أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-11-28
1467
التاريخ: 22/11/2022
1419
التاريخ: 2023-08-13
1137
التاريخ: 23-10-2014
10617
|
المعرفة من (داخل إطار الدين) و (خارج إطار الدين)
هل ان تفسير النصوص الدينية دون معرفة من خارج إطار الدين ممكنة أم لا؟ وهل ان النص الديني محتاج حتما إلى المعرفة من خارج إطار الدين ، لكن المعرفة الخارجة يجب أن تكون منقحة واستدلالية أم لا؟ هذا الموضوع يحتاج إلى بحث مفصل ولا يؤدي حقه إلا بكتاب مستقل ، لكننا نكتفي بطرحه هنا على نحو الإجمال:
إن بعض الباحثين في المعرفة الدينية قد مزقوا الحقيقة الجامعة والكاملة للدين وقطعوها "اربا اربا" ، وجعلوها "عضين" ، فتارةً: فصلوا السياسة عنه وحكموا بـ(فصل الدين عن السياسة) أو جعلوا (الإدارة العلمية في مقابل الإدارة الفقهية) حيث إن مقصودهم من الإدارة الفقهية هو الإدارة الدينية. وتارة أخرى : أبعدوا العلم عنه وحكموا بفصل الدين عن العلم. وتارة: أهملوا دوره في بناء شخصية الإنسان وجعلوا عوامل أخرى كالثقافة الإيرانية والثقافة الغربية أو الشرقية أو الأقاليم الأخرى شريكة معه في بناء شخصية الإنسان ، وأسسوا شركة مساهمة مسجلة لصنع شخصية الإنسان ، وجعلوا حقيقة الدين الإلهي . مساوية للثقافات الناشئة من النزعات والأهواء القومية والمحلية والإقليمية وأمثالها ، وبالنتيجة صوتوا لصالح تساوي الدين (الثقافة الإلهية) مع غير الدين (مثل الثقافة الإيرانية والغربية) في تأسيس وبناء الشخصية والهوية الإنسانية.
وتارة أيضا وبالاعتماد على تلك البضاعة الفكرية المغتصبة والأساس المتزلزل والأرض الهشة حكموا بفصل العقل عن الدين وابتعاد الدين عن العقل ، فراحوا يقولون: بأن هذا الموضوع عقلي وليس دينية ، أو هذا عقلي وغير شرعي ، في حين أن العقل واقع في مقابل النقل وليس في مقابل الدين ، لأن الموضوع الديني تارة يستنبط من العقل وحده ، وتارة من النقل فقط ، وأحيانا يستنبط من مجموع العقل والنقل ، والعقل دائما يكون في مقابل السمع والنقل لا في مقابل الدين.
والذي يطرح في علم أصول الفقه هو حجية الحكم والعلم القطعي العقلي. وما يطرح في علم الفقه هو وجوب إطاعة حكم العقل. وما طرح بين أفراد المجتمع الملتزم بالدين والمتشرعة هو مدح اتباع العقل وذم التمرد عليه ، وما يطرح في علم الكلام هو الوعد والوعيد والثواب والعقوبة ، وذلك جزاء لامتثال حكم العقل أو عصيان أمره. فالعقل من مصادر الدين وهو إلى جانب النص النقلي يعد مصدر من مصادر و استنباط الفتاوي الدينية. طبعا إن العقل الذي يكون مصدرة للدين – هو كالنقل - يجب أن يكون أصيلا وغير مزيف ، أي أنه - كما سبق بيانه لا يجب أن يكون طبقا للأصول والقواعد التي يثبت بها أصل وجود مبدأ العالم والتوحيد وسائر الأمور الفلسفية والكلامية المتقنة وضرورة الوحي والنبوة وقطعية المعاد ، فإذا بلغت مسألة ما درجة النصاب هذه من اليقين والقطع والعلم فهي من مصادر الدين ، ويمكن أن تكون دليلا لبيا متصلا مي أو منفص ، بحيث يؤدي إلى تقييد الإطلاق أو تخصيص العموم أو تكون قرينة أو شاهدا على المجاز في الآية أو الرواية.
طبعا ليس هناك إنسان فارغ الذهن من الأصول والقواعد الموضوعة والمقدمات المفروضة مسبقة يمكنه إدراك الطبيعة أو الشريعة ، وأول قضية تنقدح في ذهن الإنسان هي أصل عدم التناقض ، وبعد هذا الأصل البديهي الأولي تدرك سائر الأصول البديهية ، ومن ثم تدرك الأصول والقضايا المبينة والتي تنتهي في ظل تلك الأصول البديهية إلى الأصل الأولي وتتضح به. وكل موضوع يدرك بمثل هذه الثروة العلمية الوافرة والطريقة العلمية النقية الخالصة ، فإن الأحكام الثلاثة السابقة في الأصول والفقه والكلام مترتبة عليه. ومن الواضح كما أن في الاستنباط من النص النقلي يقع أحيانا الانحراف والتعسف والاختطاف والانتقاء والخلط ، كذلك في الاستفادة من النص العقلي يوجد أحيانا مثل هذا الانحراف ، والبحث في أنحاء هذا الانحراف خارج عن محل البحث الحالي .
ومن هنا يعلم أن التقسيم إلى ما هو "داخل إطار الدين" و"خارج إطار الدين" و"الدين بما يشمل الأقل" و"الدين بما يشمل الأكثر" وباقي المواضيع المذكورة كلها ناشئة من الممثلة بحقيقة الدين وتقطيع أجزاء الدين من الدين ، وبالتالي جعل أجزاء الجسم الواحد في مقابل بعضها ، وصوت مثل هذا التمثال اليدوي وخوار مثل هذا العجل السامري الصنع يعلن عدم انسجام العقل والدين وفصل العلم عن الدين وعزل الدين عن السياسة وعدم الارتباط بين الدين وشخصية الإنسان والفصل بين الإدارة العلمية والإدارة الفقهية و... . ونتيجة الضرب على هذا الوتر هو أن يجعلوا العقل المقابل للنقل في تعارض مع الدين.
وعلى الرغم من أن بعض كلمات القدماء تضمنت عبارات عن تقابل بين العقل والشرع ، لكن مقصودهم كان "العقل والسمع" أو "العقل والنقل" ، وذلك لأنهم لم يجعلوا العقل أبدا في مقابل الدين في مجالات العلوم الثلاثة المذكورة (أصول الفقه والفقه والكلام) ، بل إنهم كانوا يرون دائما أن إرشاد العقل هو بمستوى هداية النقل جزء من الأحكام والمسائل والقضايا الدينية ، وكما أن بعض الأمور طبقا للأدلة النقلية أما واجب أو حرام ، وبعضها مقدمة للواجب أو مقدمة للحرام ، كذلك بعض الأمور طبقا للأدلة العقلية إما واجب أو حرام ، اما مقدمة للواجب أو مقدمة للحرام ، وإذا وجب الشيء عقلا بعنوان أنه مقدمة فلا ينبغي فصله عن الواجب الشرعي ، لأن الواجب الشرعي (أي ما يثبت بواسطة مصادر الشرع) أعم من الغيري والنفسي ، وكل شيء يجب أو يحرم بعنوان أنه مقدمة للواجب أو للحرام ، فليس له حكم مستقل عن ذي المقدمة ، لا أنه ليس له حكم أيضا ، تبعا لذي المقدمة. فالحكم التبعي للمقدمة ثابت دائما ، سواء كانت المقدمة للواجب أو الحرام وسواء قد ثبت الحكم عن طريق العقل أو النقل.
وحيث إن المعرفة الدينية يجب أن تتم بدون ممثلة وتجزئة وانفصام و تشريح وتقطيع ، وإن الدين المقطع والممزق والمفكك ليس دينة تامة بل هو جزء من الدين ، فإنه يعلم من ذلك مدى صحة وخطأ التقسيم إلى ما هو "داخل إطار الدين" و"خارج إطار الدين" ، وتوضيح ذلك كالآتي:
أولا: إن ما يستفاد من نصوص القرآن المقدسة ومن السنة المعتبرة للمعصومين(عليهم السلام)(1) ، وكذا حصيلة العقل البرهاني الذي يقدم الموازين القطعية الإلهية ، كل هذه تشكيل الأساس لأحكام الدين.
ثانيا: أصل الدين هو تلك الإرادة الإلهية التي تكتشف تارة بواسطة العقل ، وتارة أخرى تتضح بواسطة النقل ، وأحيانا تعلم بفضل كلا السببين على نحو الاستقلال أو الانضمام.
ثالثا: النقل (النص المنقول) موجود ممكن ، وهو مخلوق وكاشف عن إرادة الله ، والعقل النص المبرهن المعقول أيضا موجود ممكن ، وهو مخلوق وشاهد على الإرادة الإلهية. والعقل كما وصف في لسان النقل المعتبر بأنه رسول من الباطن ، كما أن النقل القطعي هو رسول من الظاهر ، على نحو يمكن فيه اعتبار العقل القطعي (شرعة داخلية ويمكن اعتبار الشرع أيضا (عقة خارجية) ، ولكن الاثنين واقعان في دائرة الدين ، وإن كان أحدهما خارج الذهن الصائب المدرك للبشر العاديين ، والآخر داخلا فيه. ولذلك فلا عجب في كون العقل القطعي واحدة من مصادر مباني أحكام الدين.
رابعا: إن معرفة الإنسان بالنسبة إلى مباني وأحكام الدين على قسمين: أحدهما: صائب وصادق و حق وصحيح ، والآخر: خطأ وكاذب . و باطل وغير صحيح. فذلك القسم الصادق الصحيح يتم حتما بفضل الهداية الإلهية ، لا بغيرها ، ومثل هذه المعرفة الصادقة والصائبة هي معرفة دينية قطعة ، ومثل هذا الصوت الجذاب الممتع المطابق لإرادة الله والذي - ينطلق من الهداية الإلهية ومن مصباح عقل عبدالله هو بالتأكيد من قبل الله سبحانه وإن كان صادرة (من حنجرة عبدالله) وحيث إن مثل هؤلاء الأفراد العاديين جاهلون بما يحيط بهم من الأشياء ، ومخطئون ، وبالنسبة إلى بعض الأعمال يحتمل أن يكونوا مفسدين وعاصين ، فهم بعيدون عن فضاء وأجواء الوحي الإلهي والمقام السامي للرسالة والإمامة ، ولكن إذا سطع المعنى القطعي البرهاني في أذهانهم ، فمثل هذا العقل يكون حتما من مصادر الدين ، ولا يمكن أبدأ اعتبار مثل هذه المعرفة "معرفة بشرية" في مقابل "المعرفة الدينية" ، بل يجب أن تعد هذه المعرفة الصائبة "معرفة عقلية دينية" في مقابل "المعرفة النقلية الدينية" ، لأنه كما قد ذكر كرات ومرات أن العقل هو في مقابل النقل لا في مقابل الدين.
وما يكون في مقابل الدين هو الهوى والميول النفسانية والانشداد إلى العقائد الإلحادية وأمثالها ، حيث جعل كبار وصناديد تلك المذاهب من أفكارهم آلهة لهم ، وتحركهم الأهواء فيطوفون حول حرم شهواتهم ورغباتهم ، وطبقا للآية الكريمة: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83] فهم فرحون بعلمهم الإلحادي مقتنعون به ، ويستهزئون بآيات الوحي الإلهي. وهم غافلون عن أنهم قد حاقت بهم أعمالهم القبيحة ، وأنهم محاطون بجدار سيئاتهم.
خامسا: إن معرفة الطبيعة ومعرفة الشريعة من هذه الناحية متساويتان ، بمعنى أن المعرفة الصحيحة للنظام العيني للعالم علم ديني ، لأن مبدأها الفاعلي هو الله سبحانه الذي تنشأ منه جميع النعم العلمية والعينية: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] ، { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العلق: 5] وكذلك غايتها وهي الاستثمار الصحيح في مجال العقائد والأخلاق والأعمال ونيل رضا الله ولقائه ، وكذا حجيتها في علم أصول الفقه ، ووجوب الطاعة لها في علم الفقه ، والوعد والوعيد والثواب والعقاب المترتب عليها في علم الكلام ، كل ذلك علامة و دليل على كون مثل هذه المعرفة دينية.
سادسا: إن الحصول على الطبيعة الصافية النقية ونيل الشريعة الخالصة أمر ممكن بل إن بعضا منها واقع قطعة ، وذلك لأن الآراء المتضاربة حول معرفة الطبيعة والبحث عن الشريعة تكون أحيانا متناقضة ، أي يكون هناك رأيان حول الطبيعة أو الشريعة ، أحدهما نقيض الآخر ، وبما أن الجمع بين النقيضين كارتفاعهما أمر محال ، إذن أحدهما له حق وصائب قطعة ، كما أن الآخر باطل وخطأ يقينا. ومن الطبيعي أن تمييز الخالص عن غير الخالص والحق عن الباطل بحث في إطار علم و الطبيعة أو علم الشريعة لا في نطاق علم المعرفة ، الذي يشار إليه الآن.
وتارة يمكن أن تطرح آراء عديدة وكلها صحيحة ، أو كلها خاطئة مع الإختلاف في درجات الصحة أو دركات الخطأ ، وهذا يتحقق في حالة كون الآراء المطروحة واقعة في طول بعضها ، لا في مقابل بعضها لتصبح متناقضة ، ولما لم تكن متناقضة ، فإن الجمع بينها في مجال الصدق والصواب وكذلك رفعها جميعا في مجال الخطأ والكذب أم ممكن - ومحتمل.
سابعا: إن حصول التغيير في فهم الطبيعة أو الشريعة ليس أمرا ضرورية ، لأنه يمكن أن تكون بعض المباني العقلية والعلمية لفهمها ثابتة دائمة ومحفوظة من العيوب والآفات ، بينما البعض الآخر منها معرضة للتغيير والتبدل. والتغيير أيضا يستند تارة إلى تبدل الرأي الاجتهادي ، وأحيانا يحدث بسبب غلبة شيطان الهوى على ملك الهدى في إطار روح المحرف المنحرف والمحترف المتعسف ، الذي يقوده انحرافه النابع من الهوى إلى التحريف المتعمد لبعض ظواهر النصوص الدينية ، وتدفعه مهنة بيع الدين وشراء الدنيا إلى اتباع الشهوات وسلوك الطريق المعوج في تفسير النصوص النقلية ، كما يصف ذلك القرآن الكريم حيث يقول: {... مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] ، {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13] ، {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة: 75]. إذا فثبات بعض الآراء والأفهام في الطبيعة وفي الدين ، وكذلك تغير بعض الآراء بسبب التطور العلمي والعصري ، وكذلك تغير بعض الأفهام بواسطة تسويل النفس كل هذه الأقسام الثلاثة ممكنة ومحتملة.
ثامنا: إن ما ذكر تحت عنوان تهافت العقل والشرع في تأليفات * المدعين للتعارض بين الفلسفة والدين ، وما جاء في جواب ذلك: التعارض تحت عنوان: "تهافت التهافت" كل ذلك ناشئ من التسامح في من التعبير ، أو التغافل عن وحدة السنخ أو أحيانا اتحاد الصنف والترابط والالتحام القائم بين مفادي العقل والنقل ، ولو كان قد تم تحليل حجية العقل ودائرة عمل حكمه لما جعل العقل أبدا في مقابل الدين ، وأفضل طريق لتشخيص مكانة العقل وتعيين منزلته في نظام الثقافة الإلهية هو السؤال والاستفتاء من نفس العقل.
ومن الطبيعي أن تكون المواقف المنكرة للملحدين المنكرين للمبدل والمعاد وجهالة الشياطين المنكرين للمعارف الميتافيزيقية خارجة عن البحث ، لأن مثل هذا الفكر الإلحادي يعتبر الدين أسطورة. أما الذي أثبت عن طريق عقله البرهاني أن الدين حقيقة إلهية تمنح الحياة فإنه لا يجعل العقل الاستدلالي أبدأ في مقابل الدين ، ولا يتخيل في ذهنه تهافتهما ، ولا يزعم أن أحدهما أجنبي عن الآخر ليحكم بفصل البرهان عن القرآن؛ كما أن التعب المجهد والسعي الحثيث لمدعي عدم التهافت والمنادين بالانسجام والنفي لوجود أي نحو من الغربة بين العقل والشرع يجب أن يكون مسبوقا بتحليل حقيقة العقل وحجيته في علم أصول الفقه وكونه مصدرة لمباني الأحكام في علم الفقه ، وذلك لأن العقل مع أسسه وه ورأسماله الإلهي والديني تارة يكون مستمعة واعية ورقيبة مطلعة أمينة وممتازة ، وأحيانا يكون متكلما خبيرة ومتحدثة صادقة باسم الدين ، أي أنه تارة يكون صراطا وسراجا أي يؤدي دور الطريق والمصباح فهو طريق واضح ، وتارة يكون سراجا فقط ينير الطريق الذي هو الصراط المنقول.
وبناء على هذا فلا ينبغي عند تفسير النصوص النقلية للدين السعي جي الإفراغ العقل وتجريد الذهن ، لأن مثل هذا العمل على فرض إمكانه فهو ليس عملا دينيا أبدا ، بل يجب السعي لتصفية وتنقية المبادئ البرهانية المحكمة والرصينة من المواضيع الموهونة والموهومة الذهنية حتى لا يحل الوهم والخيال الجامح مكان العقل ، ومثل هذا العمل "ممكن" و"لازم ، وكذلك فإنه "واقع" في الجملة.
تاسعا: قانون العلية والمعلولية هو مبني ديني (بالمعنى العميق لكون القانون دينية مما بين سابقة). يثبته العقل في الحكمة والكلام ، ويعتبره النقل أيضا أمرة مفروغا عنه ، كما في قول أمير المؤمنين(عليهم السلام): "كل قائم في سواه معلول"(2). أما الذي يذكر في العرفان فهو ليس نفيا لأصل العلية ، بل هو نفي للأسباب والعلل الموهومة أو المتوسطة ، والاستناد إلى العلة المعقولة أو النهائية. وأساس التوحيد العرفاني هو الإطلاق الذاتي للواجب وعدم تناهيه المستلزم ل(الوحدة الشخصية للوجود) والموجب الإرجاع (العلية) إلى (التشأن) من جهة ، وتبدل (الصدور) إلى (الظهور) من جهة أخرى ، ورجوع (العلل الحقيقية) إلى (العلل الإعدادية) من جهة ثالثة ، وحصر العلية الحقيقية في الموجود الحقيقي أي ذات الواجب من جهة رابعة.
والذي يلاحظ في تفسير الميزان القيم وعلى أساسه يفهم العلامة * الطباطبائي نا كل القرآن ، هو الحكمة والكلام ، وهذه هي المرحلة المتوسطة في التعقل الديني). نعم توجد في خبايا وزوايا "الميزان" في مواضيع عرفانية عميقة بنحو مستور لا مشهور ، وبشكل السر لا العلن ، وبطريقة الإشارة لا العبارة ، وبنحو الإشراق لا الإشراب ، وهي مطوية ومخزونة ومكتومة ومكنونة ، بحيث لا يمسها إلا العارفون ، وما قاله جلال الدين الرومي في كلماته المنثورة والمنظومة فهو يعتمد على مشهد العرفان الذي يمثل (المرحلة العليا للتعقل الديني) ، والقرآن الكريم الذي له مراتب ودرجات متعددة تبدأ من (عربي مبين) وترتفع إلى أم الكتاب) ، ومن وادي اللسان الحجازي إلى قمة العلي الحكيم ، فهو حبل ممدود طرفه الطبيعي متوفر بين البشر وطرفه مما هو وراء الطبيعة فهو بيد الله سبحانه ، وهو الرسالة الإلهية ، وكل مفسر مادام مرتبطة بهذا الحبل الممدود (بغير إفراط و تفريط) ، فتعقله ديني وهو يفسر النصوص الدينية النقلية بواسطة الأسس والمباني الدينية العقلية وليس في ذلك كله ما هو خارج إطار الدين.
ولكي نذكر مثالا للاختلاف الطولي بين الحكمة والعرفان وليس تقابل النفي والإثبات بينهما ، نشرح على نحو الإجمال بعض الأبيات المنظومة لكبير عرفاء القرن السابع الهجري جلال الدين الرومي الذي يجمع بين الجمال والجلال ، وهذه هي أبيات المنظومة:
إن الانبياء جاءوا لقطع الأسباب وأسندوا معجزاتهم إلى زحل
كل القرآن ينادي بقطع الأسباب وبه عز العارف وهلاك أبي لهب
كذلك قوله:
من أول القرآن إلى آخره رفض للأسباب والعلل والسلام(3)
فهناك بعض المواضيع تستفاد الأبيات المذكورة وهي:
1. ان الأنبياء جاءوا ليقدموا رسالة التوحيد وحصر الوجود الحقيقي بالله الواحد هدية للبشرية ، وفسروا كثرة العالم بأنها آيات ومظاهر وشؤون لذلك الواحد الحقيقي ، ولم يتعاملوا مع كثرات العالم بإفراط في منحها حظاً من الوجود ، ولا بتفريط ليصفوها بالسراب ، بل قالوا: إن كثرة العالم مرآة لتلك الوحدة وهي صادقة في أنها تعكس كالمرآة وليست كاذبة كالسراب.
2. ان رسالة الأنبياء هي دعوة الناس إلى السبب الحقيقي ، أي الله سبحانه ، لا إنكار أصل السببية وإلا لزم أن نقول: إنهم ، معاذ الله ، يدعون الناس إلى الاعتقاد بالصدفة والحظ والهرج والمرج. فنفي الأسباب العادية يقترن مع إثبات السبب الحقيقي ، ولم تقدم النبوة أبدأ نفي العلية والدعوة إلى قبول (الأمر المريج) أي الهرج والمرج.
3. المعجزة تقترن حتماً مع أصل العلية ، لا مع الصدفة ونفي العلية ، لكن العلة في معجزات الأنبياء مستورة ، ومرتبطة من جهة بالإرادة الأزلية (المبدأ الفاعلي أو منشأ الظهور) وبقداسة النفس النبوية من جهة أخرى (المبدأ القابلي أو المظهر) وحكومة الإعجاز على الأرض والفضاء هي من سنخ حكومة الظهور الأقوى على الظهور الأضعف.
4. في كل أنحاء القرآن حيث يعلو صوت التوحيد فإنه ينادي بقطع السبب لا بقطع السببية ، وإلا لزم الانقطاع عن مسبب الأسباب (معاذ الله) ، لأنه إذا انتفى أصل السببية فلن يبقى أي سبب في نطاق الوجود سواء كان سبباً قديماً وأزلياً أو حادثا زائلا ، وذلك لأن نفي أصل العلية مساو للقول بالصدفة والحظ والعشوائية.
5. ان عز الصوفي والعارف وهلاك أبي لهب وأمثال ذلك لا يرجع إلى العلل والأسباب الظاهرية ، بل يعود إلى إرادة مسبب الأسباب الذي مالك الملك والملك والملكوت ، فالسلطنة المطلقة هي ملكه المطلق والمشاع: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] ، {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139] ، { فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10].
6. ان القرآن وروايات الدعاء في نفس الوقت الذي تؤكد فيه على أصل العلية من جهة وتؤيد العلل والأسباب الابتدائية والمتوسطة من جهة أخرى ، فإنها تصف الله سبحانه بعنوان (صانع الأسباب) حيث إنه يوفر علية الأسباب الأخرى ، كما أنه (مزيل الأسباب) حيث إن إرادته الأزلية قاهرة وغالبة على جميع الأشياء والعلل والأسباب ، كما أنها تعده تعالى (السبب الذاتي) الذي لا تحتاج سببيته إلى الآخر ولا هي مغلوبة للآخر هذا من جهة ، وأنه (السبب القريب) المحض حيث إنه أقرب من كل شيء إلى أي شيء آخر. ولذلك فلا حاجة إلى الشفاعة والوسيلة والتسبب والتعلل إلى الآخر ، حيث: "إن الراحل إليك قريب المسافة وانك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الأعمال دونك...."(4) فإذا كانت المسافة بين العبد والمولى هي أقرب مسافة (بشكل مطلق) إذن يمكن القول: "الحمد لله الذي أناديه كلما شئت لحاجتي ، وأخلو به حيث شئت ل السري ، بغير شفيع فيقضي لي حاجتي..."(5)
وهذه المرتبة العالية من الرؤية التوحيدية ليست هي (معاذ الله) لأجل نفي أصل الشفاعة والتوسل ، لأنه توجد أدلة قرآنية كثيرة من جهة وشواهد روائية عديدة من جهة أخرى وبينات جلية وواضحة من الدعاء من جهة ثالثة ، تثبت شفاعة الملائكة والأنبياء والأولياء ونخص بالذكر أهل بيت العصمة الطاهرين(عليهم السلام) الذين لا يفارقون الفكر والذكر للرابضين في فناء الولاء مثل مؤلف هذه السطور ، بل هذه الشفاعة هي لأجل الإرشاد إلى آخر شفيع في يوم القيامة وهو الله أرحم الراحمين ، لأن ما سوى الله وبسبب المحدودية في "الوجود" أو المحدودية في "ظهور الوجود" ، فإن شفاعتهم محدودة ويحتمل أن تنال المستخف بالصلاة وأمثاله ، لكن الشفاعة غير المحدودة المطلقة لله سبحانه سوف تبقى موجودة ومحيية للأمل. ولذلك ففي نفس الوقت الذي نلجأ فيه إلى الأسباب التي يقتضيها علم (الحكمة) و(الكلام) ، فإنه يجب أن يكون لنا رجاء وأمل بمسبب الأسباب على النحو الذي يقتضيه (العرفان) ، وفي : نفس حال التوسل والاستشفاع بذرية طه وياسين ، يجب أن نمد يد الرجاء بالدعاء والتضرع إلى أشفع الشافعين ، ومثل هذه الرؤية الجامعة تقتضي أن ندعو الله بجميع أسمائه الحسنى من غير أن يؤثر مثل هذا التوسل والاستشفاع على روح الموحد ويدنسها بشائبة الشرك.
والمقصود هو أن هناك اختلافا شاسعا بين (رفض الأسباب والعلل) م وهو كلام العارفين ، وبين نفي العلنية وهو كلام الجاهلين ، وتشخيص ذلك أصعب من رؤية خيط أدق من الشعرة ، ومن السير على طريق أحد من السيف البتار. وبهذا البيان الوجيز يتضح سر وحقيقة الكلمات الرفيعة للأستاذ العلامة محمد حسين فاضل التوني حيث إنه ذات يوم خلال درس شرح فصوص القيصري قال: إن الخواص من طلبة الحوزة العلمية في أصفهان(6) كانوا يدرسون كتاب المثنوي(7) سر لدى أحد المتخصصين في هذا الفن.
وحيث يطرح هنا دور العقل والبراهين العقلية بعنوان أنها جزء من العناصر الدينية في تفسير النصوص النقلية في الدين ، ينبغي الالتفات إلى مسألة حساسة قد أشير إليها فيما سبق أيضا ، وهي أنه يجب أن يؤخذ حتما في تعريف مفهوم التفسير قيد "بقدر الطاقة البشرية" لأن النصوص النقلية للدين هي الوحي الإلهي الذي تكلم فيه الله سبحانه حول أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحكيمة من الملك والملكوت والدنيا والآخرة والمادي والمجرد و... ، والإدراك الصحيح لـ (الكلمات التدوينية) الله كالفهم الصحيح لـ(الكلمات التكوينية) يكون بمقدار سعة وقابلية المدرك ، ومعرفة الكنه في مجال علوم ومفاهيم القرآن كمعرفة الكنه في مضمار أسرار ورموز العالم العيني تعتبر صعبة بل هي مستصعبة. ولهذا فكما ذكر في تعريف مفهوم الفلسفة أنها معرفة الوجود بقدر الطاقة - البشرية ، فكذلك يذكر في تعريف مفهوم تفسير القرآن الكريم أنه معرفة مقصود المتكلم أي الله سبحانه "بقدر الطاقة البشرية" ، يعني أن قيد بقدر الطاقة البشرية" مأخوذ في تعريف تبيين العالم العيني (الفلسفة) وتبيين العالم العلمي (التفسير).
ومن الجدير بالذكر أنه يجب أن تحدد جيدة دائرة العقل بالنسبة إلى النقل ، فهل العقل هو "ميزان الشريعة" أم "مصباح الشريعة" أم "مفتاح الشريعة" ، وهل يعمل العقل في داخل الشريعة (كمقياس فقهي) أي بواسطة التمثيل المنطقي ، كما أفتى جماعة بحجية القياس ، بينما الفرقة الناجية تعتبره غير صحيح؟ إن اختلاف هذه العناوين الأربعة المذكورة وإثبات بعضها ونفي البعض الآخر يحتاج بيانه إلى بحث مستقل(8).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. الخبر والإجماع والشهرة القطعة الكاشفة وأمثالها ، كل ذلك يرجع إلى السنة ، والإجماع بأي تقريب يتم تقريره وتصويره فهو داخل في دائرة السنة لاخارجها.
2. نهج البلاغة ، الخطبة 186 ، المقطع 2.
3. المثنوي ، الدفتر الثالث ، الأبيات 2517 ، 2520 ، 2525.
4. مفاتيح الجنان ، دعاء أبي حمزة الثمالي.
5. المصدر السابق.
6. في عصر المرحوم جهانكيز قشقائي والحاج الاخوند الكاشي حيث إن المرحوم الفاضل التوني قد تتلمذ على يد هذين الفيلسوفين العظيمين.
7. المثنوي من الكتب الدراسية العميقة ، وكونه مكتوبة باللغة الفارسية ، ومنظومة وحاوية على القصص والحكايات والأمثال لا يحط من عظمته وقيمته ، فلا يمكن استيعابه دون أستاذ متضلع وعارف ومتخصص.
8. راجع كتاب الشريعة في مرآة المعرفة ، فصل اقتران الوحي والعقل ، ص207 ، وهو باللغة الفارسية.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|