أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-02-19
1353
التاريخ: 15-9-2016
2249
التاريخ: 18-7-2017
1699
التاريخ: 23-9-2020
1505
|
محمد بن سنان (1):
محمد بن سنان هو أحد رواة الحديث من الطبقة السادسة، وكان من أصحاب الأئمة الأطهار الكاظم والرضا والجواد (عليهم السلام) (2)، وهو مكثر الرواية حيث وقع في أسانيد مئات الروايات في جوامع الحديث.
وقد اختلف علماؤنا في شأنه منذ زمن بعيد فوثّقه جمع وضعّفه آخرون وتوقّف في أمره جمع ثالث. وقد كتبت في ذلك بحوث مطولة ورسائل متعددة. ونحن نتعرض لحاله في ضمن مقامين:
المقام الأول: في استعراض النصوص الواردة بشأنه، وتمحيصها وتحقيق مفادها. وهي أربع روايات:
الرواية الأولى: ما أورده الكشي (3) عن محمد بن قولويه عن سعد عن أحمد بن هلال عن محمد بن إسماعيل بن بزيع أن أبا جعفر (عليه السلام) كان لعن صفوان بن يحيى ومحمد بن سنان فقال: ((إنّهما خالفا أمري)). وقال: فلما كان من قابل قال أبو جعفر لمحمد بن سهل البحراني: ((تولّ صفوان بن يحيى ومحمد بن سنان فقد رضيت عنهما)).
قال السيد الأستاذ (قدس سره) (4): إن هذه الرواية صحيحة على الأظهر. وهو مبني على وثاقة أحمد بن هلال الواقع في سندها. ولكن قد مرَّ في بحث سابق (5) أنها غير ثابتة، فالرواية غير معتبرة على المختار.
نعم يمكن أن يقال: إن أحمد بن هلال المرمي بالغلو ــ كما مرَّ في محله (6) ــ ليس متهماً فيما حكاه أولاً عن محمد بن إسماعيل بن بزيع من القدح في محمد بن سنان المتهم بالغلو أيضاً ــ كما سيأتي ــ فيمكن الوثوق بنقله في ذلك.
أجل هو متهم فيما حكاه في ذيل الرواية من رضا الإمام (عليه السلام) بعد ذلك عن محمد بن سنان، كما هو متهم فيما حكي عنه من تبرئته من الغلو ــ كما سيأتي ــ فلا مجال للاعتماد عليه في شيء منهما.
الرواية الثانية: ما أورده الكشي (7) عن محمد بن مسعود عن علي بن محمد عن أحمد بن محمد عن رجل عن علي بن الحسين بن داود القمي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يذكر صفوان بن يحيى ومحمد بن سنان بخير، وقال: ((رضي الله عنهما برضاي عنهما، فما خالفاني وما خالفا أبي (عليه السلام) قط)) بعد ما جاء فيهما ما قد سمعه غير واحد.
وهذه الرواية غير معتبرة سنداً، فإنها مرسلة بإبهام الواسطة، بالإضافة إلى أن علي بن الحسين بن داود مجهول لم يذكر بشيء، وأما علي بن محمد شيخ محمد بن مسعود العياشي ــ وهو ابن فيروزان القمي ــ فسيأتي الكلام حوله قريباً.
ويمكن القول: إنه لا يمكن التصديق بمضمون الرواية أيضاً، فإنه كيف يقول الإمام (عليه السلام): ((فما خالفاني وما خالفا أبي (عليه السلام) قط)) مع أن الراوي بنفسه يقول: (بعد ما جاء فيهما ما قد سمعه غير واحد). أي بعد ما اشتهر عن الإمام (عليه السلام) من أنه قد قدح في الرجلين بمخالفتهما لأمره كما ورد في صدر رواية محمد بن إسماعيل بن بزيع المتقدمة وفي رواية أحمد بن محمد بن عيسى الآتية.
وبعبارة أخرى: إن مضمون هذه الرواية يختلف عن مضمون رواية ابن بزيع، فإن تلك الرواية إنما تضمنت أن الإمام (عليه السلام) قد رضي عن الرجلين بعد القدح فيهما، وهذا أمر ممكن، نعم لا بد أن يكون ذلك بعد توبتهما ورجوعهما إلى الطريق المستقيم. وأما هذه الرواية فهي تتضمن نفي الإمام (عليه السلام) ما سمعه منه غير واحد من القدح في الرجلين بمخالفتهما لأمره، وكيف ينفي الإمام (عليه السلام) ما صدر منه؟!
اللهم إلا إذا لم يكن أحد الكلامين مسوقاً لبيان الواقع رعاية لبعض المصالح التي سيأتي الحديث عنها.
ثم إن الكشي قد أورد هذه الرواية بسند آخر هكذا (8): عن محمد بن قولويه عن سعد بن عبد الله عن أبي جعفر أحمد بن محمد بن عيسى عن رجل عن علي بن الحسين بن داود القمي قال: سمعت أبا جعفر الثاني (عليه السلام) يذكر صفوان بن يحيى ومحمد بن سنان بخير، وقال: ((رضي الله عنهما برضاي عنهما فما خالفاني قط)) هذا بعد ما جاء عنه فيهما ما قد سمعته من أصحابنا.
وهذا السند مخدوش أيضاً بالإرسال وبعلي بن الحسين بن داود.
ويجدر التنبيه على أن الجملة الأخيرة في هذا النقل إنما هي من قول (علي بن الحسين) المذكور بقرينة النقل الأول، فإن الراوي فيه هو الراوي والمضمون هو المضمون.
ولا وجه لما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن الجملة المذكورة إنما هي من كلام الكشي قائلاً (9): (يريد الكشي بقوله: هذا بعد ما جاء.. أن ما سمعه عن محمد بن قولويه في مدح صفوان ومحمد بن سنان كان بعد ما سمعه من أصحابنا عن أبي طالب في مدحهما) مشيراً إلى الرواية الآتية.
فإن مبنى ما أفاده (قدس سره) هو كون قول الكشي متصلاً بالجملة المذكورة (عن أبي طالب عبد الله بن الصلت..) تكملة لها، أي أن الجار والمجرور في قوله: (عن أبي طالب) متعلق بقوله: (سمعته).
ولكن هذا غير صحيح، بل إن قوله: (عن أبي طالب) كلام مستأنف لا علاقة له بما سبق، وإنما الجملة المذكورة من كلام علي بن الحسين بن داود، فليتدبّر.
الرواية الثالثة: ما أورده الكشي (10) بعد الرواية السابقة عن أبي طالب عبد الله بن الصلت القمي قال: دخلت على أبي جعفر الثاني (عليه السلام) في آخر عمره فسمعته يقول: ((جزى الله صفوان بن يحيى ومحمد بن سنان وزكريا بن آدم عني خيراً، فقد وفوا لي))، ولم يذكر سعد بن سعد، قال: فخرجت فلقيت موفقاً ــ خادم الإمام الرضا (عليه السلام) ــ فقلت له: إن مولاي ذكر صفوان ومحمد بن سنان وزكريا بن آدم وجزاهم خيراً، ولم يذكر سعد بن سعد. قال: فعدت إليه، فقال: ((جزى الله صفوان بن يحيى ومحمد بن سنان وزكريا بن آدم وسعد بن سعد عني خيراً، فقد وفوا لي)).
قال السيد الأستاذ (قدس سره) في موضع من المعجم (11): إن هذه الرواية صحيحة السند، ويبدو مما ذكره في الموضع الآخر ــ الذي تقدم نقله آنفاً ــ أنه بنى صحتها على كون الكشي راوياً لهذه الرواية عن جمع من (أصحابنا) عن أبي طالب، فإنه بناءً عليه تكون الرواية معتبرة بالرغم من كونها مرسلة، فإن الكشي وإن لم يسم الأصحاب الذين سمعهم يروون هذه الرواية عن أبي طالب إلا أن من المطمأن به وثاقة بعضهم على الأقل، لأنه من البعيد أن يكون كلهم غير موثقين كما ذكر (قدس سره) (12) مثل ذلك من بعض نظائر المقام.
ولكن يلاحظ على هذا البيان:
أولاً: أنه بعد وضوح أنه لا يراد بـ(أصحابنا) إلا البعض منهم الصادق على ثلاثة أشخاص فإنه لا سبيل إلى الاطمئنان بكون أحدهم في الأقل ثقة إلا بحساب الاحتمالات ولكنه لا يتم في المقام، لأن العدد الأكبر من مشايخ الكشي ــ وهم يناهزون خمسين رجلاً ــ من غير الموثقين فلا يمكن استحصال الاطمئنان بكون بعض المنظورين في العبارة المذكورة من الثقات.
وثانياً: أنه قد مرّ آنفاً أن جملة (ما قد سمعته من أصحابنا) إنما هي من كلام علي بن الحسين بن داود القمي وليست من كلام الكشي، وإن قوله: (عن أبي طالب..) جملة مستأنفة لا علاقة لها بما قبلها، فلا سبيل إلى تصحيح سند الرواية من جهة أن الكشي رواها عن جمع من أصحابنا عن أبي طالب.
وثالثاً: أنه لو غض النظر عمّا تقدّم فإنّه لا ينفع ما أفيد في تصحيح سند الرواية المذكورة، لأن الكشي من الطبقة العاشرة وأبو طالب القمي من أحداث الطبقة السادسة ــ أو كبار الطبقة السابعة ــ فلا يتيسر للكشي الرواية عنه بواسطة واحدة بل يحتاج إلى واسطتين.
ومن الواضح أنه لو أمكن الاطمئنان بوثاقة بعض أصحابنا ممن روى عنهم الكشي ــ حسب الفرض ــ فإنه لا سبيل إلى الاطمئنان بوثاقة من روى هؤلاء الأصحاب عنه ممن كان واسطة بينهم وبين أبي طالب القمي.
هذا والأقرب كون سند الرواية المبحوث عنها معلقاً على سند الرواية السابقة عليها فتكون معتبرة.
وتوضيحه: أن الكشي أورد أولاً رواية عن محمد بن قولويه قال: حدثني سعد بن عبد الله قال: حدثني أبو جعفر أحمد بن محمد بن عيسى.. ثم أورد الرواية المذكورة قائلاً: (عن أبي طالب عبد الله بن الصلت القمي قال: ..)، ومن المؤكد أن أحمد بن محمد بن عيسى ممن يروي عن عبد الله بن الصلت كما ورد ذلك في عدة مواضع، وقد نص عليه الصدوق (قدس سره) في بعض كلماته (13) قائلاً: (كان أحمد بن محمد بن عيسى في فضله وجلالته يروي عن أبي طالب عبد الله بن الصلت رضي الله عنه).
وعلى ذلك فمن القريب جداً أن يكون قول الكشي: (عن أبي طالب..) معلقاً على قوله: (قال: حدثني أبو جعفر..) في سند الرواية السابقة، ولكن كان ينبغي له عندئذٍ أن يقول: (وعنه عن أبي طالب..) كما هو المتعارف في تعليق الأسانيد (14)، ولعله كان كذلك في النسخة الأصل ولكن سقط عن قلم النساخ، فإن في النسخة الواصلة إلينا من اختيار الشيخ (قدس سره) من رجال الكشي الكثير من السقط والتحريف كما لا يخفى على المتتبع، فليتأمل.
هذا وقد سلك المحدث النوري (قدس سره) طريقاً آخر في تصحيح سند الرواية المبحوث عنها، فإنه نصّ على ضعف طريق الكشي ــ وإن لم يبين وجهه ــ ولكنه أشار إلى أن الرواية مروية أيضاً في كتاب الغيبة للشيخ (15) وفلاح السائل للسيد ابن طاووس (16) وقال (17): الظاهر أنهما أخذاها من كتاب أبي طالب القمي وطريقه ــ أي طريق الشيخ ــ إليه صحيح في الفهرست.
ويلاحظ عليه:
أولاً: بأنه لا دليل على أن الشيخ أخذ رواية أبي الصلت من كتابه، بل لا يبعد أنه أخذها من كتاب الكشي الذي اختصره وسماه اختيار معرفة الرجال، ولو كان كتاب أبي الصلت موجوداً عنده لنقل عنه في بعض المواضع الأخرى من مؤلفاته مع أنها خالية عن ذلك.
وأما ما أورده السيد ابن طاووس فهو ليس مما نقله عن أبي طالب القمي مباشرة ــ ليتوهم كونه مأخوذاً من كتابه ــ بل إنما نقله عن الشيخ المفيد فيما ذكره بشأن محمد بن سنان في رسالته في كمال شهر رمضان وسيأتي توضيح هذا إن شاء الله تعالى.
وثانياً: أنه لو سلّم أن الشيخ وابن طاووس (قُدِّس سرُّهما) رويا الخبر المذكور عن كتاب أبي طالب مباشرة، إلا أن في طريق الشيخ إلى كتابه (18) كلاً من أبي المفضل الشيباني وابن بطة وهما غير موثقين. وطريق السيد ابن طاووس إليه إما هو طريق الشيخ (قدس سره) وإما أنه مجهول، فتكون الرواية ضعيفة السند على كل تقدير.
والحاصل: أن ما ذكره المحدث النوري (رحمه الله) لا يفي بتصحيح سند الرواية المبحوث عنها والتحقيق ما تقدم منا من تصحيحها.
وبه يظهر الحال فيما ذكره جمع من أعلام الرجاليين ــ كالمحقق الشيخ حسن نجل الشهيد الثاني (19) والسيد بحر العلوم (20) ــ بشأن هذه الرواية وطريقة تصحيحها أو مدى تعلقها بالكلام المذكور قبلها، ولا حاجة إلى التعرض له بعد ما مرَّ.
الرواية الرابعة: ما رواه الكشي (21) عن محمد بن مسعود عن علي بن محمد القمي قال: حدثني أحمد بن محمد بن عيسى القمي قال: بعث إليَّ أبو جعفر (عليه السلام) غلامه ومعه كتابه، فأمرني أن أصير إليه، فأتيته وهو بالمدينة نازل في دار بزيع، فدخلت عليه وسلمت عليه، فذكر في صفوان ومحمد بن سنان وغيرهما مما قد سمعه غير واحد. فقلت في نفسي: استعطفه على زكريا بن آدم لعله أن يسلم مما قال في هؤلاء، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: من أنا أن أتعرض في هذا وفي شبهه، مولاي هو أعلم بما يصنع.. إلى آخر الرواية.
وهذه الرواية واضحة الدلالة على صدور قدح من الإمام (عليه السلام) في صفوان ومحمد بن سنان وغيرهما. ولا يبعد اعتبار سندها، فإن علي بن محمد القمي هو علي بن محمد بن فيروزان القمي الذي قال الشيخ (22) إنه كثير الرواية، وقال السيد الأستاذ (قدس سره) (23) إنه (يظهر من سؤال حمدويه إياه عن مالك بن أعين الجهني أن قوله كان معتمداً عليه عنده، وأنه كان عالماً بأحوال الرجال)، فليتدبر.
هذه أهم الروايات المروية عن المعصوم (عليه السلام) بشأن محمد بن سنان، وهناك بعض الروايات الأخرى التي تدل على مدحه، ولكن الراوي لها نفسه (24)، فلا عبرة بها على كل حال، ومن ثم لا حاجة إلى التعرض لها في المقام.
ثم إن في التعامل مع الروايات المتقدمة ثلاثة مواقف:
الموقف الأول: أن المعتبر منها يدل على القدح في محمد بن سنان وكونه ممن خالف أمر الإمام (عليه السلام) مما يقتضي عدم الاعتماد عليه.
الموقف الثاني: أن في المعتبر منها ما يدل على جلالة قدر محمد بن سنان وعظم محله، وهو مقدّم على ما يدل على القدح فيه.
الموقف الثالث: أنه لا يمكن الاستناد إلى شيء من الروايات المذكورة في البناء على جلالة محمد بن سنان أو القدح فيه.
أما الموقف الأول فهو مبني على عدم اعتبار رواية أبي طالب، بدعوى عدم تمامية ما تقدم بيانه من كون سندها معلقاً على سند الرواية السابقة عليها، فإنه بناءً على ذلك لا توجد رواية معتبرة تدل على مدح محمد بن سنان، إذ إن رواية علي بن الحسين بن داود ضعيفة بكلا طريقيها ولا وثوق بذيل رواية أحمد بن هلال عن محمد بن إسماعيل بن بزيع كما مرّ. فلا يبقى سوى صدر رواية ابن بزيع وما يستفاد من معتبرة أحمد بن محمد بن عيسى وكلاهما يقتضي القدح في محمد بن سنان.
وقد يجاب عن هذا البيان بأمرين:
أولاً: بأن القدح في محمد بن سنان في الروايتين مقترن بالقدح في صفوان بن يحيى الذي لا إشكال في جلالة قدره وعظم منزلته وكونه من أكابر الأصحاب، فهذا الاقتران إن دلَّ على شيء فإنما يدل على عدم كون القدح الصادر من الإمام مسوقاً لبيان الواقع، بل إنما صدر لبعض المصالح، كما كان يصدر منهم (عليهم السلام) أحياناً القدح في بعض أعاظم الأصحاب كزرارة ومحمد بن مسلم ويونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان وغيرهم لمصالح مماثلة.
ويشهد لذلك ما ورد في رواية علي بن الحسين بن داود القمي من قول الإمام (عليه السلام): ((إنهما لم يخالفاني ولم يخالفا أبي قط))، فإن هذا التعبير كاشف عن أن القدح الصادر منه (عليه السلام) بحقهما سابقاً لم يكن لبيان الواقع.
وثانياً: بأنه لو سلِّم أن القدح الصادر من الإمام (عليه السلام) كان لبيان الواقع، إلا أنه يمكن أن يقال: إن اقتران القدح في محمد بن سنان بالقدح في صفوان بن يحيى الذي لا ريب في عظم محله وجلالة قدره شاهد على كونه قدحاً خفيفاً من حيث صدور بعض المخالفات الطفيفة منهما. ومثل تلك المخالفات قد صدرت حتى من زرارة والفضل بن شاذان وزكريا بن آدم وأضرابهم من الأجلاء كما هو مذكور في تراجمهم، وهي لم تضر بجلالة قدرهم. فلا سبيل إلى التمسك بالروايتين المذكورتين للقدح في محمد بن سنان بما يقتضي ضعفه في مذهبه أو في حديثه.
والجواب عن الأمر الأول أنه ــ مضافاً إلى أن الذي يظهر من عامة الأصحاب هو أنهم فهموا من الروايات القادحة أنها كانت مسوقة لبيان الواقع، ولذلك حدث أحمد بن محمد بن عيسى نفسه بأن يستعطف الإمام (عليه السلام) على زكريا بن آدم لعله يسلم مما قاله في محمد بن سنان وآخرين ــ يمكن أن يقال: إن مجرد كون القدح في شخص مقروناً بالقدح في آخر علم من الخارج أنه ليس مسوقاً لبيان الواقع لا يشكل قرينة على كون القدح الأول كذلك. وقد ورد في عدد من الأخبار القدح في زرارة وأبي حنيفة معاً كما في المروي (25) عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال: ((أعاذنا الله وإياك يا أبا بصير من ذلك الظلم، ذلك ما ذهب فيه زرارة وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه)).
وأما خبر علي بن الحسين بن داود القمي فهو ــ مضافاً إلى ضعف سنده كما مرّ ــ مما لا يصلح شاهداً على كون القدح الأول صادراً لا لبيان الواقع، إذ يجوز أن يكون الأمر معكوساً، أي أن ما ورد فيه من نفي صدور المخالفة من صفوان ومحمد بن سنان صادراً لا لبيان الواقع بل لبعض المصالح، وهذا ظاهر.
والجواب عن الأمر الثاني أن المذكور في صدر رواية ابن بزيع أن الإمام (عليه السلام) أخبره بلعن محمد بن سنان وصفوان بن يحيى، ومن المعلوم عدم جواز لعن المؤمن لبعض المخالفات الطفيفة. وقد أفتى الفقهاء ــ تبعاً للنصوص ــ بعدم جواز لعن المؤمن حتى ولو كان فاسقاً إلا إذا كان مبتدعاً في الدين ونحو ذلك.
وأما رواية أحمد بن محمد بن عيسى، وكذا رواية علي بن الحسين بن داود القمي فقد أشارتا إلى صدور القدح من الإمام (عليه السلام) ولم تبينا نوع القدح ومداه. فليس بأيدينا ما يعرّفنا على حدود القدح الصادر منه (عليه السلام) إلا رواية محمد بن إسماعيل بن بزيع المتضمنة للعن الذي لا يجوز إلا مع المخالفة العظيمة.
وبذلك يظهر أنه لا يمكن أن يجعل اقتران القدح في محمد بن سنان بالقدح في صفوان دليلاً على كونه قدحاً خفيفاً لمخالفة طفيفة، بل لا محيص من أن يبنى على أن القدح في صفوان لم يكن لبيان الواقع بل رعاية لبعض المصالح، وأما القدح في محمد بن سنان فحيث لا قرينة على كونه كذلك فليؤخذ بما هو ظاهره من كونه مسوقاً لبيان الواقع.
هذا فيما يتعلق بالموقف الأول.
وأما الموقف الثاني فهو مبني على اعتبار رواية أبي طالب القمي ــ كما لم
نستبعده ــ إذ إنه لو بني على ذلك فبالإمكان أن يقال: إن هذه الرواية خير دليل على جلالة قدر محمد بن سنان، فإن ظاهرها كونه في مصاف العظماء أمثال زكريا بن آدم وصفوان بن يحيى وسعد بن سعد الأشعري. وهي تحكي قول الإمام (عليه السلام) في آخر عمره الشريف كما ورد التنصيص على ذلك فيها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الظاهر أن محمد بن سنان لم يبقَ بعده (عليه السلام) إلا لبضعة أيام فقد أرّخ هو استشهاده (عليه السلام) في السادس من ذي الحجة سنة مائتين وعشرين للهجرة، كما حكاه عنه الكليني (26) بإسناد معتبر. وقد نص النجاشي (27) على وقوع وفاة محمد بن سنان نفسه في هذه السنة أيضاً، فيبدو أنه مات بعد استشهاد الإمام (عليه السلام) فيما تبقى من شهر ذي الحجة من تلك السنة.
نعم ورد في بعض الروايات (28) أن محمد بن سنان دخل على أبي الحسن ــ أي الهادي (عليه السلام) ــ فقال له: ((يا محمد حدّث بآل فرج حدّث))، فقلت: مات عمر. فقال: ((الحمد لله..)).
والذي يظهر من التواريخ أن عمر بن فرج ــ الذي كان من كتّاب المتوكل وعمّاله ــ مات بعد سنة مائتين وخمس وثلاثين، فقد ذكر الطبري (29) أنّه أتى المتوكل بيحيى بن عمر بن يحيى بن زيد بن علي بن أبي طالب فضربه عمر بن فرج ثمان عشرة مقرعة، وحبس ببغداد في حبس المطبق. وهذا يقتضي أنّ عمر بن فرج كان حياً بعد خمس عشرة سنة من استشهاد الإمام الجواد (عليه السلام).
فإذا صحّت الرواية المذكورة اقتضى ذلك بقاء محمد بن سنان لسنوات طوال بعد استشهاده (عليه السلام). ولكنها ــ مضافاً إلى ضعف سندها ــ مخالفة لجملة من الشواهد، إذ لو كان محمد بن سنان قد بقي إلى ذلك التاريخ لكان من المعمرين، ومن دأبهم الإشارة إلى من كان معمراً في ترجمته. وأيضاً لذكر في عداد أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام) ولروى عنه رجال الطبقة الثامنة، إذ يكون قد أدرك طبقتين: السادسة والسابعة مما يقتضي ذلك أن يروي عنه رجال الطبقة الثامنة، مع أنه لا توجد في الأسانيد رواية عنه لأيّ منهم، فهذا كله مما يشهد بأن محمد بن سنان لم يبق إلى ذلك التاريخ.
والمظنون قوياً وقوع التصحيف في سند الرواية المذكورة، وإن محمد بن سنان فيه مصحف محمد بن حسان، فإنه الذي عدّ من أصحاب الأمام أبي الحسن الهادي (عليه السلام) (30).
ومهما يكن فإنه لا معدل عما ذكره النجاشي من أن محمد بن سنان توفي في سنة مائتين وعشرين للهجرة، وعليه فما ورد في رواية أبي طالب القمي من مدح الإمام (عليه السلام) إياه إنما كان في أواخر حياته، وليس بعد مدح الإمام (عليه السلام) في آخر أمره كلام لأحد أياً كان، فلا وجه لما يُرى من الجدل بشأن الرجل وذهاب البعض إلى الطعن فيه.
وبعبارة أخرى: إنه وإن كان يظهر من رواية أحمد بن محمد بن عيسى ورواية محمد بن إسماعيل بن بزيع أن الإمام الجواد (عليه السلام) قد قدح في محمد بن سنان في بعض الأزمنة، ولكن رواية أبي طالب القمي تدل على أن الإمام (عليه السلام) رضي عنه في أواخر عمره الشريف وكان ذلك في أواخر عمر محمد بن سنان أيضاً فلا ينبغي التوقف في صلاح الرجل وحسن حاله.
ولكن هذا البيان لا يمكن المساعدة عليه، فإن الذي يظهر من الروايات الواردة في ترجمة محمد بن سنان والشواهد الأخرى أن الرجل كان من الشخصيات المثيرة للجدل في عصره، ولعله بسبب اتخاذه مواقف في مسائل عبر عنها هو بالمعضلات فيما حكي عنه، إذ كان يقول (31): (من أراد المعضلات فإليَّ، ومن أراد الحلال والحرام فإلى الشيخ ــ يقصد صفوان بن يحيى ــ).
وبسبب آرائه ومواقفه فيها كان هناك من يقدح فيه، وفي المقابل كان هناك
أناس يتبعونه ويدافعون عنه، وقد ورد في بعض الروايات (32) أن الإمام (عليه السلام) قال له: ((أبى الله إلا أن يضل بك كثيراً ويهدي بك كثيراً)).
والملاحظ في أحوال مثله من الشخصيات المثيرة للجدل هو ورود الروايات المختلفة عن الأئمة (عليهم السلام) بشأنهم، مدحاً تارة وقدحاً أخرى، فنجد ذلك في حق الصلحاء وغيرهم على حدّ سواء، فقد وردت روايات متضاربة بشأن زرارة ومحمد بن مسلم وجابر بن يزيد الجعفي وبريد بن معاوية وهشام بن الحكم ويونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان وغيرهم من الأجلاء والعظماء. كما وردت روايات كذلك متضاربة بشأن المفضل بن عمر الجعفي ويونس بن ظبيان والمعلى بن خنيس وداود بن كثير الرقي وغيرهم ممن ضعفوا وقدح فيهم.
والذي يبدو لي أنه لا يمكن استكشاف حال أمثال هؤلاء من الشخصيات الجدلية من الروايات الواردة في حقهم عن الأئمة (عليهم السلام)، لأنهم (عليهم السلام) كانوا محكومين بالظروف القاهرة التي تحتم عليهم التكلم عن هؤلاء بأنواع مختلفة، كما يظهر ذلك بمراجعة النصوص الواردة فيهم، فتمييز ما كان بداعي بيان الواقع عما كان يصدر لمصالح أخرى إنما يتم بمعرفة حال الشخص من خلال أقوال الرجاليين الذين تعرفوا على حقيقة أحوال هؤلاء اعتماداً على أساتذتهم كابراً عن كابر، ولم يكونوا مقيدين في الإفصاح عن حقيقة أحوالهم بما كان الأئمة (عليهم السلام) يتقيدون به في أعصارهم.
وبعبارة أخرى: إنه لا يتيسر التعرف على جلالة زرارة ومحمد بن مسلم ويونس بن عبد الرحمن وأضرابهم من خلال الروايات الواردة بمدحهم، بل من خلال ما حكاه المعاصرون لهم عن أحوالهم، وانعكس ذلك في كلمات الرجاليين، فإنه يعرف بذلك أن ما ورد في مدحهم عن الأئمة (عليهم السلام) كان مسوقاً لبيان الواقع دون ما ورد في ذمهم. بل لو لم يرد فيهم إلا ما يشتمل على الذم لكان الحال كذلك، فيحكم بأن الروايات الذامة لم تكن مسوقة لبيان الواقع.
وهذا بخلاف الحال بالنسبة إلى الرواة العاديين غير المثيرين للجدل فإنه يكتفى بما يرد في مدحهم من الروايات المعتبرة عن الأئمة (عليهم السلام).
وبالجملة: إن رواية أبي طالب القمي وإن تمت سنداً إلا إنه لا يمكن اعتمادها دليلاً على جلالة محمد بن سنان.
وبذلك يظهر تمامية الموقف الثالث المتقدم.
هذا مع أنه لو غض النظر عما ذكر وفرض أيضاً انحصار ما ورد بشأن محمد بن سنان في الروايات المادحة فإنه من الصعب جداً الاعتماد عليها بعد تصريح جمع من أئمة الرجال بضعف الرجل كما سيأتي، فإن الرواية المذكورة وما ماثلها كانت بمرأى ومسمع من هؤلاء الأعلام، ويستبعد جداً عدم اطلاعهم عليها، بل من المؤكد أن المفيد والشيخ والنجاشي وابن الغضائري قد اطلعوا عليها ــ كما سيأتي ــ وعلى ذلك فلا بد أنهم اطلعوا على مصادر موثوقة أخرى عن سيرة محمد بن سنان تحكي خلاف ما تقتضيه هذه الرواية فحملوا صدورها عن الإمام (عليه السلام) على أنه كان اقتضاءً لبعض المصالح اللازمة المراعاة لا لبيان الواقع.
والحاصل: أنّه لا يمكن الاعتماد على الرواية المذكورة دليلاً على جلالة محمد بن سنان بالرغم من اعتبارها سنداً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
قسم الشؤون الفكرية يصدر العدد الثاني والعشرين من سلسلة كتاب العميد
|
|
|