الكلدان وانحطاط الجزيرة في القرن السادس قبل المسيح وتعالي سطوة الفرس وتفوقهم على السامين. |
882
02:48 صباحاً
التاريخ: 2024-01-02
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-10-2016
774
التاريخ: 16-10-2016
712
التاريخ: 16-10-2016
875
التاريخ: 16-10-2016
663
|
بقيَت بابل صاغرة لآشورية حينًا من الدهر، ثم نفضَت عنها غبار الذل والمسكنة، فجيَّش نبوبلصر جيشًا لُهامًا وزحف به عليها، فأفلح في سعيه. وكان نبوبلصر كلدانيًّا، وكان الكلدانيون من الأمم الآرامية الأصل، نزلوا الشرق قبل بضعة قرون فأسسوا فيه مملكة مستقلة لاصقة ببابل، وحاضرتها واقعة على ضفة الفرات المقابلة لها. ثم أخذ الكلدانيون يترسَّبون رويدًا رويدًا إلى بابل، وينتشرون في تلك الديار، حتى تبسَّطوا في البلاد كلها، وأصبح بعد ذلك معنى «كلدية» و«بلاد بابل» شيئًا واحدًا. ولما قام على عرش بابل ملك كلداني الأصل سهُل حينئذٍ امتزاج الكلدان بالشنعاريين، واقتبس كلٌّ من الشعبين ما ينقصه لنفسه، فاستعار الكلدان إكرام الآلهة القديمة من الشنعاريين، وعبدوها بأشكالها المعروفة منذ العهد البعيد، واتخذوا الكتابة المسمارية لقضاء أشغالهم وأمور معاشهم، وأخذ البابليون من الكلدان علمَ النجوم وعلم التنجيم، ومنذ ذاك الحين امتزجَ علم النجوم بديانة الشنعاريين، حتى إنه في العهد اليوناني الروماني أصبح معنى «الكلدان» يُفيد معنى «المنجمين «. ثم إن نبوبلصر حالف ملك ماذي ليقاوم معه ملك آشور، فزوَّج ملك ماذي ابنته بنبوكد نصر (1) ابن نبوبلصر توثيقًا لعُرى الولاء. وفي سنة 608 ق.م أخذ الماذيون نينوى والفاتح الآري «هدم كل الهدم مزارات آلهة آشور، وأفنى كتبهم المقدسة، وأبى أن يُبقي واحدًا منها، واكتسح مدنهم وغادرها قاعًا صفصفًا كأنها لم تكُن.» وهكذا اقتسم الماذيون والكلدان أو البابليون الدولة الآشورية القديمة، فأخذ الماذيون القسم الشمالي، وأخذ الكلدان القسم الجنوبي. وفي عهد نبوكد نصر (سنة 604–562 ق.م) عادت بابل فلبِسَت حُلة سُلطة جديدة، وماست بثوب مجدٍ سَني، وبعد أن مضى عليها مائتا سنة في بدء أمرها وهي تختال عجبًا وسؤددًا على باقي البلاد، قضت نيِّفًا وألف سنة وهي تابعة لدولة أخرى، أو محافظة على استقلالٍ كله صعوبات، وفي الآخر جاهرَت به غير هيَّابة، فتلألأ مجدها، وسطع نور عزها، لكن ذلك كان عبارة عن شمس أصيل الحضارة الشنعارية القديمة قبل أن تتوارى عن الأنظار؛ فهذه العودة الجديدة إلى المجد والفضل لم تتجاوز عمر نبوكد نصر رافع لوائها وباني معاهدها، وقد وافق وقوع هذا التجدُّد زمن تمخُّض حوادث الدهر بشعبين آخرين، قد خُصَّا من بين جميع الشعوب والأمم بأن يدفعا المجتمع البشري وتصوُّراته وتخيُّلاته المستقبلة إلى أبعد مدًى من العقليَّات الدينية والدنيوية، وهما: اليهود، واليونان؛ إذ على آرائها تُبنى معاهد العقائد والعلوم، فتكون هي السائدة أو الباقية في الأرض، وما عداها يذهب هباءً منثورًا في الكون. أما من جهة سعة مملكة بابل والكلدان فإنها كانت دون دولة آشور القديمة في قِسمها الجنوبي في عهد آشور بنيبل. والبائن في نحو هذا العهد انتقلَت عيلام إلى يد جيل آري يتصل بالماذيين نسبًا، وكان مركزه في الديار الجبلية من الجهة الجنوبية الغربية، وقد أسَّس دولة جديدة تدفع الجزية إلى ملك ماذي، وكانت بلاده فيما نسميه الآن «ولاية فارس»، وضمت إليها ديار عيلام التي حُطِّمت كما حُطِّمَت دولة تلك البلاد مع ملوكهم الذين هم من أبنائها في أيام مملكة آشور الأخيرة، وسوف تسمع عنهم كثيرًا فيما يأتي من مطاوي التاريخ، وكانوا يُسمُّون أنفسهم «فارسا»، ومنه اسم «الفُرس» عند العرب الذي وصل إلينا. وقد حاول نبوكد نصر أن يمد سطوته إلى ما جاوره من البلاد، ويبلُغ وادي النيل، لكنه مع ما بذل من الهمَّة والسعي الحثيث لم يتمكَّن مما منَّى نفسه به، إلا أنه مدَّ صولجانه إلى سورية وفلسطين، وهما بمنزلة الجسر للعبور إلى ديار مصر، ورضي بإقامة ملك من صُلب داود يحكم على تلك الربوع، ولكن إلى أجلٍ مسمًّى، بَيْدَ أن الدسائس التي كانت تُدسُّ بين أورشليم وبين بلاد مصر بلغَت مبلغًا أيَّ مبلغ، حتى إن الجيوش البابلية لمَّا أخذَت أورشليم للمرة الثانية اكتسحَت المدينة المقدَّسة وهدمَت هيكل سليمان، بعد أن حاول الملك صدقيا أن يتخلَّص من سطوة قاهره، ولكن سعيه ذهب أدراج الرياح، وسيقَ اليهود أسرى إلى ديار بابل ومعهم آخر ممثل للسلالة الملكية العتيقة. وقد أفرغ نبوكد نصر كنانة وُسعه لإصلاح شئون شنعار وتجديد معالمها وإحياء معاهدها، فحفر الأنهُر، ورمَّم الترع، وبذل همه في إسعاد العباد وتأمين البلاد، فوسَّع بابل وزاد في محاسنها ومآثرها، وهو لا يعرف الملل ولا يصيبه الكلل، فشاد هياكلها المتهدمة، ورفع رؤوسها إلى عَنان السماء، ونقش جلائل أعماله على الآخر باللسان القديم وحرْفه العتيق المعروفَين في البلاد، لتشهد بأنه وُجد أيضًا في بابل ملك قدير مخلص العبادة للإله «بل» أو «بنو»، وكانت مدينة بابل مبنية في فسحة مستقيمة الزوايا، تكسيرها ميلان ونصف في ثلاثة أميال، ولها سوران: خارج، وداخل، وكان المقبِل إليها من الخارج لا يدخلها إلا من بعد أن يجوز أسوارها الواسعة الواحد بعد الآخر، وكان عرْض الواحد منها بيِّنَ العرض، حتى إن عجلتين كانتا تسيران أو تتلاقيان على أعلاه. وبعد الدخول تنبهر عينا المسافر مما يشاهد ويرى. وكان الفرات يشق هذه الحاضرة شقًّا، وكانت أبنية الآجر فيها منحصرة في القسم الموجود بين الحيطان من تلك الفسحة، وقسم منها كان عَرصة للبساتين ومزرعًا للحنطة، حتى إذا ما ضايقها العدو في يوم حصار تستطيع أن تُطعِم أبناءها، وكانت الهياكل ترتفع فوق البيوت المألوفة بهيئة أبراج بسطوح بعضها فوق بعض، كما كانت تسمو صعدًا مباني نبوكد نصر الجديدة، وكان أحدها بناية بطبقاتٍ قد ركب بعضها بعضًا، وتلك البنية هي قصر الملك، وكان قسم منه في ضفة من الفرات، والقسم الآخر في الضفة الثانية؛ أي إنه كان راكبًا الفرات ركوبًا، وكان يجمع بين القسمين سرب تحت النهر. والقصر وحده كان عبارة عن مدينة، وكانت جدرانه مغشاة بنقوش حيوانات مرسومة على الآجر بأصباغ زاهية لا تُمحى، وقد خُصَّ رسمها بأهل البلاد دون غيرهم، وعلى وجهٍ غريب تناقله الخلف عن السلف. وكانت قُبَّة القصر المذهبة تتألق ضياء عن مكان سحيق، ولا سيما لأن الشمس في هذه الربوع تبقى سافرًا لا يحجبها حجاب البتة في أيام القيظ. ولا جرم أن هذا القصر الملكي كان متصلًا بالجبل المصطنع، ذلك الجبل الذي وصفه لنا اليونان باسم «البساتين المُعَلَّقة»، وكان الذي حداه إلى صُنعه أن امرأته المادية كانت تذوب أسًى لوجودها في بلادٍ كلها سهول منبسطة، فأراد زوجها أن ينقل لها تلال بلادها، فابتنى لها جبلًا متدرِّجًا متفاوت السطوح يذهب صعدًا في الهواء، وقد بناه كله بالآجر قائمًا على عقودٍ مُحكَمة الشد، وتلك السطوح كثيرة التراب لتتمكن الأشجار الكبيرة من أن تنمو فيه بدون أن ترى نفسها في أرضٍ غريبة، وكنت ترى هناك ينابيع ماء وشلَّالات متنوعة تروي تلك الأشجار المثمرة على تبايُن أشكالها، كما أن هناك سراديب مُظلمة لذيذة الموقع في أيام القيظ الشديدة الحر. وقد كانت بابلُ حاضرةُ تلك الديار الغنية قلبَها الحيَّ ومركز حركتها في أمر التدبير والسياسة والغِنى، ولا جرم أنها كانت كذلك حتى لما كانت خاضعة لغيرها في أمر سياستها؛ فقد كانت محط رحال الأقوام ومتَّصَل تجاراتهم ومجتمع قوافلهم؛ إذ كانت تزدحم فيها بياعات أهل الشمال وبلاد العرب والهند وبحر الروم وسكان الغرب، وفيها مُلتقى أُناس من عناصر شتى ولغات مختلفة وألوان متغايرة، وفيها كانوا يختلطون بعضهم ببعض، فهي بابل بالحقيقة. وفي محلة من أحياء الحاضرة التي كان يخرقها من جهة إلى جهة «الطريق السلطاني» كانت الشركات التجارية ومخازنها الواسعة، منتسقة على طول ترعة «ببكودو»، ومما يجدُر ذكره أن في أيدي طلبة الآداب المسمارية الخط في ديار الإفرنج نحو أربعة آلاف صفيحة من الآجر أو أكثر يُطالعونها، وهي عبارة عن دفاتر المحل التجاري الكبير لأصحابه «أجي وأولاده»؛ فقد كانوا يتعاطون بيع غلَّات بابل والنخاسة (تجارة الرقيق)، ويمكننا أن نتحقق منها معطيات تجارتهم وسعتها وثروتهم الضخمة منذ أيام نبوكد نصر إلى نحو مائة سنة بعدها. ولم يكد نبوكد نصر يموت إلا ومات معه هذا المُلك العريض؛ ففي مدة سبع سنوات (562–555لاق.م) توالى على أريكة الإمارة ثلاثة ملوك، واضمحلُّوا في فتنٍ وقعَت في القصر، فانقرضَت تلك الأسرة وزالت كل الزوال كأنها لم تكن. وأول مَن تُوِّج بعد اضمحلال آل نبوكد نصر كان «نبو ناهد»، وكان رجلًا تقيًّا كثير الولع بالأبنية، إلا أن شعبه لم يُحبه، وأراد أن يدفع عنه غائلة الفُرس بانضمامه إلى اللوذيين والمصريين، فلم ينجح؛ إذ سقطَت لوذية (سنة 546)، ولم ينتفع من سني سكون كورش ليُحصِّن مملكته، فلما كان الهجوم (سنة 538) كُسر شر كسرة وقُبض عليه ومات بعد أيامٍ قليلة، ومذ ذاك الحين أصبحَت كلدية أو دار الكلدان من توابع مملكة الفُرس. والفُرس جيل من الناس احتل البلاد الواقعة في شرقي عيلام، منذ أول انهيال الأقوام الآرية وهبوطهم من مواطنهم، فكانت تمتد ربوعهم من مصبِّ نهر تاب في الغرب، إلى أنحاء مضيق هرمزد، وهي قِفار، وماؤها لا يكفي لسقيها على طول الساحل، وفيها أنهُر صغار لا غير، مثل التاب والبندمير والكراب، وكلها تدفع في البحر. أما ما بقي من سائر الأنهار فلا مجرى لها، بل تجتمع في بطون الأودية، فينشأ منها بُحيرات يختلف امتدادها باختلاف الفصول. وكانت القبائل الفارسية قد اقتسمَت تلك الأرجاء وكوَّرتها كورًا، منها: الباريتكينة (وهي اليوم جزء من عراق العجم)، والمرديانة، وكلتاهما في الجبال، والتكينة، وهي على طول الساحل، والكرمانية نحو الغرب، وابتنَوا لهم فيها بعض القُرى الضخمة، أشهرها: إصطخر (فرسيبوليس)، وبسا (فسر كد، أو معسكر الفُرس)، وكانوا يَدينون لملوك من صلب رجل اسمه هاخمنيش، كان زعيمهم في إبَّان هبوطهم البلاد، ثم انتزع واحد من فرع هذا البيت كورة أُنشئت من العيلاميين الذين كان أفناهم آشور بنيبل، وأسَّس فيها إمارة دبَّر أمورها يئس با وكورش الأول وقنبوسيا الأول (قمباسوس)، وأقرُّوا بسيادة الماذيين عليهم ما يقرُب من قرن. ثم جاء كورش الثاني، وهو ابن قنبوسيا، ويُعتبر من كبار الفاتحين الذين فتحوا الفتوحات الواسعة وفرشوا على الأرض بساط ملكهم الضخم، وحالما انتصبَ كورش على أريكة مملكة ماذي وتُوِّجَ ملكًا على الماذيين والفُرس والعيلاميين أصبح مالكًا لدولةٍ أوسع من كل دولة سبقتها، من جهة الوحدة والارتباط والرجوع إلى الرأس الواحد، وأرصد بقية حياته ليزيد في بسط ملكه. أما تتويجه ملكًا على الماذيين والفُرس فكان في أكبتاتة في سنة 550 ق.م على الأرجح، وأما سائر الدول، فلما رأَت أن ظلَّ السطوة الإيرانية في امتدادٍ دائم، وأنه أوشك على أن يمتد إلى ديارهم، أوجسَت في نفسها خيفة، فتحالفَت عليها، والمتحالفات هي: لوذية، ومصر، وبابل. بَيْدَ أن هذا الملك العظيم استحوذ على سرديس، فأزال بذلك مملكة لوذية، وظل سائرًا في وجهه مُمعِنًا في جوف آسية الصغرى، مُتجهًا إلى السواحل اليونانية على خط مستقيم. وبعد ذلك حوَّل كورش نظره إلى الشرق، ومن سنة 545 إلى 539 ق.م كان يُحارب ويفتح المدن في الأرض التي نسميها اليوم ولايات بُخارى، ومرود، وفيما وراء بحر قزوين، وفي أفغانستان، وبلوجستان. ولما كان أهالي تلك الديار يتصلون نسبًا بالأقوام الإيرانية لم يَخَف كورش من انتقاضهم عليه، فزحف على بابل، وكان القابض يومئذٍ على أعِنَّة الملك نبو ناهد، وهو وإن لم يكن من آل نبوكد نصر في الظاهر إلا أنه توفَّق رعاية الملك، فقبض عليه كورش وأسَره، وصيَّر أرض شنعار ولاية فارسية (سنة 537 ق.م)، وأما مصر فقد ترك فتحها لابنه قنبوسيا؛ إذ عقد نيَّته على تدويخ قلب آسية، لكنه مات في معركةٍ خاض غمارها في موطنٍ قريب من إحدى ضفَّتَي سرداريا (سنة 529 ق.م). وأتمَّ ابنه قنبوسيا في مدة ملكه القصير (من سنة 529–521ق.م) فتح مصر، ثم اتفق بأن الموبذات الماذيين أعانوا برديا أحد النصابين، فاغتصب المُلك مدة وجيزة، ثم انتقل الصولجان إلى يد فروعٍ أُخَر من فروع الكيانيين وهو دارا (الذي يسميه بعضهم داريوس) بن يشتشب، سنة (521–485 ق.م). ودارا هذا من أعظم ملوك الفُرس، فإذا كان كورش هو منشئ الدولة الفارسية فدارا منظِّمها ومُرتِّبها، ولقد كابد الأمرَّين في عدة سنوات ليقمع جماح الفتن القومية، ويردع الشيوخ أو الأمراء الإيرانيين عن مطامح أبصارهم إلى امتداد ذلك الملك الضخم، الذي دخل في حوزة ملك الملوك؛ فهيئة الإدارة الملكية وتقسيم أراضي الدولة إلى مرزبات، وتوزيع الضرائب، هي كلها من أعمال دارا، وقد حاول أن يوسِّع ملكه في إحدى الجهات ويُمعن في أرضها، فعبر البصفور ووطئ أوروبة، وأجبر مكدونية على أداء الجزية، ثم أوغلت جيوشه في جهة الشمال خلال البلاد التي نسميها اليوم بلغارية ورومانية، ثم خلال الطونة (الدنوب) في سهول جنوبي روسية، لكنه أخفق في زحفته، فاضطرَّت الجيوش الفارسية إلى العودة نحو الجنوب متكبدة خسائر، إلا أن دارا بقي قابضًا على تراقية ومكدونية. فيتضح لك مما تقدم بسْطه أنه لم يكن يوجد في ذلك العهد في الأرض إلا مملكة واحدة، في طرفها الواحد جبال البلقان، وفي الطرف الآخر ضفاف نهر السند، وفي أقصاها شلالات النيل، وفي أقصاها الآخر سرداريا، فاجتماع عدة ممالك بهذه الصورة لم يحلم به أحد في القرون الماضية بأن يكون في قبضة رجل واحد. ومن خاصيات هذه السيادة العُظمى أن الشعوب التي كانت تُطأطئ رأسها لصولجان هذا العاهل الكبير كانت آمنة على نفسها، عائشة عيشتها الغريرة، ومدبرة شئونها بنفسها طالما كانت تعمل بأمره؛ أي: طالما كانت تُؤدي الجزية وحصة الرجال اللازمة لجيوشه، فالحقُّ يُقال: إن جمع القوى في قلب المملكة الحديثة النشوء في مثل تلك الأيام التي كانت تصعب فيها المواصلات؛ إذ كانت في بدء أمرها، هو من الأمور العجيبة، ومما زاد ارتباط أجزاء مملكته بعضها ببعض أنه أقام نوعًا من السُّعاة والرسل على طول الطُّرق الرئيسة في مملكته ليضم الأطراف النائية منها إلى قلبها، فتجري مجاري الحياة في عروق هذا الجسم العظيم. والديار التي هي مثل آسية الصغرى كان قد أودع جزءًا منها إلى عناية حكامها الوطنيين الذين فيها، والجزء الآخر إلى الحُكام الإيرانيين الذين كان لهم قصور خاصة بهم في الديار المذكورة، وكان بيدهم الربط والحل بقدْر ما يحتمله المقام الخاص بهم، وكانوا كأنهم ملوك صغار في تلك الربوع، وكان المبدأ المألوف في الإدارة الفارسية ألا يتدخل كبارها القابضون على زمام الأمر في شئون داخل الأقوام التي أُخضِعَت لحكمهم، وكان الملك راضيًا عنهم طالما يحكمون باسمه حُكمًا عادلًا ويبقون مخلصين لعرشه؛ فالمدن اليونانية الواقعة على سواحل آسية الصغرى كانت مثلًا تحت حكم ملوك يونان، وقد وافق على تعيينهم الملك الفارسي، فإذا عدلوا عن محجة العدل والإخلاص أبدلهم حالًا بغيرهم. ونرى مثالًا آخر من نوع هذه الإدارة الكثيرة التسامُح ما حدث في اليهودية؛ فإن بابل لمَّا انتقلت إلى يد كورش سمح هذا الملك لجميع الأسرى اليهود أن يعودوا إلى أوطانهم إذا أحبُّوا، وأن يبنوا لهم هيكلًا جديدًا ليهوه آلهتهم، فعمل بهذا الإذن جماعة منهم وشادوا الهيكل على مكانه القديم، وأخذوا يكثرون وينمون حتى نشأت حوله مدينة يهودية جديدة، وكان لها شيوخ خاصة بها يُديرون شئونها، ولما أنفذ الملك حاكمًا أو عاملًا باسمه في اليهودية انتقاه بين يهود بابل، وهو نحميا. على أن الإدارة مهما كانت حسنة في حدِّ نفسها إلا أن الأمم التي كانت غريبة العُنصر كانت ترى الخضوع للملك الأجنبي والانقياد لأوامره من أصعب المصاعب، فكانت تُحاول أن تتحرر من هذه الربقة، ولا سيما لأن أمراء الملك كانوا يضربون عليهم ضرائب مختلفة من نقدٍ أو عين أو رجال، فكانوا إذا رأوا أنه ينزح بأولادهم يشق عليهم الأمر أعظم مشقَّة؛ إذ أكثرهم يموتون في الحرب أو لا يعودون إلى أوطانهم لعلة من العلل، والأهالي الذين كانوا يبقون في بلادهم كانوا مكرهين على أن يحووا عندهم حامية الملك، وهو أمر لا يخلو من الأضرار الأدبية والمادية. وإذا انتقلنا إلى وادي الفراتين نرى أن جانبًا عظيمًا من أصحاب المعيشة القديمة كانوا باقين عليها بدون أدنى تغيُّر، وكان أصحاب العناية منهم يُدوِّنون أشغال تجارتهم وشئونهم الشرعية حفرًا على صفائح الفخار، متخذين لها القلم القديم المسماري. وكانت معامل الأقمشة البابلية تُعنَى بأمورها، فيشتغل فيها مئات من الأيدي، وترى الهياكل غاصة بالسدنة. والظاهر من بعض الدلائل أن هياكل بابل انحطَّت بعض الانحطاط في عهد الكيانيين، وذلك إما لأن الملك كان على دينٍ يُخالف دين البابليين، فكان هؤلاء يخافون أن يضع يده يومًا ما على كنون الآلهة، وإما لأن الكهنة كانوا يُفكِّرون بعض الأحيان فيما يعود إلى أنفسهم من الأرباح أكثر مما كانوا يُفكرون في أمر الآلهة. وأما الديانة نفسها فإنها بقيَت سائرة في وجهها بدون أن يحل بها تغيير، والدائنون بها كانوا يحافظون على معتقدهم بخصوص حكايات الآلهة الملفَّقة، وشعائر السحر والتنجيم، متناقلين كل ذلك خلفًا عن سلف. وكانت بابل أيضًا مركزًا عظيمًا للتجارة، فكأنها قرية نمل ونملها البشر، ويتعذَّر وجود مثلهم في القدْر والعنصر في غير هذا الموطن. وما عدا أن بابل كانت مملوءة تجارة وصناعة وديانة وأنسًا وملذَّات، فإنها كانت أيضًا نوعًا ما قلب العالم. وكيف لا تكون كذلك وأرضها غريلية غنية هذا الغنى، حافلة بالسكان، واقعة في بؤرة البلاد المعروفة يومئذٍ! أَفَيَهون فقدانُ امتيازها لمجرد انتقال صولجان الملك إلى أمة غير أمتها؟! فكانت بابل المدينة حاضرة الدولة الفارسية شتاءً، وكان قصر الملك فيها قصر نبوكد نصر نفسه الذي كان بجانب الجِنان المُعلَّقة، وكان يقضي فيه ملك فارس أشهُر الشتاء، وأما إذا أقبل الربيع بمحاسنه فإن الملك كان يظعن مع حشمه إلى شوشن حاضرة عيلام العتيقة، ثم يمعن مصعدًا في الجبال الإيرانية إذا ما اشتدَّت حُمرة القيظ فينزل إصطخر في إقليم فارس، أو ينزل البتانة حاضرة بلاد ما ذي، في قصرها الفاخر البديع؛ قصر الأرز المنيع.
.................................................
1- وهو المعبَّر عنه ببخت نصر.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|