أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-04-2015
1330
التاريخ: 26-04-2015
1826
التاريخ: 13-11-2020
3340
التاريخ: 10-06-2015
2317
|
لعلَّ معترضاً يقول : هلاّ كانت جميع آي القرآن محكَمات ، فكان ذلك أسلم من الالتباس وأقرب إلى طُرُق الاهتداء العامّ ! .
قال الإمام الرازي : من الملاحدة مَن طعنَ في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات ، إذ كيف يكون القرآن مرجع الناس في جميع العصور مع وفْرة دواعي الاختلاف فيه ، حيث يجد صاحب كلِّ مذهب مأربه في القرآن ؛ بسبب اختلاف آياته في الدلالة والردّ ، الأمر الذي لا يليق بالحكيم تعالى أن يجعل كتابه المبين معرّضاً للجدل وتضارب الآراء ، فلو كان جعله نقيّاً من المتشابهات المثيرة للشُبهات كان أقرب إلى حصول الغرَض والمقصود من الهداية العامَّة (1) .
وقد عالجَ ابن رشد الأندلسي ـ الفيلسوف العظيم ـ هذه الناحية معالجة دقيقة ، صنّف فيها الناس إلى ثلاثة أصناف : صِنف العلماء ، وعنى بهم مَن في طبقته من أرباب الحكمة العالية ، وصِنف الجمهور ، وهم عامَّة الناس ممّن لم يحظوا بحُليّ العلم شيئاً ، وصِنف بين بين ، لا هم في مستوى العلماء ولا مع العامَّة ، وعنى بهم أرباب المذاهب الكلامية من الأشاعرة وأصحاب الاعتزال .
قال : وهذا الصِنف الأخير هم الَّذين يوجد في حقِّهم التشابه في الشرع ، وهم الّذين ذمّهم الله تعالى ، وأمّا عند العلماء فليس في الشرع تشابه ؛ لأنَّهم يعرفون من كلّ آية وجه تخريجها الصحيح الذي قصده الشرع ، والجمهور لا يشعرون بالشكوك العارضة ، بعد أن كانوا أخذوا بالظواهر واستراحوا إليها من غير ترديد .
قال : إنّ التعليم الشرعي هو كالغذاء النافع لأكثر الأبدان ، نافع للأكثر وربّما ضرّ بالأقلّ ؛ ولهذا جاءت الإشارة بقوله تعالى : {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة : 26] .
وهذا إنّما يعرض في الأقلّ من الآيات لأقلّ الناس ، وهي الآيات الَّتي تضمَّنت الإعلام عن الأشياء المتغيّبة عن الحسّ ، ليس لها مثال في المحسوس ، فجاء التعبير عنها بالشاهد الَّذي هو أقرب الموجودات إلى تلك الغائبات وأكثرها شبَهاً بها ، فربّما عرَضَ لبعض الناس أن يأخذ ذاته لتلزمه الحَيرة والشكّ .
وهذا هو الذي سُمّي في الشرع متشابهاً ، الأمر الَّذي لا يعرض للعلماء ولا للجمهور ؛ لأنّ هؤلاء هم الأصحّاء الَّذين يلائمهم الغذاء النافع الذي يوافق أبدان الأصحّاء ، أمّا غير هذين الصنفين فمرضى ، والمرضى هم الأقلّ من الناس ، ولذلك قال تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران : 7] وهؤلاء هم أهل الجدل والمذاهب الكلامية .
قال : وقد سلَك الشرع في تعاليمه وبرامجه الناجحة مسلكاً ينتفع به الجمهور ويخضع له العلماء ، ومن ثمّ جاء بتعابير يفهمها كلّ من الصِنفين : الجمهور يأخذون بظاهر المثال فيتصوّرون عن الممثَّل له ما يشاكل الممثّل به ويقتنعون بذلك ، والعلماء يعرفون الحقيقة الَّتي جاءت في طيّ المثال .
مثلاً : لمّا كان أرفع الموجودات في الحسِّ هو النور ضُرب به المثال ، وبهذا النحْو من التصوّر أمكن للجمهور أن يفهموا من الموجودات فيما وراء الحسِّ ممّا مثِّل لهم بأمور متخيَّلة محسوسة ، فمتى أخَذَ الشرع في أوصاف الله تعالى على ظاهرها ، لم تعرضْ للجمهور شكٌّ في ذلك ، فإذا قيل : الله نور ، وأنَّ له حجاباً من نور ، وأنَّ المؤمنين يرونه في الآخرة كالشمس في رائعة النهار ، لم تعرض للجمهور شُبهة في حقيقة هذه التعابير ، وكذلك العلماء لا تعرض لهم شُبهة في ذلك ، حيث قد تبرْهَن عندهم أنَّ تلك الحالة هي مزيد عِلم ويقين .
لكن إذا ما صُرِّح بذلك للجمهور بطُلَت عندهم الشريعة كلَّها ، وربَّما كفروا بما صُرِّح لهم ؛ لأنَّ الجمهور يرون من كلِّ موجود هو المتخيِّل المحسوس ، وأنَّ ما ليس بمتخيَّل ولا محسوس فهو عَدَمٌ عندهم .
فإذا قيل : إنّ هناك موجوداً ليس بجسم ولا فيه شيء ممّا يرونه لازم الجسميَّة ، ارتفع عنهم التخيُّل وصار عندهم من قبيل المعدوم ، ولاسيّما إذا قيل لهم : إنّه لا خارج العالَم ، ولا داخله ، ولا فوق ، ولا أسفل ، ومن ثمَّ لم يصرِّح الشرع بأنّه ليس بجسم ، وإنَّما اكتفى بقوله : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى : 11] ، وقوله : {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام : 103] .
قال : وأنت إذا تأمّلت الشرع وجدته ـ مع أنَّه قد ضُرب للجمهور في هذه المعاني المثالات ، التي لم يمكنهم تصورّها إلاّ بذلك ـ قد نبَّه العلماء على تلك المعاني بحقائقها ، فيجب أن يوقَف عند حدّ الشرع في نهْج التعليم الذي خصّ به صِنفاً صِنفاً من الناس ، وأن لا يخلط التعليمان فتفسد الحكمة الشرعية النبوية ؛ ولذلك قال ( صلّى الله عليه وآله ) : ( إنّا معشر الأنبياء أُمِرنا أن نُنزل الناس منازلهم ، وأن نخاطبهم على قدَر عقولهم ) (2) .
وقد انتهج الإمام الرازي نفس المنهج ، قال : والسبب الأقوى في هذا الباب : أنّ القرآن كتابٌ مشتملٌ على دعوة الخواصّ والعوامّ جميعاً ، وطبائع العوامّ تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق ، فمَن سمع من العوام في أوَّل الأمر إثبات موجود ليس بجسم ، ولا متحيّز ، ولا مُشار إليه ، ظنّ أنّ هذا عدم ونفي فوقع التعطيل ، فكان الأصلح أن يُخاطَبوا بألفاظ دالَّة على بعض ما يناسب ما يتوهَّمونه ويتخيّلونه ، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدلّ على الحقِّ الصريح ، فالقسم الأوّل ـ وهو الذي يخاطَبون به في أوَّل الأمر ـ يكون من باب المتشابهات ، والقسم الثاني ـ وهو الذي يُكشَف لهم في آخِر الأمر ـ هي المحكَمات (3) .
* * *
وهذا المنهج الَّذي انتهجه الفيلسوفان في توجيه وجود المتشابه في القرآن ، معالجة للقضية في بعض جوانبها ، وهي الآيات المتشابهة المرتبطة مع مسألة المبدأ والمعاد ، وليس علاجاً حاسماً للمادَّة من جذورها ، إذ تبقى آيات الخلْق والتقدير ، والقضاء والقدر ، والجبر والاختيار ، والعدل والعصمة ، وما شاكل ، خارجة عن إطار هذا العلاج .
أمّا العلاج الحاسم لمادّة الإشكال في كلّ جوانب المسألة فهو : أنّ وقوع التشابه في مثل القرآن ـ الكتاب السماوي الخالد ـ شيء كان لا محيص عنه ، ما دام كان يجري في تعابيره الرقيقة مع أساليب القوم ، في حين سُمُوّ فحواه عن مستواهم الهابط .
القرآن جاء بمفاهيم حديثة كانت غريبة عن طبيعة المجتمع البشري آنذاك ، ولاسيّما جزيرة العرب القاحلة عن أنحاء الثقافات ، في حين التزامه في تعبيراته الكلامية نفس الأساليب الّتي كانت دارجة ذلك العهد ، الأمر الّذي ضاق بتلك الألفاظ ، وهي موضوعة لمعانٍ مبتذلة وهابطة إلى مستوى سحيق من أن تحيط بمفاهيم هي في درجة راقية وبعيدة الآفاق .
كانت الألفاظ والكلمات الَّتي كانت العرب تستعملها في محاوراتها محدودة في نطاق ضيِّق ، حسبما كانت العرب تألَفه من معانٍ محسوسة ، أو قريبة من الحسّ ومبتذلة إلى حدٍّ ما ، فجاء استعمالها من قِبل القرآن ـ الكتاب الَّذي جاء للبشريَّة على مختلف مستوياتهم مع الأبديّة ـ غريباً عن المألوف العام .
ومن ثمَّ قصُرَت أفهامهم عن إدراك حقائقها ما عدا ظواهر اللفظ والتعبير ، إذ كانت الألفاظ تقصُر بالذات عن أداء مفاهيم لم تكن تطابقها ، ومن ثمَّ كان اللجوء إلى صنوف المجاز وأنواع الاستعارات ، أو الإيفاء بالكناية ودقائق الإشارات ، الأمر الذي قرَّب المفاهيم القرآنية إلى مستوى أفهام العامَّة من جهة ، وبعَّدها من جهةٍ أخرى ، قرَّبها من جهة إخضاعها لقوالبَ لفظية كانت مألوفة لدى العرب ، وبعَّدها حيث سموّ المعنى ، كان يأبى الخضوع لقوالب لم تكن موضوعةً لمِثله ، كما كان يأبى النزول مع المستوى الهابط مهما بولِغَ في إخضاعه ، إذ اللفظ يقصر عن أداء مفهوم لا يكون قالباً له ولا يتطابقه تماماً ؛ هذا هو السبب الأقوى لوقوع التشابه في تعبيرات القرآن بالذات ، كما مرّ من مسألة الأمْر بين الأمرَين ، وغيرها من مسائل كلامية غامضة تبحث عن شؤون المبدأ تعالى والمعاد ، ومسائل شؤون الخليقة وما انطوت عليه من أسرار وغوامض خافية على غالبية الناس .
مثلاً قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة : 30] تعبيرٌ رمزيّ عن شأن الإنسان ـ بصورة عامَّة ـ في الأرض ، إنّه ذلك الموجود العجيب الَّذي يملِك في ذاته قدرة جبّارة ، يضيق عنها الفضاء وتخضع لها قوى الأرض والسماء {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [الجاثية : 13].
كلّ ذلك بفضْل نبوغه واستعداده الخارق الَّذي يمنحه القدرة على الخلْق والإبداع ؛ على أثر تفكيره وجهاده في الوصول إلى درجة الكمال ، وليتمثّل مظهريّته تعالى ، فهو الموجود النموذجي لمظهرية ذي الجلال والإكرام ، ومن ثمَّ كان خليفته في الأرض يومذاك ؛ ليصبح خليفته في عالم الوجود إطلاقاً .
لم تكن العرب تستطيع إدراك هكذا تصوّر عن الإنسان ، ولا كان يخطر بِبالها أنَّ لهذا الإنسان شأناً في عالَم الوجود ، سوى أنّه الموجود الضعيف الذي تتألَّب عليه الضواري ، ولا يقتات إلاّ على لحوم بَني جِلدته سَلباً ونَهباً ، وإراقةً للدماء والفساد في الأرض .
ومن ثمَّ لمّا جاء التعبير عن شان آدم بهذا التعبير ـ ممّا ينمّ عن عظَمةٍ وإكبار ـ حسَبوه ( المتصرّف في الأرض ) عن جانب الله القابع في زاوية السماء ، أو فسَّروه ـ كما في عصرٍ متأخّر ـ بأنَّه الخلَف عن مخلوق كان قبل آدم ، الجِنّ أو النَسناس .
وهكذا الانجذاب بالآية يمنةً ويسرة ، ما دام لم يعرفوا من حقيقة الإنسان ولا أدركوا من شأنه الخطير .
* * *
وهكذا جاء التعبير المجازي في آيتَين لا تختلفان من حيث الأداء والتعبير ، غير أنّ إحداهما لمّا كانت تعبِّر عن معنى هو فوق مستوى العامّة حصل فيها التشابه ، أمّا الأخرى فكانت تعبيراً عن معنىً محسوس ، ومن ثمَّ لم يقع فيها إشكال ، فقوله تعالى : {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة : 23] فيها مجاز الحذْف ، أي إلى رحمة ربّها ، كما في آية أخرى نظيرتها : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف : 82] أي أهل القرية ، غير أنّ الأُولى صارت متشابهة لقصور أفْهام العامَّة عن إدراك مقام الإلوهية ، فحسبوا منها جواز رؤيته تعالى ، أمّا الآية الثانية فلم تتوقَّف في فهْم حقيقتها ؛ لأنّها في معنىً محسوس .
ونظير ذلك قوله تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [القلم : 42] دعا جهْل العامَّة بصفاته تعالى إلى فهْم ساقٍ له سبحانه ، في حين أنَّ استعارة الساق للشدَّة عند العرب كان أمراً دارجاً ، قال شاعرهم : ( وقامت الحرب على ساق ) (4) أي أخذَت في شدّتها ، فهم عندما يستمعون إلى هذا الشِعر لا يتردَّدون في فهْم الحقيقة ، إذ يعلمون أن لا رِجْل للحرب ولا ساق ، أمّا في الآية الكريمة فيذهب وهْمُهم إلى وجود رِجْل له تعالى وساق ، ومن ثمَّ ذهب بعضهم إلى عقيدة التجسيم ـ تعالى الله عن ذلك ـ .
* * *
وقد ذهب سيِّدنا الطباطبائي ( قدّس سرّه ) أيضاً إلى هذا الرأي ، وذكر أنَّ سبب وقوع التشابه في القرآن يعود إلى خضوع القرآن ـ في إلقاء معارفه العالية ـ لألفاظ وأساليب دارجة ، هي لم تكن موضوعة لسوى معانٍ محسوسة أو قريبة منها ، ومن ثمَّ لم تكن تفي بتمام المقصود ، فوقع التشابه فيها وخفيَ وجه المطلوب .
نعم ، إلاّ على أولئك الَّذين نفذَت بصيرتهم وكانوا على مستوىً رفيع ، قال تعالى : { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً ـ إلى قوله ـ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ }[ الرعد : 17] . وهكذا القرآن تحتمله الأفهام على قدَر استعداداتها ، وفيه من المتشابهات ما تزول بتعميق النظَر وإجادة التفكير ، فيبقى القرآن كلّه محكَماً مع الأبَد بسلام (5) .
وهكذا قال الشيخ محمَّد عبده : إنَّ الأنبياء بُعثوا إلى جميع أصناف الناس من : دانٍ وشريف ، وعالمٍ وجاهل ، وذكيّ وبليد ، وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة يفهمها كلّ أحد ، ففيها من المعاني العالية ، والحِكَم الدقيقة ما يفهمه الخاصَّة ، ولو بطريق الكناية والتعريض ، ويؤمَر العامَّة بتفويض الأمر فيه إلى الله ، والوقوف عند حدِّ المحكَم ، فيكون لكلٍّ نصيبه على قدَر استعداده (6) .
وهناك عاملٌ آخَر كان ذا أثر في إيجاد التشابه في غالبية الآيات الكريمة ، إذ لم تكن متشابهة من ذي قبل ، وإنّما حدَث التشابه فيها على أثر ظهور مذاهب جدَلية ، بعد انقضاء القرن الأوّل الَّذي مضى بسلام ، إذ كانت العرب أوَّل عهدها بنزول القرآن تستذوقه بمذاويقها البدائية الساذجة ، حلواً بديعاً سهلاً بليغاً ، أمّا وبعدما احتبكت وشائج الجدَل بين أرباب المذاهب الكلامية منذ مطلع القرن الثاني ، فقد راج التشبّث بظواهر آياتٍ تحريفاً بمواضع الكَلِم ، ومن ثمَّ غمّها نوع من الإبهام والغموض الاصطناعيَين ، وأخذت كلّ طائفة تتشبّث بما يروقها من آيات ؛ لغرض تأويلها إلى ما تَدعَم به مذهبَها .
ولا ريب أنّ القرآن حمّال ذو وجوه ـ كما قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ـ ؛ لأنّه كما ذكرنا معتمد في أكثر تعابيره البلاغية على أنواع من المجاز والاستعارة والتشبيه ، فأكسبه ذلك خاصّية قبول الانعطاف في غالبية آياته الكريمة ، ومن ثمَّ نهى الإمام ( عليه السلام ) عن الاحتجاج بالقرآن تجاه أهل البِدع والأهواء ؛ لأنَّهم يعمدون إلى تأويله بلا هوادة ، قال ( عليه السلام ) لابن عبّاس ـ لمّا بعَثه للاحتجاج على الخوارج ـ : ( لا تخاصمهم بالقرآن ؛ فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه ، تقول ويقولون ، ولكن حاجِجهم بالسُنَّة فإنَّهم لن يجدوا عنها محيصاً ) (7) .
انظر إلى هذه الآية الكريمة : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة : 22، 23] .
ربّما لم تكن العرب تخطر بِبالها إرادة الرؤية بالعين ، كما قال الزمخشري : سمعت مستجْدِية بمكَّة ـ بعدما أغلق الناس أبوابهم من حرّ الظهيرة ـ تقول : عُيَينَتي نوَيظِرة إلى الله وإليكم (8) ، ولم يختلِج بِبال أحد أنّها تقصد النظر بالتحديق إلى الله سبحانه ، وإنَّما كان قصدُها الانقطاع إليه وتوقّع فضْله ورحمته تعالى ، وهكذا في الآية الكريمة نظراً إلى موقعيّة الحصْر فيها . لكنَّ الأشاعرة وأذنابهم من مشبِّهة ومجسِّمة جمَدوا على ظاهر الآية البِدائي ، وأصرّوا على أنّه النظر إليه تعالى بهاتَين العينَين اللتَين في الوجه (9) .
وهكذا لمّا سَمِعت العرب قوله تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يونس : 3] ، ربَّما لم تَفْهم منه سوى استقلاله تعالى بملَكوت السماوات والأرض وتدبيره لشؤون هذا العالَم ، نظير قول شاعرهم :
ثمّ استوى بشَرٌ على العراق من غير سيفٍ ودم مِهراق
وقال آخر :
فلمّا علَونا واستوَينا عليهم تركناهم صرعى لنِسرٍ وكاسرِ
لكنَّ الأشاعرة ومن ورائهم سائر أهل التشبيه ، أبَوا إلاّ تفسيره بالاستقرار على العرْش جلوساً متربِّعاً فوق السماوات العُلى ، وقد ينزل إلى السماء الدنيا ؛ ليطَّلع على شؤون خلْقه فيغفر لهم ويجيب دعاءهم ، إذ لا يمكنه ذلك وهو متربِّع على كرسيّه فوق السماوات (10) .
وعلى هذا السبيل ، لمّا نزلت الآية : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة : 64] ، لا نظنّ أنّ العرب فهمَت منها الجوارح والأعضاء ، نظير قوله تعالى : {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء : 29] ، لا يعني الجارحة المخصوصة كما زعَمته المشبِّهة من أصحاب الحشْو ، وإنّما عنَى يد القدرة ونفْيَ العجْز عن التصرّف فيما يشاء تعالى .
أمّا الأشعري ومَن حَذا حذْوَه ، فإنَّهم قد انحرفوا في فَهْم هذا المعنى الظاهر ، فأوَّلوه إلى الجارحة ، وقالوا : إنّ لله يداً ورجْلاً وعيناً ووجْهاً وما إلى ذلك ؛ وقوفاً مع ظاهر الكلمة في القرآن (11) .
_____________________
(1) التفسير الكبير : ج7 ، ص171 .
(2) الكشف عن مناهج الأدلّة لابن رشد : ص 89 و96 و97 و107 .
(3) التفسير الكبير : ج7 ، ص172 ، وهو خامس وجه ذكرها بهذا الصدد .
(4) البرهان للزركشي : ج2 ، ص84 .
(5) تفسير الميزان : ج3 ، ص58 ـ 62 بتلخيص واختزال .
(6) تفسير المنار : ج3 ، ص170 وهو ثالث وجه ذكرها بهذا الصدد .
(7) نهج البلاغة : ج2 ، ص136 من الكتب والوصايا رقم 70 .
(8) راجع الكشّاف : ذيل الآية 23 من سورة القيامة . وأساس البلاغة : مادة ( نظر ) .
(9) راجع الإبانة لأبي الحسن الأشعري : ص 11 طبعة حيد آباد الدكن .
(10) راجع الإبانة : ص35 فما بعد ، ورسالة الردّ على الجهْمية للدارمي : ص13 فما بعد .
(11) راجع الإبانة : ص39 فما بعد ، وغيرها من كتُب القوم وهي كثيرة .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|