المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الحديث والرجال والتراجم
عدد المواضيع في هذا القسم 6235 موضوعاً

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19

المدح والثناء
19-6-2016
ألقاب الشرف في الجيش.
2024-06-23
معلّى بن محمد البصريّ
2-9-2016
Birthday Problem
6-3-2021
إعداد اللقطات
23/9/2022
Interesting Nitriles
20-10-2019


هجرة سلمان المحمّدي (رض).  
  
928   10:00 صباحاً   التاريخ: 2023-09-24
المؤلف : الشيخ محمّد جواد آل الفقيه.
الكتاب أو المصدر : سلمان سابق فارس.
الجزء والصفحة : ص 19 ـ 29.
القسم : الحديث والرجال والتراجم / أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-10-21 897
التاريخ: 2023-10-18 626
التاريخ: 2023-10-11 1065
التاريخ: 2023-09-14 887

كان اسمه «روزبة» (1) وسماه رسول الله صلى الله عليه وآله سلمان، وكان اسم أبيه «خشفوذان» (2) وكان هذا الأخير من دهاقين فارس ـ وقيل من أساورتها (3) له إمرة على بعض الفلاحين من أبناء أصفهان وكان واسع الحال يملك بعض المزارع شأن غيره من الطبقة الوسطى في المجتمع الفارسي آنذاك وكانت لولده سلمان مكانة خاصة في نفسه جعلته يستأثر بالنصيب الأكبر من اهتماماته، فهو لا يكلفه بأي عمل شاق شأنه في ذلك شأن بقية المترفين في معاملة أبنائهم.

وفي ذات يوم كان خشفوذان مشغولاً ببناءٍ في داره فطلب من ولده أن يذهب إلى مزرعةٍ له ليشرف على سير عمل الفلاحين فيها عن كثب وطلب منه ألا يتأخر في العودة إليه، قائلاً له: "ولا تحتبس، فتشغلني عن كلّ ضيعةٍ بهمّي بك".

يقول سلمان: "فخرجت لذلك، فمررت بكنيسة النصارى وهم يصلّون، فملت إليهم وأعجبني أمرهم، وقلت: والله هذا خير من ديننا، فأقمت عندهم حتى غابت الشمس، لا أنا أتيت الضيعة، ولا رجعت إليه..".

لوحة رائعة يرسمها لنا سلمان وهو يسرد قصة إسلامه، حيث يجسّد لنا فيها كيف كانت بداية هجرته نحو الإيمان.. الإيمان بالله وحده، بعزم وتصميم وإرادة قوية لا يقف دونها حاجز ولا تتحكّم فيها عاطفة، وكيف اختار لنفسه موقفاً مميّزاً جعله فيما بعد من جملة عظماء البشر الذين يزيّن بهم التاريخ الإنسانيّ صفحاته، فكان بذلك «سابق فارس» ورائدها وداعيها إلى الله.

لقد كانت نفسه التوّاقة إلى المعرفة تدفعه نحو تخطي الحواجز التي عاش بين قضبانها في ظل أبٍ جمد عقله على طقوس المجوسية دون أن تحرك آيات المبدع سبحانه في نفسه أيّ تحوّلٍ نحو الأفضل.

أراد سلمان تخطّي تلك الحواجز لكي يرى الحقائق الكامنة ورائها، وكان له ما أراد، فها هو يعثر على دين خير من دينه حيث ساقته قدماه ـ عن قصد أو غير قصد ـ إلى الكنيسة، فرأى فيها أناساً يصلّون، وربّما يرتّلون فصلاً من الإنجيل بصوت رخيم يأخذ بمجامع القلوب فيه رجع وصدىً لترانيم الراهب الحزين الذي يبكي المسيح! ولا بد أنّ فقرات من الإنجيل شدّته ـ في تلك اللحظات الغامرة ـ إلى الاستغراق والتأمّل في عالم اللاهوت ضمن أجواء هي مزيج من الحزن، والفرح، والسأم، واللذة، طافت به ما وراء الغيب، ثم انتهت لتوقظ في نفسه مكامن الألم الطويل الذي عاناه في ظلّ أبيه.

دارت في رأس سلمان زوبعة من التفكير.. انّها فرصة قيّضتها له يد الغيب، وما عليه الآن إلا أن يختار. نعم؛ لقد أعجبه هذا الدين، ولكن؛ هل ينتهي به المطاف إلى هنا فتكون هذه الكنيسة هي المحطة الأولى والأخيرة في حياته؟ ومن يدري، فلعلّ يد التشويه قد امتدت إليها أو إلى ذلك الكتاب الذي يتلى فيها فأخرجتهما عن مسارهما الصحيح، وعندها فما الفائدة إذن؟ أيترك دين آبائه وأجداده ليعتنق ديناً ربّما كان مثله في المحتوى أو أميز منه بقليل؟ لم يطل تردّده في الأمر، وحانت منه التفاتة ذكيّة تنم عن عمق روحيّ وأصالةٍ في التفكير حيث بدا له أن يسأل عن تواجد أصل هذا الدين، وبذلك يحفظ خطوط الرجعة على نفسه، فاندفع يسأل من حوله من النصارى قائلاً لهم: وأين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام أمّا خشفوذان فقد طال عليه غياب ولده حتى صار نهباً للقلق عليه ممّا حدا به أن يرسل جماعةً في طلبه، وبينما هو يتلدّد في داره مفكّراً حائراً في أمره وإذا بسلمان عائد بعد الغروب بقليل، عاد إلى بيته ليجد أباه بتلك الحالة، وهنا بادره أبوه بنبرةٍ فيها شيء من الغضب، قائلاً له: لقد بعثت إليك رسلاً، أين كنت؟ ولم يجد سلمان سبيلاً لكتمان ما رأى وسمع، فالتفت إلى أبيه قائلاً: قد مررت بقوم يصلّون في كنيسة فأعجبني ما رأيت من أمرهم، وعلمت أنّ دينهم خير من ديننا. قال هذا بكل جراءةٍ وثقة، غير أنّ خشفوذان لم يصدّق ما سمعه، وخالطته حيرة ودهشة، لكنّه تمالك أعصابه وخاطب ولده بأسلوب عاطفيّ هادئ قائلاً له: "يابني؛ دينك ودين آبائك خير من دينهم" طمعاً فيه بأن يرجع عن ذلك.

لكنّ سلمان بادره بكل إصرار قائلاً: (كلا والله)، وحين لم يجد خشفوذان وسيلةً في اقناع ولده عمد إلى استخدام القسوة لتأديبه، فوضع القيود في رجليه ، وتركه في البيت رهين محبسين ، فعل معه ذلك خوفاً من أن يهرب عنه ، وعقاباً له كي لا يعود لمثلها .وظلّ سلمان رهين قيده وبيته مدةً من الزمن حتى كادت الدنيا أن تسود في عينيه لولا حلم الشام الذي ظلّ يدغدغ فؤاده ويزرع في نفسه الأمل الأخضر الذي يبشّره بأزوف الموعد وساعة الخلاص ، فعمد إلى بعض من يثق بهم وأرسله إلى النصارى الذين تعرّف إليهم في الكنيسة يعلمهم عن لسانه: بأنّه قد أعجبه دينهم ويطلب منهم أن يعلموه بتحرّك أول قافلةٍ نحو الشام حتى يكون فيها، فأخبروه.

قال سلمان: "فألقيت الحديد من رجلي، وخرجت معهم". وبدأت الرحلة الطويلة نحو الإيمان، والهجرة إلى الله.

بدأ سلمان هجرته هذه مصوّباً كلّ تفكيره نحو الشام ، ولكن ما ان استوى على راحلته حتى بدأت الشكوك تساوره ، وأخذ القلق يسيطر عليه ، فقد خاف أن ينكشف أمره لدى أبيه فيرسل في طلبه جماعة من علوج أصفهان يرجعونه إليه بالقوة فيعيده إلى محبسيه ، وربّما لا يكتفي بذلك بل يقيم عليه الرقباء والعيون يحصون عليه أنفاسه وعندها سيخسر سلمان كل شيء ، وسيكون الفشل نصيب أولى تجاربه في الحياة .ظلت هذه الوساوس تساوره في بداية الرحلة ، حتى إذا قطع شوطاً من الطريق أمِنَ معه الطلب ، هدأت نفسه وارتاح ضميره وعاد الفرح إلى قلبه ، فمال بتفكيره ثانيةً نحو الشام ، ولكن سرعان ما هومت فوق صدره سحابة من الحزن لفراق أبويه الكهلين الذين دأبا على اسعاده وحرصا على أن يبقى بجانبهما يؤنس وحشتهما كلّما تقدّمت بهما السن ، لقد تركهما أسيرين للهمّ والحزن عليه ، وكاد الأسى أن يعصف بقلبه لولا أن تذكّر عناد أبيه ووقوفه سداً في طريق سعادته ، فتابع سيره وصمّم أن لا يلتفت .أما خشفوذان وزوجه فقد باتا أياماً وليالي لا يغمض لهما جفن ولا ترقأ لهما دمعة لغياب سلمان المدلل ففراقه أقض مضجعهما ، فهما لا يعلمان أين أمسى وأين أصبح ، ولم يتركا استحفاء السؤال عنه في كل مكان ، لقد انقطعت أخباره.. أين هو يا ترى؟ وربّما تناهى إلى سمع خشفوذان أنّ ابنه رحل إلى الشام فزاد ذلك في همّه وحزنه، فأين الشام وأين فارس ومئات الأميال تفصل بينهما.. ويطرق الأب الحزين برأسه إلى الأرض ويستسلم مع زوجته للقدر، وربما توسّلا إلى النار التي يقدّسانها أن ترجع إليهما ولدهما الهارب، ولكن دون جدوى. وهكذا ظل يندب حظه التعس أمّا سلمان فظل يتابع سيره حتى إذا بانت له مشارف الشام حرّك لسانه بآيات الشكر لله سبحانه الذي أنقذه من النار وتفاهاتها وحماقات أهلها لينعم بين ظلال الرحمة في مهد الأنبياء وأرض الرسالات في الشام، التي هي «صفوة الله من بلاده وإليها يجتبي صفوته من عباده» على حد تعبير النبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وسلم (4).

وبعد قليل من الزمن، حطّ الركب الفارسيّ رحاله ليستريح من وعثاء السفر المضني الطويل، ولينصرف بعد ذلك كل منهم إلى شؤونه، عدا سلمان الذي لم يستقر به مكانه بعد، فهو لم يصل إلى ما يريد! إنّه يطلب العالم الذي يعطيه أصول النصرانيّة التي جاء بها عيسى (عليه السلام) عن الله سبحانه وتعالى، فاندفع يسأل هذا وذاك من أهل الشام عن رجل الدين الذي يولونه ثقتهم، ويأخذون عنه معالم دينهم، فأرشدوه إلى الأسقف. فسألهم عن مكان إقامته؟ قالوا: هو مقيم في صومعته على رأس جبل، ودلّوه عليه. كانت الصومعة في قمة جبل يشرف على الشام وقد استدارت حولها غابة من السنديان والصنوبر، يخيل للناظر إليها من بعيد أنّها جزيرة صغيرة وسط بحيرة خضراء، قصد سلمان تلك الصومعة والفرح يغمر قلبه، فلمّا وصل إليها تكلّم بكلمات (5) تركت الأسقف ينفتل من عبادته لينظر من هو المتكلّم. وكان الأسقف شيخاً طاعناً في السن مربوع القامة، في ظهره جنأ (6) كث اللحية أبيضها، ذو عينين غارقتين تهدّل فوقهما حاجبان انعقفا حتى اتصلا بصدغيه، ترتسم على وجهه سيماء الصالحين.. تطّلع سلمان إليه فأدرك فيه ملامح من سيرة المسيح (عليه السلام) فانتابته حالة من الذهول أطرق معها إلى الأرض، إلا أنّ كلمات الأسقف هزّته حيث اندفع نحوه متسائلاً من أنت؟ وماذا تريد؟ فرفع رأسه وقال: أنا رجل من أهل جي جئت أطلب العمل وأتعلّم العلم، فضمّني إليك أخدمك وأصحبك، وتعلّمني شيئاً ممّا علمك الله!؟ قال الأسقف: نعم، اصعد إليّ، فصعد سلمان إليه ليبقى إلى جانبه يخدمه ويتعلم منه، وكان الغالب في مأكله: الخل والزيت، والحبوب، جرايةً تجري له، يقول سلمان: «فأجرى عليّ مثل ما كان يجرى عليه..» وبدأ الأسقف يعلّمه شريعة الله التي أنزلها على المسيح ويقرأ عليه صحائف من الإنجيل كان قد احتفظ بها ، ويطلعه على بعض الأسرار الإلهيّة التي تناهت إليه من حواريي عيسى (عليه السلام) ، وقد وجد في سلمان الرجل القوي الأمين الذي يمكن أن يدفع إليه أمانته ووجد سلمان فيه الأب المشفق والعالم الروحانيّ الذي يوقفه على غامض العلم ويطلعه على شرائع الأنبياء .ومرّت الأيام تتوالى مسرعةً ، وانطوت سنين عديدة كان الأسقف خلالها يتقدّم نحو أرذل العمر ، وفي ذات يوم اشتكى علةً في جسده سرعان ما ألزمته سريره، وأدرك سلمان أنّها الشيخوخة التي لا ينفع معها دواء، فظلّ دائباً في خدمته والعناية به ليله ونهاره، حتى إذا قوّضت أيّامه ودارت في صدره حشرجات الموت ، علم سلمان أنّ صاحبه يحتضر ، وأنّه مفارق هذه الدنيا عن قريب، فجلس عند رأسه يبكي .

وكان تعلّق الأسقف به شديداً لما لمسه فيه من الخصال الحميدة النادرة، فكان يؤلمه أن يراه حزيناً أو مفكّراً في أمرٍ يشغل باله، وحانت منه التفاتة خاطفة، فرأى سلمان يكفكف دموعه، وآلمه ما رأى، فألتفت إليه قائلاً: ما يبكيك يا ولدي؟ قال سلمان ـ وهو يردُّ غصَّته ـ : خرجت من بلادي أطلب الخير، فرزقني الله صحبتك فنزل بك الموت ولا أدري أين أذهب ...؟ وهنا أطرق الراوي إطراقه طويلة وفكّر في أن يقف عند هذا الحد ولا يكمل روايته، والسر في ذلك هو أنّ محّدثيه كانوا كثراً وكلهم يروي عن سلمان سيرته كما جاءت على لسانه، لكن ما يروونه فيه اختلاف كبير بالنسبة للشكل والصياغة، وإن كان متقارباً في أصل المضمون، فالروايات كلها متفقة على أنّ سلمان انتقل من راهب إلى راهب ومن دير إلى دير، وجاب البلاد طولاً وعرضاً في سبيل الوقوف على أصول الدين الذي يمكن الركون إليه ولكن يبقى العرض للكيفية التي تم بها ذلك مختلفاً غاية الاختلاف.

قال الراوي: وعلى هذا فلا يمكنني اختيار واحدةٍ من تلك الروايات والاكتفاء بسردها لكم؛ لاحتياجها إلى ما في الروايات الأخرى. وافتقار تلك الروايات لها ممّا يجعل بعضها يكمل بعضاً، فالأفضل إذن أن تصاغ القصة من مجموع تلك الروايات في حلةٍ جديدة لائقةٍ بسلمان ومكانته، تنسج خيوطها من سيرته ذاتها وليست بنشازٍ عنها؛ لأنّها كلها بلسانه (رضي الله عنه).

ثم استطرد في سرد الرواية قائلاً: "فقال الأسقف وهو يعاني سكرات الموت: يا بنيّ، لقد ترك الناس دينهم، ولا أعلم أحداً يقول بمقالتي إلا راهباً في أنطاكية، فإذا لقيته فأقرأه منّي السلام، وادفع إليه هذا اللوح، وناولني لوحاً، ثم مات الأسقف، ولم يكشف لنا سلمان شيئاً عن سرّ ذلك اللوح، لكن من المعتقد أنّه أثر كريم بقي من المسيح (عليه السلام) تركه للحواريّين يتداولونه فيما بينهم ثم يسلّمونه إلى ذوي الكفاءة من أوصيائهم.

يقول سلمان: فلمّا مات، غسّلته وكفّنته ودفنته، وأخذت اللوح وسرت به إلى انطاكية "وهي بلدة قريبة من حلب بعيدة عن الشام موصوفة بالحسن وطيب الهواء وعذوبة الماء لها سور ضخم، وشكلها كنصف دائرة قطرها يتصل بجبل، والسور يصعد مع الجبل إلى قمته فتتم دائرةً، وفي السور داخل الجبل قلعة في وسطها بيعة «القسيان» (7) وهي هيكل طوله مائة خطوة، وعرضه ثمانون، وعليه كنيسة على أساطين، وحول الهيكل أروقة يجلس عليها القضاة والعلماء، وهناك من الكنائس ما لا يجد كلّها معمولة بالذهب والفضة والزجاج الملوّن، والبلاط المجزّع" (8).

ومضى سلمان يغد السير حتى وصل إليها، وكان قد عرف مواصفات الراهب واسمه، فلمّا وصل إلى الهيكل سأل عنه، فدلّوه عليه، وكان في إحدى الكنائس، فلمّا وصل إليها تكلّم بكلمات فأطلّ عليه الراهب يسأله من هو وماذا يريد؟ ونظر إليه سلمان، فرأى فيه سمات التقى والصلاح والزهادة في الدنيا والرغبة عنها إلى الآخرة، فارتاحت لذلك نفسه، وعلم أنّ صاحبه الراحل لم يفرّط فيه، بل أوصى به إلى يدٍ أمينة.. وردّ سلمان على أسئلة الراهب، ثم أبلغه سلام الأسقف الراحل وسلّمه الأمانة، فأخذ الراهب اللوح من يد سلمان بلهفة وزاد في الترحيب به، وأنزله معه، وظل سلمان في خدمته مدةً طويلة يأخذ عنه معالم الدين، حتى إذا مرت سنين، مرض الراهب مرض الموت ولزم الفراش وسلمان إلى جانبه. وأحس الراهب أنه مفارق هذه الدنيا، فالتفت إلى سلمان قائلاً:"إنّي ميّت".

وصكّت هذه الكلمة مسامع سلمان، وأخذت من نفسه مأخذاً حيث خاف الضياع من بعده، فقال له بنبرة فيها شيء من الحزن: فعلى مَن تخلفني؟ قال الراهب: لا أعرف أحداً على طريقتي إلا راهباً بالإسكندريّة، فإذا أتيته فأقرأه عنّي السلام، وادفع إليه هذا اللوح. وما لبث الراهب أن توفّي، فقام سلمان بتجهيزه، فغسّله، وكفّنه، ودفنه، ثم أخذ اللوح معه وخرج قاصداً الإسكندريّة.

وكانت الإسكندريّة في ذلك الوقت هي أمّ الأساطير ـ كما يقال عنها ـ فكان الناس يتحدّثون عنها وعن عجائبها فحيكت عن كيفيّة بنائها قصص كثيرة، منها: أنّ الذي بناها هو الاسكندر الأكبر فسميت باسمه، وقيل: أنّ الإسكندر وأخوه الفرما قاما ببناء مدينتين في أرض مصر سمّيت باسمهما، فلمّا فرغ الاسكندر من بناء مدينته قال: قد بنيت مدينة إلى الله فقيرة وعن الناس غنيّة، وقال أخوه بعكسه، فبقيت مدينة الإسكندر، وتهدّمت مدينة أخيه.

وأسطورة تقول: أنّ الذي بناها هو جبير المؤتفكي، وكان قد سخّر فيها سبعين ألف بناء، وسبعين ألف مخندق، وسبعين ألف مقنطر، واستغرق بناؤها مائتا سنة، وكتب على العمودين الذي يقال لهما: المسلتين: أنا جبير المؤتفكي عمرت هذه المدينة في شدتي وقوتي حين لا شيبة ولا هرم أضناني، وكنزت أموالها في مراجل (9) جبيرية، وأطبقتها بطبق من نحاس وجعلتها داخل البحر.

واسطورة ثانية تقول: أن جبير المؤتفكي وجد بالقرب منها مغارةً على شاطىء البحر فيها تابوت من نحاس، ففتحه فوجد فيه تابوتاً من فضة، ففتحه فإذا فيه درج(10) من حجر الماس، ففتحه فإذا فيه مكحلة من ياقوتةٍ حمراء مِرودُها عِرْق زبرجد أخضر، فدعا بعض غلمانه فكحل إحدى عينيه بشيء مما كان في تلك المكحلة فعرف مواضع الكنوز، ونظر إلى معادن الذهب ومغاص الدرر، فاستعان بذلك على بناء الإسكندريّة.. إلى غير ذلك من الأساطير التي ترسمها مخيلة القصّاصين (11).

ولقد كان الركبان الذين يقصدون الإسكندريّة يتحدّثون بهذا وأمثاله، يُسَلّون به أنفسهم سيما إذا كان سفرهم عن طريق البحر فإن ذلك يشغلهم عن تذكر البحر وأهواله.. ولكن ماذا يعني سلمان من ذلك كله فهو يسمع ما يروونه عن الإسكندريّة لكنّه لا يلتفت إلى ما يقولون، ولا يعبأ بما يتحدّثون، بل كل همّه وتفكيره منصبّان على كيفية اللقاء بالراهب الذي سيصل إليه، وكيف سيكون معه، وهل سيرته كسيرة صاحبيه.

وصل سلمان إلى الاسكندريّة، وسأل عن الراهب الذي أخذ اسمه ومواصفاته من سلفه الراحل، واستدل على مكانه، فوصفوا له صومعةً كان يقطن فيها شأن غيره من الرهبان، فلمّا وصل إليها وقف خارجها وتكلّم بكلمات ما لبث بعدها أن أطلّ الراهب عليه، ونظر سلمان إليه فوجد فيه مثل ما وجد في صاحبيه من الهدى والصلاح والزهد فاطمأن به المكان بعد أن رحب به الراهب أجمل ترحيب وأبلغه سلمان سلام سلفه الراحل وسلّمه اللوح.

وبقي سلمان معه مدةً من الزمن، وكانت الأيام تمر سراعاً، والسنين تتوالى والبشارة تقترب.

ومرض الراهب مرض الموت، واستمر به المرض حتى إذا احتضر التفتّ إلى سلمان قائلاً: «إنّي ميّت!» وكأنّه ينتظر منه سؤالاً ليجيبه عليه، وهنا بادره سلمان قائلاً له: «فعلى من تخلفني؟» قال الراهب: لا أعرف أحداً على طريقتي، وما بقي أحد أعلمه على دين عيسى بن مريم في الأرض، وقد أظلك زمان نبي يبعث بأرض العرب، إنّ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد حانت ولادته، فإذا بلغك أنّه قد خرج، فإنّه النبي الذي بشّر به عيسى صلوات الله وسلامه عليهما، وآية (12) ذلك: أنّ بين كتفيه خاتم النبوة، وأنّه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإن أتيته فأقرأه السلام، وادفع إليه هذا اللوح، ثم أغمض الراهب الصالح عينيه مسلماً الروح إلى بارئها فقام سلمان بتجهيزه ودفنه.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) على الأشهر، وقيل: ماية.

(2) اسم والد سلمان، وقيل اسمه «بوذخشان» وقيل «بود» وقيل غير ذلك. راجع أعيان الشيعة 35 / 220.

(3) الاستيعاب على «الإصابة 2 / 57».

(4) راجع معجم البلدان 3 / 314.

(5) يروى أنّه قال له: اشهد ألّا إله إلا الله وأنّ عيسى روح الله وأنّ محمّداً حبيب الله ـ كما سيأتي في إحدى الروايات.

(6) الانحناء.

(7) قسيان: الملك الذي أحيا ولده رئيسُ الحواريّين بطرس، وبيعة القسيان هذه كانت دار للملك فسمّيت باسمه.

(8) راجع معجم البلدان 1 / 267 للتفصيل.

(9) المِرجَل: قِدرٌ ضخم من نحاس.

(10) الدَرْج: أشبه بالمحفظة.

(11) للتفصيل راجع معجم البلدان 1 / 183 وما بعدها.

(12) الآية هنا: العلامة.

 

 

 

 

 

 

 




علم من علوم الحديث يختص بنص الحديث أو الرواية ، ويقابله علم الرجال و يبحث فيه عن سند الحديث ومتنه ، وكيفية تحمله ، وآداب نقله ومن البحوث الأساسية التي يعالجها علم الدراية : مسائل الجرح والتعديل ، والقدح والمدح ؛ إذ يتناول هذا الباب تعريف ألفاظ التعديل وألفاظ القدح ، ويطرح بحوثاً فنيّة مهمّة في بيان تعارض الجارح والمعدِّل ، ومن المباحث الأُخرى التي يهتمّ بها هذا العلم : البحث حول أنحاء تحمّل الحديث وبيان طرقه السبعة التي هي : السماع ، والقراءة ، والإجازة ، والمناولة ، والكتابة ، والإعلام ، والوجادة . كما يبحث علم الدراية أيضاً في آداب كتابة الحديث وآداب نقله .، هذه عمدة المباحث التي تطرح غالباً في كتب الدراية ، لكن لا يخفى أنّ كلاّ من هذه الكتب يتضمّن - بحسب إيجازه وتفصيله - تنبيهات وفوائد أُخرى ؛ كالبحث حول الجوامع الحديثية عند المسلمين ، وما شابه ذلك، ونظراً إلى أهمّية علم الدراية ودوره في تمحيص الحديث والتمييز بين مقبوله ومردوده ، وتوقّف علم الفقه والاجتهاد عليه ، اضطلع الكثير من علماء الشيعة بمهمّة تدوين كتب ورسائل عديدة حول هذا العلم ، وخلّفوا وراءهم نتاجات قيّمة في هذا المضمار .





مصطلح حديثي يطلق على احد أقسام الحديث (الذي يرويه جماعة كثيرة يستحيل عادة اتفاقهم على الكذب) ، ينقسم الخبر المتواتر إلى قسمين : لفظي ومعنوي:
1 - المتواتر اللفظي : هو الذي يرويه جميع الرواة ، وفي كل طبقاتهم بنفس صيغته اللفظية الصادرة من قائله ، ومثاله : الحديث الشريف عن النبي ( ص ) : ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) .
قال الشهيد الثاني في ( الدراية 15 ) : ( نعم ، حديث ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) يمكن ادعاء تواتره ، فقد نقله الجم الغفير ، قيل : أربعون ، وقيل : نيف وستون صحابيا ، ولم يزل العدد في ازدياد ) .



الاختلاط في اللغة : ضمّ الشيء إلى الشيء ، وقد يمكن التمييز بعد ذلك كما في الحيوانات أو لا يمكن كما في بعض المائعات فيكون مزجا ، وخالط القوم مخالطة : أي داخلهم و يراد به كمصطلح حديثي : التساهل في رواية الحديث ، فلا يحفظ الراوي الحديث مضبوطا ، ولا ينقله مثلما سمعه ، كما أنه ( لا يبالي عمن يروي ، وممن يأخذ ، ويجمع بين الغث والسمين والعاطل والثمين ويعتبر هذا الاصطلاح من الفاظ التضعيف والتجريح فاذا ورد كلام من اهل الرجال بحق شخص واطلقوا عليه مختلط او يختلط اثناء تقييمه فانه يراد به ضعف الراوي وجرحه وعدم الاعتماد على ما ينقله من روايات اذ وقع في اسناد الروايات، قال المازندراني: (وأما قولهم : مختلط ، ومخلط ، فقال بعض أجلاء العصر : إنّه أيضا ظاهر في القدح لظهوره في فساد العقيدة ، وفيه نظر بل الظاهر أنّ المراد بأمثال هذين اللفظين من لا يبالي عمّن يروي وممن يأخذ ، يجمع بين الغثّ والسمين ، والعاطل والثمين)