المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
غزوة الحديبية والهدنة بين النبي وقريش
2024-11-01
بعد الحديبية افتروا على النبي « صلى الله عليه وآله » أنه سحر
2024-11-01
المستغفرون بالاسحار
2024-11-01
المرابطة في انتظار الفرج
2024-11-01
النضوج الجنسي للماشية sexual maturity
2024-11-01
المخرجون من ديارهم في سبيل الله
2024-11-01

فن الحديث الصحفي ووظائفه
2023-06-25
هل خلق العالم في ستّة أيّام ؟
8-10-2014
كيفية الوضوء (فرض الوضوء)
26-1-2020
الشَّدة
2-7-2022
آداب الطيب
22-6-2017
خطر معصية التحريف في الدين والافتراء عليه
2024-08-23


القرآن والوقائع التاريخية  
  
1392   02:53 صباحاً   التاريخ: 2023-05-04
المؤلف : الشيخ محمد تقي فلسفي
الكتاب أو المصدر : الشاب بين العقل والمعرفة
الجزء والصفحة : ج1 ص189 ــ 202
القسم : الاسرة و المجتمع / معلومات عامة /

لقد أورد القرآن الكريم الكثير من الوقائع التاريخية والروايات عن العديد من الامم الغابرة وذلك لهداية البشر وجعلهم يطالعون أخبار هذه الامم ويعتبرون منها.

فقد حدثنا القرآن الكريم عن إيمان بعض الملل وعدم إيمان بعضها الآخر، وعن انتصار بعضها وهزيمة بعضها الآخر، وعن عدالة بعضها وظلم بعضها الآخر، وعن قوة بعضها وضعف وهلاك بعضها الآخر ، وخلاصة القول: إن الله سبحانه وتعالى قد خصص جزءاً مهماً من هذا الكتاب السماوي للحديث عن تاريخ الملل وما واجهته من وقائع وأحداث سلبية كانت عليها أم إيجابية.

الوعي الفكري:

إن مطالعة كل من الوقاع التي مرت على أسلافنا والتفكر فيها تشكل عاملاً مؤثراً في نمو الوعي الفكري للإنسان، كما أنها تشكل عاملاً مهماً للإنسان للتمييز بين مسببات السعادة ومسببات الشقاء.

فقوانين الحياة ثابتة لن تتغير شأنها شأن القوانين والسنن الطبيعية ، إذ لا يمكن أن تتغير بمرور الزمان. فكما أن الحياة والموت والنمو وسرعة الضوء وغيرها من القوانين الطبيعية ما زالت هي هي كما كانت عليه وستبقى على هذه الحال، كذلك هي الحال بالنسبة لعوامل سعادة الإنسان كالعدل والعلم والأمانة والصدق والوفاء بالعهد، أو عوامل شقائه كالظلم والجهل والخيانة والكذب وغيرها فهي ثابتة لن تتغير.

أسباب الارتقاء والانهيار:

إذا ما كانت بعض الصفات كالعلم والعدل والأمانة وغيرها من الصفات الحميدة قد أوصلت بعض الملل السالفة إلى الرقي رغم تخلفها ، فإنها قادرة على إيصال شعوب اليوم إلى نفس المكانة من الرقي، كما أن بعض الصفات السيئة كالظلم والجهل والخيانة وغيرها من المساوئ التي أودت بالعديد من الملل إلى الضياع والسقوط، قادرة على أن تودي بالكثير من شعوب اليوم إلى الضياع والسقوط في الهاوية.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : إستدل على ما لم يكن بما قد كان فإن الأمور أشباه ولا تكونن ممن لا تنفعه العظة إلا إذا بالغت في إيلامه فإن العاقل يتعظ بالأدب، والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب(1).

علاقة الماضي بالحاضر :

(من المؤسف أن التاريخ في مدارسنا وقاموسنا اليوم يعتبر خاصا لما مضى من الأزمان وليس له أي ارتباط بواقعنا وحياتنا اليوم. والتاريخ إذا ما تم فصله عن الحاضر فإنه لن يحمل أية فائدة أو منفعة للإنسان، لأنه إذا ما اعتبر خاصاً لما ولى من الزمان فإنه لن ينفعناً ولن يحل عقدة أو مشكلة من مشاكلنا، ولكن واقع الأمر ليس كذلك، فالتاريخ رغم أنه يسرد لنا وقائع واحداثاً من الماضي، إلا أن هناك ارتباطاً بين هذ الماضي والحاضر المعاش. صحيح أن التاريخ هو علم أحداث الماضي ولكن ماضي التاريخ هو في حكم تاريخ الحاضر. فنحن لسنا قادرين على الوقوف على مجريات الأمور في بلدنا إلا إذا ما وقفنا على ماضيها. وربما كان أهم اكتشاف توصل إليه الإنسان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر هو أنه إذ ما أراد معرفة الامور عليه أن يبحث ويدقق في ماضيها وتاريخها. فإذا لم ننظر من حاضرنا إلى الماضي لا نستطيع أن نجد معنى لما شهده الماضي من وقائع وأحداث).

(لذا فمن المسلم به ان يكون لعلم التاريخ ارتباط الأحداث الاجتماعية المعاصرة ، وإلا فإن التاريخ سيفقد رسالته كعامل مؤثر في العلاقات الاجتماعية لبني البشر»(2).

دراسة التاريخ :

إن تاريخ الأسلاف لن ينفع الإنسان المعاصر بشيء إلا إذا ما درسه بتفكر وتعمق.

الإعتبار :

وحاول تحليله تحليلاً صحيحاً لمعرفة أسباب سعادة الشعوب الغابرة أو عوامل تخلفها، وذلك للاعتبار منها وجعل أسباب سعادة الأسلاف أساساً لحياته، واجتناب عوامل شقائهم وتخلفهم. فالهدف من نزول القرآن الكريم وتوارد الروايات والأحاديث الشريفة هو جعل الإنسان يعتبر ويتفكر. {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الأعراف: 176]

روي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال: من أعتبر أبصر ومن أبصر فهم ومن فهم علم(3).

إن اولئك الذين لا يتفكرون ولا يعتبرون او يتعظون من تاريخ أسلافهم، قد حرموا أنفسهم من إدراك الكثير من الحقائق المفيدة، ومثل هؤلاء انتقدهم القرآن الكريم والروايات الإسلامية وأمر بالإعراض عنهم.

{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [القمر: 4 - 6].

إن القرآن الكريم غني بالحكم والدروس والعبر ولكنها ليست كافية للمعاندين والمستبدين بآرائهم، فهم لن يعتبروا من أنباء وأخبار أسلافهم، وهم مستمرون بعنجهيتهم وتصرفاتهم الرعناء، لذلك جاء أمر الله سبحانه وتعالى للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أن أعرض عنهم.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من لم يعتبر بغيره لم يستظهر لنفسه(4).

استيعاب التاريخ :

إذا أراد الفتيان والشبان تنمية قواهم الفكرية والوصول بعقولهم إلى النمو المكتسب تدريجياً للتمييز بين محاسن الحياة ومساوئها ومعرفة متطلبات الشؤون الحياتية الاجتماعية واستغلال فرصة الشباب التي لن تعوض، ينبغي عليهم قراءة التاريخ قراءة دقيقة لاستيعابه بالكامل. إذ عليهم أن يطّلعوا على عوامل سعادة الشعوب والامم السالفة وعوامل شقائها في مختلف شؤون الحياة، وأن يعتبروا منها، وأن يتخذوا من الأحداث التي مرت عليهم تجربة مفيدة يقيموا على أساسها برنامجهم الحياتي الصحيح.

«إن الجزء الأكبر من برنامج التاريخ الذي يجب أن يخصص للطلبة الذين تتراوح اعمارهم بين 15 - 18 عاماً ينبغي أن يشتمل على شؤون اقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية وسبل تنميتها. ونتيجة دراسة هذه الشؤون يتوضح الاختلاف بين مختلف الأمم والشعوب وكذلك أوجه الشبه بينها ، وكيف حققت هذه الشعوب استقلالها ، وبذلك نكون قد اطلعنا على أساليب مختلف الشعوب والأقوام في العيش، وهذا ما يمنحنا فرصة للوقوف على مسعى الإنسان نحو تحسين أوضاعه الاجتماعية وتحقيق تقدم على صعيد الحياة الاجتماعية».

«إذا ما أبحرنا في دراسة التاريخ وبحث شتى المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، واستطعنا من خلال دراسة نفسية الفرد والمجتمع تحديد العوامل المؤثرة في كيان الإنسان ووجوده، عندها نتجرأ على القول: إننا خطونا خطوات كبيرة نحو الحقيقة»(5).

اندماج المعلومات:

«إن ارتباط البشر بعضهم ببعض يشكل وسيلة لزيادة تجارب الانسان، وتحقيق ذلك يحتاج إلى رغبات مشتركة يتبادلها الناس فيما يخص العلاقات فيما بينهم. وفي مثل هذه الحال يصبح هناك اندماج بين التجربة التي حصل عليها الفرد من المعلومات التي منحها إياه الآخرون وتجارب قوم أو مجتمع أو حتى كافة أبناء البشرية» .

«إن التاريخ يعتبر أهم مدرسة تزيد من تجارب الإنسان وتعمقها، وهي تبني جسوراً بين الإنسان وبين الأقوام والشعوب الغابرة، ولهذا يمكن القول إن للتاريخ قيمة تربوية عظيمة، فهو ينقل إلى الأجيال صورة طبيعية عن حياة الإنسان الاجتماعية»(6).

إن من الشروط الأساسية لتعلم الشبان تاريخ الأسلاف وجود المربي الكفوء والمخلص. معلم يكون قد أدرك التاريخ برمته ووقف على حقائقه، وكشف من خلال تحليل التاريخ أسباب ما شهده من وقائع وأحداث. ومثل هذا المعلم إذا ما أخذ على عاتقه مسؤولية تربية وتعليم الشبان بحب ورغبة، وسعى إلى نقل كل ما لديه من معلومات إليهم ، فإنه سينجح في تنمية قواهم الفكرية وتوعية أذهانهم ، ويكون بذلك قد دفعهم نحو تحقيق النمو المكتسب لعقولهم.

الميراث الثقافي للإنسان:

«إن معلم التاريخ ينبغي أن يكون مثقفاً ذ اطلاع كبير في مجال التاريخ، لأن رسول الميراث الثقافي للشعوب ينبغي أن يكون مطلعاً على آداب الشعوب وعاداتها وتراثها، وإذا ما كان هذا المعلم قد بذل ما بوسعه في سبيل علمه وتعلمه، واطلع على جوانب متعددة من التاريخ، فإنه يكون قادراً دون أدنى شك على تعليم تلامذته وإفهامهم المعنى الحقيقي للتاريخ» . 

الاعتراف بالجهل:

(يجب ان يكون معلم التاريخ محباً للحقيقة متصفاً بهذه الصفة أي بحبه للحقيقة. وعليه أن يكون دقيقا جدا ذا فكر ناقد في دراسة الجزئيات ، أما إذا كان لا يعلم شيئاً ينبغي عليه أن لا يخشى الاعتراف بجهله، وهذه صفات يجب أن يكون معلم التاريخ متحلياً بها).

«ويجب على معلم التاريخ أن لا يخشى أبداً طرح الأهداف السامية ، وعليه دائماً أن ينمي هذه الصفة في نفسه وفي نفوس تلامذته. ومعلم التاريخ لن يكون معلماً كفوءاً جيداً إذا عجز عن جعل تلامذته من أنصار الحق والعاملين في سبيله، وتنمية الأفكار السامية في نفوسهم»(7).

التاريخ مدرسة:

لقد أشار مربي البشرية ومعلم العالم أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث موجه إلى ابنه الإمام المجتبى (عليه السلام) إلى أهمية التاريخ وضرورة التعمق في حقيقته والاعتبار من مدرسته والاستفادة منه، حينما قال (عليه السلام) : أي بني ، إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم بل كأني بما انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره فاستخلصت لك من كل أمر نخيله وتوخيت لك جميله وصرفت عنك مجهوله(8).

إن المتبحر في حديث أمير المؤمنين لابنه الحسن المجتبى (عليهما السلام) يجد أن هناك خمس نقاط جاء بها (عليه السلام) في حديثه المبارك لهداية الآباء وإرشاد معلمي التاريخ إلى كيفية التعامل مع التاريخ ، وهذه النقاط هي :

1- دارسة تاريخ الشعوب والامم الغابرة .

2- تحليل التاريخ للوقوف على أسباب الوقائع والأحداث التي تخللته والتمييز بين مساوئه ومحاسنه.

3- اختيار ما هو قيم وثمين من التاريخ وتدريسه للفتيان .

4- تذكير الفتيان بأهم جوانب التاريخ وأكثرها فائدة .

5- عدم إرهاق أفكار الفتيان بما هو غير مفيد ولا نافع من التاريخ وعدم إهدار أوقاتهم.

كل هذه النقاط من شأنها تنمية عقول الفتيان وتوعية أذهانهم ومنحهم تجربة ثمينة تكون أساس حياتهم الفردية والاجتماعية، وهي تساهم أيضاً في رفع مستوى إدراكهم وفهمهم للأمور، وتحقيق عقولهم النمو المكتسب.

التمييز بين الخير والشر:

يجب على الفتيان أن يعلموا أن وجود معلم كفوء وناجح في نقل صورة واضحة وصحيحة عن التاريخ ليس كافياً لنجاحهم في الحياة، إذ عليهم أيضاً أن يتابعوا بأنفسهم وبكل شغف قضايا التاريخ لتشخيص وتحديد الخير والشر وجعلهما أساساً لحياتهم اليومية لينتفعوا بها وينيروا دربهم نحو حياة أفضل وأطهر.

إن الاعتبار من مقطع تاريخي قصير والحصول على تجربة من واقعة صغيرة والاستفادة منها قد يحدث تغييراً في حياة شاب ما وينقذه من الزلل والضياع ويحقق له عزة وشرفاً ، وهنا نورد قصة تاريخية قصيرة كمثال:

كان في عهد عبد الملك بن مروان تاجر معروف بالصدق والعمل الصالح ، ولحسن سمعته في سوق دمشق واعتماد الناس عليه وثقتهم به كانوا يودعونه بعض ممتلكاتهم وبضاعتهم ليبيعها لهم ويأخذ أجرته على ذلك.

خطر الذنب:

وذات يوم انحرف التاجر في إحدى صفقاته عن قويم مسيره وخان الأمانة ، فشاع الخبر وانتشر بسرعة البرق بين الناس وأصبح الشغل الشاغل لألسنتهم ، ففقد التاجر ثقة العامة والخاصة به واهتزت شخصيته وسحب الناس اعتمادهم عليه، فلم يأمنوه بعدها على بضاعتهم ، حتى ساءت اموره وتشتتت تجارته وأخذ دائنوه يلحون في الطلب.

وكان للتاجر ولد عاقل تبدو على ملامحه الفراسة والذكاء، قد اعتبر من تجربة أبيه المريرة وتعلم منها درساً لا ينسى، وعرف أن مجرد انزلاق أو خيانة واحدة قد تؤدي إلى القضاء على كرامة الإنسان وشرفه وتبدل حياة العز الى الذل والسوء ، فقرر في قرارة نفسه أن يبتعد حتى عن مجرد التفكير بالخيانة والذنب فيضع على الدوام نصب عينيه الطهارة والتقوى والنزاهة ، وكان لسلوكه السليم هذا مردود إيجابي عليه فقد رفعه عزا وأدخله في جميع القلوب، وصادف أن بعث عبد الملك بن مروان جاراً له وهو قائد عسكري كبير بمعية جيش المسلمين في مهمة لقتال الروم ، فاستدعى الفتى قبل توجهه إلى ميادين القتال وأودعه جميع ماله البالغ عشرة آلاف دينار من الذهب وأوصاه بأن يحتفظ بالمال كأمانة لديه حتى عودته من القتال إن سلم، ووعده بأن يعطيه أجراً على أماته، أما إذ لم يعد فأوصاه بأن يسلم المبلغ إلى أسرته متى ما ضاقت عليهم الأرض بعد أن يقتطع منها عشرها ليعيشوا حياة كريمة.. وهكذا كان ، فقد رحل القائد دون أن يعود.

الخيانة والسقوط:

وحينما علم أب ذلك الشاب - أي التاجر المفلس - بمقتل جاره قال لابنه إنه لا أحد يعلم عن القطع الذهبية المؤمنة لديه ، وأنا - أي الأب - الآن على ما تراني في أشد الضيق وأطلب أن تعطيني بعضها على أن أردها عليك متى صلح حالي وحسنت عيشتي . فأجابه الشاب: يا ابتاه إن الخيانة والانحراف هو الذي أدى بك إلى ما أنت عليه من الشقاء، فبالله لن أخون الأمانة لو قطعت إرباً إرباً ، ولا أعيد خطأك ثانية كي لا أشقى كما شقيت.

ومضت فترة ، ساءت فيها أحوال ذوي القائد القتيل ، فجاءوا إلى الشاب طالبين منه أن يكتب رسالة عنهم إلى عبد الملك بن مروان يعلمه فيها بفقرهم وشدة حالهم فلربما رثى لهم وأعانهم ببعض المال. فكتب ما أمر به وسلمت الرسالة ولكن دون جدوى ، فقد أجاب عبد الملك أن أي شخص يقتل يُحذف اسمه من ديوان بيت المال. ولما علم الشاب بالجواب واليأس الذي سيط على ذوي القائد القتيل قال في نفسه: حانت الآن فرصة أداء الأمانة فلا بد من أن أضع القطع الذهبية تحت تصرفهم لإنقاذهم من الفقر والفاقة، فدعا اسرة القائد إلى منزله وقال لهم: إن أباكم استودعني كمية من المال وأوصاني أن أسلمه إياكم عند الحاجة الماسة إليه بعد أن أقتطع عشره، فطار أبناء القائد فرحاً لدى سماعهم النبأ وقالو سنعطيك ضعف ما أوصى به أبونا.

أثر الامانة:

جاء الشاب بالمال وسلمهم إياه ، فأعادوا إليه ألفي دينار وأخذوا ثمانية الاف ، ولم تمض أيام على هذه القضية ، حتى استدعى عبد الملك أسرة القائد لقتيل إلى بلاط ليحقق حول الرسالة ، وسألهم عن حالهم فأخبروه بما جرى لهم مع الشاب ، عندها استدعى عبد الملك الشاب فوراً وأثنى عليه لأمانته وصدقه وسلمه مسؤولية خزينة البلاد قائلاً له: إنني لا أعرف أحداً قد قام بأداء الأمانة كما أديتها أنت.

لذا فالشباب الذين يعتبرون من تاريخ الأخرين ويكتسبون التجارب من الوقائع والأحداث الخيرة والشريرة ويستندون في حياتهم على منهج سليم قائم على الفكر الصائب والعقل السليم، هم الأكفاء الذين ينخرطون في المجتمع عن جدارة ويتمكنون من إحياء حياة ملؤها السعادة والهناء.

الدقة في الامور الشخصية:

ليست مطالعة تاريخ الآخرين هي وحدها التي تكسب الشاب التجارب وتنمي فكره وتقوي بصيرته ، بل إن مطالعة امورهم والأحداث والوقائع التي عاشوها والتدقيق فيها من شأنها أن تكون مصدراً للعبر واكتساب التجارب.

وبعبارة اخرى نقول: إن على الشاب أن يستفيد من تاريخه الشخصي ويحلل كل ما مر عليه في حياته ليزداد عبرة وتجربة، كما هي الحال بالنسبة للشاب العاقل الذي يقرأ التاريخ ليعتبر من مصائر الآخرين ويميز بين الخير والشر.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): العاقل من وعظته التجارب(9) .

وعنه (عليه السلام) : من عقل اعتبر بأمسه واستظهر لنفسه(10) .

سبل بلوغ الواقع:

إن التجربة هي من العوامل الرئيسية لتنمية العقل والذكاء عند الإنسان، والتجربة في حياة الإنسان هي من السبل الواضحة لبلوغ الحقيقة والواقع، ورأي من هم أصحاب تجارب يكون سليماً وصائباً أضعافاً مضاعفة من أي البسطاء وعديمي التجربة.

فتح قلعة عمورية:

«لما خرج ملك الروم وفعل في بلاد الإسلام ما فعل بلغ الخبر المعتصم فاستعظمه وكبر لديه، وبلغه أن امرأة هاشمية صاحت وهي أسيرة في أيدي الروم وامعتصماه، فأجابها وهو جالس على سريره: لبيك لبيك ونهض من ساعته وصاح في قصره النفير النفير، وبلغه أن عمورية عين النصرانية وأشرف عندهم من القسطنطينية لتجهز بما لم تعهد من السلاح وحياض الأدم وغير ذلك وفرق عساكره ثلاث فرق فخربوا بلاد الروم وقتلوا كثيراً وأحرقوا ووصلوا إلى «أنقورية» ثم اجتمعوا في عمورية وحاصروها ونصبوا عليها المجانيق وكانت في غاية الحصانة، وقد ذكر الشيخ محي الدين ابن العربي في كتابه المسمى بالمسامرة فتح عمورية فقال: فتحها المعتصم في رمضان سنة ثلاث وعشرين ومائتين. وسبب فتحها أن رجلا وقف على المعتصم فقال: يا أمير المؤمنين كنت بعمورية وجارية من أحسن النساء سيرة قد لطمها علج في وجهها فنادت: وامعتصماه فقال العلج: وما يقدر عليه المعتصم يجيء على أبلق ينصرك؟ وزاد في ضربها فقال المعتصم: وفي أي جهة عمورية ؟ فقال له الرجل هكذا وأشار إلى جهتها فرد المعتصم وجهه إليها وقال: لبيك أيتها الجارية لبيك هذا المعتصم بالله قد أجابك، ثم تجهز إليها في اثني عشر ألف فرس أبلق... فلما حاصرها وطال مقامه عليها جمع المنجمين فقالوا لهم: إنا نرى أنك ما تفتحها إلا في زمان نضج العنب والتين، فبعد عليه ذلك واغتم لذلك فخرج ليلة متجسساً في العسكر يسمع ما يقوله الناس. فمر بخيمة حداد يضرب نعال الخيل وبين يديه غلام أقرع قبيح الصورة يضرب نعال الخيل ويقول: في رأس المعتصم ، فقال له معلمه اتركنا من هذا ما لك والمعتصم؟ فقال ما عنده تدبير، له كذا وكذا يوماً على هذه المدينة مع قوته ولا يفتحها ، لو أعطاني لأمر ما بت غداً إلا فيها ، فتعجب المعتصم مما سمع وانصرف إلى خيامه وترك بعض رجاله موكلا بالغلام، فلما أصبح جاءوا به، فقال: ما حملك يا هذا على ما بلغني منك؟ فقال: الذي بلغك حق، ولني ما وراء خبائك وقد فتح الله عمورية، قال وليتك وخلع عليه وقدمه على الحرب ، فجمع الرماة واختار منهم أهل الإصابة وجاء إلى بدن من أبدان الصور وفي البدن من اوله إلى آخره خط أسود من خشب عرضه ثلاثة أشبار أو أكثر ، فحمى السهام بالنار وقال للرماة : من أخطأ منكم ذلك الخط الأسود ضربت عنقه ، وإذا بذلك الخط خشب ساج فعندما حصلت فيه السهام المحمية قامت النار فيه واحترق فنزل البدن وفتح الطريق أمام جنود المسلمين فدخلوا القلعة مكبرين «الله أكبر ، الله أكبر» وصار الفتح والنصر من نصيبهم وذلك قبل الزمان الذي ذكره المنجمون وفي ذلك يقول أبو تمام الطائي في قصيدة امتدح المعتصم عند فتحه عمورية:

السيف أصدق إنباء من الكتب             في حده الحد بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف في     متونهن جلاء الشك والريب

إلى آخر ما جاء في القصيدة .

ولما دخل المعتصم القلعة راكباً الفرس الأبلق ومعه الرجل الذي بلغه حديث الجارية قال له: سر بي إلى الموضع الذي رأيته فيه تصيح «وامعتصماه» ، فسار به وأخرجها من موضعها وقال لها: يا جارية هل أجابك المعتصم؟ وملكها العلج لذي لطمها والسيد الذي كان يملكها وجميع ماله، وأقام عليها خمسة وخمسين يوماً وفرق الأسرى على القواد وسار إلى طرسوس ثم رجع إلى دار ملكه»(11).

الاستفادة من التجارب :

لم يكن لهذا الغلام الشاب - صانع الحداد - أية ثروة علمية، لكنه انتفع من مدرسة الحياة، وكان قد قضى جانباً من حياته في الحدادة، واكتسب من مشاهداته اليومية دروسا كبيرة، ففرن الحدادة والفلز المنصهر وشرر النار واحتراق الخشب والاشتعال السريع لخشب الساج وما إلى ذلك من معلومات اكتسبها ذهن الحداد الشاب كونت في ضميره تجارب مفيدة.

فعندما عجز كبار الرجال والمتعلمون عن فتح قلعة عمورية، وحينما بات العلماء وكبار الضباط في حيرة من أمرهم وتغلبهم اليأس والقنوط، تدخل الغلام الشاب وحل هذه المعضلة بسرعة وسهولة فائقتين مستفيداً من تجاربه ومشاهداته اليومية أثناء عمله كحداد.

ومن هناك نستنتج أن هناك طريقين أمام الفتيان لاكتساب التجارب، الأول: من خلال دراسة ومطالعة تاريخ الآخرين والوقائع والأحداث التي عاصرت الأسلاف، والثاني: من خلال تحليل مشاهداتهم اليومية وما يواجهونه من أحداث .

وهذان الطريقان يؤديان إلى تنمية الفكر وتقوية النمو المكتسب لعقل الشاب.

______________________________

(1) نهج البلاغة ، الفيض ، ص 926 .

(2) مقدمة على فلسفة التربية والتعليم، ص154.

(3) السفينة، «العبر» ، ص 146.

(4) غرر الحكم، ص646.

(5) تعلم التاريخ (اليونسكو) ص 111.

(6) مقدمة على فلسفة التربية والتعليم ، ص 156 .

(7) تعلم التاريخ (اليونسكو) ص137 .

(8) نهج البلاغة ، (الفيض) ، ص 904 .

(9) بحار الأنوار ج1، ص 53.

(10) غرر الحكم، ص 678.

(11) الفتوحات الإسلامية ج1، ص 251.




احدى اهم الغرائز التي جعلها الله في الانسان بل الكائنات كلها هي غريزة الابوة في الرجل والامومة في المرأة ، وتتجلى في حبهم ورعايتهم وادارة شؤونهم المختلفة ، وهذه الغريزة واحدة في الجميع ، لكنها تختلف قوة وضعفاً من شخص لآخر تبعاً لعوامل عدة اهمها وعي الاباء والامهات وثقافتهم التربوية ودرجة حبهم وحنانهم الذي يكتسبونه من اشياء كثيرة إضافة للغريزة نفسها، فالابوة والامومة هدية مفاضة من الله عز وجل يشعر بها كل اب وام ، ولولا هذه الغريزة لما رأينا الانسجام والحب والرعاية من قبل الوالدين ، وتعتبر نقطة انطلاق مهمة لتربية الاولاد والاهتمام بهم.




يمر الانسان بثلاث مراحل اولها الطفولة وتعتبر من اعقد المراحل في التربية حيث الطفل لا يتمتع بالإدراك العالي الذي يؤهله لاستلام التوجيهات والنصائح، فهو كالنبتة الصغيرة يراقبها الراعي لها منذ اول يوم ظهورها حتى بلوغها القوة، اذ ان تربية الطفل ضرورة يقرها العقل والشرع.
(أن الإمام زين العابدين عليه السلام يصرّح بمسؤولية الأبوين في تربية الطفل ، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى ، وأن التقصير في ذلك يعرّض الآباء إلى العقاب ، يقول الإمام الصادق عليه السلام : « وتجب للولد على والده ثلاث خصال : اختياره لوالدته ، وتحسين اسمه ، والمبالغة في تأديبه » من هذا يفهم أن تأديب الولد حق واجب في عاتق أبيه، وموقف رائع يبيّن فيه الإمام زين العابدين عليه السلام أهمية تأديب الأولاد ، استمداده من الله عز وجلّ في قيامه بذلك : « وأعني على تربيتهم وتأديبهم وبرهم »)
فالمسؤولية على الاباء تكون اكبر في هذه المرحلة الهامة، لذلك عليهم ان يجدوا طرقاً تربوية يتعلموها لتربية ابنائهم فكل يوم يمر من عمر الطفل على الاب ان يملؤه بالشيء المناسب، ويصرف معه وقتاً ليدربه ويعلمه الاشياء النافعة.





مفهوم واسع وكبير يعطي دلالات عدة ، وشهرته بين البشر واهل العلم تغني عن وضع معنى دقيق له، الا ان التربية عُرفت بتعريفات عدة ، تعود كلها لمعنى الاهتمام والتنشئة برعاية الاعلى خبرة او سناً فيقال لله رب العالمين فهو المربي للمخلوقات وهاديهم الى الطريق القويم ، وقد اهتمت المدارس البشرية بالتربية اهتماماً بليغاً، منذ العهود القديمة في ايام الفلسفة اليونانية التي تتكئ على التربية والاخلاق والآداب ، حتى العصر الاسلامي فانه اعطى للتربية والخلق مكانة مرموقة جداً، ويسمى هذا المفهوم في الاسلام بالأخلاق والآداب ، وتختلف القيم التربوية من مدرسة الى اخرى ، فمنهم من يرى ان التربية عامل اساسي لرفد المجتمع الانساني بالفضيلة والخلق الحسن، ومنهم من يرى التربية عاملاً مؤثراً في الفرد وسلوكه، وهذه جنبة مادية، بينما دعا الاسلام لتربية الفرد تربية اسلامية صحيحة.