أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-03-21
1074
التاريخ: 2024-08-07
382
التاريخ: 18-12-2020
2537
التاريخ: 1-8-2020
2302
|
"اللَّهُمَّ رَبَّ النُّورِ الْعَظِيمِ، وَرَبَّ الْكُرْسِيِّ الرَّفِيعِ، وَرَبَّ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَرَبَّ الظِّلِّ وَالْحَرُورِ، وَمُنْزِلَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَرَبَّ الْمَلاَئِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَالأَنْبِياءِ وَالْمُرْسَلِينَ".
يبدأ هذا الدعاء بعبارة "اللّهُمّ"، وقد تكرّرت ثلاث عشرة مرّة فيه، ما يعطي للداعي توجّهاً خاصّاً إلى الله تعالى.
بعدها جاءت كلمة "ربّ" وقد تكرّرت في الدعاء خمس مرّات، ما يشير إلى أنّ على الداعي أن يستذكر الله دائماً وفي جميع لحظات الدعاء.
في القرآن الكريم ورد دعاء كهذا، إذ جاء في سورة المائدة (الآية 114) قوله تعالى: ﴿ٱللَّهُمَّ رَبَّنَا﴾. وأدعية القرآن عادةً تبدأ باسم "ربّ"، ولكن في هذه الآية بدأت بكلتا الكلمتين: "اللّهمّ ربّنا"، ولعلّ ذلك بسبب أهمّيّة الحادثة ودلالتها.
وهذا يعلِّمنا ضرورة أن ننادي الله تعالى، وأن نطلب منه بأدب كامل، وبالصفة المناسبة لحاجاتنا.
دعا النبيّ عيسى (عليه السلام) ربّه أنْ: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة: 114] والمشركون يعلمون أنّ هذا لم يكن عملاً عاديّاً، بل كان معجزةً غيبيّةً إلهيّة.
وعليه، فمثل هذا الدعاء مذكور في القرآن الكريم، وله دلالة على روح معرفة الله تعالى في الأدعية. والإنسان المنتظِر بحاجة إلى مجموعة من المعارف، وأوّلها هو الذي ورد في بداية هذا الدعاء.
الاستفادة من النعم المعرفيّة:
إنّ الفرق بين الإنسان وسائر الموجودات الأخرى يكمن في قدرته على الاستفادة من النعم المعرفيّة الكبرى. وحول أهمّيّة المعرفة، يكفي ما يدعونا إليه تعالى في كثير من آيات القرآن الكريم لكسب المعرفة، وذمّه سبحانه وتوبيخه بشدّة لأولئك الذين لا يتفكّرون ولا يتدبّرون ولا يعقلون.
لقد نهانا الله تعالى في كتابه عن اتّباع ما ليس لنا به علم: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وقد وصف سبحانه أولئك الذين يسيرون ويعملون بلا معرفة بأنّهم صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ، لأنّهم لا يتدبّرون.
من اللافت جدّاً في مجال ضرورة المعرفة، ما جاء في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل بن زياد، حيث يقول (عليه السلام): "يا كميل، ما من حركةٍ إلّا وأنت محتاج فيها إلى معرفة" (1).
المعرفة هي التي تعطي القيمة لأعمالنا، ففي الإسلام تقاس درجات الأعمال والأفعال بميزان المعرفة، وكلّما زادت معرفتنا كلّما صارت قيمة أعمالنا أعلى وأرفع.
معرفة الله، والأنبياء، والأئمّة، والوجود، وأصول الدين وفروعه، أمر ضروريّ ولازم للمنتظرين.
بالالتفات إلى هذا الأمر، فإنّ أوّل المسير الذي يخطّه هذا الدعاء للحياة المهدويّة هو معرفة الله؛ لأنّ بداية هذا الدعاء هي بذكر الله تعالى وصفاته.
من يريد أن يعرف إمام زمانه (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، عليه أن يعرف الله أوّلاً.
وقد ورد الحثّ على قراءة دعاء: "اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ. اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ. اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي" (2).
معرفة الله مقدّمة لمعرفة الإمام:
الإنسان الذي يسعى لمعرفة إمام العصر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) لا بدّ من أن يكون إنساناً يمتلك معرفةً توحيديّة، وعلى معرفة بالله تعالى؛ لأنّ معرفة الله مقدّمة لمعرفة الإمام.
إنّ القاعدة والركيزة الأساس لجميع تحرّكات المنتظرين الحقيقيّين للمهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) وتصرّفاتهم، هي المعرفة الحقيقيّة بالله تعالى، والمعرفة العميقة بالتعاليم الدينيّة.
هذه النظرة هي التي تبعث على ملاحظة الملكة الباطنيّة في تطبيق جميع القوانين الإلهيّة، بحيث يلاحظ الشخص المنتظِر ذلك في مشيه، وفي جلوسه، وفي نظره، وفي سمعه، بل وفي فكره أيضاً، ويقدّم رضا الله تعالى ورضا حجّة الله على كلّ شيء.
وقد حازت معرفة الله تعالى أهمّيّةً كبيرةً في الأوصاف التي جاءت لأصحاب الإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، فقد جاء فيهم أنّهم: "رجال عرفوا الله حقّ معرفته، وهم أنصار المهديّ في آخر الزمان" (3)، و "هم الذين وحَّدوا الله حقَّ توحيده" (4).
لذا، كان من علائمهم أنّهم: "مجدّون في طاعة الله" (5)، و "هم الذين قال الله فيهم: ... يحبّهم ويحبّونه" (6).
في بداية دعاء العهد، ثمّة ستّة عشر وصفاً من الأوصاف الإلهيّة:
رَبَّ النُّورِ الْعَظِيمِ، وَرَبَّ الْكُرْسِيِّ الرَّفِيعِ، وَرَبَّ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَرَبَّ الظِّلِّ وَالْحَرُورِ، وَمُنْزِلَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَرَبَّ الْمَلاَئِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَالأَنْبِياءِ وَالْمُرْسَلِينَ...إلخ.
في هذا المقطع، ذُكر تعالى مع سبع صفات خاصّة، تُعدّ تجلّياً خاصّاً لمعرفته تعالى.
1- اللَّهُمَّ رَبَّ النُّورِ الْعَظِيمِ:
عادةً عندما يراد الابتداء ببناءٍ ما يقوم الناس بدعوة إحدى الشخصيّات لافتتاحه ووضع حجر الأساس له. ونحن إذا أردنا أن نفتتح بناءً أو عملاً لنا باسم أحد ما، فلا اسم أفضل من اسم الله تعالى، الله خالق كلّ شيء، وأسمائه الحسنى.
قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] وقد تكرّرت هذه الآية في القرآن الكريم ثلاث مرّات، ومن بين الأسماء الحسنى، فإنّ أفضل الأسماء الإلهيّة من بينها هو كلمة "الله" الجامع لجميع صفات الكمال، فهو أكمل الأسماء، أي أنّ المعاني والكمالات كلّها موجودة فيه.
الربّ: المالك والمدبّر.
بعد اسم "الله" ورد في الدعاء اسم "الربّ". وهي كلمة تعني المالك والمدبّر، فالله تعالى هو المالك والمدبّر. وتَكرار هذا الوصف يدلّ على أهمّيّة هذه الكلمة. وقد ذُكر اسم "الربّ" كثيراً في القرآن الكريم، حيث بلغ مئة وثلاثين مرّة، فهو ثاني أكثر كلمة وردت في القرآن الكريم بعد كلمة "الله".
هذا النوع من التَكرار لا يتنافى مع البلاغة، لاختلاف موارده.
فالتَكرار قد يكون ضرورياًّ للتذكير، أو للتفصيل والتنويع، ويتناسب ذلك مع التربية والتوجيه.
تَكرار "يا ربّ":
أمّا في أوّل الدعاء، فلا يخلو تَكرار كلمة "ربّ" من الحكمة، خصوصاً في الفقرات الخمس التي ورد فيها هذا الاسم الإلهيّ، لأنّ ذكر كلمة "ربّ" وتَكرارها في الدعاء يجعلان طلب الحاجة مقروناً بالإجابة.
ففي سورة الأنبياء (الآية 89)، نقرأ قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89].
كما أنّ تَكرار كلمة "ربّ" في بداية أدعية إبراهيم (عليه السلام) - أيضاً - مهمّ ولافت، وفيه دلالة على تأثير ذلك في استجابة الدعاء، أو في كونه أحد آدابه. ففي سورة إبراهيم (الآيتان 40-41)، نقرأ قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 40، 41].
ويوجد في الأدعية إصرار وتَكرار ممزوجان بكلمة "ربّ"، ففي دعاء "المجير" نقرأ نحو سبعين مرة: "أجِرنا من النار يا مجير"، وكذلك في دعاء الجوشن الذي يحتوي على مئة فقرة، نقول في نهاية كلّ فقرة: "خلّصنا من النار يا ربّ".
أمّا تَكرار كلمة "ربّ" في هذا الدعاء، فلعلّ ذلك لكونه أفضل وأنسب اسم لعقيدة الرجعة، أي أنّ الله تعالى المالك والمدبّر قادر على الإحياء مرّة أخرى.
2- وَرَبَّ الْكُرْسِيِّ الرَّفِيعِ:
الكرسيّ كناية عن القدرة، السلطة، التدبير، الهداية والإدارة الكاملة للعالم. وفي اللغة الفارسيّة - أيضاً - "الإجلاس" أو "الجلوس على العرش" كناية عن التسلّط على الأوضاع، والإمساك بالقدرة والحكومة.
نعم، من الممكن - أيضاً - أنّ يكون "العرش" كناية عن عالم ما وراء المادة، و "الكرسيّ" كناية عن العالم المادّيّ، كما نقرأ في آية الكرسيّ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255].
يُفسِّر الإمام الصادق (عليه السلام) الكرسيّ بالعلم، فعن حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عزّ وجلّ): ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾، قال: "علمه" (7).
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "يا أبا ذر، ما السماوات السبع في الكرسيّ إلّا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسيّ كفضل الفلاة على تلك الحلقة" (8).
هذا، والروايات الواردة حول الكرسيّ مختلفة، وقد ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ الكرسيّ من العلوم التي لا يعلمها أحد إلّا الله، فعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في قول الله (عزّ وجلّ): ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ - فقال: السماوات والأرض وما بينهما في الكرسيّ، والعرش هو العلم الذي لا يُقدِّر أحد قدره" (9).
3- وَرَبَّ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ:
تحدّث القرآن الكريم عن البحر المشتعل الذي له غليان وصوت قويّ في الآية السادسة من سورة التكوير: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6].
والمقصود بهذه البحار، إمّا البحار التي تُسجَّر عند اقتراب يوم القيامة، وإمّا الموادّ المذابة والمنصهرة في قعر الأرض كالبحار من النار، التي تفور أحياناً وتخرج من فوهة البراكين...
4- وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ:
الكتب السماويّة النازلة من عند الله تعالى إنّما هي لأجل هداية الإنسان. والمراد من الصحف الأولى في سورة طه (الآية 133)، هو التوراة والإنجيل والزبور. والتصديق بكون التوراة والإنجيل كتباً سماويّة ليس معناه إبقاءهما بشكل دائم، بل معناه وحدة أهدافهما وانسجام محتواهما جميعها: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة: 97].
إنّ أصول الأديان واحدة، ولكن شرائعها متعدّدة. والدين والشريعة طريقان للوصول بنا إلى الحياة الواقعيّة والإنسانيّة، ولكن في كلّ زمان لا يُقبل إلّا شريعة واحدة. واليوم، الدين الوحيد الذي يرتضيه الله تعالى هو الإسلام فقط، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].
إنّ قوانين الإسلام الإجرائيّة ومنهجه التربويّ - أيضاً - قائمان على أساس العدل. فهو دين العدل والعدالة. ولو ألقينا نظرة على آيات القرآن الكريم، لشاهدنا منهجه العادل في جميع الموضوعات، ولرأينا - بوضوح - الإنصاف والعدالة وعدم الانحياز في برامجه كلّها. فالقرآن مع الامتيازات كلّها التي يختصّ بها، لا يُغفل أمر الكتب السماويّة السابقة، ويؤيّد الكتب غير المحرّفة من التوراة والإنجيل التي تقدّمت عليه، وهذا نموذج من الإنصاف.
جاءت كلمة "الزبور" في اللغة العربيّة بمعنى أيّ نوع من أنواع الخط والكتابة: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52]، ولكن بقرينة آية {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [النساء: 163] يبدو أنّ المراد من الزبور - وقد نزل بعد التوراة - هو الكتاب الخاصّ بالنبيّ داود (عليه السلام)، الذي يحتوي على مجموعة من مناجاته وأدعيته ومواعظه، وهي مئة وخمسون فصلاً، كلّ فصل منها عبارة عن مزمور.
والمراد بالذكر في (الآية 105) من سورة الأنبياء: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، هو التوراة - أيضاً - كما في ورد في (الآية 48) من السورة نفسها التعبير عن التوراة بالذكر: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48].
لكن أهمّ الكتب السماويّة هي: توراة اليهود، وإنجيل المسيحيّين، وقرآن المسلمين. وقد وصفها الله تعالى جميعاً بأنّها نور. ففي سورة المائدة (الآية 15)، يصف الله القرآن بكونه نوراً: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} [المائدة: 15] وفي (الآية 44) من السورة نفسها، يصف التوراة بكونها نوراً: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44] وفي (الآية 46) وُصف الإنجيل بالنور: {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 46].
وتوجد بين القرآن الكريم وهذه الكتب وجوهُ شبهٍ أخرى، وخصوصاً بين القرآن والتوراة. فالإنجيل يعتمد بشكل أساس على المواعظ، والزبور على الدعاء، ولكن من حيث القوانين، فالتوراة يشبه القرآن الكريم أكثر، ولذا وصفت التوراة بأنّها إمام، {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا} [هود: 17] إلّا أنّه لا بدّ من أن يُعلم أنّ القرآن هو الوارث الكامل والجامع للتوراة والإنجيل والزبور.
فعن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "أُعطيتُ السور الطوال مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفُضِّلت بالمفصَّل ثمان وستون سورة، وهو مهيمن على سائر الكتب، والتوراة لموسى، والإنجيل لعيسى، والزبور لداود" (10).
والإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) في هذا الزمان هو وارث جميع الكتب السماويّة؛ لأنّ الإمام في كلّ عصر وزمان هو الوارث لجميع فضائل مَن سبقه. وفي بعض زيارات الإمام الحسين (عليه السلام): "السلام عليك يا وارث التوراة والإنجيل والزبور" (11).
والإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) هو وارث جميع الأنبياء والأولياء (عليهم السلام).
5- وَرَبَّ الظِّلِّ وَالْحَرُورِ:
الظلّ بمعنى الفيء، والحَرور بمعنى شدّة الحرّ. والله تعالى هو مالك كليهما، وهو خالق الدنيا والآخرة، ومالك الأضداد وجاعلها، وإله الليل والنهار.
وقد ورد لفظا الظلّ والحَرور في سورة فاطر (الآية 21): {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} [فاطر: 21]، حيث شُبِّه المؤمن والكافر بالظلّ والشمس. ونتيجة هذا التشبيه وهذه المقايسة هي أنّ شخصيّة المؤمن ومصيره ليسا كالكافر.
إنّ تشبيه المؤمن بالظلّ الذي يُطمأنّ إليه، والكافر بالريح الحارّة الحارقة، ساق له بعض المفسرين معنى للآية يناسب حالهما من حيث النتيجة، فقال: المقصود بالظلّ الجنّة؛ لأنّها ذات ظلّ دائم، والمقصود بالحَرور نار جهنّم؛ لأنّها ذات حَرور (12).
كما أنّه قد ورد في الروايات إطلاق "يوم الحَرور" بعنوانه وصفاً ليوم القيامة.
وعلى هذا، فالله سبحانه وتعالى هو المالك والربّ للشمس والظلّ، وإذا شئتم النجاة من حرّ الشمس والعذاب الإلهيّ في الدنيا والآخرة، وأن تكونوا في ظلّ الأمن الإلهيّ، فالطريق الوحيد لذلك فقط هو اتباع القرآن الكريم.
عن معاذ بن جبل، كنّا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في سفر.. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "إن أردتم عيش السعداء وموت الشهداء، والنجاة يوم الحشر، والظلّ يوم الحَرور، والهدى يوم الضلالة، فادرسوا القرآن، فإنّه كلام الرحمن، وحرزٌ من الشيطان، ورجحان في الميزان" (13).
6- وَمُنْزِلَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ:
يخاطب الله تعالى نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في القرآن بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] والإنصاف إنّ القرآن كتاب عظيم جدّاً. إنّ من بين 114 سورة قرآنيّة، تبدأ 29 سورة بالحروف المقطّعة، وفي 24 مورد بعد هذه الحروف، تتحدّث الآيات عن القرآن ومعجزته وعظمته، كما في سورة البقرة بعد قوله تعالى: ﴿الم﴾، يقول سبحانه: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، ثمّ يشير إلى عظمة القرآن.
إن الكُتَّاب عموماً لا يرون كُتُبَهم خاليةً من النقص، ويعتذرون عمّا فيها من النقص أو الإشكالات، ويتقبّلون الملاحظات والاقتراحات التي تأتي في هذا المجال، لكنّ الله تعالى فقط يقول عن كتابه بصراحة: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1]، إذ جميع آياته محكمة، وهي قائمة على أساس الحكمة، فهو كتاب مُحكم لا يقبل الخلل، ولا طريق فيه إلى أيّ نقصٍ أو عيب.
وقد بيّنت الروايات الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) عظمة القرآن الكريم، منها ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة:
ـ "أَلَاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتي، وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ، وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ" (14).
ـ "...وبَحْراً لَا يُدْرَكُ قَعْرُه.. وتِبْيَاناً لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُه، وشِفَاءً لَا تُخْشَى أَسْقَامُه، وعِزّاً لَا تُهْزَمُ أَنْصَارُه، وحَقّاً لَا تُخْذَلُ أَعْوَانُه" (15).
ـ "وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ، وَسَبَبُهُ الأمِينُ، وَفِيهِ رَبِيعُ الْقَلْبِ، وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ، وَمَا لِلْقَلْبِ جَلاَءٌ غَيْرُهُ" (16).
ـ "وعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّه، فَإِنَّه الْحَبْلُ الْمَتِينُ، والنُّورُ الْمُبِينُ، والشِّفَاءُ النَّافِعُ، والرِّيُّ النَّاقِعُ، والْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّكِ، والنَّجَاةُ لِلْمُتَعَلِّقِ" (17).
ـ "ومَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْه بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ: زِيَادَةٍ فِي هُدَىً، أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمَىً" (18).
ـ "فَإِنَّ فِيه شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ، وهُوَ الْكُفْرُ والنِّفَاقُ، والْغَيُّ والضَّلَالُ" (19).
ـ "واعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ، والْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ، والْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ" (20).
ـ "واعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ، ولَا لأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنًى" (21).
ـ "إِذَا الْتَبَسَتْ عَلَيْكُمُ الْأُمُورُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، فَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ" (22).
ـ "ولَا تُخْلِقُه كَثْرَةُ الرَّدِّ" (23).
ـ "فَضْلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَاْمِ كَفَضْلِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ" (24).
ـ "اللَّه اللَّه فِي الْقُرْآنِ، لَا يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِه غَيْرُكُمْ" (25).
وأنا بعد عشرات السنين من جلوسي على هذه المأدبة الإلهيّة، أتمنّى عليكم أيّها الأعزّاء، أن يكون القرآن هذا الكتاب العظيم بالنسبة إليكم مظهراً للعلم الإلهيّ، ولو أنّكم في كلّ يوم تدبّرتم في جملة واحدة لاستفدتم فائدة جديدة.
وللطلّاب الأعزّاء أقول: إذا أردتم أن تصبحوا علماءَ ربّانيّين، فعليكم بالاشتغال - بفهم وتدبُّر - بهذا العلم الذي لا نهاية له؛ لأنّ الله تعالى يقول في القرآن الكريم: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] ففي هذه الآية تكرّرت كلمة "كنتم" مرّتين، إلى جانب كلمتَي "تعلمون" و"تدرسون"، ما يعني الاستمرار والدوام، أي إنّ تعليم القرآن وتدريسه لا بدّ من أن يكون في كلّ يوم وفي جميع المراحل.
7 ـ وَرَبَّ الْمَلاِئكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ:
أ- الملائكة المقرّبون:
المقرّب بمعنى القريب. جاء في سورة النساء (الآية 172) قوله تعالى: ﴿الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾، فالملائكة ليسوا على درجة ومرتبة واحدة، فمقامهم مختلف، كما أنّ وظائفهم مختلفة، فمقام بعضهم كجبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل أفضل من مقام سواهم. وقد ذكر القرآن من هؤلاء الملائكة الأربعة جبرائيل وميكائيل: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]، وأمّا بقيّة الآيات فقد تعرّضت لأوصافهم، كقوله تعالى: {كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 11].
لذا، فإنّ الملائكة فِرَقٌ ومجموعاتٌ متعدّدة ومختلفة، ولكلّ مجموعة منها مقام خاصّ، ولها قدرتها الخاصّة بعملها: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] فمسؤول الوحي جبرائيل، ومسؤول الأرزاق ميكائيل، ومسؤول قبض الأرواح عزرائيل، ومسؤول النفخ في الصور إسرافيل.
"الروح" - أيضاً - هو أحد الملائكة المقرّبين من الله تعالى، وقد جاء اسمه في القرآن بصورة مستقلّة، وعادة ما يُذكر إلى جانب الملائكة، {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ} [النبأ: 38]، {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، و {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4].
ب- الأنبياء والمرسلون:
في هذه الفقرة من الدعاء، أُشير إلى مقام الأنبياء والمرسلين، ومن الواضح أنّ ثمّة فرقاً بين النبيّ والرسول.
في الفرق بينهما ذُكرت آراء عديدة، منها:
أوّلاً: إذا كان أصل كلمة نبيّ من مادّة "النبأ" بمعنى الخبر، يكون النبيّ هو الشخص المطّلع على الوحي الإلهيّ، والذي يُخبر بما يُوحى إليه، أمّا الرسول، فهو الشخص الذي أُلقيت على عاتقه مهمّةٌ أو رسالةٌ ليبلّغها.
ثانياً: إذا كان أصل كلمة نبيّ من مادّة "نَبْوَة" على وزن "نَغْمَة"، بمعنى رفعة المقام، فيكون النبيّ هو الشخص العالي المقام، والسامي المرتبة.
والرسول - أيضاً - صاحب شريعة ومأمور بتبليغها، أي يتلقّى الوحي الإلهيّ ثمّ يبلّغه للناس، أمّا النبيّ فإنّه يتلقى الوحي، لكنّه ليس مكلّفاً بتبليغه، بل مكلّف بأداء واجبه فقط، أو الإجابة عن أسئلة من سأله (26).
وبتعبير آخر، فإنّ النبيّ مثله كالطبيب الواعي الذي جلس في محلّه مستعدّاً لاستقبال المرضى، فهو لا يذهب إلى المرضى، أمّا إذا راجعه مريض، فإنّه لا يمتنع عن معالجته وأداء النصح إليه. أمّا الرسول، فإنّه كالطبيب السيّار، وبتعبير الإمام عليّ (عليه السلام) في نهج البلاغة عن رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم): "طبيبٌ دوّارٌ بطبِّه" (27)، فهو يدور في كلّ مكان، يذهب إلى المدن والقرى، والجبال والصحاري، ليجد المرضى ويشرع في علاجهم، فهو عين تنبع بالماء العذب وتجري نحو العطاشى، وليس عيناً يبحث عنها العطاشى (28).
بعض الأنبياء لديهم كلا المقامين، كنبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يتلقّى الوحي، ومضافاً إلى ذلك كان يبلغ أوامر الله تعالى، ويسعى إلى إقامة الحكومة وتنفيذ الأحكام، وفي الوقت نفسه يقوم عن طريق الباطن بمهمّة تربية النفوس (29).
ينقل أبو ذر الغفاريّ (رضوان الله عليه) - أيضاً - عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ عدد الأنبياء مئة وأربعة وعشرون ألف نبيّ، كان بينهم ثلاث مئة وثلاثة عشر رسولاً فقط (30).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 77، ص269.
(2) كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ج2، ص512.
(3) كشف الغمّة، الأربليّ، ج2، ص478.
(4) إلزام الناصب، علي اليزديّ الحائريّ، ج2، ص165.
(5) المصدر نفسه، ص236.
(6) الغيبة، النعمانيّ، ص316.
(7) التوحيد، الصدوق، ص327.
(8) الخصال، الصدوق، ص523.
(9) التوحيد، الصدوق، ص327.
(10) الكافي، الكلينيّ، ج 2، ص601.
(11) إقبال الأعمال، ابن طاووس، ج 2، ص712.
(12) راجع: تفسير القرطبيّ، ج14، ص340.
(13) مستدرك الوسائل، الميرزا النوريّ، ج 4، ص232، نقلاً عن تفسير أبي الفتوح الرازيّ. وقريب من هذه الرواية عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لسلمان مع اختلاف في قوله: "يوم الحسرة وظُلَل يوم الحَرور"؛ انظر: جامع الأخبار، فصل 21، ص41.
(14) نهج البلاغة، الخطبة 158.
(15) المصدر نفسه، الخطبة 198.
(16) المصدر نفسه، الخطبة 176.
(17) المصدر نفسه، الخطبة 156.
(18) المصدر نفسه، الخطبة 176.
(19) المصدر نفسه.
(20) المصدر نفسه.
(21) المصدر نفسه.
(22) بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 74، ص134.
(23) نهج البلاغة، الخطبة 156.
(24) بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 89، ص19، (والرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم).
(25) نهج البلاغة، قسم الرسائل، 47.
(26) تفسير الأمثل، ناصر مكارم الشيرازيّ، ج 9، ص467 - 468.
(27) نهج البلاغة، الخطبة 108.
(28) تفسير الأمثل، ناصر مكارم الشيرازيّ، ج 9، ص468.
(29) المصدر نفسه، ج 1، ص371.
(30) المصدر نفسه، ج 3، ص544.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|