أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-05-20
2902
التاريخ: 2024-09-11
244
التاريخ: 25-10-2016
2144
التاريخ: 2024-09-17
232
|
وكان من دعائه عليه السلام إذا نظر إلى الهلال (1):
أيُّهَا الْخَلْقُ الْمُطِيعُ (2) الدَّائِبُ السَّرِيعُ (3) الْمُتَرَدِّدُ فِي مَنَازِلِ التَّقْدِيْرِ (4) الْمُتَصَرِّفُ فِي فَلَكِ التَّدْبِيرِ (5) آمَنْتُ بِمَنْ نَوَّرَ بِكَ الظُّلَمَ (6) وَأَوْضَحَ بِـكَ الْبُهَمَ (7) وَجَعَلَكَ آيَةً مِنْ آياتِ مُلْكِهِ (8) وَعَلاَمَةً مِنْ عَلاَمَاتِ سُلْطَانِهِ، وَامْتَهَنَكَ بِالزِّيادَةِ وَالنُّقْصَانِ (9) وَالطُّلُوعِ وَالأُفُولِ (10) وَالإِنارَةِ وَالْكُسُوفِ (11) فِي كُلِّ ذلِكَ أَنْتَ لَهُ مُطِيعٌ، وَإلى إرَادَتِهِ سَرِيعٌ، سُبْحَانَهُ مَا أَعْجَبَ مَا دَبَّرَ فِيْ أَمْرِكَ، وَأَلْطَفَ مَا صَنعَ فِي شَأْنِكَ، جَعَلَكَ مِفْتَاحَ شَهْر حَادِثٍ لأِمْر حادِثٍ، فَأَسْأَلُ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكَ، وَخَالِقِي وَخَالِقَكَ، وَمُقَدِّرِي وَمُقَدِّرَكَ، وَمُصَوِّرِي وَمُصَوِّرَكَ، أَنْ يُصَلِّي عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَكَ هِلاَلَ بَرَكَة لاَ تَمْحَقُهَا الأيَّامُ، وَطَهَارَة لاَ تُدَنِّسُهَا الآثامُ، هِلاَلَ أَمْن مِنَ الآفاتِ، وَسَلاَمَة مِنَ السَّيِّئاتِ، هِلاَلَ سَعْد لاَ نَحْسَ فِيْهِ، وَيُمْن لاَ نَكَدَ مَعَهُ، وَيُسْر لاَ يُمَازِجُهُ عُسْرٌ، وَخَيْرٍ لاَ يَشُوبُهُ شَرٌّ، هِلاَلَ أَمْن وَإيمَان وَنِعْمَة وَإحْسَان وَسَلاَمَة وَإسْلاَم. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاجْعَلْنَا مِنْ أَرْضَى مَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَزْكَى مَنْ نَظَرَ إليْهِ، وَأَسْعَدَ مَنْ تَعَبَّدَ لَكَ فِيهِ، وَوَفِّقْنَا فِيهِ لِلتَّوْبَةِ، وَاعْصِمْنَـا فِيْهِ مِنَ الْحَـوْبَةِ، وَاحْفَظْنَا فِيهِ مِنْ مُبَاشَرَةِ مَعْصِيَتِكَ، وَأَوْزِعْنَا فِيهِ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَأَلْبِسْنَا فِيهِ جُنَنَ الْعَافِيَةِ، وَأَتْمِمْ عَلَيْنَا بِاسْتِكْمَالِ طَاعَتِكَ فِيهِ الْمِنَّةَ، إنَّكَ الْمَنَّانُ الْحَمِيدُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.
(1) إذا نظر إلى الهلال
الهلال واحد الأهلّة، وهو في اللغة ما يرى من جرم القمر في أوّل الشهر والسنان الذي له شعبتان يصاد به الوحش، والماء القليل في أسفل الركي، وضرب من الحيات، وطرف الرحى إذا انكسر، فيقال لكلّ واحد من هذه هلال. والإهلال والاستهلال إفعال واستهلال من هلال الشهر.
في فائق الزمخشري: أهلّ الصبيّ واستهلّ ـ على البناء للفاعل ـ صاح عند الولادة، وأهلّ الهلال على صيغة المجهول، وكذا استهلّ صيح عند رؤيته. وانهلّت السماء بالقطر، واستهلّت ابتدأت به فسمع صوته (1).
وفي النهاية الأثيريّة: أهلّ المحرم بالحجّ يهلّ إهلالاً، إذا لبّى ورفع صوته بالتلبية. والمُهلّ، بضمّ الميم: موضع الإهلال: وهو الميقات الذي يحرمون منه، ويقع على الزمان والمصدر. ومنه «إهلال الهلال واستهلاله» إذا رفع الصوت بالتكبير عند رؤيته. وإهلال الصبيّ (2): تصويته عند ولادته وإهلال الهلال إذا طلع، وأهلّ واستهلّ إذا أبصر، وأهللته إذا أبصرته (3).
وقال في المغرب: أهلّوا الهلال واستهلّوه رفعوا أصواتهم عند رؤيته. ثمّ قيل: أهلّ الهلال واستهلّ ـ مبنيّاً للمفعول فيهما ـ إذا أبصر. واستهلال الصبيّ أن يرفع صوته بالبكاء عند ولادته. ومنه الحديث: «إذا استهلّ الصبيّ ورث» وقول من قال هو أن يقع حيّاً تدريس. ويقال الإهلال رفع الصوت بـ«لا إله الّا الله» ومنه قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّـهِ} (4) وأهلّ المحرم بالحجّ رفع صوته بالتلبية.
وقال الراغب في المفردات: أهلّ الهلال رؤي، واستهلّ طلب رؤيته. ثمّ قد يعبّر عن الهلال بالاستهلال نحو الإجابة والاستجابة، والإهلال رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثمّ استعمل لكلّ صوت، ومنه (5) إهلال الصبيّ، قال تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّـهِ} أي: ما ذكر عليه غير اسم الله، وهو ما كان يذبح لأجل الأصنام.
وقيل: الإهلال والتهلّل أن يقول: لا إله إلّا الله. ومن هذه الجملة ركّبت هذه اللفظة، كقولهم التبسمل والبسملة والتحولق والحوقلة إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله. ومنه الإهلال بالحجّ وتهلّل السحاب ببرقه تلألأ، ويشبه ذلك بالهلال (6).
ثمّ إنّه قد اختلفت أقوال علماء الأدب، وكذلك أقوال الفقهاء فيما يصحّ إطلاق الهلال عليه ولا يتجاوزه، هل يختصّ بغرّة الشهر في الليلة الاُولى؟ أو بليلتين؟ أو بثلاث ليال بل إنّما يقال له: القمر، أو ويطلق أيضاً على ما يرى في سرار الشهر هلال.
قال في المفردات: الهلال: القمر في أوّل ليلة والثانية، ثمّ يقال له: القمر ولا يقال له: هلال، وجمعه أهلّة (7).
وقال السجستاني في غريب القرآن: أهلّة جمع هلال، يقال للهلال في أوّل ليلة إلى الثالثة: هلال، ثمّ يقال: القمر إلى آخر الشهر (8).
وكذلك قال في الصحاح: الهلال أوّل ليلة والثانية والثالثة ثمّ هو قمر (9).
وفي القاموس: الهلال غرّة القمر أو لليلتين أو إلى ثلاث أو إلى سبع ولليلتين من آخر الشهر ستّ وعشرين وسبع وعشرين وفي غير ذلك قمر (10).
وفي الفائق: قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) لرجل: هل صمت من سرار هذا الشهر شيئاً؟ قال: لا. قال: فإذا أفطرت من شهر رمضان فصم يومين. السرار ـ بالفتح والكسر ـ حين يستسّر الهلال في آخر الشهر. أراد سرار شعبان، قالوا: كان على هذا الرجل نذر فلمّا فاته أمره بقضائه. انتهى قول الفائق (11).
وقال أمين الإسلام أبو علي الطبرسي (نوّر الله تعالى مرقده) في مجمع البيان: اختلفوا في أنّه إلى كم يسمّى هلالاً؟ (12) ومتى يسمّى قمراً؟
فقال بعضهم: يسمّى هلالاً لليلتين من الشهر، ثمّ لا يسمّى هلالاً إلى أن يعود في الشهر الثاني. وقال آخرون: يسمّى هلالاً ثلاث ليال ثمّ يسمّى قمراً.
وقال آخرون: حتّى يحتجر وتحجيره أن يستدير بخطّة دقيقة، وهذا قول الأصمعي. وقال بعضهم: يسمّى هلالاً حتّى يبهر ضوؤه سواد الليل، ثمّ يقال: قمر، وهذا يكون في الليلة السابعة (13) انتهى.
تفريع فقهي:
لو نذر ناذر الاستهلال، أي: الدعاء عند الإهلال، فالأصحّ عندي وفاقاً لما ذهب إليه جدّي المحقّق (أعلى الله تعالى مقامه) أنّه ما أتى بذلك في شيء من الليالي السبع، كان آتياً بموجب النذر ولم يكن حانثاً، وإن كان الإتيان به إلى الثالثة أحوط، وفي الاولى الاولى. ثمّ إنّ منطوق متن الرواية من طريق التهذيب والفقيه والكافي مقتضاه أن يأتي بالدعاء حين الإهلال قبل أن يبرح من مكانه، وألّا يشير إلى الهلال بشيء من جوارحه وأعضائه.
(2) قوله عليه السلام: أيّها الخلق المطيع
قال في المغرب: خلقه الله خلقاً أوجده، وانخلق في مطاوعته غير مسموع (14).
والمصدر هنا بمعنى المفعول، أي: أيّها المخلوق المجعول في ماهيّته وإنّيّته، والمصنوع المعلول في ذاته ووجوده.
ويحتمل أن يكون من الخلق بمعنى التقدير، وهو أصل معناه في اللغة، أي: أيّها المقدّر بتقدير الله تعالى في حركاته وأوضاعه وكرّاته وأفلاكه، المطيع له سبحانه في كلّ ما أراده منك ودبّره في أمرك.
قال ابن الأثير في النهاية: في أسماء الله تعالى: «الخالق» وهو الذي أوجد الأشياء جميعها بعد أن لم تكن موجودة. وأصل الخلق بتقدير، فهو باعتبار تقدير ما منه وجودها، وباعتبار الإيجاد على وفق التقدير خالق (15).
وهذا الخطاب منه عليه السلام لجرم الكواكب الذي يقال له: تارة القمر، وتارة الهلال، وتارة البدر، بحسب اختلاف التشكّلات والأوضاع.
ثمّ إنّ مخاطبته عليه السلام إيّاه ونسبة الطاعة لله عزّ وجلّ، والإطاعة لله سلطانه في تقديره وتدبيره إليه، تنصيص على إثبات الحياة للسماويّات جميعاً، كما قال شريكنا السالف في رياسة حكماء الإسلام، الشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا في الشفاء والنجاة: السماء حيوان مطيع لله عزّ وجلّ. وهو الحقّ الذي أعطته الاُصول الحكميّة، وأفادته البراهين العقليّة، فإنّ لكلّ من الكرّات السماويّة عقلاً مفارقاً، ونفساً مجرّدة، ونفساً منطبعة، ولا تتلئّب الحركة الوضعيّة المستديرة إلّا بذلك كلّه، على ما قد أصّلناه في كتبنا وصحفنا وفصّلناه مبسوطاً في كتاب القبسات.
قال في إلهيّات الشفاء: وبالجملة لا بدّ لكلّ متحرّك من السماويّات، لغرض عقليّ من مبدأ عقلي يعقل الخير الأوّل، ويكون ذاته مفارقة. فقد علمت أنّ كلّ ما يعقل مفارق بالذات ومن مبدأ الحركة جسمانيّ، فقد علمت أنّ الحركة السماويّة نفسانيّة، تصدر عن نفس مختارة متجدّدة الاختيارات على الاتصال، فيكون عدد العقول المفارقة بعد المبدأ الأوّل بعدد الحركات، فإن كانت الأفلاك للكواكب المتحيّرة إنّما المبدأ في حركات كرّات كلّ كوكب، منها قوّة تفيض من الكواكب. ثمّ يبعد أن يكون المفارقات بعدد الكواكب لها لا بعدد الكرّات، وكان عددها عشرة بعد المبدأ الأوّل تعالى، أوّلها العقل المحرّك الذي لا يتحرّك وتحريكه لكرة الجسم الأقصى، ثمّ الذي هو مثله لكرة الثوابت، ثمّ الذي هو مثله لكرة زحل، وكذلك حتّى ينتهي إلى العقل المفيض على أنفسنا، وهو عقل العالم الأرضي (16) ونسمّيه نحن «العقل الفعّال» وإن لم يكن كذلك، بل كان كلّ كرة متحرّكة لها حكم في حركة نفسها، ولكن لكلّ كوكب كانت هذه المفارقات أكثر عدداً، وكان على مذهب المعلّم الأوّل قريباً من خمسين فما فوقه، وآخرها العقل الفعّال، وقد علمت من كلامنا في الرياضيّات مبلغ ما ظفرنا به من عددها. انتهى كلامه.
قلت: التحقيق أنّه ما من كرة سماويّة إلّا وهي متحرّكة حركة وضعيّة استدارته بالذات، وإن كانت هي متحرّكة بالعرض أيضاً حركة وضعيّة مستديرة، حتّى أجرام الكواكب، فإنّ كلّاً منها يتحرّك في مكانه الذي هو مركوز فيها حركة وضعيّة مستديرة على نفسه؛ إذ السكون من حيّز الموت الجسماني، ولا يحدر (17) بالأجرام العلويّة الأثيريّة. وبعد حلّ الإشكالات العويصة المستصعبة المشهوريّة، يستبين أنّ عدد الأفلاك الكلّيّة والجزئيّة التي بها تنضبط الحركات المرصودة، يرتقي إلى نيّف وثمانين، فإذاً ينصرح(18) أنّ العقول المفارقة والنفوس المجرّدة السماويّة هي بعدد الكرّات الكلّيّة والجزئيّة، والكواكب الثابتة والسيّارة جميعاً، والعقل الكلّي والنفس الكلّي بإزاء الفلك الكلّي. ثمّ العقول الجزئيّة والنفوس الجزئيّة في إزاء الكرات الجزئيّة وأجرام الكواكب الثابتة والسيّارة بأسرها.
وأعني بالفلك الكلّي ما تستند إليه إحدى الحركات التسع المرصودة بادي النظر في أوّل الأمر، فالنفس المجرّدة الكلّيّة السماويّة لكلّ من الأفلاك الكلّيّة للسيّارات، متعلّقها الأوّل جرم الكواكب الذي هو بمنزلة القلب في البدن الفلكي والنفس المنطبعة فيه، كما النفس الناطقة البشريّة متعلّقها الأوّل هو القلب والروح البخاري المتولّد فيه في الجسد الإنساني، فليعلم.
(3) قوله عليه السلام: الدائب السريع
كأنّك دريت بما أدريناك أنّه كما الإنسان بحسب سنخيّة (19) الجسداني والروحاني من عالمي الجسمانيّات والمجرّدات، ويقال لهما: عالما الخلق والأمر، ألا له الخلق والأمر، وعالما الملك والملكوت، سبحان ذي الملك والملكوت، وعالما الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم، وعالما الظالمات والنور [وجعل الظلمات والنور] فكذلك كلّ فلك وكلّ كوكب، فإنّه بحسب جرم بدنه السماوي من عالم الخلق، وبحسب جوهر نفسه المجرّدة، وعقله المفارق من عالم الأمر، وله بحسب ما هو من عالم الخلق الحركة في الأوضاع الجرميّة، والتخيّلات الحقيقيّة، وبحسب ما هو من عالم الأمر الحركة في الإرادات الشوقيّة والأشواق العقليّة والإشراقات الإلهيّة.
وقوله عليه السلام: «الدائب» اقتباس من التنزيل الحكيم: إذ قال عزّ قائلاً: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} (20) يدأبان في سيرهما بالذات وبالعرض وتقلّبهما في الأوضاع والجهات، وإنارتها وتنويرهما ما يقبل الاستضاءة والاستنارة في الطبقات، وإصلاحهما ما يصلحانه من المكونات، وإعدادهما ما يعدّانه لنظام الكائنات.
يقال: دأب فلان في علمه دأباً ودؤوباً: إذا جدّ فيه وأدام واستدام مواظبته عليه وإقامته إيّاه. ووصفه القمر بالسريع الأظهر أنّه بحسب الحركة الذاتيّة الكلّيّة المركّبة الغربيّة على توالي البروج، إحدى الحركات التسع المرصودة، وموضوعها الفلك الكلّي للقمر، أي: مجموع أفلاك الجزئيّة التي هي على الهيئة المشهوريّة أربعة: فلك الجواهر، وهو الممثّل، ومركزه مركز العالم، والمائل الموافق المركز، والحامل الخارج المركز، والتدوير المركوز في ثخن الحامل.
فهذه الحركة أسرع الحركات الغربيّة، يتمّ لها في كلّ ثمانية وعشرين يوماً بليلته تقريباً دورة واحدة تامّة، وللشمس في كلّ سنة واحدة دورة تامّة.
ولكلّ من الزهرة وعطارد في قريب من سنة، وللمرّيخ في قريب من سنتين وعشرة أشهر ونصف، وللمشتري في اثنتي عشرة سنة. ولزحل في ثلاثين سنة.
وللثوابت في ثلاثين ألف سنة على رصد القدماء، وفي أربعة وعشرين ألف سنة على إرصاد المتأخّرين. وربّما يقال: يصحّ ذلك بحسب حركة المائل، أو بحسب حركة الحامل، أو بحسب الحركة الخاصّة التدويريّة.
وأمّا أن يكون ذلك بحسب حركة جرم القمر على نفسه في موضعه الذي هو مركوز فيه، فاحتمال بعيد جدّاً؛ إذ تلك الحركة لا تحسّ بالرصد، ولا تدخل في الحساب.
ويحتمل أن يعتبر وصف السرعة من جهة الحركة الشرقيّة والغربيّة المركّبة على التوالي بالذات، ومن جهة الحركة الشرقيّة بحركة الفلك الأقصى على خلاف التوالي بالعرض جميعاً، فإنّ التحرّك بالحركة الاُولى الشرقيّة السريعة الظاهرة التي بحسبها الطلوع والغروب في الآفاق يعمّ العلويّات بأسرها، فهي لفلك الأفلاك بالذات، ولسائر السماويّات بالعرض.
والاتصاف بالسرعة بحسب تينك الحركتين جميعاً مختصّ بالقمر، وإنّما جعلنا الحركة الغربيّة المركّبة للقمر بالذات، مع أنّها لجرم القمر بالعرض ولفلك الكلّي، أي: لمجموع أفلاك الجزئيّة بالذات، لما قد تعرّفت أنّ المتعلّق الأوّل للنفس المجرّدة الكلّيّة التي إليها تستند هذه الحركة الاراديّة النفسانيّة هو جرم القمر الذي منزلته في فلكه الكلّي منزلة القلب في الإنسان.
فإنّ الحركة الاُولى الشرقيّة اليوميّة التي هي بالذات للفلك الأقصى، وبالعرض للقمر والشمس، ولجملة السماويّات بأسرها أسرع الحركات، فلأنّ لها في يوم واحد بليلة دورة تامّة، وبمقدار ما يقول قائل من البشر «واحد» بإسكان الدال، تقطع المتحرّك بهذه الحركة من مقعر الفلك الأقصى ـ على الأشهر عند أصحاب الرصد والحساب ـ ألف فرسخ وسبعمائة واثنين وثلاثين فرسخاً، ونحن قد برهنا على إثبات ذلك في قبسات حقّ اليقين.
فإن اشتهيت أن نتلوه عليك في مقامنا هذا فاعلمنّ: أنّه قد استبان بالإرصاد والبراهين في أبواب الأبعاد والأجرام من علم الهيئة، أنّ أبعد بعد زحل (19963) أعني تسعة عشر ألفاً وتسعمائة وثلاثة وستّين بما به نصف قطر الأرض وحد، وهو المعبّر عنه في اصطلاحهم بالمقياس. وإنّ قطر أعظم كواكب القدر الأوّل من أقدار الثوابت السنة (98) وسدس، أعني ثمانية وتسعين وسدساً بما به المقياس واحد.
فإذا زيد قطر أعظم الثوابت على أبعد بعد زحل حصل بعد محدّب فلك الثوابت عن مركز الأرض ـ وهو بعينه بعد مقعر الفلك الأقصى عن مركز الأرض ـ فهو (20053) وسدس، أعني عشرين ألفاً وثلاثة وخمسين وسدساً بما به المقياس، أعني نصف قطر الأرض واحد.
فإذا ضوعف هذا البعد حصل بعد محدّب فلك الثوابت، أعني: قطر مقعّر الفلك الأقصى، فهو (40106) وثلث، أعني أربعين ألفاً ومائة وستة وثلثاً بما به المقياس واحد. فإذا ضربنا هذا القطر ـ أي: قطر مقعّر الفلك الأقصى ـ في ثلاثة وسبع، وقسّمنا الحاصل على ثلاثمائة وستّين خرج مقدار درجة واحدة من مقعّر الفلك الأقصى. وعند غير واحد من مراجيع الحسّاب الحذّاق المحقّقين بعد محدّب كرة الثوابت بالمقياس (70073) ل، أعني سبعين ألفاً وثلاثة وسبعين مثلاً للمقياس.
وقطر كرة الثوابت وهو قطر مقعّر الفلك الأقصى بالمقياس (140147) تقريباً، أعني: مائة وأربعين ألفاً ومائة وسبعة وأربعين مثلاً للمقياس، فإذا ضرب هذا القطر في ثلاثة وسبع وقسّم الحاصل على ثلاثمائة وستّين، خرج مقدار درجة واحدة من مقعّر الفلك الأقصى بالمقياس (1223) ل تقريباً وأمثالها (9343093) أعني تسعة آلاف ألف وثلاثمائة وثلاثة وأربعين ألفاً وثلاثة وتسعين، وهي بالفراسخ (3114364) وثلث، أي: ثلاثة آلاف ألف ومائة وأربعة عشر ألفاً وثلاثمائة وأربعة وستّين فرسخاً وثلث فرسخ.
فإذن حركة الفلك الأقصى في أربعة وعشرين ساعة دورة تامّة كاملة، فلا محالة يكون كلّ ساعة مستوية مقدار طلوع خمسة عشر جزءاً من محيط منطقته، فيكون في ثلاث خمس ساعة واحدة مستوية، أي: في أربعة دقائق من ساعة واحدة يقطع بحركته درجة واحدة من مقعّره، وفي دقيقة واحدة أي: في مقدار من الزمان يقطع فيه دقيقة واحدة من مقعّره، وهو جزء واحد من تسعمائة جزء من ساعة واحدة مستوية، يكون ما يقطعه من مقعّره (155718) وسدساً، أي: مائة وخمسة وخمسين ألفاً وسبعمائة وثمانية عشر ميلاً وسدس ميل.
وحيث أنّه من المقرّر المعلوم بالاختبار والامتحان، أنّ من حين ظهور محيط جرم الشمس من الاُفق إلى حين طلوع جرمها بتمامه مقدار ما يعدّ أحد من واحد إلى ثلاثمائة، فلا محالة يكون مقدار ما يعدّ أحد من واحد إلى ثلاثين، أي: في جزء واحد من تسعمائة جزء من ساعة واحدة يقطع الفلك الأقصى دقيقة واحدة من مقعّره، أعني: مائة وخمسة وخمسين ألفاً وسبعمائة وثمانية عشر ميلاً وسدس ميل.
فإذن يكون في جزء من ثلاثين جزءاً من هذا المقدار، أي: بمقدار ما يقول أحد: «واحد» بإسكان الدال يتحرّك متحرّك مقعّر الفلك الأقصى خمسة آلاف ومائة وستّة وتسعين ميلاً، أي: ألفاً وسبعمائة واثنين وثلاثين فرسخاً.
فقد تمّ ميقات البرهان على ما ادّعيناه، ولم يكن يبلغ إلى زمننا هذا النصاب من البيان.
وعلى ما استخرجه بعض الحسّاب من الراصدين يتحرّك في هذا الوقت ألفين وأربعمائة فرسخ من مقعّره، فعلى ما نحن أوردناه يتحرّك من مقعّره في ساعة مستوية ستّة وثلاثين ألف ألف فرسخ وثلاثمائة فرسخ واثنين وسبعين ألف فرسخ، وعلى ذلك الحساب خمسين ألف ألف فرسخ وأربعمائة ألف فرسخ.
والله سبحانه أعلم بما يتحرّك محدبه حينئذ، إذ ثخن الفلك الأقصى وبعد محدب سطحيه من مركز الأرض ممّا لا سبيل للبشر إلى تعرّفه واستخراجه، ولا يعلمه إلّا صانعه العزيز العليم. ولعلّ في قول سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين (عليه صلوات الله وتسليماته): سلوني عمّا دون العرش (21) إشارة إلى ذلك. فكأنّه عليه السلام يقول: زنة العرش ومقدار ثخنه ممّا قد استأثر بعلمه الخلّاق العلّام العليم، فسلوني عمّا دونه.
4 قوله عليه السلام: المتردّد في منازل التقدير
اقتباس من القرآن الحكيم: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (22) والمراد المنازل الثمانية والعشرون التي قدّر الله العزيز العليم تردّد القمر فيها، وإتمام كلّ دورة من دورانه بقطعها والنشر فيها، وارتباط طائفة بخصوصها من اُمور عالم الكون والفساد بنزوله كلّ منزل بخصوصه منها، وهذا العدد هو ثاني الأعداد التامّة، والعدد التامّ الأوّل هو في الآحاد وهو الستّة.
وأسماء المنازل عند العرب: الشرطان بضمّ المعجمة وإسكان الراء. وفي القاموس بالتحريك (23) والبطين بضمّ الموحّدة وفتح المهملة على هيئة التصغير، والثريّا، والدبران، والهقعة، والهنعة والذراع، والنثرة والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعوّاء بالتشديد وبالمدّ وبالقصر أيضاً، والسماك الأعزل، والغفر بالمعجمة المفتوحة وإسكان الفاء، والزباني والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع بضم الموحّدة وفتح اللام، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرغ المقدّم، والفرغ المؤخّر بإعجام الغين، والرشا وهو بطن الحوت.
وهذه المنازل هي الحضيض الفلكيّة الحاصلة من قسمة دور الفلك على أيّام ما بين أوّل ظهور الهلال وآخره في أوّل الشهر وآخره، فكان كلّ منها اثنتي عشرة درجة وإحدى وخمسون دقيقة على التقريب، وفي كلّ برج من البروج الإثني عشر منها منزلان وثلث منزل، والتسمية بتلك الأسماء باعتبار وقوع الكواكب الثابتة القريبة من المنطقة فيها. فبهذه المنازل يستتمّ الشهر الهلالي، ويتحصّل القمريّة بحسب مسير القمر ونزوله وتردّده، وينضبط السنة الشمسيّة بحسب قطع الشمس إيّاها، على ما سنتلوه عليك ان شاء الله العزيز.
قال الفاضل البيضاوي في تفسيره: ينزل القمر كلّ ليلة في واحدة من هذه المنازل، لا يتخطّاه ولا يتقاصر عنه، فإذا كان في آخر منازله ـ وهو الذي يكون فيه قبل الاجتماع ـ دقّ.
ومثله في المدارك فإنّ منزل القمر كلّ ليلة في واحد منها لا يتخطّاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستوٍ تسير فيها من ليلة المستهلّ إلى الثامنة والعشرين، ثمّ يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر. وكذلك أيضاً في الكشّاف (24).
وهو غلط غير خفيّ الفساد، أليس القمر يختلف سيره بالإسراع والإبطاء؟ على سرعته. ربّما كان يتخطّى منزلاً في الوسط، فينزل منزلتين في يوم واحد، وفي بطوئه ربّما كان يتقاصر عنه، فلا يقطع منزلاً واحداً في يوم واحد، وربّما يبقى ليلتين في منزل واحد يكون أوّلهما في أوّله وآخره في آخره، وربّما يكون في ليلة واحدة لا يسير منزلاً واحداً، فيقع بين منزلين أكثر من ليلة واحدة، لكنّه على جميع التقادير يستوي في المنازل الثمانية والعشرين في ثمانية وعشرين يوماً، فليتثبّت.
(5) قوله عليه السلام: المتصرّف في ذلك التدبير
لعلّ المراد بفلك التدبير للقمر فلكه الكلّيّ الذي هو موضوع حركته الكلّيّة المركّبة المنحلّة بالأنظار الدقيقة إلى حركات أفلاكه الجزئيّة، والتدبير أحواله المختلفة، كالإسراع في الحركة والإبطاء فيها، وزيادة مقدار الجرم ونقصانه، والإظلام والإنارة، وازدياد النور وانتقاصه، والاستتار بحسب شعاع الشمس وقت المحاق، والبروز من شعاعها للإهلال أوّل الشهر.
واختلاف التشكّلات الهلاليّة والبدريّة، واختلاف البعد من مركز الأرض، والازدياد والانتقاص، والانخساف بعضاً أو كلّاً وعدمه أصلاً في الاستقبالات، وكسفه للشمس بعضاً أو كلّاً، وعدم كسفه إيّاها أصلاً في الإجتماعات، والوقوع في سطع منطقة البروج والعروض عنها جنوباً وشمالاً.
واختلاف المنظر محسوباً وحسوساً في الطول والعرض، واختلاف مقادير اختلافات المنظر الطوليّة والعرضيّة في الحساب والحسّ وأصلاً.
واختلاف مقادير أزمنة الخسوفات والكسوفات في الاستقبالات والاجتماعات في اُفق واحد بعينه إلى غير ذلك من بدائع التدابير الإلهيّة المعلومة للنفوس المقدّسة المطهّرة عن رجس الجهل والخطأ بالوحي والإلهام أو التدبير تدبير اُمور العالم السفلي المنوطة المربوطة بأوضاع العالم العلوي المنبعثة عن تحريكات الأشواق العقليّة والإشراقات الإلهيّة. فقد اقترّ في مقارّه واستبان في مظانّه: أنّ حركة النفوس المجرّدة السماويّة في التشويقات والإستشراقات، وحركة نفوسها المنطبعة في التخيّلات الحقيقيّة، وحركة أجرامها الأثيريّة في الأوضاع الجزئيّة، وحركة هيولى عالم الاُسطقسّات العنصريّة في الكيفيّات الاستعداديّة، حركات متطابقة الاتصال مترتّبة الانبعاث على التنازل الطولي، قد استعملها مدبّرها الخلّاق الحكيم، ومقدّرها العزيز العليم، على انتظام سلسلة الكون والفساد، فعلى اتّصال تلك الحركات تدور رحى أمر الحدوث والتجدّد في الحوادث الزمّانية والمتجدّدات الكيانيّة بإذن الله سبحانه.
ولقد أوفينا حقّ بيان هذه الغواض في خلسة الملكوت، وفي قبسات حقّ اليقين.
هذا على ما في الأصل على الرواية المشهورة، وفي «خ» وخ «لش» وفي الأصل على رواية «كف» التدوير مكان التدبير، فيكون عليه السلام قد أورد بفلك التدبير ما في اصطلاح علم الهيئة الذي كان معجزة لإدريس (على نبيّنا وآله وعليه السلام) واُصوله متلقّاه عن الوحي السماوي، مستفادة من البراهين اليقينيّة بالإلهامات الإلهيّة، وهو فلك صغير في ثخن الحامل غير شامل للأرض مركوز فيه الكواكب.
وتدوير القمر حركته الخاصّة في أعلى نصفيه، أي: في جانب الذروة على خلاف التوالي، وفي أسفلها أي: في جانب الحضيض على التوالي على خلاف الأمر في تداوير الخمسة المتحيّرة، ومقدارها كلّ يوم ثلاث عشر درجة وأربع دقائق.
ولكون نسبة هذه الحركة المسمّاة بـ«الحركة الخاصّة» إلى حركة الوسط للقمر أصفر من نسبة الخطّ الواصل بين مركز العالم وحضيض التدوير إلى نصف قطر التدوير، لا يكون للقمر رجوع ولا وقوف، بل إنّما تصير حركته بطيئة في نصف الذروة، وسريعة في نصف الحضيض، ويكون له في الاجتماع والاستقبال والتربيعين بطوء مع زيادة بعد، وذلك إذا كان في ذروة التدوير سرعة مع نقصان البعد، وذلك إذا كان في حضيض التدوير.
وإنّما خصّ عليه السلام فلك التدوير من بين أفلاك القمر بالذكر، إشارة إلى أنّ خارج المركز وحده لا يقوم بدل هذا التدوير؛ لأنّ مواضع البطوء والسرعة غير متخصّصة بأجزاء بأعيانها من فلك البروج، بل منتقلة مبتذلة والعود إلى اختلاف بعينه من السرعة والبطوء بعد العود إلى جزء بعينه من فلك البروج، ولغير ذلك من الاُمور المعلومة بالرصد.
وأيضاً حركة مركز تدوير القمر منطقه الحامل هي البعد المضعف. أي: بعد مركز التدوير من الشمس مضعفاً، فالشمس بعد مفارقة مركز التداوير الأوج متوسّطة دائماً بين الأوج والمركز أن يقابل الأوج المركز عند تربيعها ويلاقيه مرّة اُخرى عند استقبالها، ويقابله في التربيع الاُخر، ويعود إلى الاجتماع مع الأوج، وهذا من المستغربات. وهذه الحركة متشابهة حول مركز العالم، لا حول مركز الحامل، وهذا من الإشكالات العويصة الستّة عشر المشهورة. ومحاذاة قطر منطقة التدوير المارّ بالذروة والحضيض ليست هي بالنسبة إلى مركز العالم الذي تشابه حركة المركز حوله، ولا بالنسبة إلى مركز الحامل الذي تساوي أبعاد مركز التدوير بالنسبة إليه، بل بالنسبة إلى نقطة اُخرى تحت ذينك المركزين، يقال لهما: نقطة المحاذاة، وهذا أيضاً من تلك الإشكالات وهو أصعبها حلّاً، فلذلك كلّه خصّه عليه السلام بالذكر من بين سائر أفلاك القمر، والله أعلم بأساليب كلام أوليائه.
(6) قوله عليه السلام: بمن نوّر بك الظلم
هي بضمّ المعجمة وفتح اللام جمع الظلمة، كالظلمات بضمّتين، والظلمة تقابل النور مقابلة العدم والملكة، لا مقابلة السلب والإيجاب، فهي عدم النور لا مطلقاً بل عمّا من شأنه أن يكون مستنيراً، فما لا يكون له استعداد الاستنارة كصرف الهواء اللطيف الصافي خارج عن الطرفين لا يعرضه الور ولا يعتريه الظلمة.
وقد استبان في مظانّ بيانه: أنّ غاية ما تنتهي إليه الأبخرة والأدخنة المرتفعة، والهيئات المتصاعدة بتبخّر أشعّة الشمس وغيرها من الكواكب، وتصعيدها إيّاها في طبقات الهواء، هي بعده من سطح الأرض في جميع بقاع المعمورة ونواحيها أحد وخمسون ميلاً وثلثا ميل، أي: سبعة عشر فرسخاً وتسعاً فرسخ تقريباً، فهذه هي كرة البخار وكرة الليل والنهار، وما فوقها فلا ليل فيه ولا نهار، ولا صبح ولا شفق، ولا بياض ولا سواد، ولا نور ولا ظلمة. فمراده عليه السلام من الظلم في هذا المقام ما يقبل الاستنارة والاستضاءة في هذه الطبقة.
(7) قوله عليه السلام: وأوضح بك البهم
البهم هي بالموحّدة المضمومة والهاء المفتوحة جمع بهمة بضمّ الموحّدة وإسكان الهاء، وهي في المحسوسات أو في المعقولات ما يصعب إدراكه على القوّة الحاسّة، أو على القوّة العاقلة. وبالجملة فهي مشكلات الاُمور. وأبهت الباب، أي: أغلقته إغلاقاً شديداً لا يهتدى لفتحه. والبهمة الحجر الصلب، وقيل للشجاع: بهمة تشبيهاً به. قاله الراغب في المفردات (25).
قلت: وأمّا البهم بالباء المضمومة والهاء الساكنة، فجمع بهيم وهو الأسود وكلّ ما هو على لون واحد لا يخالط لونه لون سواه، يقال: ليل بهيم فعيل بمعنى مفعل على اسم المفعول، أي: أبهم أمره للظلمة. أو في معنى مفعل على اسم الفاعل، أي: يبهم ما يعن فيه فلا يدرك، وفرس بهيم إذا كان على لون واحد لا يكاد تميّزه العين غاية التمييز، ومنه استعير في الحديث: «يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة بهماً» قيل: أي معرون ممّا يتوسّمون به في الدنيا ويتزيّنون به، كذا في المفردات (26).
وقال ابن الأثير في النهاية: يعني ليس فيهم شيء من العاهات والأعراض التي تكون في الدنيا، كالعمى والعور والعرج وغير ذلك، وإنّما هي أجساد مصحّحة لخلود الأبد في الجنّة أو النار. وقال بعضهم: روي في تمام الحديث: «قيل: وما البهم؟ قال: ليس معهم شيء» يعني من أعراض الدنيا، وهذا يخالف الأوّل من حيث المعنى.
وفي حديث علي عليه السلام: «كان إذا نزل به إحدى المبهمات كشفها» يريد مسألة معضلة مشكلة، سمّيت مبهمة لأنّها اُبهمت عن البيان فلم يجعل عليها دليل (27).
وفي المغرب: كلام مبهم لا يعرف له وجه، وأمر مبهم لا مأتي له، وقوله صلى الله عليه وآله: أربع مبهمات: النذر والنكاح والطلاق والعتاق.
تفسير الرواية الاُخرى وهي الصحيحة: أربع مقفلات. والمعنى أنّه لا مخرج منهنّ كأنّها أبواب مبهمة عليها أقفال.
وفي حديث ابن عبّاس أبهموا ما أبهم الله، ذكر في موضعين: أمّا في الصوم فمعناه أنّ قوله تعالى {فعدّة من أيّام} (28) مطلق في قضاء الصوم ليس فيه تعيين أن يقضي متفرّقاً أو متتابعاً، فلا تلزموا أنتم أحد الأمرين على البتّ والقطع.
وأمّا في النكاح، فمعناه أنّ النساء في قوله تعالى {واُمّهات نسائكم} (29) مبهمة غير مشروط فيهنّ الدخول بهنّ، وإنّما ذلك في اُمّهات الربائب، يعني قوله تعالى صفة للنساء الأخيرة فتخصّصت بها، فلمّا كان كذلك تخصّصت الربائب لأنّها منها، بخلاف النساء الاُولى فإنّها لم تدخل تحت هذه الصفة فكانت مبهمة (30).
8 قوله عليه السلام: وجعلك آية من آيات ملكه
إشارة إلى ما في التنزيل الكريم: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} (31) فإنّ إتيان (32) القمر والشمس وذكر الليل والنهار على المجاز العقلي والتجوّز في الإسناد، أو على حذف المضاف.
وتقدير الكلام: وجعلنا نيّري الليل والنهار آيتين، أو وجعلنا الليل والنهار ذوي آيتين، ومحو آية الليل التي هي القمر جعلها مظلمة في نفسها، مطموساً جرمها في الظلمة، مستفاداً نورها من الشمس. أو نقص نورها المستفاد من الشمس في أبصار من على ساهرة الأرض شيئاً فشيئاً إلى أن ينمحي رأساً في المحاقً، وجعل آية من النهار التي هي الشمس مبصرة، وجعلها ذات شعاع يبصر الأشياء بضوئها ويستنير القمر من نورها. والآية العلامة الظاهرة، وحقيقته لكلّ شيء ظاهر حسّيّ أو عقليّ هو دليل على شيء آخر يظهر للحسّ أو العقل لظهوره. واشتقاقها: إمّا من أيّ لأنّها تبيّن أيّاً من أيّ، أو من قولهم: أوي إليه.
قال في المفردات: وفي بناء آية ثلاثة أقوال: قيل: هي فعلة وحقّ مثلها أن يكون لامه معتلّاً دون عينه نحو حياة ونواة، لكن صحّح لامه لوقوع الياء قبلها نحو راية. وقيل: هي فعلة إلّا أنّها قلّبت كراهة ال تضعيف نحو طائي في طيء. وقيل: هي فاعلة وأصلها آيية فخفّفت فصار آية، وذلك ضعيف لقولهم في تصغيرها اُيّية، ولو كانت فاعلة لقيل: اُويّة (33).
وقال ابن الأثير في النهاية: أصل آية أوية بفتح الواو، وموضع العين واو، والنسبة إليه أووي، وقيل: أصلها فاعلة فذهبت منها اللام أو العين تخفيفاً، ولو جاءت تامّة لكانت آيية (34).
(9) قوله عليه السلام: وامتهنك بالزيادة والنقصان
الإمتهان افتعال من المهنة بمعنى الاستعمال فيها، وهي بالفتح والكسر الخدمة، والماهن الخادم. أي: استخدمك واستعملك في الخدمة. وفي «خ» امتحنك بالحاء المهملة. والمعنى بالزيادة والنقصان: إمّا اختلاف مقادير جرم القمر بحسب الحسّ والرصد في الخسوفات والكسوفات بالزيادة إذا كان في البعد الأقرب، والنقصان إذا كان في البعد الأبعد. وإمّا ازدياد النور وانتقاصه في الرؤية بحسب اختلاف مقدار ما يظهر للحسّ من المستنير بنور الشمس من جرمه في الأشكال المختلفة الهلاليّة والبدريّة، فإنّ الأرض تسعة وثلاثون مثلاً وربع مثل للقمر، والشمس مائة وستّة وستّون مثلاً وربع وثمن مثل للأرض، وستّة آلاف وستّمائة وأربعة وأربعون مثلاً للقمر. وقد برهن أرسطرخس في الشكل الثاني من مقالته في جرمي النيّرين: أنّه إذا استضاءت كرة صغرى من كرة عظمى كان المضيء من الصغرى أعظم من نصفها، فإذن يكون المنير من جرم القمر بنور الشمس أعظم من نصفه، والمظلم منه أصغر من نصفه أبداً. وكذلك الأرض يستضيء من ضوء الشمس أكثر من نصفها، فيكون للأرض ظلِّ مخروطيّ مستدير صغير، يطيف به مخروط شعاع الشمس العظيم المحيط بالشمس والأرض، أعني: مخروط النور المؤلّف من خطوط شعاعيّة من الشمس إلى محيط هذه القطعة الصغيرة من جرم الأرض، ومن خطوط ظلّته من محيطها إلى رأس المخروط. فهذه القطعة هي مخروط ظلّ الأرض، قاعدته دائرة صغيرة هي الفصل المشترك بين سطحي الأرض ومخروط النور العظيم، ومركزه مركز قاعدته، ويكون في سطح منطقة البروج لكون مركز الشمس دائماً عليها، ومركزها مركز الأرض، وسهم المخروط العظيم المارّ بمركزي الشمس والأرض يمرّ به أوّلاً، ثمّ ينتهي إلى رأس المخروط. وهذان المخروطان يدوران دائماً حول الأرض بحسب الحركة الاُولى على التعاكس في الجهة، فإذا كان مخروط الظلّ فوق الأرض ومخروط النور تحتها، فهو زمان الليل، وإذا كان بالعكس فهو زمان النهار ويصل مخروط الظلّ إلى فلك الزهرة، وينتهي رأسه في أفلاكها إذا كانت الشمس في الأوج لكونه حينئذ أطول، ولا يصل إليه إذا كانت هي في الحضيض؛ لكونه أقصر حينئذ. وكذلك للقمر مخروط ظلّ هو أصغر من مخروط ظلّ الأرض جدّاً، فإذا توهّمنا سطحاً كرياً على مركز هو بعينه مركز منطقة البروج ـ أعني: مركز العالم ـ يمرّ بمركز القمر وبمخروط ظلّ الأرض الذي هو مخروط الصغير، حدثت منه على جرم القمر دائرة تسمّى «صفحة القمر» وعلى سطح المخروط الصغير دائرة موازية لقاعدته تسمّى «دائرة الظلّ» ويكون مركزها على المنطقة، وهما تختلفان بحسب الأبعاد. وقد قيس بينهما فوجد قطر دائرة الظلّ مثلي قطر صفحة القمر وثلاثة أخماس في كلّ بعد. وإذ قد استبان لك أنّه يفصل بين المظلم والمنير من جرم القمر دائرة على جرمه هي عظيمة بحسب الحسّ، وقريبة من العظيمة بحسب الحقيقة.
وقد بيّن اقليدس في كتاب المناظر: أنّ ما بين العينين إذا كان أصغر قطر الكرة، كان المرئيّ من الكرة أصغر من نصفها. فإذن يكون الواقع من القمر في مخروط شعاع البصر أصغر من نصفها. ويفصل بين المبصر منه عند الناظرين، وبين ما لا يصل إليه نور البصر على جرمه، هي أيضاً بحسب الحسّ، وقريبة من العظيمة بحسب الحقيقة، فالدائرتان تتطابقان تحقيقاً أو تقريباً في الاجتماع، ويكون المبصر من القمر إذن النصف المظلم، وتلك الحالة هي المحاقّ، فيكون وجه قطعته الكبيرة المنيرة إلى الشمس، ووجه قطعته الصغيرة المظلمة إلينا وفي الاستقبال أيضاً تتطابقان، ويكون المبصر منه النصف، وهذا هو البدر.
فيكون إذن وجه قطعته الكبرى المنيرة إلينا وإلى الشمس جميعاً ووجه قطعته الصغرى المظلمة إلى خلاف هذه الجهة، وفي سائر الأوضاع يتقاطعان، أمّا في التربيعين فعلى زوايا قوائم تقريباً، ويكون الربع الذي يلي الشمس من النصف الذي يلينا مضيئاً، وفي غيرهما على زوايا حوادّ ومنفرجات.
والذي يلي الشمس في الربعين الأوّل والأخير، أي: قبل التربيع الأوّل وبعد التربيع الثاني، هو القسم الذي يلي الزواية الحادّة، فيكون هلالي الشكل، وفي الربعين الأخيرين هو القسم الذي يلي الزاوية المنفرجة، فيكون اهليلجي الشكل فيهما، ذلك تقدير العزيز العليم، فليتدبّر.
(10) قوله عليه السلام: والطلوع والاُفول
الأظهر أن يعني بالأفول والطلوع هنا استتار المضيء من جرم القمر عن أبصار الناظرين تحت شعاع الشمس في المحاقّ، وخروجه من تحت الشعاع يسيراً للإهلال إلى التربيع، ثمّ إلى الاستقبال، ثمّ الأخذ في الانتقاص بالاستتار شيئاً فشيئاً إلى التربيع الثاني، ثمّ إلى الاجتماع في المحاقّ على ما قد عرفت، فيكون أحد نصفي الشهر زمان الطلوع، والنصف الآخر زمان الاُفول على التدريج.
ويحتمل أن يراد بهما الغروب في اُفق الغرب، والطلوع من اُفق الشرق في كلّ يوم بليلته بالحركة الاُولى اليوميّة، كما لسائر الأجرام والكواكب. وإنّما جعل ذلك من أحوال القمر مع شموله الكواكب بأسرها، لكون التخلّف فيه عن تمام دورة معدّل النهار في كلّ يوم، والانتقال من المدار الطلوعي من المدارات اليوميّة إلى المدار الآخر الغروبيّ منها، المختلفين اختلافاً بيّناً في القمر أمراً ظاهراً للحسّ غاية الظهور، على خلاف الأمر في سائر الكواكب.
إذ حركته الخاصّة الذاتيّة الغربيّة على التوالي من الطولع إلى الطلوع، لها مقدار صالح مستبين للحسّ لسرعتها، ولا كذلك الحركات الذاتيّة الغربيّة لغيره من الكواكب عند الحسّ لبطوئها.
وهناك احتمال آخر ثالث ولا يخلو من بعد، وهو أن يجعل الإمتهان بالطلوع والاُفول وصفاً للقمر بحسب حال المتعلّق، أعني منازله الثمانية والعشرين، فإنّ كلّاً من تلك المنازل مستنير بضياء الشمس وشعاعها ثلاثة عشر يوماً بالتقريب.
ثمّ يبرز من تحت ضيائها فيظهر للأبصار، ويكون اختفاؤه في البداءة أيضاً بضياء الشفق في العشيّات، وظهوره للبصر في النهاية بالبروز من ضياء الفجر بالغدوّات، فهذا الاستتار والاختفاء في ضياء الشفق يسمّى «اُفولاً وغروباً» والبروز والخروج من ضياء الفجر "ظهوراً وطلوعاً".
ويثبت لهذا الطلوع في التقاويم رقم «ع» في حاشية الصفحة اليمنى ولذلك في علم أحكام النجو أحكام مختلفة بحسب اختلاف أحوال المنازل وأوضاعها.
(11) قوله عليه السلام: والإنارة والكسوف
الإنارة في اللغة يتعدّى، فيكون بمعنى إعطاء النور وإفادة الضوء للغير، ولا يتعدّى فيكون بمعنى الاستنارة والاستضاءة، أي: كونه ذا نور وضياء.
والكسوف أيضاً يكون مصدراً للمتعدّي بمعنى الكسف والحجب، يقال: كسفه كسفاً وكسوفاً أي: حجبه وقطعه. وللازم بمعنى الانكساف والاحتجاب والانخساف، يقال: كسف يكسف كسوفاً، أي: انكسف واحتجب وانخسف.
قال في القاموس: كسف الشمس والقمر كسوفاً احتجبا كانكسفا، والله تعالى إيّاهما حجبهما، والأحسن في القمر خسف وفي الشمس كسفت (35).
وقال ابن الأثير في النهاية: في الحديث: «إنّ الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته» يقال: خسف القمر بوزن ضرب، إذا كان الفعل له، وخسف القمر على ما لم يسمّ فاعله.
وقد ورد الخسوف في الحديث كثيراً للشمس، والمعروف لها في اللغة الكسوف لا الخسوف، فأمّا إطلاقه في مثل هذا الحديث فتغليباً للقمر لتذكيره على تأنيث الشمس، فجمع بينهما فيما يخصّ القمر، وللمعارضة أيضاً، فإنّه قد جاء في رواية اُخرى: «إنّ الشمس والقمر لا ينكسفان»، وأمّا إطلاق الخسوف على الشمس منفردة، فلاشتراك الخسوف والكسوف في معنى ذهاب نورهما وإظلامهما، والانخساف مطاوع خسفته فانخسف (36) انتهى كلام النهاية.
وفي مفردات الراغب: الخسوف للقمر، والكسوف للشمس، وقال (37) بعضهم: الكسوف فيهما إذا زال بعض ضوئهما، والخسوف إذا ذهب كلّه ويقال: خسفه الله وخسف هو، قال تعالى (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) (38) وقال تعالى:{لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّـهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} (39) وفي الحديث: «إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته» (40) انتهى قول المفردات.
وإذن فنقول: كلامه عليه السلام يحتمل حمل الإنارة والكسوف على المعنى اللازم، فيكونان للقمر بحسب حال الاستقبال، وعلى المعنى المتعدّي فيكونان له بحسب حال الاجتماع، فهنا مقامان:
المقام الأوّل: في إنارة القمر، أي: كونه ذا نور وضياء، وكسوفه، أي: انخساف نوره وانكساف جرمه حالة الاستقبال.
الخسوف: هو عدم إضاءة النيّر الأصغر وهو القمر ما يلينا من كرة البخار في الوقت الذي من شأنه أن يضيء فيه، لوقعه في مخروط ظلّ الأرض وحيلولتها بينه وبين النيّر الأعظم، لمقاطرتها النيّرين، أعني وقوعها معهما على قطر من أقطار العالم تحقيقاً أو تقريباً، وكون جرمها جسماً كثيفاً حاجباً لنور الشمس عن القمر، فلا يقع عليه أصلاً، أو على بعضه شيء من شعاعها وقوعاً أوّلياً، فيظلم كلّه أو بعضه حينئذ، لكونه غير مشيء من ذاته، فهذا حقيقة خسوف القمر كلّيّاً أو جزئيّاً.
وهو يرى إذا كان يقع ليلاً، فيدركه حسّ البصر، على خلاف شاكلة الأمر في المحاقّ، وإن كان بالليل لما سيتلى عليك إن شاء الله العزيز العليم.
وكلّما كان القمر أكثر بعداً من الأرض كان خسوفه أقلّ مكثاً، ولأنّ غاية عرض القمر وهي خمسة أجزاء أعظم من نصفي قطري صفحة القمر، ودائر الظلّ لم يعرض له الانخساف في كلّ استقبال، ولم يكن كلّ استقبال خسوفيّاً.
فإن كان عرض القمر ـ أي: بعد مركزه مركز دائرة الظلّ وقت الاستقبال ـ أكثر من نصفي قطر صفحته وقطر دائرة الظلّ لم يقع له خسوف أصلاً؛ إذ ليس يلاقي دائرة الظلّ بل إنّه يمرّ بقربها، وإن كان مساوياً لهما ماسّ القمر محيط دائرة الظلّ من خارج على نقطة في جهة عرضه ولم ينخسف شيء منه، وإن كان أقلّ منهما وكان مساوياً لنصف قطر دائرة الظلّ مرّت دائرة الظلّ بمركز صفحة القمر، فانخسف حينئذ نصف قطره. وإن كان هذا الأقلّ أكثر من نصف قطر الظلّ، كان المنخسف أقلّ من نصفه. وإن كان العرض مساوياً لفضل نصف قطر الظلّ على نصف قطر صفحة القمر انخسف جرم القمر كلّه، وماسّ سطحه محيط دائرة الظلّ من داخل الدائرة، فلم يكن له مكث في الخسوف، وإن أقلّ من ذلك كان كلّه منخسفاً وماكثاً فيه بحسب ما يقع في الظلّ، فإن انطبق مركز القمر على مركز الظلّ كان المكث في الغاية ومركز القمر على العقدة مع مركز الظلّ. وإنّما قدر حدّ الخسوف باثني عشر جزءاً من بعد القمر عن إحدى العقدتين؛ لأنّ عرضه إذا جاور هذا الحدّ زاد على نصفي القطرين فلا ينخسف، ولمّا كان الخسوف على بعد أقلّ من اثني عشر درجة من إحدى العقدتين ممكناً، فإن كان الاستقبال بعد التجاوز عن العقدة ووقع الخسوف على طرف الحدّ، ثمّ وقع استقبال بعد خمسة أشهر قبل الانتهاء إلى العقدة الاُخرى على طرف حدّ الخسوف، أمكن أن ينخسف القمر مرّة ثانية، وذلك لحركة العقدة الثانية إلى خلاف التوالي واستقبالها لموضع الخسوف، وهذا أقلّي الوقوع.
وإن كان الاستقبال الخسوفي قبل الوصول إلى العقدة الاُولى على طرف الحدّ والاستقبال الآخر بعد التجاوز عن العقدة الثانية بعد سبعة أشهر، لم يكن أن يقع في حدّ الخسوف، لمجاوزة العقدة بحركتها إلى خلاف التوالي عن المقدار المقتضي للخسوف، فلا يكون خسوفان بينهما سبعة أشهر. وأمّا بعد ستّة أشهر فأكثري الوقوع، لانتقال الشمس في هذه المدّة من قرب إحدى العقدتين إلى قرب الاُخرى.
وليعلم أنّ في الخسوف الجزئي ينخسف من القمر بعضه، ويقع المنخسف منه في خلاف جهة عرضه، ويكون أحواله ثلاثة: بدء الخسوف، ووسط الخسوف وهو بعينه تمامه، وبدء انجلائه وتمام الانجلاء.
وفي الخسوف الكلّي ينخسف كلّه، فإن لم يكن له مكث فكذلك أحواله ثلاثة؛ لاتّحاد تمام الخسوف ووسطه وبدء انجلائه، وإن كان له مكث فتكون له أحوال خمسة: بدء الخسوف، وتمام الخسوف وهو بعينه بدء المكث، ووسط المكث وهو حقيقة الاستقبال، المسمّى بـ«وسط الخسوف» وبدء الانجلاء وهو آخر المكث، وتمام الانجلاء.
ولكون القمر هو الداخل بحركته في الظلّ، يكون ابتداء الانخساف من شرقيّة، وكذلك يكون المنجلى أوّلاً شرقيّة أبداً، فبدء الظلام وبدء الانجلاء من ناحية الشرق، والجنوب إن كان العرضي شماليّاً منها، والشمال إن كان جنوبيّاً. وإن لم يكن له عرضي فيحاذي درجة الطالع والمظلم منه أبداً ذو جهتين.
فالشيء في خلاف جهة العرض هي من القمر، والاُخرى من دائرة الظلّ، والمستنير منه هلالي محدبه منه ومقعّره منها، ويشبه أن يكون ابتداء الخسوف أثراً دخانيّاً يظهر في شرقيّة، ثمّ بدخوله وتوغّله في الظلّ يزداد تراكماً في الإظلام، ويكثر ويسود إلى أن ينخسف قريب من ثلثه، فيظهر فيه نحاسيّة بخضرة إن قلّ عرضه، ولاجورديّة السماء إن كان عديم العرض، ولا سيما إذا كان في الذروة؛ وخفي عن كثير من الناس وقت توسّط الخسوف ثمّ ينعكس الأمر في اختلاف أقواله إلى تمام الانجلاء، فيبتدىء من اللاجورديّة منتقلاً إلى النحاسيّة. وعند المتأخّرين متى كان عرضه أقلّ من عشر دقائق كان أسود حالكاً، وإلى عشرين فبأسود بخضرة، وإلى ثلاثين فبحمرة، وإلى أربعين فبصفرة، وإلى خمسين فبأغبر، وإلى ستّين فبأشهب، ومن هذا التشكيل يتصوّر الخسوف على تسطّح المجسم.
المقام الثاني في كسوف القمر للشمس، أي: كسفه إيّاها وحجبه ضوؤها وإنارته، بمعنى عدم كسفه لها وعدم حجبه نورها وضياءها عن أبصار الناظرين حالة الاجتماع.
اعلمنّ أنّ الاجتماع وهو كون موضعي النيّرين نقطة من البروج؛ إمّا حقيقيّ يمرّ بهما خطّ خارج من مركز العالم، أو مرئيّ يمرّ بهما خطّ خارج عن منظر الأبصار، والاجتماع الكسوفي والكسوف هو عدم إضاءة الشمس كلّاً أو بعضاً ما يلينا من كرة البخار في الوقت الذي من شأنها أن تضيء فيه، لتوسّط القمر بينها وبين البصر، لوقوعه على الخطّ الخارج من البصر إليها.
وحجبه نورها عن الأبصار لكثافته وقطعه السماوات المستقيمة التي بين البصر والشمس، فيرى عديمة النور كلّها أو بعضها، وذلك يكون في الاجتماع المرئيّ الواقع فيها نهاراً، حقيقيّاً كان أم لا في الإجتماعي الحقيقيّ فقط.
وساعات الحقيقيّ أقرب إلى نصف النهار من ساعات المرئيّ؛ لأنّ حركة القمر على التوالي من المغرب، والقمر المرئيّ أقرب إلى الاُفق من القمر الحقيقيّ: نصف ال نهار يصل القمر المرئيّ إلى الشمس ثمّ الحقيقي وبعده بالعكس. ولأنّ الكسوف من عوارض الاجتماع المرئيّ يعتبر اختلاف المنظر في الكسوفات دون الخسوفات.
ويمكن أن يقع الكسوف بالقياس إلى قوم دون قوم، والشمس فوق اُفق كلّ منهما، بخلاف الخسوف، وهي بحسب اُفق كلّ منهما، فإنّه إن انخسف عند أحدهما انخسف عند الآخرون، وإن اختلف ساعات الابتداء والتوسّط والانجلاء، فيكون في بلد على مضيء ساعة من الليل. وفي آخر على أقلّ أو أكثر أو يطلع منخسفاً. والفارق أن الخسوف أمر عارضيّ لجرم القمر في ذاته، وهو صيرورته مظلماً فمن يراه يراه كذلك. وليس الكسوف أمراً عارضاً للشمس في ذاتها، فإنّها على ما هي عليه وإنّما الانكساف بالقياس إلى بعض الأبصار، لتوسّط القمر بينها وبين البصر. ويجوز اختلاف وضع المتوسّط باختلاف المساكن، وكذلك قد يختلف كسوف واحد عند أهل بلدين قدراً أو جهة وزماناً، ويمتنع اختلاف خسوف واحد عند أهلهما في شيء من ذلك. وينبغي أن يكون العرض المرئيّ للقمر، أعني: المعدّل باختلاف المنظر في العرض وقت الاجتماع المرئيّ، أعني المعدّل باختلاف المنظر في الطول أقلّ من نصفي قطري صفحتي النيّرين حتّى يقع كسوف، فإنّه إن ساواهما تماسّا ولم يقع للشمس انكساف، وأن كان أكثر منهما فبالأولى ألّا تنكسف، وإن كان أقلّ منهما يقع الكسوف بقدر ذلك الأقلّ.
والضابط أنّه حينئذ أي: حين كون العرض المرئي للقمر أقلّ من نصفي قطري صفحتي النيّرين، إن وقع المركزان ـ أعني مركزي النيّرين على الخطّ الخارج من البصر إلى الشمس، وكان القطران للنيّرين متساويين، بأن يكون رأس مخروط ظلّ القمر على البصر ـ انكسف الشمس كلّها ولم يكن هناك.
وإن كان قطر الشمس أكثر، بأن تكون الشمس في بعد أقرب والقمر في بعد أبعد، ويكون رأس المخروط أعلى من الأبصار، بقيت منها حلقة نورانيّة، ويسمّى هذا الكسوف "حلقة النور".
وإن كان أصغر بأن تكون الشمس في بعد أبعد والقمر في بعد أقرب، ويكون رأس المخروط أسفل من سطح الأرض، كان للكسوف مكث قليل بقدر الفصل بين القطرين، وذلك لأنّ القمر أيضاً لكونه كثيفاً مظلماً غير منير من جوهر جرمه له مخروط ظلّ يكون رأسه عند الأبصار إلى جانب الأرض في بعد يقتضي تساوي القطرين، وأعلى من الأبصار من بعد حلقة النور، ويقع الأبصار في دائرة من الظلّ قاطعة للمخروط في بعد يقتضي المكث، بأن يكون قطر القمر أعظم من قطر الشمس.
ولاعتبار حدود الكسوفات ليستبين على أيّ حدّ يمكن الكسوف وفي أيّ حدّ لا يكون ممكناً إذا اعتبر العرض الحقيقي للقمر.
وكان اختلاف العرض أي: اختلاف المنظر في العرض تارة يزاد على العرض الحقيقي، وذلك إذا ما كان العرض جنوبيّاً، ومنطقة البروج والقمر في جانب واحد ومن سمت الرأس، وتارة ينقص منه، وذلك إذا ما كان العرض شماليّاً ليصير مرئيّاً، لزم أن يكون الحدود عن جانبي العقدتين مختلفة بحسب اختلاف البقاع، بخلاف الأمر في حدود الخسوفات؛ لأنّ المعتبر هناك العرض الحقيقي وهو لا يختلف، وهاهنا العرض المرئيّ وهو مختلف.
ففي الإقليم الرابع يكون الكسوف على بعد غايته بعد عقدة الرأس، أو قبل عقدة الذنب إلى ثماني عشر درجة، أو على بعد غايته قبل عقدة الرأس، أو بعد عقدة الذنب إلى سبع درجات ممكناً، فكذلك يمكن أن يقع كسوفان على طرفي خمسة أشهر، أحدهما بعد الرأس والآخر قبل الذنب، أو على سبعة أشهر أحدهما قبل الذنب والآخر بعد الرأس. وأمّا على طرفي ستّة أشهر فلا اشتباه في إمكانه، ولا في وقوع خسوف وكسوف في استقبال واجتماع متواليين، وأكثر ما يكون بينهما من المدّة خمسة عشر يوماً. وليس يمكن خسوفان بينهما شهر في شيء من البقاع أصلاً. وكذلك لا يكون كسوفان بينهما شهر إلّا في بقعتين مختلفي جهة الأرض: إحداهما شماليّة والاُخرى جنوبيّة؛ لكون القمر هو الكاسف للشمس، والتوالي من المغرب يكون بدء الظلام. والانجلاء في الكسوف أبداً من الجانب الغربي، فالمنكسف أوّلاً غربيّ الشمس، وكذلك المنجلي أوّلاً غربها، وهذه صورة الكسوف على تسطيح المجسّم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. الفائق: 4 / 109.
2. في المصدر: واستهلال الصبيّ وكذا واستهلال الهلال.
3. نهاية ابن الأثير: 5 / 271.
4. سورة البقرة: 173.
5. في المصدر: وبه شبّه.
6. مفردات الراغب: ص 544.
7. مفردات الراغب: ص 544.
8. غريب القرآن: 26.
9. الصحاح: 5 / 1851.
10. القاموس: 4 / 70.
11. الفائق: 2 / 171.
12. في المصدر: وقد اختلف في تسميته هلالاً لم يسمّى ...
13. مجمع البيان: 1 / 283.
14. المغرب: 1 / 167.
15. نهاية ابن الأثير: 2 / 70.
16. في «ط»: الأخير.
17. في «س»: يجدر.
18. في «ط»: يتصرّح.
19. في «س»: سجيّة.
20. سورة إبراهيم: 33.
21. رواه في الإحقاق عن البدخشي في مفتاح النجا: 7 / 617 والحنفي في علم الكتاب: ص 266 والنبهاني في الشرف المؤبّد: ص 112.
22. سورة يس: 39.
23. القاموس: 2 / 368.
24. الكشّاف: 3 / 323.
25. مفردات الراغب: ص 64.
26. مفردات الراغب: ص 64.
27. نهاية ابن الأثير: 1 / 167 ـ 168.
28. سورة البقرة: 184.
29. سورة النساء: 23.
30. المغرب: 1 / 51.
31. سورة الاسراء: 12.
32. في «س»: فالإتيان.
33. مفردات الراغب: ص 33 ـ 34.
34. نهاية ابن الأثير: 1 / 88.
35. القاموس: 3 / 190.
36. نهاية ابن الأثير: 2 / 31.
37. في المصدر: وقيل.
38. سورة القصص: 81.
39. سورة القصص: 82.
40. مفردات الراغب: ص 148.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|