أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-09-2015
1479
التاريخ: 26-03-2015
4535
التاريخ: 25-09-2015
1340
التاريخ: 25-09-2015
1443
|
حسن
البيان عبارة عن الإبانة عما في النفس بألفاظ سهلة بليغة بعيدة من اللبس، كما قال
الشاعر [خفيف]:
خطباء
على المنابر فرسا ... ن على الخيل قالة غير خرّس
لا
يعابون صامتين وإن فا ... هوا أبانوا ولم يفوهوا
بلبّس
والبيت
الثاني أردت.
وهو
أعني حسن البيان إما بالأسماء والصفات المنفردة وإما بهما مؤتلفة، ودلالة الأول
متناهية، ودلالة الثاني غير متناهية، فإن قائلاً لو قال: قد انتهى تأليف الشعر
بحيث لا يمكن أن يؤتى بقصيدة إلا وقد قيلت من قبل، كان قوله محالاً، إلا أن تقول:
أردت الوزن والتقفية لا غير، وأما جملة القصيد ومجموع صورتها فلا، لأن دلالة
التأليف غير متناهية، كما أن الأعداد الممكنة ليس لها نهاية، غير أن البيان فيه
الأقبح والأحسن، والوسائط بين هذين الطرفين، فالأقبح كبيان باقل وقد سئل عن ثمن
ظبي كان معه، فأراد أن يقول: أحد عشر، فأدركه العي، حتى فرق أصابع يديه وأدلع
لسانه، فأفلت الظبي، وهذا أقبح بيان، مع أن قد بالغ في الإفهام، لكونه أخرج تعريف
العدد من السماع إلى العيان، ومن هاهنا يعلم أنه ليس كل إيجاز بلاغة، ولا كل إطالة
عيا، فإنه لا إيجاز في الإفهام أوجز من بيان باقل، لأن المخاطب فهم عنه بمجرد نظرة
واحدة، ومع ذلك ضرب به المثل في العي بهذا البيان، والأحسن أن يقول: أحد عشر،
والوسائط أن يقول مثلاً: ستة وخمسة، أو عشرة وواحد، أو خمسة وخمسة وواحد، والوسائط
تعلو وتسفل بحسب قربها من البلاغة وبعدها بالنسب والإضافات، وبيان الكتاب العزيز
وكل كلام بليغ فصيح من الأحسن دون الأقبح ودون الوسائط، لكن الأحسن أيضاً تتفاوت
طبقاته كالوسائط، فمنه الأعلى والأدنى والأوسط بالنسبة، وحقيقة حسن البيان إخراج
المعنى المراد في أحسن الصور الموضحة له، وإيصاله لفهم المخاطب بأقرب الطرق
وأسهلها، لأنه عين البلاغة، وقد تكون العبارة عنه تارة من طريق الإيجاز، وطوراً من
طريق الإطناب كثرة العبارة بسبب كثرة المعاني، والإسهاب كثرة العبارة عن المعنى
الواحد، والمعاني القليلة، والأول بعينه هو حد البلاغة وحقيقتها، وبه جاء كل بيان
القرآن، كقول الله تعالى وقد أراد أن يحذر من الاغترار بالنعم: {
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ
كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 25 - 27] وكقوله
تعالى وقد أراد أن يبين عن الوعد: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ
أَمِينٍ} [الدخان: 51]، وكقوله عز وجل وقد أراد أن يبين عن الوعيد:
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:
40]
وكقوله في الاحتجاج القاطع للخصم: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ
خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي
أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78، 79]وكقوله
تبارك وتعالى وقد أراد أن يبين عن تقريع الكفار: {أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] وكقوله
تعالى وقد أراد أن يبين عن التحيّر: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39] وكقوله
تعالى وقد أراد أن يبين عن العدل: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا
نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] وأمثال هذه المواضع كثيرة لمن يتتبعها.
ومما
جاء من ذلك في الشعر قول أبي العتاهية [منسرح]:
يضطرب
الخوف والرجاء إذا ... حرك موسى القضيب أو فكر
وكقول
الآخر [طويل]:
له
لحظات عن خفافي سريره ... إذا كرّها فيها عقاب
ونائل
فإن
هذين الشاعرين أرادا مدح هذين الممدوحين بالخلافة، ووصفهما بالقدرة المطلقة وعظم
المهابة بعد الله سبحانه، فإذا نظر أحدهما نظرة، أو حرك القضيب مرة، أو أطرق
مفكراً لحظة، اضطرب الخوف والرجاء في قلوب الناس، فأبانا عن هذه المعاني أحسن
إبانة بخلاف قولي [طويل]:
بكفيه
نفع العالمين وضرهم ... فنعمى لذي حسنى وبؤسى لمجرم
فإني
أردت الإبانة عن معنى أبي العتاهية والذي بعده، فأبنت عنه بياناً غير حسن ولا
قبيح، ولم يكن في قوتي الإبانة عن المعنى بأحسن بيان كما فعلاً، فإن بيتي يصلح أن
يكون في شواهد الوسائط في هذا الباب، وإن كان أبو العتاهية والذي بعده ألما في
معناهما بالحزين الكناني حيث يقول في عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وقد وفد
عليه وهو عامل مصر لأبيه [بسيط]:
لما
وقفت عليه في الجموع ضحى ... وقد تعرّضت الحجاب والخدم
حييته
بسلام وهو مرتفق ... وضجة الناس عند الباب تزدحم
في كفه
خيزران ريحها عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم
يغضي
حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
والبيت
الأخير أردت.
والفرق
بين ما سميته في بيت أبي العتاهية والذي بعده حسن بيان وبين الإشارة، أن الإشارة
لا تكون بلفظ الحقيقة، وحس البيان يكون بلفظ الحقيقة وبغيره، فما كان منه بلفظ
الحقيقة فهو من البيان الأحسن، وما كان بغير لفظ الحقيقة فهو من البيان الحسن، ولا
بد أن يكون لفظه أقرب إلى لفظ الحقيقة من لفظ الإشارة، كما أن لفظ الإشارة أقرب
إلى لفظ المعنى من لفظ الإرداف، ولفظ الإرداف أقرب من لفظ التمثيل، ألا ترى أن
لحظات الناظر تدل على الغضب والرضا أسرع ما يدل قيد الأوابد على سرعة عدو الفرس،
والإنسان يجد الفهم يسرع إلى مدلول اللحظات أقرب من سرعته إلى مدلول قيد الأوابد
والفرق أيضاً بين حسن البيان والإيضاح، أن الإيضاح يكون بالعبارة الفاضلة والعبارة
النازلة، وحسن البيان لا يكون إلا بالعبارة الفاضلة، والله أعلم.