أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-01-29
886
التاريخ: 2024-05-07
522
التاريخ: 2024-02-07
838
التاريخ: 2024-10-21
111
|
لقد رأينا فيما سبق مقدار ما أظهره «أمنمحات» من النشاط العظيم للتدخل في أحوال حكام المقاطعات ليحد من قوتهم، ولا داعي لأن نفكر لحظة في قدرته على أن يقضي على هذه الأرستقراطية الرفيعة الشأن، الثابتة القدم دفعة واحدة، ويعيد البلاد إلى ما كانت عليه من نظام موحد في عهد الدولة القديمة؛ إذ كانت طبيعة الأمور توحي بأن النظام الطبعي اللائق للحكومة والمجتمع معًا يتطلب بل يحتم على العكس وجود طبقة أرستقراطية وما يتبعها من الأشراف المميزين؛ ولأجل أن نفهم هذا الوضع يجب أن نستعرض أمام القارئ في لمحة خاطفة حالة العصر الذهبي لحكومة الإقطاع ورسوخ قدمه في البلاد، ويعتبر العهد الإهناسي — في الواقع — العصر الذهبي للحكومات الإقطاعية التي قامت على حساب الدولة، فقد كانت كل مقاطعة مقسمة إداريًّا وعسكريًّا تقسيمًا محكمًا كأنها مملكة صغيرة؛ فكان لها قائد يسوق جيشها إلى ساحة القتال، ولها مدير مخازنها، ومدير ماليتها، وموظفوها وكُتابها، وكان كل أمير مقاطعة يرث مقاطعته عن أبيه، وكان أبناء أمراء الإقطاعات يشتركون مع آبائهم في توجيه دفة أملاك المقاطعة، وفي إدارة شئونها، فكان الابن يكتسب من ذلك تجارب تؤهله لحكم مقاطعة والده. وكان أمير المقاطعة يتبع في سياسته مع موظفيه من النصح ما كان يسير على نهجه حكام الدولة القديمة، فاستمع إلى الكلمات التي كان يتغنى بها أمير «أسيوط» في العهد الإهناسي: «لا يوجد امرؤ فصلتُه عن عمله، ولا إنسان اغتصبت أملاكه ما دام متبعًا حدود وظيفته؛ ولقد نشرت السعادة على الأرض، واقتفيت إثر اللص، وكنت أمقت انتهاك حرمة الملكية«.
(Griffith, “Suit”, Tomb No. III, line 9). وقد كانت توجد بجانب طائفة الموظفين الذين حُرموا وظائفهم في أنحاء المقاطعات بسبب الفقر الذي عمَّ البلاد، عندما أخذت موجة التدهور الأولى تطغى على مصر في نهاية الأسرة السادسة؛ أسر قوية جدًّا يدَّعون انتسابهم إلى أصل إلهي، نُسل من إله مقاطعتهم المحلي مثل الفرعون نفسه، وأن لهم حق الوراثة في عرش مصر منذ أقدم العهود؛ لأنهم كانوا ينظرون إلى إلههم نظر الفرعون إلى إلهه. وقد توصل بهذه الوسيلة (وإن شئت فقل بهذا الادِّعاء) أمراء «طيبة» إلى أن يضربوا ضربتهم الممتازة الحاذقة، بعد أن مهدوا لها بحروب طاحنة جاءوا فيها على الأخضر واليابس. وقد مكثت سنين طويلة استطاعوا في نهايتها أن يتولوا عرش الملك، ويوحدوا البلاد بعد طول الانقسام والشقاق، وأنشئوا صرح الأسرة الحادية عشرة، وقد كان من الطبعي أن ينسبوا انتصارهم السياسي والحربي على أمراء «أسيوط» وملوك «إهناسية المدينة» المعادين إلى إله مقاطعتهم «آمون»، وقد كان في نظرهم يمثل أقدم الآلهة، ومن ثم اعتبروه رئيس الآلهة وملك الأرضين، وإن كان هذا الزعم لا يرتكز على أساس تاريخي صريح، وفي هذا الوقت ظهرت كذلك أوصاف عن مظاهر الظلم وعدم استتباب الأمن في صور مقالات أدبية كتبها جماعة من حملة الأقلام مطالبين بالعدالة الاجتماعية، وتأسيس سلطة جديدة تخلص البلاد مما حاق بها من ظلم وجور؛ غير أن النظام الإقطاعي كان متغلغلًا في نفوس الأمراء حتى إن انتزاعه من البلاد كان من أصعب الأمور وأعنفها، وقد عبر عن هذا الروح أحسن تعبير في قطعة من ترجمة حياة أحد أمراء مقاطعة «سيوط» تعد مثالية في هذا الموضع فاستمع إليه وهو يقول: «إني قد ثويت هنا (في القبر)، وقد احتل ابني مكانتي، ومجلس الحكم مطيعون له منذ أن كان حاكمًا، ولم يكن طوله قد تجاوز بعد ذراعًا (أي منذ أن ولد).» وكان عندما يخرج مثل هذا الأمير الرفيع الشأن من بيته يُحاط بأتباعه ويُحمل على المحفَّة، وتسير وراءه كلاب الصيد، ومعه رجال الصيد الذين كانوا في العادة يمشون في ركابه، وكذلك القزم الذي يقوم على خدمته الخاصة به. ومنذ العهد الإهناسي كان يسير في ركاب أمير المقاطعة فرقة حربية، وكانت تظهر مع «أتباع الأمير» وكان جنودها مسلحين بالدروع والحراب والبلط، والأقواس، والنشاب، والسهام، وخلف هؤلاء كان يسير رجال آخرون يحملون النعال وأواني الغسيل وحقائب الملابس، كل ذلك تشبهًا بما كان يجري في عهد الدولة القديمة. وكان كذلك من الضروري لكل أمير مقاطعة رئيس أطباء، ومدير ملابس، وساق ليقوم على خدمته أثناء بسط المائدة أمامه، ولقد بقيت هذه الصورة التي رسمناها هنا عن حياة الأمير الإقطاعي في الظاهر حتى منتصف الأسرة الثانية عشرة؛ ولا أدل على ذلك من إدارة الموظفين الذين كانوا في كنف أمير «قوص» راجع Blackman, “Meir”, I–III; Newberry, B. H., I, 45 ff.) وكذلك كان «الكُتاب» يسودون في بلاط أمير المقاطعة بطبيعة الحال، فمثلًا نرى في بلاط أمير مقاطعة «الأشمونين» المسمى «تحوتي حتب» أنه كان في خدمته مدير حقول، ورئيس خزانة، ومدير (حريم) المدينة، ومزارعون لأراضي المقاطعة، ومدير ثيران، ومدير البهائم الصغيرة، وهكذا بالتدريج نزولًا حتى نصل إلى مدير السمك. أما الإدارة المالية فكان يديرها موظفان كبيران وهما رئيس الخزانة (وهو على ما يظهر لم يكن يشغل مركزًا عاليًا) ومدير الخزانة (Newberry, “Bersheh” I, Pl. XXVII; Amenemhat II-Senwesert III). وكذلك كان لأرض المعبد ولأرض الأوقاف الجنازية التابعة للمقاطعة مدير خاص (Blackman, “Meir” II P. 6; III, 5; Ibid, I, P. 19, II, P. 6) وكان يقف بجانب الأمير مدير مكتب وحاجب، وكذلك كان له مدير قاعة الإدارة، وهو الذي كان مكلفًا تنظيم الأعمال أمام المحكمة للسلطة العليا، (Newberry, B. H. I, Pl. XIII, P. 16) فلم يكن من الغريب إذن أن يحاط هؤلاء الأمراء بأعظم مراسم الاحترام ومظاهر العظمة في احتفالات البلاط مما كان يندر وقوعه في عهد الدولة القديمة حتى لوزير؛ ولذلك نجد في هذا العهد أن أمير مقاطعة «أرمنت» يقول عن نفسه: «إنني عند دخولي على سيدي يكون الكبراء خلفي، وحارس الباب يقف مطاطئ الرأس حتى أصل إلى المكان الذي فيه جلالته» (Griffith, P. S. B. A, 18, PP. 195 ff)، ومن جهة أخرى كانت قد ألفت في هذا العهد فكرة سياسية لمقاومة هؤلاء الأمراء، وذلك عندما أخذ الوزير يجمع لشخصه كل ألقاب الشرف التي كان يتحلى بها أمراء الإقطاع مما لم نجد له نظيرًا، وبخاصة في نهاية حكم الأسرة الحادية عشرة، ولا أدل على ذلك من الألقاب التي كان يحملها الوزير «أمنمحات» في أواخر الأسرة الحادية عشرة، وكذلك التي كان يحملها «منتو حتب» في عهد «سنوسرت الأول« (Die Veziere des Pharaonen Reiches. Von. Arthur Weil). وقد كان للوزير من الهيبة والعظمة ما جعل القوم يدعون له كما كانوا يدعون للفرعون بالحياة والصحة والعافية، وأول ما حدث ذلك في عهد «سنوسرت الأول»؛ على أنه لم يدعَ لأمير مقاطعة بمثل هذا الدعاء إلا أمير مقاطعة «الأشمونين«. على أن قوة أمراء الإقطاع التي وصفناها كان يوجد فوقها منذ الأسرة الثانية عشرة قوة أعظم من قوتها، وهي التي كانت تتمثل في الفرعون، فلم يعد الفرعون الذي يجلس على عرشه في «أثث تاوى» (اللشت) مجرد صورة أو خيال يستغله رعاياه الأقوياء، أو يتخذ ألعوبه في أيدي أمراء الإقطاع الذين كانوا لا يعترفون للملك بأي حق عليهم إلا اسمًا، فقد أصبح الآن سيد البلاد كلها، فلا يتحرك إصبع أو يرتفع صوت إلا بأمره، وكذلك أصبح من الأمور المستحيلة أن يتصور الإنسان ملكًا «كأمنمحات» أو «سنوسرت» في ركاب أحد أمراء المقاطعات كما كان يفعل «خيتي» أمير مقاطعة «سيوط» في وقت الحروب التي كانت قائمة بينه وبين أمراء «طيبة» كما سبق ذكره، ولا جدال في أن أقل ملك من ملوك الأسرة الثانية عشرة كان في مقدوره أن يستخدم أمراء «سيوط» فيما يريد مع وضعهم في أمكنتهم اللائقة بهم إذا دعا الأمر لذلك، على أنه كان في استطاعة أصغر الأمراء في عهد الفوضى في البلاد أن يقاوم الفرعون وينتصر عليه بحدِّ السيف. فمن ذلك أن أميرين من الأمراء الذين حكموا مقاطعة الأرنب (البرشة) وعاصمتها «الأشمونين» العظيمة كانا يفتخران بانتصارهما على الفرعون فيقول أحدهما: «لقد خلصت مدينتي في أيام الشدَّة من طغيان البيت المالك.» وهذا أكبر دليل على منتهى الفوضى في البلاد وضعف فرعونها في تلك الفترة؛ فلما جاء ملوك الأسرتين الحادية عشرة والثانية عشرة تمكنوا من وضع حدٍّ لهذه الفوضى بإدخال تغييرين عظيمين كان من جرائهما أن ضعفت سلطة أمراء الإقطاع، وأصبحوا غير قادرين على إحداث ضرر ما؛ وفي الوقت عينه لم يمس هذا التغيير ما كان لهم من سلطان مادي، وبخاصة بالنسبة لممتلكاتهم التي ورثوها عن آبائهم. وأول تغيير هو تحريم الحروب الداخلية التي كان يثيرها هؤلاء الأمراء الأقوياء بينهم، كما كان يحدث في أوروبا في العصر الإقطاعي. أما التغيير الثاني فهو محو انتقال ملكية المقاطعة بالوراثة بلا قيد ولا شرط بين أولاد أمراء المقاطعات، وكان المبدأ الذي أصبح متبعًا هو أن يمنح الفرعون تقليد حكم المقاطعات إلى الأمراء الوراثيين المباشرين؛ أي إلى الابن أو ابن البنت عندما يكون نسل الذكور قد انقطع، ولكن إذا كان هذا التقليد خاصًّا بأسرة ثائرة على العرش، أو كانت تأتي بما يغضب الفرعون، فإنه كان يحرمهم هذا الحق، ويمنحه غيرهم من خدَّامه الذين يظهرون له إخلاصهم وولاءهم، وقد كان هؤلاء الأمراء كذلك يفتخرون بما شيدوه من قبور ضخمة وبشرف محتدهم، وشرف محتد زوجاتهم اللائي كنَّ لا تقل شهرتهن عنهم، غير أنه لم يعد احتفاظ هؤلاء الأمراء بسلطانهم راجعًا إلى أصلهم وحقوقهم الوراثية، بل كان يتوقف تقليدهم السلطة على ولائهم للفرعون الذي بيده السلطة، فهو الذي كان يوليهم بعد موت آبائهم، ويعين لهم حدود مقاطعاتهم الفاصلة، وما يخصهم من النهر العظيم حسب خط تقسيم المياه، ومن ثم بدأ أمراء المقاطعات ينقشون أسماء الملوك على جدران مقابرهم؛ غير أن سلطة أمراء الإقطاع الوراثيين استمرت عظيمة حتى منتصف حكم الأسرة الثانية عشرة، بقدر ما كانت عليه في عهود أمراء الإقطاع في عصر الأسرة السادسة. فقد كان «أميني» أمير مقاطعة الغزال في عهد «سنوسرت الأول» يفخر بأعماله العظيمة وصفاته الممتازة التي تدل على روح العدالة الإنسانية كما سبق ذكره. ومن أقواله نعلم أن كل السكان المزارعين في المقاطعة كانوا عيالًا عليه بما أظهره من حسن الإدارة في حكم المقاطعة؛ ولم يقتصر ذلك على مواليه في ضياعه الخاصة، بل كان يدخل ضمن هؤلاء الفلاحون الأحرار والمأجورون، وكان شباب الفلاحين ينظمون فرقًا ويجندون، ويصبح من واجبهم أن يقدموا لأمير المقاطعة خدمة إجبارية (عمل يسخرون فيه)، وكذلك كان يتألف منهم الجنود الاحتياطيون للمقاطعة، وهؤلاء كان يقودهم الأمير لمحاربة أعداء الفرعون عند قيام أية حرب ضده، وعندما تكون المقاطعة ممتدة على شاطئ النيل كان لكل شاطئ فرقة تميز باسمها، فكانت فرقة الشرق وفرقة الغرب، مجاراة لما كان يحدث في الأزمان القديمة، وقد عرف بعض أمراء المقاطعات كيف يكسب قلوب أهل مقاطعته بحسن المعاملة، فمن ذلك ما نشاهده في مناظر قبور بعضهم مما يثبت ذلك كالمنظر الذي يخلد ذكرى «تحوتي حتب» أمير مقاطعة الأرنب (الأشمونين) فقد أمر بنحت تمثال له ضخم من المرمر المستخرج من محاجر «حتنوب»، وقد اشترك في جرِّه لنقله إلى مقبرة الأمير كل شباب المقاطعة، يساعدهم في ذلك الكهنة غير المحترفين بقوة ساعدهم، وكان مما زاد في قوتهم حسن إرادتهم ورغبتهم في ذلك. وقد حدث ذلك على مرأى من الشعب الذي كان يهتف لهم. هذا وكانت الجزية المستحقة للفرعون تصل إليه عن طريق المقاطعة؛ إذ كان هو الذي يجبيها، وقد افتحر «أميني» أمير مقاطعة «بني حسن» بأنه يدفع إلى بيت مال الفرعون كل سنة جزية من المواشي يبلغ عددها 3000 ثور من مقاطعته دون أن يكون عليه أي دين. ولا نزاع في أن التغييرين اللذين أدخلهما الفرعون للحدِّ من قوة الأمراء الإقطاعيين كانا على جانب عظيم من الأهمية؛ فالأول: وهو إبطال الحروب الداخلية؛ كان نعمة على الأهلين، وذلك بتأليف جيش قائم تحت قيادته مباشرة. أما الثاني: وهو الاستغناء عن الحكام الوراثيين تدريجًا، وإحلال غيرهم من الموالين للفرعون محلهم، فكان له محاسنه كما كان له بعض المساوئ المؤقتة؛ إذ كان ينقص الحاكم الجديد عند توليته في بادئ الأمر الحب المتبادل في دائرة إقليمه، وبخاصة عندما يكون الحاكم أجنبيًّا عن أهل المقاطعة. وهذا لا يقدم لنا المثل الأعلى في نظام الحكم؛ على أن من حسناته في الوقت نفسه أنه كان يحفظ حاكم المقاطعة من التحيز، وإن كانت هذه العاطفة ليس بالهين التغلب عليها؛ إذ الواقع أن الحاكم المحلي، وإن كان له خبرة بأحوال القوم وشعورهم في إدارة المقاطعة، إلا أنه في الوقت نفسه يحمل في صدره أحقادًا محلية وميولًا شخصية لا تجعل توزيع العدل بين أفراد شعبه خاليًا من الظلم والإجحاف والانحياز إلى فريق من الناس دون الفريق الآخر، على حين أن الموظف الذي كانت تنصبه الحكومة الرئيسية، رغم أنه كان جاهلًا بأحوال القوم الذين سيحكمهم؛ فإنه في نفس الوقت يكون خلوًّا من الأغراض الشخصية التي طالما كانت أكبر باعث على سوء الحكم في كل زمان ومكان.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|