له : فمن أزور منهم يا رسول الله مع تشتت مشاهدهم أو قال أماكنهم ؟ قال صلى الله عليه وآله : من هو أقرب منك يعني بالمجاورة وهو مدفون بأرض الغربة . قال : فقلت يا رسول الله تعني الرضا ؟ فقال صلى الله عليه وآله : قل صلى الله عليه ، ثلاثاً ) . انتهى .

ترى أي خصوصية في شخصية الإمام الرضا عليه السلام حتى يأمر النبي صلى الله عليه وآله بالصلاة عليه ثلاثاً عند ذكر اسمه ؟ ! إن هذا بحث مستقل .

يجيب عن سؤالنا الإمام الرضا عليه السلام الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام لقب : عالم آل محمد ! فمع أن النبي صلى الله عليه وآله وكذا الأئمة عليهم السلام علماء بكل أسرار الوجود ، وشهداء الله على خلقه ، وقد أعطاهم الله تعالى علم السيطرة التكوينية والتشريعية ، فقال عز وجل : وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَئٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ . ( سورة النحل : 89 ) ، وقال تعالى : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَاب . ( سورة الرعد : 43 )

ومع ذلك فقد أعطوا لقب ( عالم آل محمد ) لشخص واحد منهم فقط هو الإمام الرضا عليه السلام ! روى أبو الصلت الهروي رحمه الله قال : ( لقد حدثني محمد بن إسحاق بن موسى بن جعفر ، عن أبيه عن جده موسى عليه السلام أنه كان يقول : هذا أخوك علي بن موسى عالم آل محمد فاسألوه عن أديانكم واحفظوا ما يقول لكم ، فإني سمعت أبي جعفراً يقول غير مرة : إن عالم آل محمد لفي صلبك ، وليتني أدركه فإنه سمي أمير المؤمنين عليه السلام ) ( البحار : 49 / 100 ) .

لقد أجاب عالم آل محمد عليه السلام عن سؤالنا : من هو الإمام ؟ فعدَّدَ بضعةً وخمسين صفةً للإمام المنصوب من الله تعالى ! وهنا معدن معرفة الإمام ، من لسان الإمام ، الخبير بالإمامة وصفات الإمام عليه السلام !

إن واجبكم جميعاً أن تدرسوا هذه الأصول من هذا المنبع الصافي ، وتتأملوا فيها ، بقوة إيمان ، وصفاء ضمير ، واستمداد من الله تعالى ، لعله يفيض على قلوبكم بعض معارفها .[1]

من هذه الصفات التي ذكرها الإمام عليه السلام في جوابه المفصل عن ماهية الإمامة والإمام ، قال : الإمام واحد دهره ، لا يدانيه أحد ، لاحظوا أن الإمام عليه السلام استعمل كلمة ( دهره ) ولم يقل ( واحد زمانه ) فالدهر غير الزمان كما يأتي . ولاحظوا أنه استعمل لفظ ( واحد ) ثم لفظ ( أحد ) ولكل منهما معنى في مكانه وقبل هذه الجملة وصف شخص الإمام بأنه : كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم وهي في الأفق ، بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار . فشبهه بالشمس التي تجلل بنورها العالم ولا تصل إليها الأيدي ، ولا إلى عمقها الأنظار . هذا كما في رواية الكافي وتحف العقول وغيبة النعماني ونسخة من معاني الأخبار ، أما رواية عيون أخبار الرضا عليه السلام وغيرها من روايات الصدوق رحمه الله ففيها : كالشمس الطالعة بنورها للعالم ، لكن العبارتين تصفان الإمام عليه السلام بأنه شمس تضئ على العالم وأنها في أفق سام ، لا تناله الأيدي والأبصار !

وقد أردنا أن تكون هذه الصفة مقدمة لشرح صفة : الإمام واحد دهره ، فالدهر في اصطلاح الفلاسفة أعم من الزمان لأنه وعاء المجردات ، في مقابل الزمان الذي هو وعاء الماديات ، وعلى هذا بنى المحقق الداماد رحمه الله مصطلحه عن الإمام : القدوس الدهري .

أما اللغويون فقد أطالوا بحث الفرق بين الدهر والزمان ، وبعضهم قال بعدم الفرق ، وبعضهم قال بأن الدهر أعم ، وهو ما نرجحه .

على أنا يمكننا أن نفهم أن الإمام واحد الدهر ، وليس الزمان بالدليل العقلي ، فإن هذه المباحث برهانية لا تعبدية ، وإن كانت مقدمات البرهان فيها عميقة ودقيقة ، فكلما كانت المسألة مهمة أكثر ، كانت مقدمات أدلتها أعمق وأدق !

إن الإمام عصارة خِلْقَة الإنسان ، وصورة الإنسان كما عن الإمام الصادق عليه السلام : أكبر حجج الله على خلقه وهي الهيكل الذي بناه بقدرته .[2]

وقد استعمل الله سبحانه تعبير ( تَبَارَكَ ) عن خلق الإنسان مرتين ، مرة في غاية خلقه ، ومرة فيما تنتهي اليه الغاية ! قال الله تعالى : لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( سورة التين : 4 ) ، وقال تعالى : ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( سورة المؤمنون : 14 ) وتعبير ( تَبَارَك ) لم يستعمل في القرآن إلا في موارد محدودة ، منها لملك الله تعالى : تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شئٍ قَدِيرٌ

( سورة الملك : 1 ) ومنها لخلق السماوات والأرض ، ومنها لخلق البروج والشمس والقمر ، ومنها لخلق الإنسان ، ومنها لتنزيل االقرآن : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ( سورة الفرقان : 1 ) وقد جمع بينهما في سورة الرحمان فقال : الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الإنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ وختمها بقوله : تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلالِ وَالإكْرَامِ .

هذا الإنسان المخلوق بهذه العظمة في بنائه ، واستعداده للتكامل ، لابد أن يصل إلى كماله الذي قال الله عنه للملائكة : إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ! جواباً على قولهم : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) ؟ !

وكمال الإنسان إنما هو بوصول قوتين كامنتين فيه إلى أوج إثمارهما : قوة العقل ، وقوة الإرادة . فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : ( دعامة الإنسان العقل ، والعقل منه الفطنة والفهم ، والحفظ والعلم ) ( الكافي : 1 / 25 ، وعلل الشرائع : 1 / 103 )

والعقل قسمان : عقلٌ نظري ، وكماله المطلق بالاستغراق في نوعٍ من المعرفة يشمل كل أنواع معرفة الوجود ، وهو معرفة الله تعالى !

وعقلٌ عملي ، وكماله المطلق ينتهي إلى فناء إرادة الإنسان في إرادة ذات القدوس الحق تعالى . وعندما تفنى جنبة العقل النظرية والعملية ، تلك في المعرفة ، وهذه في الإرادة ، فعنئذ يكون الإنسان : واحد دهره !

الإمام واحد دهره ، فهو الإنسان الذي يستحق العهد الإلهي المخصوص بين أبينا إبراهيم عليه السلام وبين الله تعالى ، ويستحق منصب الإمامة الإلهية ! ولا يمكن أن يستحقه أحد إلا إذا كان : واحد دهره !

إن موضوع الإمامة عميق وواسع ، فعليه يتوقف تحقيق الغرض من خلق الله تعالى للإنسان ، بل من كل الخلق ، وما لم يكن الإمام في نظام الوجود ، فإن الغرض من خلق الخلق لا يتمّ .

والناس كما قال صلى الله عليه وآله : معادن ، فلابد أن يتم تبلور معادنهم بإشراقة الإمام عليه السلام ، فهو للناس ضرورة كضرورة الشمس للمعادن في الأرض . قال صلى الله عليه وآله : ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، فمن كان له في الجاهلية أصل فله في الإسلام أصل ) . ( الكافي : 8 / 177 عن الإمام الصادق عليه السلام . ورواه مسلم : 8 / 41 بلفظ : الناس معادن كمعادن الفضة والذهب خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ) .

إن الأمر الذي سبَّبَ عدم فهم المسلمين والبشرية للإمامة هو الانحراف الخطير الذي وقعت فيه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وآله فأطاعت من انحرف بمسيرة الإسلام عن مسارها الرباني بقيادة الإمام المعصوم عليه السلام ! فقد أقصت الأمة مع الأسف الإمام الذي عينه لها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وعزلته عن قيادتها ، وأسلمت نفسها إلى أشخاص تقمصوا الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله ، قام أمرهم ووجودهم وأفعالهم وأقوالهم على غير العلم والحق ! وهذا هو السبب الذي أوصل الأمة إلى مهاوي الضلال والضياع والضعف ، وجعلها لا تعرف مقام الإمام ومهمته الربانية في مسيرتها !

أنتم تعرفون المأمون العباسي من هو ؟ ! فاقرؤوا عنه هذه القصة التي يرويها الصدوق أعلى الله مقامه عن عبد الله بن محمد الهاشمي قال : ( دخلت على المأمون يوماً فأجلسني وأخرج من كان عنده ، ثم دعا بالطعام فطعمنا ثم طيبنا ، ثم أمر بستارة فضربت ، ثم أقبل على بعض من كان في الستارة فقال : بالله لما رثيتِ لنا من بطوس ، فأخذت تقول :

سقياً لطوسٍ ومن أضحى بها قَطَنا * من عترة المصطفى أبقى لنا حَزَنا

قال ثم بكى وقال لي : يا عبد الله أيلومني أهل بيتي وأهل بيتك أن نصبت أبا الحسن الرضا عليه السلام علماً ، فوالله لأحدثُك بحديث تتعجب منه : جئته يوماً فقلت له جعلت فداك إن آبائك موسى بن حعفر وجعفر بن محمد ومحمد بن علي وعلي بن الحسين ، كان عندهم علم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وأنت وصي القوم ووارثهم وعندك علمهم ، وقد بدت لي إليك حاجة ؟

قال : هاتها . فقلت : هذه الزاهرية حظيتي ولا أقدِّم عليها أحداً من جواريَّ ، قد حملت غير مرة وأسقطت ، وهي الآن حامل ، فدلني على ما نتعالج به فتسلم .

فقال : لا تخف من إسقاطها ، فإنها تسلم وتلد غلاماً أشبه الناس بأمه ، ويكون له خنصر زائدة في يده اليمنى ليست بالمدلاة ، وفي رجله اليسرى خنصر زائدة ليست بالمدلاة ! فقلت في نفسي أشهد أن الله على كل شئ قدير ، فولدت الزاهرية غلاماً أشبه الناس بأمه ، في يده اليمنى خنصر زائدة ليست بالمدلاة ، وفي رجله اليسرى خنصر زائدة ليست بالمدلاة ، على ما كان وصفه لي الرضا ! !

فمن يلومني على نصبي إياه علماً ) . ( عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 / 241 )[3] ( 3 )

بكى المأمون ، وكيف لا يبكي رغم طغيانه وتكبره ؟ ! وقد شاهد علم الإمام الرضا عليه السلام بمقادير الله تعالى فأخبره بيقين المحيط بالأمر : لا تخف من إسقاطها ، فإنها تسلم وتلد غلاماً أشبه الناس بأمه ! !

لقد شاهد المأمون قوله تعالى : وَكُلَّ شَئٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً ( سورة النبأ : 29 ) وشاهد تطبيقه في قوله تعالى : إِنَّا نَحْنُ نُحيْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَئٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ( سورة يس : 12 ) ورأى بعينيه وعقله أن الله تعالى يُطلع حجته الإمام المعصوم على مقاديره : إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم ! ( الكافي : 4 / 577 ، وكامل الزيارات ص 366 ، من زيارة الإمام الحسين عليه السلام )

إن هذه القصة من الرحمة الرحمانية للمأمون ، ومن مفردات إتمام الحجة على هذا العفريت المستكبر الذي يعبد نفسه ولا يعبد ربه ، ولا شغل له بالله ورسوله صلى الله عليه وآله ولا بالإسلام والقرآن ، ولا بالإمام الرضا عليه السلام وعلمه الرباني ، إلا بقدر أن تلد له جاريته الزاهرية المفضلة ولداً جميلاً ! وكذلك هي حقيقة الطغاة !

المرحوم الشيخ حبيب الله گلپايگاني ، شخصيةٌ معروفة عند كبار علماء گلپايگان ، وهو من الأولياء ، وإن لم يكن من الأوتاد ، فهو من الأبدال .

كنت بخدمته في عودتي ذات مرة من النجف الأشرف ، وسألته عن القصة التالية فنقلها لي ، وهي مفصلة ، خلاصتها : سألته : ما هي قصتك حتى أنك تمسح بيدك على مكان الوجع فيشفيه الله تعالى ؟

قال : مرضت في مشهد الإمام الرضا عليه السلام ونقلوني إلى المستشفى ، وبعد يوم من معالجتي واشتداد مرضي ، تغيرت حالتي فأدرت وجهي إلى قبة الإمام الرضا عليه السلام وقلت له : سيدي كنت لمدة أربعين سنة أول شخص يدخل حرمك الشريف ويزورك !

( وقد صدق قدس سره فقد رأيته يوم كنا في مدرسة في مشهد اسمها مدرسة الحاج حسن ، وكان رحمه الله مسؤولاً عن الطلبة وله غرفة في المدرسة ، رأيته في شتاء خراسان القارس يذهب قبل الفجر تحت هطول الثلج ، ويفرش سجادته في الإيوان خلف باب حرم الإمام الرضا عليه السلام ويصلي صلاة الليل ، حتى يفتحوا الباب قرب الفجر ، فيكون أول داخل إلى الحرم الشريف ) .

قال رحمه الله : قلت للإمام كنت في خدمتك هكذا أربعين سنة فهل تتركني الآن ؟ !

قال رحمه الله : كنت في اليقظة ولم أكن نائماً ولا ساهياً ، فرأيت عالماً آخر ، بستاناً فيه أرائك ، وقد جلس الإمام الرضا عليه السلام وأنا إلى جنبه ، فمد اليَّ يده وأعطاني طاقة ورد ، فأخذتها بيدي هذه ! وعدت إلى عالمي ونظرت في يدي فلم أجد شيئاً ! وكذلك لم أجد أثراً لألمي ولا لمرضي ! ومن ذلك اليوم رأيت أني كلما مسحت بيدي على وجع في جسمي أو جسم أحد يرتفع وجعه ويذهب مرضه بلطف الله تعالى ! وكم شافى الله على يده رحمه الله من أشخاص ، وكان عدة منهم مصابين بمرض السرطان !

قال رحمه الله : قبل أن تكثر مصافحة أهل المعاصي ليدي هذه ، كنت إذا مسحت بها على وجع يرتفع مباشرة ويتم الشفاء ، أما بعد ذلك فإني أمسح على مكان الألم عدة مرات ، وأدعو حتى يخف الألم ، وقد يرتفع !

تلك هي الرحمة الرحمانية تصل بواسطة الإمام الرضا عليه السلام إلى المأمون . وهذه الرحمة الرحيمية تصل إلى هذا الولي الشيخ حبيب الله قدس سره ، فبدون أن يتكلم الإمام عليه السلام يعطيه طاقة ورد ، وبمجرد أن يأخذها يحدث انقلاب في يده !

إنه الإكسير الأعظم ، لو تركوه يمس العالم ، لانقلب إلى عالم أعلى !

إلهي . . بكرامة الإمام الرضا عندك ، أعف عن تقصيرنا وقصورنا .

اللهم صل وسلم على وليك علي بن موسى الرضا

عدد ما في علمك ، صلاةً دائمةً بدوام ملكك .

 

 

[1] في الكافي : 1 / 198 : ( عن عبد العزيز بن مسلم قال : كنا مع الرضا عليه السلام بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها ، فدخلت على سيدي عليه السلام فأعلمته خوض الناس فيه ، فتبسم ثم قال :

يا عبد العزيز جهل القوم وخُدعوا عن آرائهم ، إن الله عز وجل لم يقبض نبيه صلى الله عليه وآله حتى أكمل له الدين ، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شئ ، بين فيه الحلال والحرام ، والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كُمَلاً ، فقال عز وجل : مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَئٍْ ( سورة الأنعام : 38 ) وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره صلى الله عليه وآله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ( سورة المائدة : 3 ) . وأمر الإمامة من تمام الدين ، ولم يمض صلى الله عليه وآله حتى بين لأمته معالم دينهم ، وأوضح لهم سبيلهم ، وتركهم على قصد سبيل الحق ، وأقام لهم علياً عليه السلام علماً وإماماً ، وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا بينه ، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله ، ومن رد كتاب الله فهو كافر به .

هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة ، فيجوز فيها اختيارهم ؟ !

إن الإمامة أجل قدراً ، وأعظم شأناً ، وأعلا مكاناً ، وأمنع جانباً ، وأبعد غوراً ، من أن يبلغها الناس بعقولهم ، أو ينالوها بآرائهم ، أو يقيموا إماماً باختيارهم !

إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوة والخلة مرتبةً ثالثة ، وفضيلةً شرفه بها ، وأشاد بها ذكره ، فقال : وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ( سورة البقرة : 124 ) فقال الخليل عليه السلام سروراً بها : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ؟ قال الله تبارك وتعالى : لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ . فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة . ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال : وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ( سورة الأنبياء : 72 - 73 )

فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرناً فقرناً ، حتى ورثها الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله فقال جل وتعالى : إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين . َ ( سورة آل عمران : 68 ) فكانت له خاصة فقلدها صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله ، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله تعالى : وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالأَيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ( سورة الروم : 56 ) فهي في ولد علي عليه السلام خاصة إلى يوم القيامة ، إذ لا نبيَّ بعد محمد صلى الله عليه وآله ، فمن أين يختار هؤلاء الجهال ؟ !

إن الإمامة هي منزلة الأنبياء ، وإرث الأوصياء . إن الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول صلى الله عليه وآله ومقام أمير المؤمنين ، وميراث الحسن والحسين عليهم السلام .

إن الإمامة زمام الدين ، ونظام المسلمين ، وصلاح الدنيا وعز المؤمنين .

إن الإمامة أسُّ الاسلام النامي ، وفرعه السامي .

بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد ، وتوفير الفئ والصدقات ، وإمضاء الحدود والأحكام ، ومنع الثغور والأطراف .

الإمام يحل حلال الله ، ويحرم حرام الله ، ويقيم حدود الله ، ويذب عن دين الله ، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، والحجة البالغة .

الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم ، وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار .

الإمام البدر المنير ، والسراج الزاهر ، والنور الساطع ، والنجم الهادي في غياهب الدجى ، وأجواز البلدان والقفار ، ولجج البحار .

الإمام الماء العذب على الظمأ ، والدال على الهدى ، والمنجي من الردى .

الإمام النار على اليفاع ، الحار لمن اصطلى به ، والدليل في المهالك ، من فارقه فهالك ،

الإمام السحاب الماطر ، والغيث الهاطل ، والشمس المضيئة ، والسماء الظليلة ، والأرض البسيطة ، والعين الغزيرة ، والغدير والروضة .

الإمام الأنيس الرفيق ، والوالد الشفيق ، والأخ الشقيق ، والأم البرة بالولد الصغير ، ومفزع العباد في الداهية النآد .

الإمام أمين الله في خلقه ، وحجته على عباده ، وخليفته في بلاده ، والداعي إلى الله ، والذاب عن حرم الله .

الإمام المطهر من الذنوب ، والمبرأ عن العيوب ، المخصوص بالعلم ، الموسوم بالحلم نظام الدين ، وعز المسلمين ، وغيظ المنافقين ، وبوار الكافرين .

الإمام واحد دهره ، لا يدانيه أحد ، ولا يعادله عالم ، ولا يوجد منه بدل ، ولا له مثل ولا نظير ، مخصوص بالفضل كله ، من غير طلب منه له ولا اكتساب ، بل اختصاص من المفضل الوهاب . فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام ، أو يمكنه اختياره ؟ ! !

هيهات هيهات ، ضلت العقول ، وتاهت الحلوم ، وحارت الألباب ، وخسئت العيون ، وتصاغرت العظماء ، وتحيرت الحكماء ، وتقاصرت الحلماء ، وحصرت الخطباء ، وجهلت الألبَّاء ، وكلَّت الشعراء ، وعجزت الأدباء ، وعييت البلغاء ، عن وصف شأن من شأنه ، أو فضيلة من فضائله ، وأقرت بالعجز والتقصير !

وكيف يوصف بكله ، أو ينعت بكنهه ، أو يفهم شئ من أمره ، أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه ؟ لا كيف ؟

وأنى ؟ وهو بحيث النجم من يد المتناولين ، ووصف الواصفين ، فأين الاختيار من هذا ؟ وأين العقول عن هذا ؟ وأين يوجد مثل هذا ؟ ! أتظنون أن ذلك يوجد في غير آل الرسول محمد صلى الله عليه وآله ؟ ! كذبتهم والله أنفسهم ، ومنَّتهم الأباطيل ! فارتقوْا مرتقىً صعباً دحِضاً ، تزلُّ عنه إلى الحضيض أقدامهم ! راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة ، وآراء مضلة ، فلم يزدادوا منه إلا بعداً : وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( سورة التوبة : 30 ) ولقد راموا صعباً ، وقالوا إفكاً ، وضلوا ضلالاً بعيداً ، ووقعوا في الحيرة ، إذ تركوا الإمام عن بصيرة : وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ( سورة العنكبوت : 38 ) .

رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته إلى اختيارهم ، والقرآن يناديهم : وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( سورة

القصص : 68 ) وقال عز وجل : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ( سورة الأحزاب : 36 ) وقال : مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ . أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ . إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ . أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ . سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ . أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ( سورة القلم : 36 - 41 )

وقال عز وجل : أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ( سورة النساء : 82 ) ، أم طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون ؟ ! أم قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ . إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ . وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ( سورة الأنفال : 21 - 23 ) أم قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( سورة البقرة : 93 ) بل هو فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( الجمعة : 4 )

فكيف لهم باختيار الإمام ؟ ! والإمام عالم لا يجهل ، وراع لا ينكل ، معدن القدس والطهارة ، والنسك والزهادة ، والعلم والعبادة ، مخصوصٌ بدعوة الرسول صلى الله عليه وآله ونسل المطهرة البتول ، لا مغمز فيه في نسب ، ولا يدانيه ذو حسب ، في البيت من قريش ( في تحف العقول : فالبيت من قريش ) والذروة من هاشم ، والعترة من الرسول صلى الله عليه وآله والرضا من الله عز وجل ، شرف الأشراف ، والفرع من عبد مناف ، نامي العلم ، كامل الحلم ، مضطلع بالإمامة ، عالم بالسياسة ، مفروض الطاعة ، قائم بأمر الله عز وجل ، ناصح لعباد الله ، حافظ لدين الله .

إن الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم ، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان ، في قوله تعالى : قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( يونس : 35 ) ، وقوله تبارك وتعالى : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ( البقرة : 269 ) ، وقوله في طالوت : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة : 247 ) ، وقال لنبيه صلى الله عليه وآله : وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء : 113 )

وقال في الأئمة من أهل بيت نبيه وعترته وذريته صلوات الله عليهم : أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً . فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ( النساء : 54 - 55 )

وإن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده ، شرح صدره لذلك ، وأودع قلبه ينابيع الحكمة ، وألهمه العلم إلهاماً ، فلم يعيَ بعده بجواب ، ولا يحيد فيه عن الصواب ، فهو معصومٌ مؤيد ، موفقٌ مسدد ، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار ، يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده ، وشاهده على خلقه ، وذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( الحديد : 21 )

فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه ، أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه ؟ ! تعدوا - وبيت الله - الحق ، ونبذوا كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( البقرة : 101 ) وفي كتاب الله الهدى والشفاء ، فنبذوه واتبعوا أهواءهم ، فذمهم الله ومقتهم وأتعسهم فقال جل وتعالى : وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( القصص : 50 ) وقال : فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( محمد : 8 ) وقال : كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ( غافر : 35 )

ورواه الصدوق قدس سره في عيون أخبار الرضا عليه السلام : 2 / 195 ، قال : ( حدثنا أبو العباس محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رضي الله عنه قال : حدثنا أبو أحمد القاسم بن محمد بن علي الهاروني قال : حدثني أبو حامد عمران بن موسى بن إبراهيم عن الحسن بن القاسم الرقام قال : حدثني القاسم بن مسلم عن أخيه عبد العزيز بن مسلم قال : كنا في أيام علي بن موسى الرضا عليهم السلام بمرو فاجتمعنا في مسجد جامعها في يوم الجمعة في بدء مقدمنا ، فأدار الناس أمر الإمامة ، وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها ، فدخلت على سيدي ومولاي الرضا عليه السلام فأعلمته ما خاض الناس فيه والحديث . . )

وروى في الكافي : 1 / 203 ، خطبةً عظيمة للإمام الصادق عليه السلام في موسم الحج في حياة أبيه الإمام الباقر عليه السلام بين فيها مكانة الأئمة عليهم السلام ويعرف الإمام للأمة ، يناسب أن نوردها هنا ، قال الكليني رحمه الله : ( محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن إسحاق بن غالب ، عن أبي عبد الله عليه السلام في خطبة له يذكر فيها حال الأئمة عليهم السلام وصفاتهم :

إن الله عز وجل أوضح بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا صلى الله عليه وآله عن دينه ، وأبلج بهم عن سبيل منهاجه ، وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه ، فمن عرف من أمة محمد صلى الله عليه وآله واجب حق إمامه ، وجد طعم حلاوة إيمانه ، وعلم فضل طلاوة إسلامه ، لأن الله تبارك وتعالى نصب الإمام علماً لخلقه ، وجعله حجةً على أهل مواده وعالمه ، وألبسه الله تاج الوقار ، وغشاه من نور الجبار ، يمد بسبب إلى السماء ، ولا ينقطع عنه مواده ، ولا ينال ما عند الله إلا بجهة أسبابه ، ولا يقبل الله أعمال العباد إلا بمعرفته ، فهو عالمٌ بما يرد عليه من ملتبسات الدجى ، ومعميات السنن ، ومشبهات الفتن ، فلم يزل الله تبارك وتعالى يختارهم لخلقه من ولد الحسين عليهم السلام من عقب كل إمام ، يصطفيهم لذلك ويجتبيهم ، ويرضى بهم لخلقه ويرتضيهم ، كل ما مضى منهم إمام نصب لخلقه من عقبه إماماً ، علماً بيناً ، وهادياً نيراً ، وإماماً قيماً ، وحجةً عالماً ، أئمةً من الله ، يهدون بالحق وبه يعدلون ، حججُ الله ودعاتُه ، ورعاتُه على خلقه ، يدين بهديهم العباد ، وتستهل بنورهم البلاد ، وينمو ببركتهم التلاد ، جعلهم الله حياة للأنام ، ومصابيح للظلام ، ومفاتيح للكلام ، ودعائم للإسلام ، جرت بذلك فيهم مقادير الله على محتومها .

فالإمام هو المنتجب المرتضى ، والهادي المنتجى ، والقائم المترجى ، اصطفاه الله بذلك ، واصطنعه على عينه في الذر حين ذرأه ، وفي البرية حين برأه ، ظلاً قبل خلق نسمة عن يمين عرشه ، محبواً بالحكمة في علم الغيب عنده . اختاره بعلمه ، وانتجبه لطهره بقيةً من آدم عليه السلام ، وخيرةً من ذرية نوح ، ومصطفىً من آل إبراهيم ، وسلالةً من إسماعيل ، وصفوةً من عترة محمد صلى الله عليه وآله .

لم يزل مرعياً بعين الله ، يحفظه ويكلؤه بستره ، مطروداً عنه حبائل إبليس وجنوده ، مدفوعاً عنه وقوب الغواسق ، ونفوثُ كل فاسق ، مصروفاً عنه قوارف السوء ، مبرءاً من العاهات ، محجوباً عن الآفات ، معصوماً من الزلات ، مصوناً عن الفواحش كلها ، معروفاً بالحلم والبر في يفاعه ، منسوباً إلى العفاف والعلم والفضل عند انتهائه ، مسنداً إليه أمر والده ، صامتاً عن المنطق في حياته ، فإذا انقضت مدة والده ، إلى أن انتهت به مقادير الله إلى مشيئته ، وجاءت الإرادة من الله فيه إلى محبته ، وبلغ منتهى مدة والده عليه السلام فمضى وصار أمر الله إليه من بعده ، وقلده دينه ، وجعله الحجة على عباده ، وقيِّمه في بلاده ، وأيده بروحه ، وآتاه علمه ، وأنبأه فصل بيانه ، واستودعه سره ، وانتدبه لعظيم أمره ، وأنبأه فضل بيان علمه ، ونصبه علماً لخلقه ، وجعله حجةً على أهل عالمه ، وضياءً لأهل دينه ، والقيمَ على عباده ، رضي الله به إماماَ لهم ، استودعه سره ، واستحفظه علمه ، واستخبأه حكمته ، واسترعاه لدينه ، وانتدبه لعظيم أمره ، وأحيا به مناهج سبيله ، وفرائضه وحدوده .

فقام بالعدل عند تحير أهل الجهل ، وتحير أهل الجدل ، بالنور الساطع ، والشفاء النافع ، بالحق الأبلج ، والبيان اللائح من كل مخرج ، على طريق المنهج ، الذي مضى عليه الصادقون من آبائه عليهم السلام .

فليس يجهل حق هذا العالم إلا شقي ، ولا يجحده إلا غوي ، ولا يصد عنه إلا جري على الله جل وعلا ) .

[2] في التفسير الصافي للفيض الكاشاني : 1 / 86 : وروي عن الصادق : أن الصورة الإنسانية هي الطريق المستقيم إلى كل خير والجسر الممدود بين الجنة والنار .

وفي التفسير الصافي : 1 / 92 : ( وقال الصادق عليه السلام : الصورة الإنسانية هي أكبر حجة الله على خلقه ، وهي الكتاب الذي كتبه الله بيده ) .

وفي شرح الأسماء الحسنى للسبزواري : 1 / 12 : ( وعن الصادق عليه السلام كما في الصافي أو عن أمير المؤمنين علي عليه السلام على ما قال ابن جمهور رحمه الله : الصورة الإنسانية هي أكبر حجج الله على خلقه ، وهي الكتاب الذي كتبه بيده ، وهي الهيكل الذي بناه بحكمته ، وهي مجموع صور العالمين ، وهي المختصر من اللوح المحفوظ ، وهي الشاهدة على كل غايب ، وهي الحجة على كل جاحد ، وهي الطريق المستقيم إلى كل خير ، وهي الجسر الممدود بين الجنة والنار ) . انتهى .

[3] رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 / 241 ، كما ورد أعلاه وقال قدس سره في آخره : والحديث فيه زيادة حذفناها ، ولا حول وقوه إلا بالله العلي العظيم " .

ورواه الطوسي في الغيبة ص 74 ، قال : ( وروى محمد بن عبد الله بن الحسن الأفطس قال : كنت عند المأمون يوماً ونحن على شراب ، حتى إذا أخذ منه الشراب مأخذه صرف ندماءه واحتبسني ، ثم أخرج جواريه ، وضربن وتغنين ، فقال لبعضهن : بالله لما رثيت من بطوس قطنا ، فأنشأت تقول :

سقياً لطوس ومن أضحى بها قطنا * من عترة المصطفى أبقى لنا حزنا

أعني أبا حسن المأمون إن له * حقاً على كل من أضحى بها شجنا

قال محمد بن عبد الله : فجعل يبكي حتى أبكاني ، ثم قال لي : ويلك يا محمد أيلومني أهل بيتي وأهل بيتك أن أنصب أبا الحسن علماً ، والله إن وددت لو أخرجت من هذا الأمر ولأجلسته مجلسي غير أنه عوجل ، فلعن الله عبد الله وحمزة ابني الحسن فإنهما قتلاه . ثم قال لي : يا محمد بن عبد الله ، والله لأحدثنك بحديث عجيب فاكتمه ، قلت : ما ذاك يا أمير المؤمنين ؟ قال : لما حملت زاهرية ببدر أتيته فقلت له : جعلت فداك بلغني أن أبا الحسن موسى بن جعفر ، وجعفر بن محمد ، ومحمد بن علي ، وعلي بن الحسين ، والحسين بن علي كانوا يزجرون الطير ولا يخطئون ، وأنت وصي القوم ، وعندك علم ما كان عندهم ، وزاهرية حظيتي ومن لا أقدم عليها أحداً من جواريَّ ، وقد حملت غير مرة كل ذلك يسقط ، فهل عندك في ذلك شئ ننتفع به ؟ فقال : لا تخش من سقطها ، فستسلم وتلد غلاماً صحيحاً مسلماً أشبه الناس بأمه ، قد زاده الله في خلقه مرتبتين ، في يده اليمنى خنصر وفي رجله اليمنى خنصر . فقلت في نفسي هذه والله فرصة إن لم يكن الأمر على ما ذكر خلعته ، فلم أزل أتوقع أمرها حتى أدركها المخاض ، فقلت للقيمة : إذا وضعت فجيئيني بولدها ذكراً كان أو أنثى . فما شعرت إلا بالقيمة وقد أتتني بالغلام كما وصفه زائد اليد والرجل ، كأنه كوكب دري ، فأردت أن أخرج من الأمر يومئذ وأسلم ما في يدي إليه ، فلم تطاوعني نفسي لكني دفعت إليه الخاتم فقلت : دبر الأمر فليس عليك مني خلاف ، وأنت المقدم ، وبالله أن لو فعل لفعلت ) .

وفي الثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسي ص 486 : ( 415 / 2 - عن عبد الله بن محمد الهاشمي العلوي قال : دخلت علي المأمون فحدثني ملياً ، ثم أخرج من كان عنده لمكاني ، فلما خلا المجلس دعا بماء فغلسنا أيدينا ، ثم أتي بطعام فطعمنا ، ثم أمر بستارة فمدت ، ثم أقبل على واحدة من الجواري وقال : يا بنت فلان لمَّا رثيت لنا من بطوس قطنا . فأنشأت الجارية تقول شعراً :

سقياً لطوس ومن أضحى به قطنا * من عترة المصطفى أبقى لنا حزنا

فبكى المأمون حتى اخضلت لحيته من دموعه ثم قال : يا عبد الله ، أيلومني أهل بيتي وأهل بيتك أن أنصب أبا الحسن علماً ، فوالله لأحدثنك بحديث فاكتمه علي . جئته يوماً فقلت له : جعلت فداك ، آباؤك موسى بن جعفر وجعفر بن محمد ومحمد بن علي وعلي بن الحسين والحسين بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، كان عندهم علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وأنت وصي القوم ، وعندك علمهم ، وهذه الزاهرية حظيتي ومن لا أقدم عليها أحداً من جواريَّ ، وقد حملت غير مرة كل ذلك تسقط ، وهي حبلى ، أفلا تعلمني شيئاً أعلمها فتعالج به فلعلها تسلم ؟

 

قال المأمون : فأطرق إطراقة ثم رفع رأسه وقال : لا تخف من إسقاطها ، فإنها ستسلم وتلد لك غلاماً أشبه الناس بأمه ، كأن وجهه الكوكب الدري ، وقد زاد الله في خلقه مرتين

قلت : فما المرتان الزائدتان ؟ قال : فالأولى بيده اليمنى خنصرة زائدة ليست بالمدلاة ، وفي رجله اليسرى خنصرة زائدة ليست بالمدلاة . فتعجبت من ذلك ، ولم أزل أتوقع من الزاهرية حتى إذا قرب أمرها جاءتني القيمة على الجواري وعلى أمهات الأولاد فقالت يا سيدي ، إن الزاهرية قد دنت ولادتها ، فتأذن لي أن أدخل عليها القوابل ؟ فأذنت لها في ذلك . ثم قلت : إذا وضعت المولود فأتيني به ذكراً كان أو أنثى ، فما شعرت إلا وأنا بالقابلة قد أتتني بغلام مدرج في حريرة ، فكشفت عن وجهه كأنه الكوكب الدري ، أشبه الناس بأمه ، فرددت الغلام على القابلة ، وقمت أسعى حافياً ، وكان نزل معي في الدار ، فإذا هو في بيت يصلي ، فلما أحس بي خفف صلاته ، فسلمت عليه ، ثم جئت إلى موضع سجوده فقبلته وقلت : يا سيدي أنت الداعي المطاع ، وأنا من رعيتك ، فأخرجت خاتمي وجعلته في أصبعه وقلت : مرني بأمرك أنتهِ إلى ما تأمرني به . والله إنه لو فعل لفعلت ، ولكن لعن الله حمزة ومحمداً ابني جعفر فإنهما قتلاه ، والله ما فعلت ولا أمرت ولا دسست ، وقد أمرت بقاتليه فقتلا سراً . ثم بكى ، وأبكاني ، وكان حمزة ومحمد من بني العباس ) .

ويناسب هنا أن نذكر نماذج من تاريخ المأمون بأقلام محبيه ، لنعرف أنه عفريت داهية ، خبيث الخطط ، مسرفٌ في سفك دماء المسلمين وأموالهم :

ففي سير أعلام النبلاء للذهبي : 10 / 284 : ( ثم في سنة إحدى ومئتين جعل المأمون ولي عهده علياً الرضا ، ولبس الخضرة . . . فسار ( المأمون ) من مرو إلى سرخس ، فشد قوم على الفضل ( وزيره ) فقتلوه في حمام في شعبان سنة اثنتين ومئتين عن ستين سنة ، فجعل المأمون لمن جاء بقاتليه عشرة آلاف دينار ، وكانوا أربعة من مماليك المأمون ، فقالوا : أنت أمرتنا بقتله ! فأنكر وضرب أعناقهم ) ! !

وفي تاريخ الطبري : 7 / 178 : ( ووافى المأمون في وقت العشاء وذلك في شهر رمضان من سنة 210 فأفطر هو والحسن والعباس ، ودينار بن عبد الله قائم على رجله حتى فرغوا من الإفطار وغسلوا أيديهم ، فدعا المأمون بشراب فأتى بجام ذهب ، فصب فيه وشرب ، ومد يده بجام فيه شراب إلى الحسن فتباطأ عنه الحسن ، لأنه لم يكن يشرب قبل ذلك ، فغمز دينار بن عبد الله الحسن فقال له الحسن : يا أمير المؤمنين أشربه بإذنك وأمرك ؟ فقال له المأمون لولا أمري لم أمدد يدي إليك ، فأخذ الجام فشربه .

فلما كان في الليلة الثانية جمع بين محمد بن الحسن بن سهل والعباسة بنت الفضل ذي الرئاستين ، فلما كان في الليلة الثالثة دخل على بوران وعندها حمدونة وأم جعفر وجدتها ، فلما جلس المأمون معها نثرت عليها جدتها ألف درة كانت في صينية ذهب فأمر المأمون أن تجمع وسألها عن عدد ذلك الدر كم هو فقالت ألف حبة . . .

وجمع المأمون ذلك الدر في الآنية كما كان فوضع في حجرها وقال هذه نحلتك ، وسلي حوائجك . . .

وألبستها أم جعفر البدنة الأموية وابتنى بها في ليلته ، وأوقد في تلك الليلة شمعة عنبر فيها أربعون مناً في تور ذهب . . .

وذكر أن المأمون أقام عند الحسن بن سهل سبعة عشر يوماً ، يعد له في كل يوم لجميع من معه جميع ما يحتاج إليه ، وأن الحسن خلع على القواد على مراتبهم وحملهم ووصلهم وكان مبلغ النفقة عليهم خمسين ألف ألف درهم .

قال وأمر المأمون غسان بن عباد عند منصرفه أن يدفع إلى الحسن عشرة آلاف ألف من مال فارس وأقطعه الصلح ، فحملت إليه على المكان وكانت معدة عند غسان بن عباد فجلس الحسن ففرقها في قواده وأصحابه وحشمه وخدمه ، فلما انصرف المأمون شيعه الحسن ثم رجع إلى فم الصلح .

فذكر عن أحمد بن الحسن بن سهل قال كان أهلنا يتحدثون أن الحسن بن سهل كتب رقاعاً فيها أسماء ضياعه ونثرها على القواد وعلى بني هاشم ( أي العباسيين ) ، فمن وقعت في يده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث فتسلمها . . .

ثم قال : سألها يوماً المأمون بفم الصلح حيث خرج إلينا عن النفقة على بوران ، وسأل حمدونة بنت غضيض عن مقدار ما أنفقت في ذلك الأمر ؟

قال فقالت حمدونة : أنفقت خمسة وعشرين ألف ألف .

قال فقلت أم جعفر : ما صنعتِ شيئاً ، قد أنفقت ما بين خمسة وثلاثين ألف ألف إلى سبعة وثلاثين ألف ألف درهم ) . انتهى . أقول : ( كانت الشاة بثلاثة دراهم ) !

وفي ذيل تاريخ بغداد لابن الدمياطي : 1 / 203 : ( لما بنى المأمون على بوران ، فرش له حصير من ذهب مسقوف ، ونثر عليه جواهر ، فجعل بياض الدر يشرق على صفرة الذهب وما مسه أحد . فوجه الحسن إلى المأمون : هذا نثار يجب أن يلقط ، فقال المأمون لمن حوله من بنات الخلفاء : شرفن أبا محمد ، فمدت كل واحدة منهن يدها ، فأخذت درة وبقي باقي الدر يلوح على الذهب حصير . فقال المأمون : قاتل الله أبا نواس حيث يقول :

كأن صغرى وكبرى من فواقعها * حصباء در على أرض من الذهب

فكيف لو رأى هذا معاينة !

وفي نهاية ابن كثير : 10 / 245 : ( ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة . فيها في صفر منها أمر الأمين الناس أن لا يتعاملوا بالدراهم والدنانير التي عليها اسم أخيه المأمون ، ونهى أن يدعى له على المنابر وأن يدعى له ولولده من بعده .

وفيها تسمى المأمون بإمام المؤمنين . وفي ربيع الآخر فيها عقد الأمين لعلي بن عيسى بن ماهان الأمارة على الجبل وهمذان وأصبهان وقم وتلك البلاد ، وأمره بحرب المأمون ، وجهز معه جيشاً كثيراً ، وأنفق فيهم نفقات عظيمة وأعطاه مائتي ألف دينار ، ولولده خمسين ألف دينار ، وألفي سيف محلى ، وستة آلاف ثوب للخلع ) . انتهى .




يحفل التاريخ الاسلامي بمجموعة من القيم والاهداف الهامة على مستوى الصعيد الانساني العالمي، اذ يشكل الاسلام حضارة كبيرة لما يمتلك من مساحة كبيرة من الحب والتسامح واحترام الاخرين وتقدير البشر والاهتمام بالإنسان وقضيته الكبرى، وتوفير الحياة السليمة في ظل الرحمة الالهية برسم السلوك والنظام الصحيح للإنسان، كما يروي الانسان معنوياً من فيض العبادة الخالصة لله تعالى، كل ذلك بأساليب مختلفة وجميلة، مصدرها السماء لا غير حتى في كلمات النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) وتعاليمه الارتباط موجود لان اهل الاسلام يعتقدون بعصمته وهذا ما صرح به الكتاب العزيز بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ، فصار اكثر ايام البشر عرفاناً وجمالاً (فقد كان عصرا مشعا بالمثاليات الرفيعة ، إذ قام على إنشائه أكبر المنشئين للعصور الإنسانية في تاريخ هذا الكوكب على الإطلاق ، وارتقت فيه العقيدة الإلهية إلى حيث لم ترتق إليه الفكرة الإلهية في دنيا الفلسفة والعلم ، فقد عكس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روحه في روح ذلك العصر ، فتأثر بها وطبع بطابعها الإلهي العظيم ، بل فنى الصفوة من المحمديين في هذا الطابع فلم يكن لهم اتجاه إلا نحو المبدع الأعظم الذي ظهرت وتألقت منه أنوار الوجود)





اهل البيت (عليهم السلام) هم الائمة من ال محمد الطاهرين، اذ اخبر عنهم النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) باسمائهم وصرح بإمامتهم حسب ادلتنا الكثيرة وهذه عقيدة الشيعة الامامية، ويبدأ امتدادهم للنبي الاكرم (صلى الله عليه واله) من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) الى الامام الحجة الغائب(عجل الله فرجه) ، هذا الامتداد هو تاريخ حافل بالعطاء الانساني والاخلاقي والديني فكل امام من الائمة الكرام الطاهرين كان مدرسة من العلم والادب والاخلاق استطاع ان ينقذ امةً كاملة من الظلم والجور والفساد، رغم التهميش والظلم والابعاد الذي حصل تجاههم من الحكومات الظالمة، (ولو تتبّعنا تاريخ أهل البيت لما رأينا أنّهم ضلّوا في أي جانب من جوانب الحياة ، أو أنّهم ظلموا أحداً ، أو غضب الله عليهم ، أو أنّهم عبدوا وثناً ، أو شربوا خمراً ، أو عصوا الله ، أو أشركوا به طرفة عين أبداً . وقد شهد القرآن بطهارتهم ، وأنّهم المطهّرون الذين يمسّون الكتاب المكنون ، كما أنعم الله عليهم بالاصطفاء للطهارة ، وبولاية الفيء في سورة الحشر ، وبولاية الخمس في سورة الأنفال ، وأوجب على الاُمّة مودّتهم)





الانسان في هذا الوجود خُلق لتحقيق غاية شريفة كاملة عبر عنها القرآن الحكيم بشكل صريح في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وتحقيق العبادة أمر ليس ميسوراً جداً، بل بحاجة الى جهد كبير، وافضل من حقق هذه الغاية هو الرسول الاعظم محمد(صلى الله عليه واله) اذ جمع الفضائل والمكرمات كلها حتى وصف القرآن الكريم اخلاقه بالعظمة(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، (الآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم وتعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم والعفو والاغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك) فقد جمعت الفضائل كلها في شخص النبي الاعظم (صلى الله عليه واله) حتى غدى المظهر الاولى لأخلاق رب السماء والارض فهو القائل (أدّبني ربي بمكارم الأخلاق) ، وقد حفلت مصادر المسلمين باحاديث وروايات تبين المقام الاخلاقي الرفيع لخاتم الانبياء والمرسلين(صلى الله عليه واله) فهو في الاخلاق نور يقصده الجميع فبه تكشف الظلمات ويزاح غبار.