أحوال عدد من رجال الأسانيد / محمد بن عيسى بن عبيد اليقطينيّ (القسم الثاني). |
1245
11:16 صباحاً
التاريخ: 2023-04-17
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-7-2017
963
التاريخ: 15-9-2016
3446
التاريخ: 24/12/2022
1670
التاريخ: 21-9-2020
1790
|
المقام الأوّل: هل يستفاد من كلام ابن الوليد الطعن في محمد بن عيسى بما يمسّ وثاقته أو لا؟
والكلام المنقول عن ابن الوليد في هذا المجال نصان:
النص الأول: ماحكاه الشيخ في الفهرست في ترجمة يونس بن عبد الرحمن وأشار إليه النجاشي في ترجمة محمد بن عيسى نفسه، وهو يختص بروايات محمد بن عيسى عن يونس.
قال الشيخ (1): (قال أبو جعفر بن بابويه: سمعت ابن الوليد (رحمه الله) يقول: كتب يونس بن عبد الرحمن التي هي بالروايات (2) كلها صحيحة يعتمد عليها إلا ما ينفرد به محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس ولم يروه غيره فإنه لا يعتمد عليه ولا يفتى به).
وقال النجاشي (3): (ذكر أبو جعفر بن بابويه عن ابن الوليد قال: ما تفرد به محمد بن عيسى من كتب يونس وحديثه لا يعتمد عليه).
النص الثاني: ما حكاه كل من النجاشي والشيخ في ترجمة محمد بن
أحمد بن يحيى صاحب نوادر الحكمة وأشار إليه الشيخ في ترجمة محمد بن عيسى نفسه، وهو يتعلق باستثناء روايات محمد بن عيسى من كتاب النوادر.
قال النجاشي (4): (وكان محمد بن الحسن بن الوليد يستثني من رواية محمد بن أحمد بن يحيى ما رواه عن محمد بن موسى الهمداني.. أو عن محمد بن عيسى بن عبيد بإسناد منقطع).
وقال الشيخ في ترجمة محمد بن عيسى في الفهرست (5): (ضعيف استثناه أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه عن رجال نوادر الحكمة وقال: لا أروي ما يختص بروايته). وذكر في الاستبصار (6) كلاماً يشبه ذلك تقدم نقله.
والظاهر أن الأصل في هذين الكلامين هو ما ذكره في ترجمة محمد بن أحمد بن يحيى في الفهرست، حيث قال عند ذكر سنده إلى كتبه ومصنفاته (7): (قال أبو جعفر بن بابويه: إلا ما كان فيها من غلو أو تخليط فهو الذي يكون طريقه محمد بن موسى الهمداني.. أو عن محمد بن عيسى بإسناد منقطع ينفرد به).
والملاحظ أنه نسب الاستثناء في المواضع الثلاثة إلى الصدوق لا إلى أستاذه ابن الوليد، ولكن نصّ النجاشي على أن ابن الوليد كان هو الأصل في الاستثناء وتبعه على ذلك تلميذه الصدوق.
وأيضاً الملاحظ اختلاف ما أورده النجاشي عما حكاه الشيخ من حيث كون المستثنى فيما ذكره النجاشي هو كل ما رواه في نوادر الحكمة عن محمد بن عيسى بإسناد منقطع.
ولكن المستثنى فيما أورده الشيخ في موضع هو ما رواه عن محمد بن عيسى بإسناد منقطع ينفرد به، وفي موضع آخر (8) هو كل ما يختص بروايته.
وكيف كان فلا بد من البحث عن دلالة كل من النصين المتقدمين على الخدش في وثاقة محمد بن عيسى وعدمها.
أ ــ أما النص الأول فقد ناقش في دلالته على ذلك جمع أولهم فيما نعلم هو ابن داود الحلي في رجاله وقد تقدم نقل كلامه، ومنهم السيد محمد باقر الشفتي (قدس سره) في رسالة له في محمد بن عيسى، ومنهم السيد الأستاذ (قدس سره) في معجمه وفي بحوثه الفقهية.
قال السيد الشفتي (9) ما لفظه: (أما الكلام الأول لشيخنا ابن الوليد أي قوله: (ما تفرد به محمد بن عيسى من كتب يونس وحديثه لا يعتمد عليه)، فلوضوح أنه غير صريح في تضعيف نفس هذا الشخص بل ولا ظاهر فيه. بل هو في الدلالة على خلافه أظهر، لظهور أنه لو كان المراد تضعيف نفسه لما كان وجه لتخصيص عدم الاعتماد بأحاديثه المروية عن يونس وكتبه، لوضوح أن الظاهر من هذا الكلام الاعتماد بأحاديثه المروية عن غير يونس وكتبه، فيظهر منه أن القدح ليس لأجل نفسه بل لأمر آخر) (10) وبمثل هذا صرّح السيد الأستاذ (قدس سره) في بعض بحوثه الفقهية وأشار إليه في المعجم.
قال (قدس سره) في موضع من كتاب الصلاة (11): (الظاهر من هذه العبارة أن سبب الاستثناء في نظر ابن الوليد وجود خلل في طريق العبيدي إلى كتب يونس لعلة مجهولة لدينا لا وجود الخلل والضعف في نفس العبيدي، وإلا لم يكن وجه لتخصيص الاستثناء بما يرويه عن يونس، بل كان اللازم الاستثناء على سبيل الإطلاق للغوية التقييد حينئذٍ، فالتقييد المزبور أقوى شاهد على أن الرجل لم يكن بنفسه ممقوتاً عند ابن الوليد).
ثم أضاف (قدس سره): (والذي يكشف عما ذكرناه كشفاً قطعياً أن الصدوق الذي هو تابع لشيخه في الاستثناء المزبور كما صرح به لم يذكر في كتاب الفقيه رواية عن محمد بن عيسى عن يونس مع روايته عن محمد بن عيسى بنفسه ــ غير ما يرويه عن يونس ــ كثيراً، فلو كان الاستثناء كاشفاً عن قدح في الرجل لما نقل رواية عنه أصلاً، فالتفكيك أقوى شاهد على أن الخلل في طريقه إلى يونس لا فيه نفسه. وحيث إن ادعاء الخلل اجتهاد من شيخه من غير أن يكون عليه دليل ظاهر فهو أعرف بما قال، ولا يلزمنا اتباعه).
وقال (قدس سره) في المعجم (12): (والذي يكشف عن ذلك: أن الصدوق (قدس سره) تبع شيخه ابن الوليد في الاستثناء المزبور، فلم يرو في الفقيه ولا رواية واحدة، عن محمد بن عيسى عن يونس، وقد روى فيه عن محمد بن عيسى عن غير يونس في نفس الكتاب في المشيخة في نيف وثلاثين موضعاً غير ما ذكره في طريقه إليه، وهذا أقوى شاهد على أن الاستثناء غير مبتنٍ على تضعيف محمد بن عيسى بن عبيد نفسه، وإنما هو لأمر يختص برواياته عن يونس، وهذا الوجه مبني على اجتهاد ابن الوليد ورأيه، ووجهه عندنا غير ظاهر).
أقول: يقع الكلام في جانبين:
الأول: في أن أصل ما ذُكر من تخطئة من فهم الطعن في محمد بن عيسى من كلام ابن الوليد صحيح أو لا؟
الثاني: في أن الشاهد الذي ساقه السيد الأستاذ (قدس سره) لإثبات مدعاه تام أو لا؟
1 ــ أما ما ذُكر من أن استثناء ابن الوليد خصوص ما تفرد به محمد بن عيسى عن يونس لا يدل على القدح فيه بل يدل على خلافه ــ وإلا لم يكن وجه للتقييد به ــ فهو إنما يتم لو كان ما ذكره ابن الوليد هو أنه يستثنى من روايات محمد بن عيسى بن عبيد خصوص ما تفرد به عن يونس، بأن كان المستثنى منه هو روايات محمد بن عيسى والمستثنى هو رواياته عن يونس، فإن مقتضاه عندئذٍ هو عدم الخدش في عامة روايات محمد بن عيسى بل في قسم منها، ولو لم يكن ثقة لكان الخدش في جميع رواياته، فاستثناء رواياته عن يونس خاصة يدل بوضوح على عدم الطعن في وثاقته.
وأما إذا كان ما ذكره ابن الوليد هو أنه يستثنى من روايات يونس بن عبد الرحمن خصوص ما تفرد بها محمد بن عيسى، بأن يكون المستثنى منه هو روايات يونس والمستثنى هو روايات محمد بن عيسى عنه، فلا يقتضي ذلك عدم الخدش في بقية روايات محمد بن عيسى بن عبيد وبالتالي عدم الخدش في وثاقته. بل يمكن أن يقال: إن المنساق عرفاً من الاستثناء المذكور هو الطعن في وثاقة محمد بن عيسى بن عبيد إلا أن يثبت بقرينة خارجية أن العلة في الاستثناء أمر آخر غير عدم وثاقة محمد بن عيسى ككونه صغير السن عند تحمل الحديث عن يونس ونحو ذلك.
وبالجملة: هناك فرق شاسع بين أن يقال: لا يقبل من روايات محمد بن عيسى ما تفرد به عن يونس وبين أن يقال: لا يقبل من روايات يونس ما رواه محمد بن عيسى عنه، فالأول ليس ظاهراً في الطعن في محمد بن عيسى بل يدل على قبول رواياته في حدّ ذاتها، والثاني ليس ظاهراً في ذلك إن لم يكن ظاهراً في خلافه ما لم تكن هناك قرينة خارجية تقتضي كون الوجه في الاستثناء أمراً آخر غير عدم الوثاقة.
إن قيل: لو كان ابن الوليد يطعن في وثاقة محمد بن عيسى ويرى أن مطلق رواياته غير مقبولة فلماذا بيّن ذلك من خلال الاستثناء المذكور، أي أنه استثنى من روايات يونس ما رواه محمد بن عيسى، ألم يكن الأجدر به أن يقول: إن روايات محمد بن عيسى غير معتمدة، فلا يبقى محل للإشكال؟
فإنه يقال: إن ابن الوليد لم يورد الاستثناء المذكور في كتاب يعنى بذكر الضعفاء وغير مقبولي الرواية ليتأتّى هذا الكلام، بل أورده في فهرس ما رواه من الكتب والمصنفات، وتبعه في ذلك الصدوق في فهرسه، فهما لما ذكرا كتب يونس بن عبد الرحمن المشتملة على الروايات وكان محمد بن عيسى بن عبيد من أشهر تلامذة يونس وكان مطعوناً عندهما وجدا أن من المناسب الإشارة إلى استثناء ما رواه عن كتب يونس التي هي بالروايات.
إن قيل: ولكن لماذا لم يذكرا عدم اعتبار روايات محمد بن عيسى عند تعرضهما لكتبه في فهرسيهما؟
كان الجواب عنه: أنه لا يوجد ما يشير إلى اشتمال فهرسيهما على ذكر كتب محمد بن عيسى، بل الظاهر أنهما لم يرويا كتبه وتصنيفاته ــ وهو مؤيد آخر لعدم اعتبار رواياته عندهما ــ والقرينة على ذلك هو أن الشيخ (قدس سره) الذي يظهر بالتتبع أن فهرسي ابن الوليد والصدوق كانا من مصادره في تأليف كتاب الفهرست لم يروِ كتب محمد بن عيسى عن طريق ابن الوليد أو الصدوق بل عن طريق التلعكبري، مما يشهد على أنه لم يكن لمؤلفات محمد بن عيسى ذكر في هذين الفهرسين.
والحاصل: أنه لو كان ما ذكره ابن الوليد بشأن محمد بن عيسى هو استثناء ما رواه عن يونس من سائر رواياته لم يدل على القدح فيه، ولو كان هو استثناء ما رواه عن يونس من سائر ما روي عنه أمكن أن يقال: إنه يدل على القدح فيه. فأي الوجهين هو المستظهر من العبارة المحكية عن ابن الوليد؟
يمكن أن يقال: إن ظاهر ما أورده الشيخ (قدس سره) عن ابن الوليد هو الوجه الثاني، بل لعله كالنص في ذلك حيث ذكر كتب يونس التي هي بالروايات
وقال: إن كلها صحيحة يعتمد عليها، ثم استثنى منها ما تفرد به محمد بن عيسى بن عبيد، فهو استثنى من روايات يونس ما رواه عنه محمد بن عيسى.
وأما ما أورده النجاشي عن ابن الوليد بقوله: (ذكر أبو جعفر ابن بابويه عن ابن الوليد قال: ما تفرد به محمد بن عيسى من كتب يونس وحديثه لا يعتمد عليه) فيمكن أن يقال: إنه مجمل ولا يكاد يظهر أن المراد به هل هو استثناء ما رواه محمد بن عيسى عن يونس من سائر رواياته، أو أن المراد استثناء ما رواه عن يونس من سائر ما روى عنه؟ ولكن يمكن أن يقال:
أولاً: إنه بقرينة ذيله ظاهر في الوجه الثاني، فإن النجاشي عقّبه بقوله: (ورأيت أصحابنا ينكرون هذا القول ويقولون من مثل أبي جعفر محمد بن عيسى)، وهذا واضح الدلالة على أن كلام ابن الوليد كان ظاهراً في الطعن في وثاقة محمد بن عيسى، ولا يكون كذلك إلا إذا كان مفاده هو استثناء روايات محمد بن عيسى عما روي عن يونس.
وثانياً: أنه لو سلّم إجمال ما حكاه النجاشي عن ابن الوليد فهو لا يضر بالاعتماد على ما حكاه عنه الشيخ (قدس سره) الذي مرّ أنه كالنص في استثناء ما رواه محمد بن عيسى عما روي عن يونس، ولا سيما أن من المعلوم أن فهرس الصدوق الذي هو الأصل في الكلام المحكي عن ابن الوليد كان من مصادر الشيخ (قدس سره) في تأليف فهرسته، في حين أن الظاهر أنه لم يكن من مصادر النجاشي بل إنه يعتمد فيما ينقله عن الصدوق على بعض المصادر الأخرى، فليتدبر.
ومهما يكن فقد ظهر بما تقدم أن ما أفاده السيد محمد باقر الشفتي (قدس سره) ووافقه عليه السيد الأستاذ (طاب ثراه) وآخرون من أن النص الأول المحكي عن ابن الوليد ــ المتضمن لاستثناء روايات محمد بن عيسى عن يونس ــ لا يدل على الطعن في وثاقة محمد بن عيسى مما لا يمكن المساعدة عليه.
2 ــ وأما الشاهد الذي ساقه السيد الأستاذ (قدس سره) لإثبات مرامه وهو أن الصدوق الذي تبع أستاذه في الاستثناء المذكور لم يورد في الفقيه رواية واحدة لمحمد بن عيسى عن يونس، وأما رواياته عن غير يونس فكثيرة ــ سواء في متن الفقيه أو في المشيخة ــ مما يدل على اختصاص قدح ابن الوليد وتلميذه الصدوق بخصوص ما تفرد به محمد بن عيسى عن يونس وعدم شموله لمطلق رواياته.
فإنه يمكن أن يلاحظ عليه من وجهين:
أولاً: أن إيراد الصدوق (قدس سره) روايات محمد بن عيسى عن غير يونس في كتاب الفقيه لا ينبغي أن يعدّ دليلاً على كونها معتمدة عنده في حدّ ذاتها كما ادعاه السيد الأستاذ (قدس سره). أي أنه ادعى أن الصدوق كان يفرق بين ما يرويه محمد بن عيسى عن يونس فلا يعتدّ به وما يرويه عن غيره فيعتمده ويفتي بمضمونه وإن لم يكن عليه شاهد يورث الوثوق به.
ولكن هذه الدعوى مما لا شاهد لها، بل يمكن أن ينقض عليها بمن أورد الصدوق رواياتهم في كتاب الفقيه مع كونها من مستثنيات نوادر الحكمة، وفيما يأتي أسماء جمع منها:
1 ــ أبو عبد الله الرازي (13)، فقد وقع في طريقه في المشيخة إلى عبد الله بن القاسم، والراوي عنه فيه هو محمد بن أحمد بن يحيى.
2 ــ أبو يحيى الواسطي (14)، والراوي عنه أيضاً محمد بن أحمد بن يحيى.
3 ــ سهل بن زياد (15)، روى عنه في عدة مواضع، ووقع أيضاً في طريقه إلى مروان بن مسلم (16) والراوي عنه محمد بن أحمد بن يحيى أيضاً.
4 ــ محمد بن علي القرشي الكوفي الصيرفي، فقد وقع في جملة من طرق المشيخة (17) كما في الطريق إلى عبد الحميد الأزدي وأبي الجارود وأبي خديجة سالم بن مكرم وإبراهيم بن سفيان وعلي بن محمد الحضيني ومحمد بن سنان والحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني.
5 ــ أحمد بن هلال (18)، وتوجد روايته عنه في كتاب التوحيد (19)، والراوي عنه محمد بن أحمد بن يحيى، ووقع أيضاً في طريقه في المشيخة (20) إلى أمية بن عمرو.
6 ــ محمد بن هارون (21)، والراوي عنه محمد بن أحمد بن يحيى.
7 ــ محمد بن عبد الله بن مهران (22).
8 ــ الحسن بن الحسين اللؤلؤي، فقد وقع في طريقه في المشيخة (23) إلى عمرو بن جميع، والراوي عنه محمد بن أحمد بن يحيى.
9 ــ جعفر بن محمد بن مالك في طريقه في المشيخة (24) إلى ميمون بن مهران.
10 ــ روى عن محمد بن أحمد بن يحيى (25) عن الصادق (عليه السلام) مرسلاً، وأورد أيضاً ما رواه (26) بإسناده عن أبي الحسن (عليه السلام) بهذا العنوان، مع أن من جملة ما استثناه الصدوق تبعاً لأستاذه ابن الوليد هو ما يرويه محمد بن أحمد بن يحيى عن رجل أو نحو ذلك من المراسيل.
فيلاحظ أن الصدوق لم يتقيد بعدم إيراد شيء من مستثنيات نوادر الحكمة في كتبه ولا سيما كتاب الفقيه ــ الذي هو كتاب فتوى كما هو كتاب رواية ــ فما الذي يمنع من أن يكون ما أورده عن محمد بن عيسى عن غير يونس
من هذا القبيل، أي ألّا يكون مما هو معتبر عنده في حدّ ذاته.
وإذا كان بالإمكان أن يبرّر إيراده لجملة من مستثنيات نوادر الحكمة وروايات رجالها في كتاب الفقيه من جهة حصول الوثوق له بتلك الروايات بموجب بعض القرائن والشواهد، فإن مثل هذا الكلام يأتي فيما أورده فيه من روايات محمد بن عيسى عن غير يونس، فيجوز أن يكون إيراده لها من جهة حصول الوثوق له بها لا من جهة اعتبارها في حدِّ ذاتها.
بل الأمر فيها أهون من جملة مما أورده من مستثنيات نوادر الحكمة، وذلك لأن الذي استثناه ابن الوليد وتبعه عليه الصدوق من روايات محمد بن عيسى هو خصوص ما تفرد بنقله.
ويمكن أن يقال: إن جملة من روايات محمد بن عيسى عن غير يونس ليست من متفرداته. إذ الملاحظ انه وقع في طريقه الى عدد من الرواة في المشيخة منضماً إلى آخر كما في طريقه الى زرارة بن أعين وحنان بن سدير وحريز بن عبد الله وزياد بن مروان (27).
ويحتمل هذا الأمر في سائر طرقه المشتملة على ذكر محمد بن عيسى أيضاً، إذ ليس بأيدينا جميع طرقه ليمكن البناء على تفرد محمد بن عيسى بالنقل في بعضها، بل هذا الأمر محتمل أيضاً فيما وقع فيه من الأسانيد في متن الفقيه، فإن المتتبع يرى أن الصدوق (قدس سره) قد يورد رواية بطريق في الفقيه وله طريق آخر أو أزيد إليها في بعض كتبه الأخرى كالعلل والمعاني والخصال وغيرها، فيجوز أن يكون ما رواه في الفقيه عن طريق محمد بن عيسى منفرداً مما له طريق آخر إليه أيضاً وإن لم نجده فيما بأيدينا من كتبه.
وبالجملة: لا سبيل إلى الجزم بأن الصدوق (قدس سره) قد اعتمد في شيء مما أورده عن محمد بن عيسى عن غير يونس على ما تفرد هو بروايته من غير أن ينضم إليه غيره، وهذا المعنى وحده كافٍ في عدم تمامية الاستشهاد المذكور في كلام السيد الأستاذ (قدس سره).
وثانياً: أنه وإن لم توجد في شيء من أسانيد الفقيه المذكورة في المتن أو في المشيخة رواية محمد بن عيسى عن يونس إلا أنه مع ذلك لا سبيل الى الجزم بأن الصدوق لم يعتمد على شيء من رواياته عنه في هذا الكتاب، وذلك لأنه ابتدأ باسم يونس في روايات كثيرة تقرب من خمسة وعشرين مورداً ولم يذكر طريقه إليه في المشيخة، فمن المحتمل أن يكون سنده إلى تلك الروايات ــ كلاً أو بعضاً ــ عن طريق محمد بن عيسى بن عبيد، ولا دافع لهذا الاحتمال، ومعه لا يتم الاستشهاد المذكور.
إن قيل: ولكن الملاحظ أنه توجد في الفقيه عشرات الروايات عن طريق محمد بن عيسى وليس حتى واحدة منها من رواياته عن يونس بن عبد الرحمن، ألا يشير هذا إلى كون الأمر مقصوداً للصدوق، وأنه كان مقيداً بعدم إيراد رواية لمحمد بن عيسى عن يونس وإلا لاتفق أن تكون ولو واحدة منها من هذا القبيل، فإن محمد بن عيسى ممن أكثر الرواية عن يونس، كما يعرف بمراجعة جوامع الحديث.
كان الجواب عنه: أن المتتبع لطريقة الصدوق (قدس سره) في إيراد الروايات في الفقيه يجد أنه ينوّع في كيفية إيرادها حتى فيما وصله منها عن طريق راوٍ واحد، فأحياناً يبتدأ باسمه وأحياناً باسم بعض تلامذته وأحياناً باسم بعض مشايخه المباشرين وأحياناً باسم بعض مشايخه مع الواسطة، وفي كل ذلك إما أن يذكر الطريق إلى من ابتدأ باسمه في المشيخة أو أنه يغفل عن ذلك، فالجميع روايات شخص واحد ولكنه يتفنن في كيفية إيرادها.
ويبدو أن الحال كذلك بالنسبة إلى ما وصله من روايات محمد بن عيسى، أي أنه اختار أن يبتدأ باسم محمد بن عيسى نفسه فيما رواه عنه عن عدد من مشايخه كالحسن بن راشد وأبي علي بن راشد وجعفر بن عيسى والفضل بن المبارك وسليمان بن حفص المروزي وعلي بن بلال ومحمد بن رجاء الخياط وزكريا المؤمن وغيرهم، وقد ذكر طريقه إليه في المشيخة.
واختار أن يبتدأ باسم بعض مشايخ محمد بن عيسى فيما رواه بطريقه عنهم كحنان بن سدير وزياد بن مروان والنضر بن سويد وداود بن أبي زيد وداود الصيرمي وياسين الطويل وأبي زكريا الأعور، وقد ذكر طرقه إليهم في المشيخة، ويجوز أن يكون يونس بن عبد الرحمن مثل هؤلاء أي أنه روى ما أورده من رواياته عن طريق محمد بن عيسى إلا أنه غفل عن ذكر طريقه إليه في المشيخة.
واختار أن يبتدأ باسم بعض مشائخ مشائخ محمد بن عيسى فيما رواه عن طريقه إليهم كحريز بن عبد الله وزرارة بن أعين وعلي بن ميسرة ومحمد بن يحيى الخثعمي وإسماعيل بن جابر وعمر بن حنظلة وفضيل بن عثمان الأعور ويونس بن يعقوب والقاسم بن سليمان وقد ذكر طرقه إليهم في المشيخة.
واختار أن يبتدأ باسم بعض تلامذة محمد بن عيسى في عدة موارد كمحمد بن أحمد بن يحيى الذي روى عنه عن محمد بن عيسى في خمسة موارد وكمحمد بن علي بن محبوب الذي ابتدأ باسمه عن محمد بن عيسى في مورد واحد.
والحاصل: أن الصدوق (قدس سره) لم يورد جميع روايات محمد بن عيسى على نهج واحد بل ابتدأ تارة باسمه وأخرى بأسماء بعض مشايخه وثالثة بأسماء بعض مشايخ مشايخه ورابعة بأسماء بعض تلامذته، وحيث يحتمل في ما ابتدأ فيه باسم يونس بن عبد الرحمن ــ وهو حوالي خمس وعشرين رواية كما مرّ ــ أن يكون مما رواه عنه عن طريق محمد بن عيسى لا يبقى محل لاستغراب عدم العثور على رواية له عن طريق محمد بن عيسى عن يونس مع وجود العشرات من الروايات له عن محمد بن عيسى عن سائر مشايخه عن يونس، فإن هذا الاستغراب إنما يتوجه لو لم يكن يتفنن في كيفية نقل الروايات ولم يكن قد غفل عن ذكر طريقه الى يونس في المشيخة، بل كان قد ذكره ولم يكن يمرّ بمحمد بن عيسى، ففي هذه الحالة كان لأحد أن يستغرب عدم إيراده رواية لمحمد بن عيسى عن يونس مع إيراده رواياته عن غيره ويقال إنه لا تفسير لذلك إلا عدم اعتماده على ما رواه محمد بن عيسى عن يونس بالمرة بخلاف ما رواه عن غيره من مشايخه.
وأما بملاحظة ما تقدم من تفننه (قدس سره) في كيفية نقل روايات محمد بن عيسى وغفلته عن ذكر طريقه إلى يونس في المشيخة فلا يمكن الجزم بتفريقه بين ما رواه محمد بن عيسى عن يونس وما رواه عن غيره.
فاتضح من جميع ما تقدم أن ما ساقه السيد الأستاذ (قدس سره) شاهداً على أن استثناء ابن الوليد لروايات محمد بن عيسى في النص الأول المحكي عنه إنما يختص بما رواه عن يونس مما لا يمكن المساعدة عليه.
هذا كله فيما يتعلق بالنص الأول.
ب ــ وأما النص الثاني فهو كما سبق يتضمن استثناء ما رواه محمد بن أحمد بن يحيى في كتاب نوادر الحكمة عن محمد بن عيسى بن عبيد (بإسناد منقطع) أو (بإسناد منقطع ينفرد به) أو (مما يختص بروايته) وقد نوقش في دلالته على الخدش في وثاقة محمد بن عيسى أيضاً.
وينبغي أولاً الإشارة إلى أن كتاب (نوادر الحكمة) كان من الكتب المعروفة المتداولة عند أصحابنا في عصر ابن الوليد وما بعده، وقد عدّه الصدوق في مقدمة الفقيه (28) من (الكتب المشهورة التي عليها المعوّل وإليها المرجع)، ولكن مؤلفه محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري القمي بالرغم من كونه ثقة في الحديث إلا أنه كان يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل ولا يبالي عمن أخذ كما ذكر ذلك في ترجمته (29)، ولأجل هذا استثنى محمد بن الحسن بن الوليد جملة من أحاديث ذلك الكتاب ولم يعتمد عليها، وهي ما رواها مؤلفه من المراسيل وما رواه عن عدد من الرجال ذكرت أسماؤهم.
والملاحظ أن الشيخ (قدس سره) نقل عن الصدوق (رحمه الله) ما يقتضي كون منشأ استثناء تلك الروايات هو اشتمالها على الغلو والتخليط، حيث قال عند روايته لنوادر الحكمة: (قال أبو جعفر بن بابويه: إلا ما كان فيها من غلو أو تخليط وهو الذي يكون طريقه محمد بن موسى الهمداني أو يرويه عن رجل..).
ولذلك قد يقال: إنه لا دلالة في استثناء ابن الوليد للروايات المذكورة على ضعف رواتها من الرجال المذكورين ومنهم محمد بن عيسى بن عبيد، فإنه كم من رجل ثقة ثبت روى بعض ما يشتمل على الغلو والتخليط جهلاً أو غفلة منه بكونه كذلك، فليس في الاستثناء المذكور دلالة قاطعة على ضعف أولئك الرجال.
ويمكن أن يجاب عن هذا الكلام بأن من المؤكد أن كثيراً مما أورده محمد بن أحمد بن يحيى مرسلاً أو عن الرجال المذكورين لم يكن مشتملاً على الغلو والتخليط، وذلك لأن كتاب نوادر الحكمة وإن لم يصل إلينا لنتحقق مما ورد فيه إلا أنه كان مصدراً للشيخ (قدس سره) في كتاب التهذيب وأورد منه عشرات الروايات وجملة منها إنما هي من المستثنيات. وأيضاً كان مصدراً لشيخنا الصدوق في كتابه الفقيه وأورد منه عدداً معتداً به من الروايات وبعضها أيضاً من المستثنيات كما سبق الإيعاز إلى ذلك، ولا يوجد في شيء من تلك الروايات معاني الغلو والتخليط.
وعلى ذلك يتعين أن يكون مقصود الصدوق (قدس سره) من عبارته المتقدمة هو أن الرواة المذكورين كانوا من الغلاة والمخلطين فتم استثناء رواياتهم لذلك، فهو وإن نسب الغلو والتخليط إلى الروايات إلا أن مقصوده في الواقع هو ضعف الرواة أنفسهم.
ويؤيد ذلك أن النجاشي عندما أراد أن يورد ما استثناه ابن الوليد من كتاب نوادر الحكمة اكتفى بذكر أنه استثنى من رواية محمد بن أحمد بن يحيى ما رواه عن فلان وفلان وما رواه عن رجل عن بعض أصحابنا، ولم يشر إلى اشتمال تلك الروايات على الغلو والتخليط. ولعله كان ذلك اختصاراً منه لكلامه، وهو في محله، فإن الإشارة إلى اشتمال الروايات على الغلو والتخليط لبيان ضعف الرواة الناقلين لها تبعيد للمسافة، إذ يكفي استثناء رواياتهم للإيعاز إلى ضعفهم، ويبدو أن الشيخ (قدس سره) أراد التقيد بعبارة الصدوق (قدس سره) في فهرسته فأوردها مشتملة على النص المتقدم.
وبالجملة: لا ينبغي الشك في أن المستفاد من كلام ابن الوليد هو ضعف من استثنيت رواياتهم من رجال نوادر الحكمة، ولذلك عقّب عليه ابن نوح بقوله: (قد أصاب شيخنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن الوليد في ذلك كله وتبعه أبو جعفر ابن بابويه إلا في محمد بن عيسى بن عبيد فلا أدري ما رابه فيه لأنه كان على ظاهر العدالة والثقة)، فإن استغرابه من استثناء ما رواه محمد بن عيسى لأنه كان على ظاهر العدالة والوثاقة دليل قاطع على أنه فهم من كلامه الطعن في وثاقة المذكورين.
وهكذا فهمه الآخرون كالنجاشي الذي وافق ابن نوح على كلامه المتقدم ومثله الشيخ (قدس سره) حيث ذكر (30) في ترجمة أحمد بن الحسين بن سعيد وأحمد بن بشير البرقي أنه (روى عنهما محمد بن أحمد بن يحيى وهما ضعيفان، ذكر ذلك ابن بابويه)، وقال (31) في ترجمة الحسن بن الحسين اللؤلؤي: (روى عنه محمد بن أحمد بن يحيى ضعّفه ابن بابويه). ومثلهما ابن الغضائري حيث ذكر (32) في ترجمة محمد بن أحمد الجاموراني قوله: (ضعفه القميون واستثنوا من كتاب نوادر الحكمة ما رواه).
والنتيجة: أنه لا ينبغي المناقشة في أصل دلالة الاستثناء على ضعف من استثنيت رواياتهم مما رواه محمد بن أحمد بن يحيى، ولكن تقدم أن في خصوص محمد بن عيسى بن عبيد هناك اختلاف بين ما نقله الشيخ وما نقله النجاشي في مورد الاستثناء.
فالمستثنى فيما أورده النجاشي هو ما أورده صاحب نوادر الحكمة عن محمد بن عيسى بإسناد منقطع، وفيما أورده الشيخ في موضع من الفهرست هو ما رواه عن محمد بن عيسى بإسناد منقطع ينفرد به، وفيما أورده في موضع آخر من الفهرست وكذلك في الاستبصار هو ما اختص محمد بن عيسى بروايته.
والملاحظ أنه ليس في أي من التعابير الثلاثة أي إشارة إلى اختصاص ما استثني من روايات محمد بن عيسى في نوادر الحكمة بما رواه عن يونس بن عبد الرحمن، فمن الغريب ما ادعاه السيد الأستاذ (قدس سره) (33) من أن الذي ناقش فيه ابن الوليد وتلميذه الصدوق هو روايات محمد بن عيسى عن خصوص يونس في ما يرويه عنه بإسناد منقطع ــ أي أن يونس يرويه مرسلاً ــ أو في ما ينفرد بروايته محمد بن عيسى عن يونس، فإن هذه الدعوى غير مقرونة بأي شاهد في كلمات الشيخ والنجاشي اللذين نقلا ما استثناه الصدوق تبعاً لابن الوليد من روايات نوادر الحكمة.
ثم إن الظاهر أن المراد بما رواه محمد بن عيسى بإسناد منقطع هو الأعم مما رواه مرفوعاً أو مرسلاً بحذف الواسطة أو موقوفاً لا يصل إلى المعصوم (عليه السلام).
ومرّ أنه يمكن أن يكون الوجه في استثناء ما رواه كذلك هو أنه كان من وجهة نظر ابن الوليد ممن يمارس نحواً من التدليس، وهو أنه إذا وجد في السند من هو مشهور بالكذب والوضع حذف اسمه أو أورد الرواية مرفوعة أو نحو ذلك، وهذا النحو من التدليس وإن لم يكن مضراً بالوثاقة إلا أن كثيراً من نقّاد الأحاديث لا يرون الاعتداد بما يرويه صاحبه بإسناد منقطع بخلاف ما يرويه غيره كذلك فإنه يعتنى به ولو من حيث عدّه شاهداً أو مؤيداً.
وبذلك يظهر أن استثناء ما رواه محمد بن عيسى بإسناد منقطع لا يقتضي الخدش في وثاقته بما يقتضي عدم اعتبار روايته في حدّ ذاتها. وأما استثناء ما ينفرد به ويختص بروايته ــ أي أنه لم يرد بطريق آخر ــ فهل يقتضي ذلك أم لا؟
فيه وجهان والأقرب الأول، وذلك لأن ترك ما ينفرد به الراوي وعدم الاعتماد عليه يأتي في كلماتهم في ثلاثة موارد:
1 ــ ما إذا كان الراوي ضعيفاً يمارس الكذب والوضع، ومن ذلك قول
ابن الغضائري في محمد بن عبد الله بن محمد بن المطلب أبي المفضل الشيباني (34): (وضاع كثير المناكير، وأرى ترك ما ينفرد به)، وقول الشيخ (35) في وهب بن وهب أبي البختري: (كان ضعيفاً لا يعول على ما ينفرد به)، وقول النجاشي (36) في محمد بن سنان: (ضعيف جداً لا يعول عليه ولا يلتفت إلى ما ينفرد به).
2 ــ ما إذا كان فاسد المذهب منحرف العقيدة وإن كان متحرزاً عن الكذب، وذلك على مبنى من لا يرى العمل بما اختص مثله بنقله من الروايات. قال الشيخ (قدس سره) (37): إن جماعة من أهل النقل (ذكروا أن ما يتفرد بنقله لا يعمل عليه، لأنه كان فطحياً فاسد المذهب) ثم قال: (غير إنا لا نطعن في النقل عليه بهذه الطريقة، لأنه وإن كان كذلك فهو ثقة في النقل لا يطعن عليه)، ولكنه قال في موضع آخر (38): (إن عمار الساباطي ضعيف فاسد المذهب لا يعمل على ما يختص بروايته)، وقال بشأن بعض روايات الحسن بن صالح (39): (راوي هذا الحديث زيدي بتري متروك الحديث في ما يختص به). وقال الصدوق (قدس سره) (40) بشأن بعض أخبار السكوني: لا أفتي بما ينفرد بروايته، والظاهر أنه من جهة كونه عامياً وإلا فإنه ثقة عند الأصحاب ولذلك حكى الشيخ (41) أنه عملت الطائفة بأخباره ما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه.
وقال الصدوق (قدس سره) (42) أيضاً: (إن مشايخنا كانوا يقولون: ما تفرد بروايته أحمد بن هلال لا يجوز استعماله)، والظاهر أنه من جهة كونه غالياً فاسد المذهب، ويناسبه قول الشيخ (43): (أحمد بن هلال مشهور بالغلو واللعنة، وما يختص بروايته لا نعمل عليه).
3 ــ إذا كان يتحرز عن الكذب ولكن لم يكن ضابطاً بالحدّ المعتبر في الوثاقة فلا يحصل الوثوق النوعي ــ المعتبر في حجية خبر الثقة ــ إذا انفرد برواية بخلاف ما إذا روى معه شخص آخر.
وتوضيح ذلك: أنه يعتبر في الوثاقة التي هي شرط في حجية الخبر الواحد ــ على المشهور ــ أمران:
أحدهما: أن يكون الراوي متحرزاً عن الكذب، أي لا يتعمد الإخبار عما يخالف الواقع.
وثانيهما: أن يكون ضابطاً بالمقدار المتعارف، أي لا يقع في الخطأ والاشتباه بأزيد مما يقع فيه الإنسان عادة.
والوثاقة على درجات فالدرجة العليا منها ما إذا كان الراوي ممن لا يحتمل في حقه تعمد الكذب، وكان في الوقت نفسه على درجة عالية من الضبط بحيث يضعف جداً احتمال وقوعه في الخطأ والاشتباه، ويوصف مثله في كلمات الرجاليين بـ(ثقة ثقة). والدرجة الدنيا من الوثاقة ما إذا كان الراوي ممن ظاهر حاله عدم تعمد الكذب، وأما ضبطه فهو بالحدِّ الأدنى اللازم، ويوصف مثله في كلمات الرجاليين بـ(لا بأس به) ونحو ذلك. وبين الدرجتين المذكورتين درجات متعددة كما لا يخفى على من لاحظ اختلاف تعابير الرجاليين في توثيقاتهم.
ثم إنه قد لا يكون الراوي ثقة لا من جهة ممارسته للكذب والاختلاق بل من جهة كون ضبطه أقل من المقدار المتعارف، ففي مثل ذلك لا يعتمد على ما يتفرد به، ولكن إذا انضم إلى نقله نقل غيره فإنه يكون مقبولاً.
ويظهر من المحدث النوري (رحمه الله) أنه عدَّ الحسن بن الحسين اللؤلؤي من هذا القبيل، فإن ابن الوليد استثنى ما تفرد به من روايات نوادر الحكمة فعقّب عليه المحدث النوري (44) بقوله: (لعل عدم القبول بما تفرد به لعدم الضبط التام غير المنافي للعدالة وإلا لعم الاستثناء ولم يخصه من بينهم بما ذكره).
ويمكن أن يؤيد ما أفاده (طاب ثراه) بأن النجاشي الذي لم يعترض على ما ذكره ابن الوليد من استثناء ما تفرد به اللؤلؤي من نوادر الحكمة نصَّ على وثاقته عند ترجمته إيّاه (45)، ولا سبيل إلى الجمع بين الأمرين إلا بالبناء على أن الوجه في عدم قبول ما تفرد واختص بروايته هو عدم ضبطه التام لا كونه غير متحرز عن الكذب.
ولكن هذا غير مؤكد، فإنه يمكن أن يكون الفرق بين اللؤلؤي الذي استثنى ابن الوليد ما تفرد به وبين غيره ممن استثنى رواياتهم مطلقاً هو في كون الآخرين أضعف من اللؤلؤي، بحيث لا يحصل الوثوق النوعي بإخبارهم حتى لو لم ينفردوا بها، بخلافه هو لعدم ثبوت ممارسته للكذب وإن لم يثبت عدمها أيضاً، فتأمل.
وأما عدم اعتراض النجاشي على ما حكاه عن ابن الوليد في استثناء ما تفرد به اللؤلؤي فهو لا يدل على قبوله به.
نعم هذا هو ظاهر ما أورده عن أستاذه ابن نوح وأما هو فلم يذكر هنا شيئاً فلا ينافي ما ذكره في ترجمة اللؤلؤي من الحكم بوثاقته، مع أن التنافي بين كلمات رجالي واحد في التوثيق والتضعيف غير عزيز، فلا يمكن الجزم بما ذكر في وجه الجمع بين كلمات النجاشي بشأن اللؤلؤي.
ومهما يكن فإنَّ ردَّ ما ينفرد به الراوي وترك الأخذ به لما كان يرد في كلماتهم لأسباب مختلفة منها عدم الوثاقة ومنها غير ذلك كفساد المذهب وعدم الضبط التام فلا سبيل إلى الجزم بأن استثناء ابن الوليد مما تفرد به محمد بن عيسى إنما هو من جهة عدم الوثاقة بل يجوز أن يكون من جهة اتّهامه بفساد العقيدة لكونه من أتباع يونس في مدرسته الكلامية أو من جهة عدم اتصافه بالضبط التام.
وعلى ذلك يمكن القول بأن النص الثاني المحكي عن ابن الوليد المتضمن لاستثناء ما رواه محمد بن عيسى من روايات نوادر الحكمة لا يدل على القدح في وثاقته سواء أكان المستثنى هو ما رواه بإسناد منقطع ــ كما ورد في عبارة النجاشي ــ أم ما تفرد واختص بروايته ــ كما حكاه الشيخ (قدس سره) في موضع ــ أو ما اجتمع فيه الأمران ــ كما نقله الشيخ في موضع آخر.
هذا ولكن الإنصاف أن استثناء ما تفرد به الراوي ظاهر في القدح في وثاقته ولا يبنى على غير ذلك إلا بقرينة ويمكن أن يقال: إنها مفقودة في المقام، فليتدبر.
ثم إن الظاهر وقوع الخلل في كل من عبارتي النجاشي والشيخ فيما حكياه عن ابن الوليد والصدوق في استثناء ما رواه محمد بن عيسى من روايات نوادر الحكمة:
أما عبارة النجاشي فالظاهر سقوط قوله: (أو ينفرد به) عن ذيلها، إذ لولا ذلك لما اتجه تعليق ابن نوح على كلام ابن الوليد بقوله: (لا أدري ما رابه فيه لأنه كان على ظاهر العدالة والوثاقة)، فإنه لو كان المستثنى هو خصوص ما رواه محمد بن عيسى بإسناد منقطع لما اقتضى ذلك الخدشة في عدالته ووثاقته، أقصى الأمر أنه يكشف عن ممارسته نوعاً من التدليس الذي لا ينافي الوثاقة بوجه، ووقوع السقط والتحريف في النسخة الواصلة إلينا من كتاب النجاشي غير عزيز كما لا يخفى على المتتبع.
وأما عبارة الشيخ في ترجمة محمد بن أحمد بن يحيى فالظاهر أنه سقط عنها حرف العطف (أو) وأنها كانت في الأصل هكذا (بإسناد منقطع أو ينفرد به). ويشهد له عبارته الأخرى المذكورة في ترجمة محمد بن عيسى في الفهرست وفي موضع من الاستبصار فإنها تشتمل على التنصيص على أن الصدوق (طاب ثراه) قد قال: إنه لا يروي ما يختص محمد بن عيسى بروايته، ولو كانت عبارة الصدوق في استثناء روايات محمد بن عيسى من نوادر الحكمة كما وردت في النسخ المتداولة من الفهرست لاقتضى ذلك أن يكون المستثنى هو خصوص ما تفرد محمد بن عيسى بروايته مما كان منقطع الإسناد دون ما لم يكن كذلك، فليتأمل.
هذا مضافاً إلى أن كلاً من انقطاع السند والانفراد علة مستقلة لردّ الرواية فلا وجه للجمع بينهما في المقام.
فتحصل من جميع ما تقدم أن ما ذهب إليه جمهور المحققين من أن كلا النصين المحكيين عن ابن الوليد وتلميذه الصدوق بشأن محمد بن عيسى بن عبيد يدل على الطعن في وثاقته ويقتضي عدم قبول روايته هو الأحرى بالقبول، دون ما بنى عليه جمع منهم السيد الأستاذ (قدس سره) من عدم دلالتهما على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|