أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-12-2015
2179
التاريخ: 24-12-2016
1405
التاريخ: 2023-09-23
1013
التاريخ: 2023-10-02
1019
|
غادر سلمان الدير حاملاً بيده اللوح، ووقف حائراً لا يدري كيف يصنع ولا أين يذهب، إنه يريد أرض تهامة، ولكن هو غلام ديراني، وحياة الديرانيين تشبه إلى حد ما حياة أهل السجون لولا الفارق النفسي بينهما من حيث توطين النفس على الإقامة فيها اختياراً، والشعور بالانفساح الروحي عند الخلوة لمناجاة الله سبحانه، وإلا فكل شيء في الأديرة يخضع لقيود معينة، الملبس فيها خاص وبشكل معين، والمأكل فيها خاص ينحو نحو النباتية، والزهد في الدنيا شرط، فلا مال ولا عقار، ولا شيء من مغريات الحياة، بل على الداخل فيها أن يخرج من الدنيا وما فيها ـ هكذا كانت حياة الأديرة ـ وهكذا كان سلمان عندما كان ديرانياً .
والآن، خرج من الدير، فمن الطبيعي أن يخرج منه كما دخل صفر اليدين، ويمكننا تصور حالته النفسية في ذلك الظرف العصيب، فهو يريد أن يأكل ويريد أن يسافر، ويريد أن يتعامل مع هذه الحياة كما يتعامل بقية الناس، ولكن دون جدوى، ففي الدير كانت له جراية تجرى عليه كما تجرى لصاحبه الراحل، أما الآن فقد انتهى كل شيء فها هو قد خرج وهو لا يملك درهماً ولا ديناراً، فماذا يفعل الآن؟
في زخم هذه الحيرة التي لفت سلمان كانت خيوط الأمل الأخضر تشرق في نفسه فتضيء له جنباتها.. إنه الأمل بلقاء النبي الموعود، فلقد نبت حب محمد صلى الله عليه وآله في قلبه كما ينبت العطر في أكمام الورود، وتذكر في هذه الحال ما قاله له أستاذه الراحل من أنّه «سيخرج نبي في أرض تهامة» وتساءل بينه وبين نفسه: من يدري، فلعله قد خرج؟ !وأحسّ سلمان بموجةٍ من الفرح تغمره، فاندفع منطلعاً نحو الطريق وإذا به يرى ركباً يقصدون أرض الحجاز. وأحس أنهم من ذوي الثراء والمكانة لِما رأى من ترفهم وحسن مظهرهم، وما معهم من الشياه والأغنام والأثاث والرياش، وهنا بادرهم بالتحية، فردوا عليه بمثلها، ثم سايرهم قليلاً وفكر في أن يعرض عليهم ما في نفسه من الرغبة في مرافقتهم؛ ولكن منعه من ذلك قصَرُ ذات اليد، فما معنى أن يكون معهم ولا يشاطرهم في نفقة الطريق؟ فعاد إلى نفسه ولم يتكلم بكلمة، إنه لم يرضَ أن يكون عالةً على غيره، يأخذ ولا يعطي، فهذا شأن الساقطين في الحياة، وبينما هو في غمرة تفكيره إذ لاحت له خاطرة ذكية أحس من خلالها بقرب الفرج، حيث بدا له أن يعرض عليهم نفسه للخدمة في قبال أن يقوموا بنفقاته، ورأى أن هذا أمر لا ضير فيه ولا مهانة، بل هو شيء حسن، فلم يتردد في ذلك وخاطبهم قائلاً: "يا قوم، اكفوني الطعام والشراب، أكفكم الخدمة".
وكان طلباً محبباً لهم، فالعرب أمة عرفت بالبذل والكرم والسخاء، بل أحب شيء للعربي ضيافة الوافد وإكرامه، فكيف بجماعة كل شيء لديهم وافر، أتراهم يمتنعون عن قبول مثل هذا العرض بدون مقابل؟ بالطبع لا، غير أنّهم أدركوا في سلمان أنّه رجل عفيف لا يحتمل المنّ، ولا هو من المتسكّعين، فلم يماطلوا معه بالسؤال والجواب لكيلا يحرجوه فأجابوه بقولهم: نعم.
سار سلمان معهم يخدمهم في رحلتهم تلك ويهيّئ لهم ما يحتاجون إليه، فلما صار وقت الطعام «عمدوا إلى شاة، فقتلوها بالضرب، ثم أخذوا لحمها وجعلوا بعضه كباباً وبعضه شواءً» وجلسوا يأكلون، أمّا هو فلم يعجبه هذا الأمر، فجلس ناحيةً ولم يأكل، ولفت انتباههم ذلك، فقالوا له: كلْ.
لكنّه أصر على موقفه الرافض ـ ولعل طريقة قتلهم للشاة لم تعجبه لأنها منافية لما جاء في الشرائع السماويّة من شروط الذبيحة ـ وبقي ممتنعاً عن الأكل، وفكر في جوابٍ يرضي به فضولهم ويدفع عنه لائمتهم. فقال لهم: إني غلام ديراني، والديرانيون لا يأكلون اللحم، ووجد خلاف ما كان يتوقع، فالذي ظهر أن القوم يكرهون الأديرة والديرانيين والنصارى أجمعين، وأنهم وثنيون أو يهود، فرأوا وجوده بينهم مدعاةً لتعكير صفو عيشهم شأن ذوي العقول المتحجرة من المتعصبين، فنهضوا إليه يؤدبونه. يقول سلمان: فضربوني، وكادوا يقتلوني، فقال أحدهم ـ وكأنه يختبر حقيقة أمره ـ: أمسكوا عنه حتى يأتيكم الشراب، فانّه لا يشرب.
هذه هي المحنة بدأت تواكب سلمان من جديد تضعه على المحك، المحنة التي يبتلي بها الله أصفيائه وأوليائه والمؤمنين، فقد ورد في الحديث الشريف: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» وما ذلك إلا ليعرفوا أنفسهم بأنفسهم ويدركوا مقدار ما هم عليه من الصدق مع الله والإخلاص له، ولكي يعرف من سواهم أنهم لم يصلوا إلى أعلى المراتب إلا بالصبر على البلاء والتضحية في سبيل الله.
جاء الشراب، فقالوا لسلمان: اشرب، فأبى ولم يشرب وقال: إنّي غلام ديراني والديرانيّون لا يشربون الخمر.
وهنا لم يجدوا رداً على كلامه إلا بالضرب، يقول: فشدوا علي وأرادوا قتلي.
فقلت لهم: لا تضربوني فاني أقر لكم بالعبودية! فأقررت لواحد منهم، فأخرجني وباعني بثلاثمائة درهم من رجل يهودي.
وهكذا ضحّى سلمان في سبيل الإيمان، وما كان أغناه عن ذلك كله لو بقي في المكان الذي جاء منه، لكنّها الأمانة التي تلزمه أن يتابع سيره ويضحي بكل ما يقدر عليه في سبيل الوصول إلى الهدف الذي ينشده، سيما وقد أدرك أن الأرض التي هو فيها الآن هي موطن ذلك النبي.
حين اشتراه اليهودي أخذ يسأله عن قصته وسلمان يحدثه بكل ما جرى له منذ أن ترك بلاد فارس، وكيف اعتنق النصرانية وصار ينتقل من عند راهب إلى آخر، ولم ينسَ أن يحدثه بما بشره به راهب الإسكندرية من أن زمان نبي من العرب قد اقترب وأنه قصد هذه البلاد رجاء أن يقيّض الله له اللقاء به ـ وهو يظن أنه بذلك سوف يثير عطفه عليه ـ لكن ما حصل كان عكس ذلك، فما أن سمع اليهودي بذكر محمد حتى فقد صوابه وصمم في نفسه أن ينتقم منه، فاليهود يقرأون في توراتهم ويسمعون من أحبارهم عن ظهور نبي يأتي بالحنيفية ـ دين إبراهيم ـ فكان بعضهم من المؤمنين ينتظر ذلك اليوم، والبعض الآخر عمي عن الحق فأخذته العزة بالإثم، وكان صاحبنا منهم، فقال لسلمان بنبرةٍ تنم عن حقد وغضب: وانّي لأبغضك وأبغض محمداً .
قال سلمان: ثم أخرجني خارج الدار وإذا رمل كثير على بابه، فقال: والله يا روزبة، لئن أصبحت ولم تنقل هذا الرمل كله من هذا الموضع لأقتلنك! وحار سلمان في أمره وهو يسمع تهديد سيده. فلم يدرِ ما يفعل، وأنّى له بنقل تلٍّ من الرمل في فترة قصيرة من الزمان، وشعر أنّ الرجل يريد الانتقام منه بإيجاد وسيلة لذلك.
قال: فجعلت أحمل طول ليلتي، فلمّا أجهدني التعب رفعت يدي إلى السماء وقلت: يا ربّي إنّك حبّبْتَ محمداً إليَّ، فبحق وسيلته عجّل فرجي، وأرحني ممّا أنا فيه.
فبعث الله ريحاً قلعت ذلك الرمل من مكانه إلى المكان الذي قال عنه اليهودي، فلمّا أصبح نظر إلى الرمل وقد نقل، ودهش لمّا رأى وخيّل إليه أنّه ضرب من السحر، فقال مخاطباً سلمان: يا روزبة، أنت ساحر وأنا لا أعلم، فلأخرجنّك من هذه القرية لئلا تهلكها !ونفذ اليهودي قوله، فأخرجني فباعني لامرأة سَلْمية، فأحبّتني حباً شديداً، وكان لها حائط ( بستان ) فقالت: هذا الحائط لك، كلْ منه ما شئت، وتصدّق بما شئت .مكث سلمان مع هذه المرأة فترةً طويلة يدير لها شئون بستانها يسقي الزرع، ويؤبّر النخل وما إلى ذلك بكل أمانةٍ واخلاص، ويدعو الله بين الحين والحين بقرب الفرج واللقاء بالنبي الموعود صلى الله عليه وآله .
في هذه الفترة كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خرج بمكة يدعو الناس إلى الهدى والحق واتباع دين الله الذي ارتضى وسلمان لا يعلم بذلك، وقدم النبي إلى المدينة، وبينما كان سلمان في رأس نخلة إذ به يسمع رجلاً يقول لصاحبه: « أي فلان، قاتل الله بني قيلة (1) مررت بهم آنفاً وهم مجتمعون على رجل بقبا قدم عليهم من مكة يزعم أنّه نبي» قال: فوالله ما هو إلا أن سمعتها، فأخذني القرُّ والانتفاض ورجَفَتْ بي النخلة حتى كدت أن أسقط، لقد خرج محمد إذن، وأين عنه أنا الآن، واللوح لا زال معي، ولكن، العلامات الثلاث لا بد أن تكون فيه !
ويستمر سلمان في دعائه لله أن ييسر له اللقاء بمحمد، فهو لا يستطيع الهرب عن مولاته؛ لأنّ ذلك قد يعقد الأمور ويعطيه صفة (الآبق) الذي يستحق أنواع العقوبات في شريعة الجاهليين سيما إذا لحق بمحمد، ففضّل التريث والتعقل في الأمر، وتحيّن الفرص الملائمة في الوصول إليه، لكنّه بقي في دوامة من التفكير لا تهدأ، واستمر هكذا أيام .قال: فبقيت في ذلك الحائط ما شاء الله، فبينا أنا ذات يوم في الحائط وإذا بسبعة رهط قد أقبلوا تظلهم غمامة، فقلت في نفسي: والله ما هؤلاء كلهم أنبياء، وإنّ فيهم نبيا .لقد كان هؤلاء النفر هم: محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلي بن أبي طالب والحمزة بن عبد المطلب وعقيل ابن أبي طالب وزيد بن حارثة والمقداد، وأبو ذر الغفاري . وكانت الصفات الظاهريّة للرسول تميّزه عمّن سواه، فكان وسيم الطلعة ربعةً في الرجال ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير المتردّد، ضخم الرأس، ذا شعر رجل شديدٌ سواده، مبسوط الجبين فوق حاجبين سابغين منوّنَيْن متصلينْ، واسع العينين أدعجهما تشوبُ بياضهما في الجوانب حمرة خفيفة وتزيد في قوة جاذبيتهما أهداب طوال حوالك، مستوي الأنف دقيقه، مفلج الأسنان كث اللحية، طويل العنق جميله، عريض الصدر، رحب الساحتين، أزهر اللون، شثن الكفين والقدمين يسير ملقياً جسمه إلى الأمام، إذا مشى كأنما ينحدر من صبب، وإذا قام كأنما ينقلع من صخر، وإذا التفت التفت جميعاً . نظر إليه سلمان، فرآه مميزاً عن باقي أصحابه، ولكن هذا لا يكفي، المهم العلامات الثلاث: لا يأكل الصدقة، ويأكل الهدية، وفي كتفيه خاتم النبوة، لقد حان وقتها، ودخل الرسول ومن معه إلى ذلك البستان، فجعل أصحابه يتناولون من حشف النخل، والرسول يقول لهم: كلوا ولا تفسدوا على القوم شيئاً.
وهنا اغتنم سلمان الفرصة التي قيضها الله له، والتي كانت بداية خلاصه والتحاقه بركب الاسلام، فأقبل إلى مولاته مستميحاً إياها أن تهبه قليلاً من الرطب قائلاً: هبي لي طبقاً من الرطب. وكانت المرأة كما ذكرنا تحبه حباً شديداً، فقالت له: لك ستة أطباق! قال: فحملت طبقاً فقلت في نفسي إن كان فيهم نبي فانّه لا يأكل الصدقة ويأكل الهدية، فوضعته بين يديه فقلت: هذه صدقة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلوا، وأمسك هو وعليٌ وأخوه عقيل وعمه حمزة (2).
فقلت في نفسي: هذه علامة!
فدخلت إلى مولاتي فقلت: هبي لي طبقاً آخر.. قالت: لك ستة أطباق. فحملتُ طبقاً ووضعته بين يديه وقلت: هذه هدية.
فمدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده وقال: بسم الله، كلوا، ومدّ القوم جميعاً أيديهم فأكلوا، فقلت في نفسي: هذه أيضاً علامة أخرى.
قال: ورجعت إلى خلفه وجعلت أتفقّد خاتم النبوة، فحانت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم التفاتة فقال: يا روزبة؛ تطلب خاتم النبوة!؟ قلت: نعم.
فكشف عن كتفيه فإذا بخاتم النبوة معجون بين كتفيه عليه شعرات! فسقطتُ على قدميه أقبلهما، ونسي الراوي أن يقول: فأبلغته سلام الراهب، وأعطيته اللوح، وحدثته بما جرى لي. وإلى هنا يكون سلمان قد وصل إلى هدفه الذي خرج من أجله، ويبقى في هذه القصة لغز ربما حيّر كثيرين، لغز الرهبان الثلاثة أو الأربعة الذين كانوا يوصون بسلمان إلى بعضهم البعض، وآخرهم الذي قال له: «لا أعلم أحداً في الأرض على دين عيسى بن مريم!» ترى، هل انّ هؤلاء الرهبان كانوا قد احتكروا الديانة المسيحية لأنفسهم، فأين ملايين النصارى ومئات القسس وأين موقعهم من ذلك الدين؟ سيما وأنّ النصوص الواردة في «إسلامه» تظافرت واتفقت على هذا المعنى.
الحق: انّ أولئك الرهبان كانوا من الأبدال (3) الذين لا تخلو الأرض منهم أو أنّهم كانوا من أوصياء أوصياء المسيح (عليه السلام) على حد تعبير البعض، وبذلك يسهل علينا تقبّل ما أورده كثير من المؤرّخين من أنّ سلمان أدرك وصي وصي عيسى، أو أدرك بعض الحواريّين.
بقيت مشكلة الرق (المفتعل) الذي تم بسبب أولئك القساة الذين صحبهم سلمان من الإسكندريّة، والذي يحول بينه وبين اللحاق برسول الله صلى الله عليه وآله، سيما وأن هذه المرأة لن تتخلى عنه بسهولة، وهنا تدخل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لينقذ سلمان من محنته القاسية فالتفت إليه قائلاً: يا روزبة ادخل إلى هذه المرأة وقل لها: يقول لك محمد بن عبد الله أتبيعيني له؟ نهض سلمان إليها وأبلغها مقالة النبي صلوات الله عليه، وهو يظن أنها ستجيبه إلى طلبه وتبيعه بدراهم معدودات كما فعل معه أسياده السابقون، وعندها سيتخلص من ربقة العبودية ويعيش حراً في دنيا الإسلام.
كان ما حصل هو العكس، فالمرأة شديدة التعلق بهذا الفارسي ـ وربما لإخلاصه وأمانته ـ فهي لن تتخلى عنه بسهولة، ومن جهة ثانية أن المساوم عليه هو محمد بن عبد الله النبي الذي يكرهه الوثنيون والمشركون والتي هي منهم، فهي إذن تود إيذائه وتعجيزه وقهره لو استطاعت، فكانت هذه المساومة من محمد فرصةً سانحة لذلك، فوافقت على بيعه وشرطت شرطاً لا يمكن تحقيقه إلا إذا تدخلت العناية الإلهية. فقالت لسلمان: لا أبيعك إلا بأربعمائة نخلة، منها مائتان صفراء ومنها مائتان حمراء.
إنّه طلب صعب، فمن أين تجتمع هذه النخلات الأربعمائة بهذه المواصفات؟ ولكن شاء الله أن تكون حياة هذا الفارسي مليئة بأسرار لا يعلمها إلا هو، واختارت مشيئة سبحانه ان يكون لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم القدرة على تحقيق ما يعجز عنه البشر وأن تحصل على يديه خوارق تزيد المؤمنين بصيرة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أهون ما طلبتْ! ثم قال: قم يا علي فاجمع هذا النوى كلّه، فأخذه صلى الله عليه وآله وسلم، وغرسه، ثم قال: اسقه، فسقاه فما بلغ آخره حتى خرج النخل ولحق بعضه بعضاً.
والتفت رسول الله إلى سلمان قائلاً: ادخل إليها وقل:
يقول محمد بن عبد الله: هذا شيئك فاستلميه، وسلّمينا شيئنا.
قال: فدخلت عليها وقلت لها ذلك، فخرجَتْ ونظرت إلى النخل، فقالت:
والله لا أبيعك له إلا بأربعمائة نخلة صفراء!
لقد دهشت هذه المرأة لما رأتْ، فها هو النخل أمام عينيها وقد صار فسيلاً، يا لله! هل هو السحر؟ أم هو الإعجاز الذي يؤيّد الله به أنبياءه؟ وفي حالةٍ من الاضطراب لا توصف، تراجعت عن كلامها، انّها تريد النخل بأجمعه أصفر. وتدخّلت العناية الإلهيّة مرةً ثانية حيث هبط جبرئيل (عليه السلام) ومسح النخل بجناحيه فصار كلّه أصفر. فقال النبي لسلمان: قل لها: إنّ محمّداً يقول لك خذي شيئك وادفعي لنا شيئنا.
قال سلمان: فقلت لها ذلك، فقالت: والله لنخلة من هذه أحب إليّ من محمد ومنك!
فقلت لها: والله ليوم واحد مع محمد أحب إليّ منك ومن كل شيء أنت فيه.
ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أعتقني وسمّاني: سلمان.
ووردت في كيفية عتقه روايات أخرى.
منها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: كاتب صاحبك.
يقول سلمان: فلم أزل بصاحبي حتى كاتبته على أن أغرس له ثلاثمائة ودية، وعلى أربعين أوقية من ذهب.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أعينوا أخاكم بالنخل بالخمس والعشر حتى اجتمع لي. فقال لي: نقر لها ولا تضع منها شيئاً حتى أضعه بيدي، ففعلت (4) فغرسها رسول الله كلها بيده المباركة إلا واحدة غرسها عمر، فأطعم كلّ النخل من عامّه إلا تلك الواحدة، فقطعها صلى الله عليه وآله وسلم ثم غرسها فأطعمت (5).
وبقي الذهب، فبينما هو قاعد إذ أتاه رجل من أصحابه بمثل البيضة من ذهب أصابه من بعض المعادن، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ادعُ سلمان المسكين الفارسي المكاتب فلمّا دعي له، قال: أدِّ هذه.
قال سلمان، فقلت: يا رسول الله أين تقع هذه ممّا عليّ؟
وكان سلمان يقول: أعانني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببيضة من ذهب، فلو وزنت بأحد لكانت أثقل منه (6).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لقب الأنصار.
(2) في شرح النهج 18 / 35 وقال: إنّه لا تحل لنا الصدقة.
(3) الأبدال: قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم، إذا مات واحد أبدل الله مكانه آخر. وورد أيضاً: الأبدال قوم يقيم الله بهم الأرض وهم سبعون أربعون بالشام وثلاثون بغيرها، لا يقوم أحدهم إلا قام مقامه آخر من سائر الناس (مجمع البحرين مادة بدل).
(4) أسد الغابة 2 / 330.
(5) شذرات الذهب 1 / 44 وفي شرح النهج 18 / 35 فقال رسول الله من غرسها؟ قيل: عمر، فقلعها وغرسها.. الخ.
(6) أسد الغابة 2 / 330.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|