أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-09-2015
1773
التاريخ: 14-08-2015
28699
التاريخ: 27-7-2017
2869
التاريخ: 27-7-2017
10036
|
وهو أن نواجه الأثر الأدبي بالقواعد والأصول الفنية المباشرة. ننظر في نوع هذا الأثر: قصيدة هو ام اقصوصة ام رواية ام ترجمة حياة ام خاطرة ام مقال ام بحث؟ ثم ننظر في قيمه الشعورية وقيمه التعبيرية ومدى ما تنطبق على الاصول الفنية لهذا الفن من الأدب. وقد نحاول تلخيص خصائص الأديب الفنية – التعبيرية والشعورية-من خلال أعماله.
ومن ذلك نرى ان
هذا المنهج يحقق لنا – الغاية الأولى تحقيقها كاملا، ويشترك في تحقيق الغايات
الثلاثة الاخرى، لأنها تقوم في جزء منها على الغاية الأولى.
ويعتمد هذا المنهج
اولا على التأثر الذاتي للناقد – كما أسلفنا – ولكنه يعتمد ذاتيا على عناصر
موضوعية وعلى اصول فنية لها حظ من الاستقرار. فهو منهج ذاتي موضوعي، وهو أقرب
المناهج الى طبيعة الأدب، وطبيعة الفنون على وجه العموم.
ومن هنا تظهر قيمة
الطريقة التي اتبعناها في الفصول السابقة من هذا الكتاب.
ويحتاج اتباع هذا
المنهج الى خصائص في الناقد، والى ألوان من الدراسات الفنية واللغوية، ويحسن ان
نستعرضها هنا على وجه الإجمال.
يقوم هذا المنهج
اولا على التأثر؛ ولكي يكون هذا التأثر مأمون العاقبة في الحكم الأدبي يجب ان
يسبقه ذوق فني رفيع، يعتمد هذا الذوق على الهبة الفنية اللدنية، وعلى التجارب
الشعورية الذاتية، وعلى الاطلاع الواسع على مأثور الأدب البحت والنقد الأدبي كذلك.
ويقوم المنهج
ثانيا على القواعد الفنية الموضوعية. وهذه تتناول القيم الشعورية والقيم التعبيرية
للعمل الفني، فلابد له من فسحة في نفس الناقد تسمح له بتملي ألوان وانماط من
التجارب الشعورية، ولو لم تكن من مذهبه الخاص في الشعور. ولابد له كذلك من خبرة
لغوية وفنية، وموهبة خاصة في التطبيق: تطبيق هذه القواعد النظرية على النماذج
فكثيرون يعرفون الاصول الفنية المقررة، ولكنهم عندما يواجهون النموذج يخطئون
وينحرفون بهذه الاصول.
وقبل كل شيء لابد
من مرونة على تقبل الانماط الجديدة التي قد لا تكون لها نظائر يقاس عليها، ويكون
من شأنها ان تبدل في القواعد المقررة والأصول المعروفة لتوسع افاقها وتضيف إليها.
وهذا ما عبرنا عنه بالفسحة الفنية الشعورية.
هذه المرونة هي
التي تنقص كثيرين من النقاد العرب في العصر القديم، فتقف بهم عند النماذج المأثورة
من أنماط الشعور والتعبير؛ فما كان متفقا معها فهو جيد مقبول، وما شذ عنها فهو
معيب مرفوض. فالمولدون من الشعراء بدءوا يخالفون القدماء شيئا ما في طريقة التعبير
فوجدوا من يتعصب عليهم، ويمتنع من رواية اشعارهم! والمحدثون اخذوا يبعدون في
مخالفة طريق القدماء والمولدين، فثارت في وجوههم عاصفة لا تقوم على اساس التقدير
الفني المطلق، ولكن على اساس الموازنة بينهم وبين اولئك القدماء والمولدين!
البحتري مثلا لا يخالف (عمود الشعر العربي) فهو مستجاد ومستحسن عند جمهرة النقاد،
على عكس ابي تمام الذي فارق هذا العمود! ومع ان الحق من الناحية الفنية كثيرا ما
كان في وصف اولئك الذين آثروا طريقة البحتري على طريقة ابي تمام، فان تعليلهم كان
في الغالب مخطئاً، لانه مبني على اساس المحافظة على الطرائق القديمة وهذا هو الخطأ
في منهج النقد ذاته. وقد وقع فيه حتى الذين شاءوا التحرر منه كالآمدي وأبي الحسن
الجرجاني، ذلك أنهم لم يملكوا التخلص من أذواقهم الخاصة من أذواقهم الخاصة
المتأثرة بالقديم، تأثرا في الصميم!
هذا المنهج الفني
هو الذي عرفه النقد العربي – أول ما عرف-عرفه ساذجا أوليا في مبدأ الامر، ثم سار
فيه خطوات لم تبلغ به المدى، ولكنها قطعت شوطا له قيمته – على كل حال – بالقياس
الى طفولة الأدب والى طفولة النقد التي كانت حينذاك.
بدأ النقد تذوقا
محضا، لا يتعدى التذوق الى التعليل، ولا يتجاوز المرحلة التأثرية البحتة، فكان
الرجل يسمع البيت من الشعر او الابيات، فيمنحها اعجابه او يقابلها باستهجانه ثم لا
يزيد شيئاً. وقد شغلت هذه المرحلة أيام الجاهلية كلها وصدر الاسلام.
جلس النابغة في
سوق عكاظ يحكم بين الشعراء في قبته الحمراء من الجلد! فأنشده الاعشى والخنساء
وحسان، فقال للخنساء: (لولا ان ابا بصير – يعني الاعشى-انشدني، لقلت: أنك اشعر
الجن والانس). فالأعشى – عند النابغة – أشعر، وتليه الخنساء ثم يليها حسان. ولكن
لماذا؟ ما علة هذه الاحكام؟ هذا ما لم يكن الناقد مطالبا به اذ ذاك، فحسبه ان يكون
مشهودا له بالذوق، وحسبه ان يتذوق، وأن يتأثر، فيحكم (1).
وكان يقع ان يعلل
الناقد حكمه في بعض الاحيان. ولكنه تعليل ساذج يتعلق بلفظة او بمعلومات حسية، او
ما أشبه، ولا يتعلق بالقيم الشعرية على كل حال. ذلك مثل ما حكوا من ان طرفة سمع
المتلمس ينشد بيته:
وقد أتناسى الهم
عند احتضاره بناج عليه الصيعرية
مكدم
فقال طرفة: استنوق
الجمل. لان الصيعرية سمة تكون في عنق الناقة ولا تكون في عنق البعير. وعد ذلك عيبا
شعريا، وهو في الواقع خطأ في استذكار عادة محلية من عادات العرب مع النوق
والبعران!
كذلك انتقد مهلهل لقوله:
فلولا الريح اسمع
من بحجر صليل البيض تقرع بالذكور
لأنه كان بين الجهة
التي ذكرها وبين حجر مسافة بعيدة، لا يمكن ان يسمع منها صليل السيوف والبيضات! وعد
هذا عيبا شعريا، وهو في الواقع خطأ تقدير مسافة من المسافات او مبالغة شعرية!
لهذا عد نقد عمر
بن الخطاب في صدر الاسلام لزهير بن ابي سلمى حين قال: انه شاعر الشعراء، ثم علل هذا
الحكم بقوله: لأنه كان لا يعاظل في الكلام، وكان يتجنب وحشي الشعر، ولم يمدح احدا
الا بما هو فيه.
عد هذا فلتة سابقة
لأوانها في النقد العربي. لأنها فيما يلوح كانت اول تعليل يتوسع في بيان اسباب
الحكم الأدبي، مع ان هذا التعليل لا يتعدى الألفاظ والصدق الاخلاقي، الذي قد لا
يكون ذا قيمة بمفرده في الشعر، لأنه قد يكون شيئا آخر غير الصدق الشعوري والصدق
الفني، اللذين يتدخلان في الحكم على قيمة الشعر الفنية.
ولكن النقد العربي
لم يقف عند هذه المرحلة، فقد حاول ان يتجاوز المرحلة التأثرية الى المرحلة
التعليلية، وحاول ان يضع قواعد وأصولا للنقد لم تخرج في الغالب عن حدود المنهج
الفني.
وضع ابن سلام
الجمحي المتوفي في اول القرن الثالث (2) كتابه في (طبقات الشعراء). اذ وجد ان
الجاهليين والاسلاميين اتفقوا – في حدود النقد التأثري-على إيثار امرئ القيس
والنابغة والاعشى وزهير من الجاهليين، وجعلوهم طبقة، وعلى ايثار الفرزدق وجرير
والاخطل من الاسلاميين وجعلوهم طبقة، فرأى ان يقرر هذا في كتاب، صوان يصنف الشعراء
بعدهم طبقات كذل كبلغ بها عشراً.
ومع ان ابن سلام
قد تطرق الى شيء من المنهج التاريخي، الا ان عمله في الصميم لا يبعد كثيرا عن حدود
المنهج الفني في أبسط صوره، وقد استعرض فيه صورة النقد في الجاهلية وصدر الاسلام،
وهي تتعلق بألفاظ مفردة كالتي أسلفنا، او بحقائق محلية او بعيوب عروضية كالإقواء
الذي اخذوه على النابغة – وهو اختلاف حركة القافية في الابيات – وعلى العموم لم
يكن يتجاوز المواضع المفردة الى الحكم العام الشامل على القصيدة. ولم يكن يتعرض
خاصة للقيم الشعورية فيها.
وخطأ ابن قتيبة في
كاب (الشعر والشعراء) (3) خطوة اخرى فحاول ان يضع قواعد لنقد الشعر، وقسمه الى
اربعة أضرب.
(ضرب حسن لفظه
وجاد معناه) و(ضرب حسن لفظه وعلا فإذا انت فتشته لم تجد هناك طائلا) و(ضرب جاد
معناه وقصرت الألفاظ عنه) و(ضرب منه تأخر لفظه وتأخر معناه). ثم ضرب الأمثلة على
كل ضرب. وكانت تعليقاته على هذا النحو بعد كل مثل:
(لم يقل أحد في
الهيبة أحسن منه)، (لم يبتدئ أحد مرثية بأحسن منه)، (حدثني الرياش عن الأعصمي انه قال:
هذا أبرع بيت قالته العرب. (ولم يقل أحد في الكبر أحسن منه). (لم يبتدئ أحد من
المتقدمين بأحسن منه ولا أعرب). (وهذه الألفاظ أحسن شيء مطالع ومخارج ومقاطع).
(وهذا الشعر بين التكلف رديء الصنعة ... إلخ).
وهي تعليقات لا
تزال كما ترى بعيدة عن التعليل. ولكن فضل ابن قتيبة ينحصر في أنه حاول ان ينظر الى
القيم الشعورية والقيم التعبيرية، وان يجعل لها في النفس حسابا. وان يكن بطبيعة
الحال لم يخط في هذا الطريق الا خطوة أولية نرى فيها نحن اليوم كثيرا من السذاجة
وكثيرا من الخطأ. وقد وقفنا في فصل سابق عند نقده للأبيات:
(ولما قضينا من
منى كل حاجة ...)
ورأينا قصوره عن
تملى الصور الجميلة الحاشدة في الأبيات، وقصر فضلها على سهولة الألفاظ وحسن
مخارجها ومقاطعها. وهو شيء من أشياء في هذه الأبيات الجميلة. ونزيد هنا أنه كان
ينظر الى المعاني نظرة عقلية وخلقية لا نظرة فنية.
فليست الاحاسيس
والمشاعر هي التي تلفته، إنما تلفته الحكمة العقلية والقاعدة الخلقية. يدل هذا على
استجادته لقول ابي ذؤيب:
والنفس راغبة إذا
رغبتها وإذا ترد الى قليل تقنع
وضربه مثلا للشعر
(حسن لفظه وجاد معناه)، اي لا حسن ضروب الشعر عنده على الاطلاق، وإيثاره هذا البيت
على الأبيات السالفة (ولما قضينا .. إلخ) مما يشهده بأن حسه الفني كان قاصراً على
كل حال، ولكن هذا منه يكفي بالقياس الى زمانه البعيد.
وقد تلت محاولة
ابن قتيبة محاولة قدامة بن جعفر في كتابيه (نقد الشعر) و(نقد النثر) وهي محاولة في
اتجاه جديد. اتجاه فلسفي منطقي علمي. وهي محاولة فاشلة لهذا السبب نفسه. فقد حاول
ان يطبق على الشعر الأقيسة العقلية الجافة.
بدأ بتعريف الشعر
بانه (قول موزون مقفى يدل على معنى) وجعل يشرح تعريفه على طريقة المناطقة، ثم تلا
ذلك تقسيم الشعر تقسيما منطقيا بحسب حدود هذا التعريف الاربعة فنشأ له ثمانية اضرب
: اربعة منها على هذه الحدود الأربعة البسيطة، وأربعة ناشئة من حدود ائتلاف (اللفظ
مع المعنى) و(اللفظ مع الوزن) و(اللفظ مع القافية) و(المعنى مع الوزن) وتوسع بخاصة
في الحد الرابع المفرد، حد (المعنى) وقرر ان جودة المعنى تتعلق بان يكون مقابلا
للغرض، وفسر هذا بأن المدح مثلا يكون جيدا اذا كان مدحا بالصفات التي يمدح بها
الرجال، وهي (الشجاعة والعقل والعدل والعفة) او مشتقاتها كالجود الذي هو أحد اقسام
العدل مثلا. والهجاء يكون على عكس المدح. والرثاء مدح مع (كان). إلخ.
وبذلك خرجنا
نهائيا من دائرة الفن الى دائرة المباحث الفلسفية. وقد كان يهمه بالفعل ان يظهر
اطلاعه على الفلسفة الاغريقية، فيشير الى نظرية الوسط عند ارسطو وتطبيقها على
الفضيلة التي يمدح بها الرجال ويهجون بضدها والى آراء جالينوس في الاخلاق ...!
ولم ينظر قدامة
الى ان هذه القواعد قد تتحقق في كلام ثم لا يكون شعرا لأن الشعر عمل فني قبل كل
شيء، لا يحدده موضوعه، ولكن يحدده اسلوبه ونوع التأثر بموضوعه.
وعلى كل حال فإن
محاولة قدامة لم تخط بالنقد الفني الى الأمام لأنها أغفلت المنهج الفني إغفالا
تاما، بل أغفلت المناهج الأدبية جميعاً، وبعدت عن محيط الأدب الى محيط آخر غريب
عليه كل الغرابة.
ولكن المنهج الفني
عاد ينمو نموا جديدا على يدي رجلين من رجال النقد الأدبي، ورجلين من رجال البلاغة
في القرنين الرابع والخامس.
فأما الرجلان
الأولان فهما: ابن بشر الآمدي (4) في كتابه (الموازنة بين الطائيين أبي تمام
والبحتري) وأبو الحسن الجرجاني (5) في كتابه (الوساطة بين المتنبي وخصومه) وقد سار
كلاهما على مراعاة القيم التعبيرية والقيم المعنوية في حدود نعدها اليوم ضيقة
محدودة، ولكنها كانت اذ ذاك اوسع واشمل من سائر الحدود التي بلغ إليها النقد
قبلهما. وقد شملت كل ما سبقها وزادت. تناولا الألفاظ ومحاسنها ومعايبها، وتناولا
المعاني وما يستجاد منها وما يستكره، وتطرقا الى مباحث تعد الى حد ما داخله في
(المنهج التاريخي) لأنها تتعلق بالسرقات الشعرية والسابق فيا لمعاني والتعبيرات
واللاحق، ولكنهما لم يتوسعا في التعليل عند الاستحسان او الاستقباح.
وهذا المثال من
كتاب الموازنة يوضح ما نعنيه:
(قال مرار الفقسي
في وصف الأثافي:
أثر الوقود على
جوانبها بخدودهن كأنه لطم
أخذه ابو تمام فقال:
أثاف كالخدود لطمن
حزنا ونؤى مثلما انفصم السوار
(أورد المعنى في
مصراع، وأتى بالمصراع الثاني بمعنى آخر يليق، فأجاد، إلا ان بيت المرار أشرح وأوضح
معنى لقوله (أثر الوقود على جوانبها) فأبان المعنى الذي من اجله اشبه الخدود
الملطومة).
وكذلك هذا المثال
من كتاب الوساطة:
(وقد علمت ان
الشعراء قد تداولوا ذكر عيون الجآذر ونوظر الغزلان حتى إنك لا تكاد لا تجد قصيدة
ذات نسيب تخلو منه الا في النادر الفذ، ومتى جمعت ذلك، ثم قرنت إليه قول امرئ القيس:
تصد وتبدي عن أسيل
وتنقى مناظرة من وحش وجرة مطفل
او قابلته بقول
عدي بن الرقاع:
وكأنها بين النساء
أعارها عينيه احور من جآذر جاسم
(رأيت اسراع القلب
الى هذين البيتين وتبينت قربهما منه، والمعنى واحد وكلاهما خال من الصنعة بعيد عن
البديع الا ما حسن به من الاستعارة اللطيفة التي كسته هذه البهجة، هذا وقد تخلل كل
واحد منهما من حشو الكلام ما لو حذف لاستغنى عنه. وما لا فائدة في ذكره، لأن امرأ
القيس قال من (وحش وجرة) وعديا قال (من جآذر جاسم) ولم يذكرا هذين الموضعين الا
استعانة بهما في اتمام النظم، واقامة الوزن (ولا تلتفت ان ما يقوله المعنيون في
وجرة وجاسم فإنما يطلب به بعضهم الاغراب على بعض!) وقد رأيت ظباء جاسم فلم أرها
إلا كغيرها من الظباء، وسألت من لا أحصى من الاعراب عن وحش وجرة فلم يروا لها فضلا
على وحش (صرية) وغزلان (بسيطة) وقد يختلف خلق الظبا وألوانها باختلاف المنشأ
والمرتع، وأما العيون فقل ان تختلف لذلك، وأما ما تمم به عدي الوصف، وأضافه الى
المعنى المبتذل بقوله على إثر هذا البيت:
وسنان أيقظه
النعاس فرنقت في عينه سنة وليس
بنائم
(فقد زاد به على
كل من تقدم، وسبق بفضله جميع من تأخر؛ ولو قلت اقتطع هذا المعنى فصار له، وحظر على
الشعراء ادعاء الشرك فيه، لم أرني بعدت عن الحق ولا جانبت الصدق).
ولكن الرجلين على
العموم لا يتجاوزان موازنة بيت ببيت، او معنى بمعنى او تشبيه بتشبيه. لا يتجاوزان
هذا الى الاحكام الشاملة الا قليلا، واعتمادهما على الذوق – الذي قد يخطئ عندهما –
وعلى المأثور من استحسان الأوائل واستهجانهم للمعاني وطرق التعبير. ولكنهما على
أية حال خطوا خطوة واسعة بالنقد الأدبي على المنهج الفني. وإذا لم يكن بد ان نفاضل
بينهما فانا نقرر ان ابا الحسن كان ذوقه أصفى وتعبيره أجمل، والروح الأدبية فيه
واضحة عميقة.
أما الرجلان
الاخران فهما ابو هلال العسكري في كتابه (الصناعتين) وعبد القاهر الجرجاني في
كتابيه (دلائل الاعجاز) و(أسرار البلاغة).
والخطوة التي
خطاها اولهما لا تضيف شيئا في النقد الأدبي الى خطوة الآمدي وأبو الحسن الجرجاني.
بل ربما قصرت عنهما. ولكن عبد القاهر هو الفذ بين النقاد والبلاغيين (6). وان كان
اسلوبه اقل صفاء من اسلوب استاذه ابي الحسن الجرجاني.
ونكتفي هنا بنموذج
لأبي هلال قبل ان نفرغ لوصف الخطوة التي خطاها (عبد القاهر).. جاء في كتاب
الصناعتين (7):
(من الدليل على ان
مدار البلاغة في تحسين اللفظ. ان الخطب الرايقة والأشعار الرائعة ما عملت لإفهام
المعاني فقط. لان الرديء من الألفاظ يقوم مقام الجيدة منها في الافهام. وإنما يدل
حسن الكلام وإحكام صيغته ورونق ألفاظه وجودة مطالعه وحسن مقامه وبديع مباديه وغريب
مبانيه، على فضل قائله وفهم منشئه. وأكثر هذه الأوصاف ترجع الى الألفاظ دون
المعاني .. وتوخي صواب المعنى احسن من توخي هذه الامور في الألفاظ .. ولهذا تأنق
الكاتب في الرسالة والخطيب في الخطبة والشاعر في القصية.. يبالغون في تجويدها،
ويغلون في ترتيبها ليدلوا على براعتهم وحذقهم بضاعتهم، ولو كان الامر في المعاني
لطرحوا اكثر ذلك فربحوا كدا كثيرا، واسقطوا على أنفسهم تبعا طويلاً
(ودليل آخر .. ان
الكلام إذا كان لفظه حلوا عذبا، وسلسلا وسهلا، ومعناه وسطا، دخل في جملة الجيد،
وجرى مجرى الرابع (النادر) – كقول الشاعر:
ولما قضينا من منى
كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على حدب
المهارى رحالنا ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث
بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح
(وليس تحت هذه
الألفاظ كبير معنى. وهي رائعة معجبة وإنما هي: ولما قضينا الحج ومسحنا الاركان
وشدت رحالنا على مهازيل الإبل ولم ينظر بعضنا بعضا جعلنا نتح-دث وتسير بنا الإبل
في بطون الاودية.
(وإذا كان المعنى
صوابا، واللفظ باردا وفاترا – والفاتر شر من البارد – كان مستهجنا ملفوظا، ومذموما
مردودا. والبارد من الشعر قول عمرو بن معدي كرب:
قد علمت سلمى
وجاراتها ما قطر الفارس الا انا
شككت بالرمح
سرابيله والخيل تعدو زيما حولنا
(وأجود الكلام ما
يكون جزلا سهلا. لا ينغلق معناه، ولا يستبهم مغزاه، ولا يكون مكدودا مستكرها،
ومتوعرا متقعرا، ويكون بريئا من الغثاثة. والكلام إذا كان لفظه غثا، ومعرضه رثا،
كان مردودا ولو احتوى على أجل معنى وأنبله وأرفعه وأفضله، كقوله:
لما أطعناكم في
سخط خالقنا لا شك سل علينا سيف نقمته
وقول الآخر:
أرى رجالا بأدنى
الدين قد قنعوا وما أراهم رضوا في
العيش بالدون
فاستغن بالدين عن
دنيا الملوك كما اسـ ـتغنى الملوك
بدنياهم عن الدين
(لا يدخل هذا في جملة المختار، ومعناه كما ترى
نبيل فاضل جليل، وأما الجزل الرديء الفج الذي ينبغي ترك استعماله، فمثل قول تأبط شراً:
ولما سمعت العوض
تدعو تنفرت عصافير رأسي من نوى
فعواينا
وحثحثت مشغوف
الفؤاد فراعني أناس بفيفان فمزت
القراينا
فأدبرت لا بنجو
نجاتي نقنق يبادر فرخيه شمالا وداجنا
من الحص هزروف
يطير عفاؤه إذا استدرج الفيفاء مد
المغابنا
أزج زلوج هزرفي
زفأرف هزف يبذ الناجيات الصوافنا
(فهذا من الجزل
البغيض الجلف، الفاسد النسج، والقبيح الوصف، الذي ينبغي ان يتجنب مثله. وتمييز
للألفاظ شديد... أخبرنا ابو احمد عن فضل اليزيدي عن إسحق الموصلي عن أيوب بن عباية:
ان رجلا أنشد ابن هرمة قوله:
بالله ربك إن دخلت
فقل لها هذا ابن هرمة قائما بالباب
(فقال ما كذا قلت،
أكنت اتصدق؟ قال فقاعدا. قال: أكنت أبول؟ قال: فماذا؟
قال: واقفا ..
ليتك علمت ما بين هذين من قدر اللفظ والمعنى).
وهذا – كما ترى-لون
لا يختلف كثيرا عن الآمدي وعن ابي الحسن الجرجاني، بل ان صاحب الوساطة كان اروق
ذوقا وأدق حسا وأكثر استقلالا. اما ابو هلال فهو في الغالب ناقل جامع، وقد رأيت
كيف يعد بيتا كهذا جيد المعنى.
لما أطعناكم في
سخط خالقنا لا شك سل علينا سيف نقمته
وهو معنى عامي
مبتذل. إنما استجاده لما فيه من روح دينية عامية، وهذا لا علاقة له بالحكم على
جودة المعاني الشعرية.
أما عبد القاهر
فقد اكان له عمل آخر.
لقد حاول ان يضع
قواعد فنية للبلاغة والجمال الفني في كتابه (دلائل الإعجاز) كما حاول ان يضع قواعد
نفسية للبلاغة في كتابه (اسرار البلاغة) وقد تأثر بالفلسفة الاغريقية، وبالمنطق،
ولكن لا على طريقة (قدامة) فقد كان له من ذوقه الأدبي عاصم قوى، فبقي في دائرة
المنهج النفسي الذي سنعرض له فيما بعد.
وقد وصل في كتابه
الأول الى تقرير نظرية هو اول من قررها في تاريخ النقد العربي. ويصح ان نسميها
(نظرية النظم) وخلاصتها ان ترتيب المعاني في الذهن هو الذي يقتضي ترتيب الالفاظ في
العبارة، وان اللفظ لا مزية له في ذاته وإنما مزيته في تناسق معناه مع معنى اللفظ
الذي يجاوره في النظم – اي تنسيق الكلمات والمعاني بحيث يبدي النظم جمال الألفاظ
والمعاني مجتمعة – وان الجمال الفني رهين بحسن النسق او حسن النظم، مكا أنه لا
اللفظ منفردا موضع حكم أدبي ولا المعنى قبل ان يعبر عنه في لفظ، وإنما هما
باجتماعهما في نظم يكونان موضع استحسان او استهجان.
وهذا المثال من
كتاب دلائل الاعجاز يكشف عن هذه النظرية:
(.. وهل تشك اذا
فكرت في قوله تعالى: (وقل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضي الامر
واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين) [هود: 44] فتجلى لك منها الإعجاز
الذي ترى وتسمع .. أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة الا
الامر يرجع الى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وان لم يعرض لها الحسن والشرف الا من
حيث لافت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وهكذا الى ان تستقريها الى آخرها.
وان الفضل تناتج بينها وحصل من مجموعها.
(ان شككت فتأمل!
هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين اخواتها وأفردت لأدت من الفصاحة من تؤديه
وهي في مكانها من الآية؟ قل: (ابلعي) واعتبرها وحدها من غير ان تنظر الى ما قبلها
والى ما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها (وكيف بالشك في ذلك، ومعلوم ان مبدأ
العظمة في أن نوديت الارضِ، ثم أمرت، ثم في ان كان النداء بيا دون (اي) نحو (يا
أيتها الارض) ثم إضافة الماء الى الكاف دون ان يقال : ابلعي الماء، ثم ان اتبع
نداء الارض وأمرها بما هو من شانها نداء السماء وامرها كذلك بما يخصها، ثم ان قيل
: (وغيض الماء) فجاء الفعل على صيغة (فعل) الدلالة على انه لم ينض الا بأمر آمر،
وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى : (وقضي الأمر) ثم ذكر ما هو فائدة
هذه الامور وهو (استوت على الجودي) ثم اضمار السفينة قبل الذكر، كما هو الفاتحة ..
أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط
بالنفس من أقطارها، تعلقا باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق؟ ام
كل ذلك لما يبين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب؟
فقد اتضح اذن
اتضاحا لا يدع للشك مجالا ان الالفاظ لا تتفاضل من حيث هي الفاظ مجردة، ولا من حيث
هي كلم مفردة، وان الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظ لمعنى
التي تليها، او ما أشبه ذلك مما تعلق له بصريح اللفظة. ومما يشهد بذلك أنك ترى
الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر، كلفظ
الأخدع في بيت الحماسة؟
تلفت نحو الحي حتى
وجدتني وجعت من الاصغاء ليتا واخدعا
وبيت البحتري:
وإني وان بلغتني
شرف الغنى وأعتقت من رق المطامع
أخدعي
(فإن لها في هذين
المكانين ما لا يخفى من الحسن. ثم إنك تتأملها في بيت أبي تمام:
يا دهر قوم من
أخدعيك فقد أضججت هذا الانام من خرقك
(فنجد لها من
الثقل على النفس، ومن التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت هناك من الروح والخفة
والإيناس والبهجة. ومن أعجب ذلك لفظ (الشيء) فإنك تراها مقبولة حسنة في موضع،
وضعيفة مستكرهة في موضع، وإن أردت أن تعرف ذلك فأنظر الى قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
ومن مالئ عينيه من
شيء غيره إذا راح نحو الجمرة البيض
كالدمى
وإلى قول ابي حية:
إذا ما تقاضى
المرء يوم وليلة تقاضاه شيء لا يخل
التقاضيا
(فإنك تعرف حسنها
ومكانها من القبول. ثم انظر إليها في بيت المتنبي:
لو الفلك الدوار
أبغضت سعيه لعوقه شيء عن الدوران
فإنك تراها تقول
تضؤل بحسب نبلها وحسنها فيما تقدم.
وهذا باب واسع
فإنك تجد متى شئت الرجلين قد استعملا كلما بأعيانها، ثم ترى هذا قد فرع السماك،
وترى ذاك قد لصق بالحضيض. فلو كانت الكلمة إذا حسنت حسنت من حيث هي لفظ، وإذا
استحقت المزية والشرق استحقت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها دون ان يكون السبب في ذلك
حال لها مع أخواتها المجاورة لها في النظم، لما اختلفت بها الحال، ولكانت اما ان
تحسن ابدا أو لا تحسن ابدا).
ومع اننا نختلف مع
عبد القاهر في كثير مما تحويه نظريته هذه بسبب إغفاله التام لقيمة اللفظ الصوتية
مفردا ومجتمعا مع غيره، وهو ما عبرنا عنه بالإيقاع الموسيقي، كما يغفل الظلال
الخيالية من أحيان كثيرة، ولها عندنا قيمة كبرى في العمل الفني .. مع هذا فإننا
نعجب باستطاعته ان يقرر نظرية مهمة كهذه – عليها الطابع العلمي – دون ان يخل بنفاذ
حسه الفني في كثير من مواضع الكتاب.
وأما كتابه الاخر
(اسرار البلاغة) فقد اتجه همه فيه الى اقامة القواعد البلاغية على أسس نفسية، مع
أنه لم يخل من آثار المنهج الفني، لذلك فسنتحدث عنه عند الكلام على (المنهج
النفسي).
هناك مؤلف آخر
عاصر عبد القاهر الخامس ايضا هو (ابن رشيق القيرواني (8)) وصاحب كتاب (العمدة) وقد
سار على نسق وحده، ولكنه اشبه بنسق الصناعتين في الجمع بين مباحث النقد الأدبي
ومباح البلاغة، مع أشياء في تاريخ الأدب وأقوال القدماء والمحدثين ونوادرهم.
ولا يجد الباحث ان
ابن رشيق قد زاد شيئا ذا قيمة على مباحث النقد والبلاغة في القرن الرابع الا في
مواضع قليلة هنا وهناك في الكتاب. وهو على وجه عام يتبع (المنهج الفني) مع تطرقه
الى النواحي التاريخية كبقية النقاد العرب. لان (الرواية) كانت دائما تتخلل كتب
النقد كما ان النقد يتخلل كتب الرواية، على ما سيأتي حينما نعرض للمنهج التاريخي،
وما جاء منه في كتب النقد العربي القديمة.
ويحاول (ابن رشيق)
ان ينفرد له برأي في مشكلة اللفظ والمعنى التي شغلت الجاحظ وأبا هلال العسكري وعبد
القاهر. وهي مشكلة وصل (عبد القاهر) فيها الى رأي دقيق في (دلائل الاعجاز) أشرنا
إليه من قبل. وخلاصته ان اللفظ من حيث هو لفظ لا يبحث فيه، وكذلك المعنى من حيث هو
خاطر في الضمير. إنما يبدأ البحث عند التعبير عن المعنى في لفظ. وكل تعبير يخلق
صورة خاصة للمعنى تتغير اذا اختلف النظم.. وهذه نظرية جيدة دقيقة عن تلازم اللفظ
والمعنى في النص الأدبي، وعدم استطاعة الحكم على أيهما منفردا.
أما (ابن رشيقِ)
فلا يصل الى مثل هذه الدقة الكاملة في تصوير صلة اللفظ والمعنى بل يلجأ الى
العبارات المجازية فيقول:
(اللفظ جسم وروحه
المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم، يضعف بضعفه ويقوى بقوته. فاذا سلم
المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصا للشعر وهجنة عليه، كما يعرض لبعض الاجسام من
العرج والشلل والعور وما اشبه ذلك، من غير ان تذهب الروح وكذلك ان ضعف المعنى
واختل بعضه كان للفظ من ذلك اوفر حظ، كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الارواح،
ولا تجد معنى يختلف الا من جهة اللفظ وجريه فيه على غير الواجب. قياسا على ما قدمت
من أدواء الجسوم والأرواح. فان اختل المعنى كله وفسد، بقي اللفظ مواتا لا فائدة
فيه، وان كان حسن الطلاوة في السمع، كما ان الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأي
العين الا انه لا ينتفع به، ولا يفيد فائدة، وكذلك إذا اختل اللفظ جملة وتلاشى لم
يصح له معنى، لانا لا نجد روحا في غير جسم).
ولكن ابن رشيق يصل
في موضع آخر من كتابه في باب (المطبوع والمصنوع) الى تلخيص للموضوع يحسب سبقا ذا
قيمة من ناحية بلورة الموضوع وتلخيصه، فهو يرجع الشعر الى اقسام: (المطبوع) وهو
الذي ينبعث عفوا الخاطر بلا كلفة ولا صنعة (والمصنوع) ويجعل له اقساماً: وقعت فيه
(الصنعة) من غير قصد ولا تكلف، كأنواع التشبيه والبديع التي جاءت عفوا في بعض
اشعار المتقدمين. وما وقع فيه (التصنع) أي وجدت فيه الصنعة عن قصد ولكن بلا تكلف
مفسد. وما وقع فيه (التصنع) أي وجدت فيه الصنعة بتكلف شديد.
وهو تلخيص جيد،
عليه طابع علمي، مصبوغ بالصبغة الفنية. ولم يبتدع ابن رشيق هذا ابتداعا، فقد تحدث
فيه ابن قتيبة والآمدي والجرجاني وغيرهم من قبل. ولكن له فضل التلخيص والتعقيد
والتبويب. وهو فضل ليس بالقليل في تاريخ النقد العربي القديم (9).
****
على وجه الاجمال
كان المنهج الفني هو المنهج الغالب في النقد الأدبي، وقد استعرضنا في اختصار كامل
اهم خطوطه الرئيسية في الأدب العربي القديم، وهو استعراض يرسم لنا – بقدر الإمكان-صورة
لتدرج هذا المنهج ولميادينه التي طرقها كذلك.
ولقد وقفت خطوات
النقد الأدبي بعد عبد القاهر الى ان استؤنفت في العصر الحديث. ومع قلة عدد الكتب
والبحوث النقدية الحديثة، فإنها طرقت كثيرا من ميادين النقد في محيط اوسع وأشمل من
البحوث القديمة. طرقت مناهج النقد جميعا من فنية الى تاريخية الى نفسية كما أشرنا
الى ذلك في الفصل السابق.
ونحن هنا بصدد
النهج الفني وحده فنكتفي بإيراد نماذج منه في النقد الحديث.
***
(لقد كانت السمة
الأولى للتعبير القرآني هي اتباع طريقة تصوير المعاني الذهنية والحالات النفسية
وابرازها في صورة حسية، والسير على طريقة تصوير المشاهد الطبيعية والحوادث الماضية
والقصص المروية والامثال القصصية ومشاهد القيامة وصور النعيم والعذاب والنماذج
الانسانية كأنها كلها حاضرة شاخصة بالتخييل الحسي الذي يفهمها بالحركة المتخيلة.
(فما فضل هذه
الطريقة على الطريقة الاخرى التي تنقل المعاني والحالات النفسية في صورتها الذهنية
التجريدية، وتنقل الحوادث والقصص اخبارا مروية، وتعبر عن المشاهد والمناظر تعبيرا
لفظياً، لا تصويرا تخييليا؟
(يكفي لبيان هذا
الفضل ان نتصور هذه المعاني كلها في صورتها التجريدية، وان نتصورها بعد ذلك في
الهيئة الاخرى التشخيصية.
(ان المعاني في
الطريقة الأولى تخاطب الذهن والوعي، وتصل اليهما مجردة من ظلالها الجميلة. وفي
الطريقة الثانية تخاطب الحس والوجدان وتصل الى النفس من منافذ شتى: من الحواس
بالتخييل والايقاع، ومن الحس عن طريق الحواس، ومن الوجدان المنفعل بالأضواء
والاصداء. ويكون الذهن منفذا واحدا من منافذها الكثيرة الى النفس، لا منفذها
المفرد الوحيد.
(ولهذه الطريقة
فضلها ولا شك في أداء الدعوة لكل عقيدة، ولكننا إنما ننظر إليها هنا من الوجهة الفنية
البحتة. وإن لها من هذه الوجهة لشأنها. فوظيفة الفن الأولى هي إثارة الانفعالات
الوجدانية، واشاعة اللذة الفنية بهذه الآثار، وإجاشة الحياة الكامنة بهذه
الانفعالات، وتغذية الخيال باصور لتحقيق هذا جميعه .. وكل أولئك تكفله طريقة
التصوير والتشخيص للفن الجميل. وإليك المثال:
(معنى النفور
الشديد من دعوة الإيمان ينقل اليك في صورته التجريدية هكذا: انهم لينفرون اشد
النفرة من دعوة الايمان. فيمتلي الذهن وحده معنى النفور في برود وسكون.
(ثم ينقل اليك في هذه الصورة العجيبة (فما لهم
عن التذكرة معرضين * كأنهم حمر مستنفرة * فزت من قسورة) فتشرك مع الذهن حاسة النظر
وملكة الخيال، وانفعال السخرية وشعور الجمال: السخرية من هؤلاء الذين يفرون كما
تفر حمر الوحوش من الاسود، لا لشيء الا لأنهم يدعون الى الإيمان! والجمال الذي
يرتسم في حركة الصورة حينما يتملاها الخيال في إطار من الطبيعة، تشرد في هذه الحمر
يتبعها (قسورة) الموهوب!
(فللتعبير هنا
ظلال حوله، تزيد في مساحته النفسية – إذا صح هذا التعبير!
(ومعنى عجز الآلهة
التي كان المشركون يبعدونها من دون الله، يمكن ان تؤدي في عدة تعبيرات ذهنية
مجردة، كأن يقال: ان ما تعبدون من دون الله لأعجز من خلق أحقر الاشياء، فيصل
المعنى الى الذهن مجرداً باهتاً.
(ولكن التعبير
التصويري يؤديه في هذه الصورة:
(ان الذين تدعون
من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه
منه ضعف الطالب والمطلوب)!
(فيشخص هذا المعنى
ويبرز في تلك الصور المتحركة المتعاقبة.
(لن يخلقوا ذبابا)
هذه درجة (ولو اجتمعوا له) وهذه اخرى. (وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه) وهذه
ثالثة. أرأيت الى تصوير الضعف المزري؟ والى التدرج في تصويره بما يثير في النفس
السخرية اللاذعة والاحتقار المهين؟
(ولكن أهذه
مبالغة؟ وهل البلاغة فيها هي الغلو؟
(كلا؟ فهذه حقيقة
واقعة بسيطة. ان هؤلاء الآلهة (لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) والذباب صغير
حقير، ولكن الإعجاز في خلقه هو الإعجاز في خلق الجمل والفيل. إنها (معجزة الحياة)
يستوي فيها الجسيم والهزيل. فليست المعجزة في صميمها هي خلق الهائل من الاحياء.
إنما هي خلق الخلية الحية الصغيرة كالهباء.
(ولكن الإبداع
الفني هنا هو في عرض هذه الحقيقة في صورة تلقى ظلال الضعف عن خلق أحقر الاشياء،
والجمال الفني هنا هو في تلك الظلال التي تضفيها محتويات الصورة، وفي الحركة
التخييلية في محاولة الخلق، وفي التجمع له، ثم في محاولة الطيران خلف الذباب
لاستنقاذ ما يسلبه. وهم وأتباعهم عاجزون عن هذا الاستنقاذ!) (10) .. إلخ.
***
(يخيل الي من
مجموعة الشعر العربي ان (الطبيعة) لم تكن الا قليلا متصلة بإحساس الشعراء العرب
اتصال الصداقة والألفة – بله اتصال المجموعة الحية – فهي في الغالب صلة عداء
يمثلها قول الشاعر:
وركب كأن الريح
تطلب عندهم لها (ترة) من جذبها
بالعصائب
(وان كانت هذه
الظاهرة العامة لا تنفي الاحاسيس المفردة لبعض الشعراء حينما تختلف البيئة كقول
حمدونة الشاعرة الاندلسية:
وقانا لفحة
الرمضاء واد سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا
علينا حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ
زلالا ألذ من المدامة والنديم
وكأبيات المتنبي
المعجبة في وصف شعب بوان وفيها ذلك البيت الجميل:
يقول بشعب بوان
حصاني أمن هذا يسار الى الطعان؟!
وإن كان هذا من
مقولات الحصان التي يسخر منها المتنبي!
وظاهرة اخرى تغلب
في الشعر العربي وهي الاحساس بالطبيعة عند ألفتها كأنها منظر يوصف او يلتذ. لا
شخوص تحيا، وحياة تدب. والمواضع التي أحس فيها الشعراء العرب بالطبيعة هذا الاحساس
الأخير تكاد تعد. فنحن إذا استثنينا ابن الرومي – وكان بدعا في الشعر العربي كله –
لا نكاد نعثر إلا على أبيات ومقطوعات يحس الشعراء فيها هذا الاحساس على تفاوت في
قيمتها الفنية، نذكر منها أبيات البحتري في وصف الربيع التي مطلعها:
أتاك الربيع الطلق
يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد ان
يتكلما
وقول ابن خفاجة
الاندلسي في وصف جبل:
وأرعن طماح
الذؤابة شامخ يطاول أعنان السماء
بغارب
وقور على ظهر
الفلاة كأنه طوال الليالي ناظر في
العواقب
أصخت إليه وهو
أخرس صامت فحدثني ليل السرى بالعجائب
وفيما عدا ابن
الرومي، وتلك الابيات والمقتطعات القليلة المتناثرة في ديوان الشعر العربي الضخم
تكاد الطبيعة في الشعر العربي (تستعمل من الظاهر!) فهي مناظر جامدة للوصف الحسي،
والتشبيه بالمحسوسات، تعلو في سلم الفن حتى تكون كأبيات المتنبي في شعب بوان،
وتسفل حتى تصل الى تشبيهات ابن المعتز جميعا!
وظاهرة ثالثة، هي:
أن الطبيعة في الشعر العربي قد تحيا وتدب، ويحس الشاعر بما يضطرب فيها من حياة،
ويلحظ خلجاتها، ويحصي نبضاتها، ولكنه هو لا يندمج في هذه الطبيعة، ولا يحس انه شخص
من شخوصها، وفرد من أبنائها وان حركته من حركاتها، ونبضه من نبضاتها، وأنه منها
وإليها وأحاسيسه موصولة بأحاسيسها) (11) ... إلخ.
***
إذا أتيح لك ان
تحضر مجلسا من مجالس الظرفاء القاهريين في الجيل الماضي، خيل اليك أنك في حجرة رجل
نائم مريض!
فالكلام همس،
والخطر لمس، والإشارة في رفق، وسياق الحديث لا إمعان فيه، كل ما هنالك يوحي اليك
الخوف من الحركة والاشفاق من الشدة، إلا ساعة الضحك في بعض الاحايين، فقد يصحو
فيها المريض، وتعلو طبقة الأصوات، ويستمع مريضنا الذي كان نائما قبل هنيهة بعض ما
يجلب السرور من الضحكات والمناقشات، دون ان يحفز الخاطر او يستجيش الضمير.
وتلك حال معهودة
في أذواق الألم التي لها نصيب عريق من الحضارة، ولم يبق لها نصيب من قوة السلطان
ودفعة الحياة.
فالحضارة تنتهي
فيها الى ترف، والترف ينتهي فيها الى نعومة والفضيلة الكبرى فيها تنتهي الى الذوق
المترف الناعم، او الذوق فيه تمييز وكياسة، وليس فيه قوة وعمق، ولا صبر له على
العزم والصلابة في عمل ولا حس، ولا طلب تتوق إليه النفس، ولو كان طلب الجمال او
طلب المتعة بالذوق الجميل.
ويتفق لهذا الراي
المترف الناعم ان يكون صادقا لا تصنع فيه، كما يتفق له ان يكون كاذبا كله تصنع
واختلاق؛ وإنما الفرق بين صادقه وكاذبه ان الأول يغار حقا على سلامة النائم
المريض، فهو يتمشى او يتكلم برفق مطبوع وهوادة خالصة من الرياء، وان الثاني يتكلف
الغيرة، فيمشي المشية بقدمه ولا يمشيها بقلبه! ويهمس الهمسة بشفته ولا يهمسها بفكره!
ولكنهما على السواء لا يبتعدان عن سرير النائم المريض.
في هذه البيئة نشأ
إسماعيل صبري الشاعر الناقد البصير بلطائف الكلام، فنشأ على ذوق قاهري صادق. يعرف
الرقة بسليقته وفكره، وليس يتكلفها بشفتيه ولسانه.
وإن هذا الذوق
لخبير بالجيد والرديء من الكلام، وقادر على التمييز الصحيح بين الذهب والبهرج في
رونق الفصاحة، ولكنك خليق ان تفرض له درجة من الحرارة لن يقدر على الحياة فيما
وراءها، فاذا استطعت ان تتخيل اناساً من الاحياء لا يعيشون فيما وراء درجة
العشرين، فأولئك هم أصحاب ذلك الذوق من القاهريين في ذلك الجيل: كل ما يشعرون به
من حسن أو قبح صحيح قويم ولكن على تلك النسبة من الفرق بين الحرارتين: حرارة لا
تتجاوز عشرين درجة وحرارة قد تتجاوز الثانية والاربعين.
ولما تهيأ
لإسماعيل صبري ان يتلقى العلم في فرنسا، ويطلع على آدابها وآداب الأوروبيين في
لغتها، كان من الاتفاق العجيب انه اطلع على الآداب الفرنسية وهي في حالة تشبه حالة
الذوق القاهري من بعض الوجوه، لأنها كانت تدين على الاكثر الاغلب بتلك الرفاهية
الباكية التي كان يمثلها (لامرتين) وإخوانه الأرقاء الناعمون، وليست هذه الطريقة
بالتي تبعث القاهري من أبناء الجيل الماضي الى تبديل سمته وهبوط حرارته. والتحول
عن حجرة النوم والفتور!
فإسماعيل صبري
شاعر صادق الشعر، ناقد بصير بالنقد، إلا أنه لا يتعدى في شعره ونقده نطاقا يرسمه
له مزيج من ذوقه القاهري وذوق المدرسة (اللامرتينية) في أحسن ما كانت عليه من شعور
وتمييز.
شعره لطيف لا تعمل
فيه، ولكنه كذلك لا قوة فيه ولا حرارة، ونقده نقد بصير عارف بالزيف كله، ولكنه غير
بصير ولا عارف بالصحة كلها، وأثره في تهذيب الأذواق، ونفي ما كان فاشيا من زيف
التشبيه وفساد الخيال أثر واضح لا ريب فيه. ولكنه بعد هذا أثر محدود بذلك النطاق
المرسوم.
(إن شئت فقل: ان
ادب الرجل كان ادب (الذوق) ولم يكن أدب النزعات والخوالج، وأدب السكون ولم يكن ادب
الحركة والنهوض، وأدب الاصطلاح ولم يكن أدب الابتكار المستكشف الجسور) (12).
***
(ولأعد الى توفيق
وإلى قصته (شهرزاد) التي أذاعها في الناس، والتي اظهرني عليها مع جماعة من
الأصدقاء قبل ان يذيعها في الناس. لأعد الى هذه القصة فأعترف بأنها – كقصة (أهل
الكهف) – فن جديد من الانتاج في أدبنا الحديث، لم يسبق توفيق الى مثله ولا الى
قريب منه. ولست أزعم أنها المثل الاعلى في القصص التمثيلي. بل لست أزعم انها شيء
يقرب من المثل الأعلى. ولكنني أزعم انها أثر فني متقن ممتع، دقيق الصنع بارع
الصورة خليق بالبقاء وبالبقاء الطويل. لا أنكر على توفيق في هذه القصة ما أنكرته
على الطبعة الأولى لأهل الكهف من الخطأ اللغوي المنكر، ولا من الاطالة والاسراف في
بعض المواضع، فأكبر الظن انه راجع قصته هذه قبل نشرها، فردها الى صواب اللغة
والنحو ردا حسنا، وأعاد فيها النظر فحذف منها وأضاف إليها، وسواها تسوية صالحة
معجبة. ولا أكاد أنكر على هذه القصة شيئا من الخطأ بالقياس الى أصول التمثيل وحاجة
الملعب، فصناعة القصة دقيقة والملاءمة فيها بين حاجة الفن الأدبي وحاجة الملعب
واضحة موفقة، وان كان تمثيل القصة مع ذلك في مصر شيئا لا سبيل إليه الان، لأمرين
واضحين اشد الوضوح : فأما أولهما فهو ان القصة ترتفع عن كثرة النظارة الذين يختلون
الى ملاعب التمثيل ويكاد الاستمتاع بها يكون مقصوراً على أصحاب الثقافة الممتازة،
فهي من هذه الناحية مخففة ان عرضت على النظارة في يوم من الايام : سيسمع الناس
كلاما حسنا يفهمون بعضه ويلتوي عليهم أكثره فيضيقون به ولما يشهدوا من القصة منظرا
او منظرين. الثاني ان الممثلين الذين يستطيعون ان يلعبوا هذه القصة كما ينبغي، وان
يعرضوها على النظارة عرضا صادقا يلائم جمالها واتقانها لم يوجدوا بعد، لان
الممثلين المثقفين تثقيفا صحيحا لا يزالون قلة ضئيلة جدا في هذا البلد (13).
(فقصة توفيق اذا
ستقرأ ليس غير، ولعلها تستفيد من هذا ولا تخسر شيئا، فلست أعرف في أدبنا الحديث
قصة يتجه بها صاحبه الى العقل والشعور معا كهذه القصة. اتجاهه بها الى العقل أكثر
من اتجاهه بها الى الشعور. فالقصة لا تعالج شيئا أقل ولا أدنى من هذه المسألة
اليسيرة التي عجزت الفلسفة الانسانية عن حلها الى الآن، وهي مسألة الحقيقة ما هي؟
او ماذا يمكن ان تكون؟ وأظنك توافقني على ان مثل هذا الحوار الأفلاطوني لم يخلق
للملعب المصري بنوع خاص.
(ومع ذلك فالقصة
في ظاهرة يسيرة جدا. فقد اشتد اعجاب الملك (شهريار) بصاحبته (شهرزاد) حتى أراد ان
يتبين حقيقتها، ويعرف الجلي من أمرها، فأخذ يبحث ويجد في البحث ولكنه لم يظفر
بشيء. وأخذ يسأل ويجد في السؤال، ولكنه لا ينتهي الى شيء وهو يسأل الناس، ويسأل
الاشياء ويسأل الاحياء في الارض، والنجوم في السماء، بعد ان سأل شهرزاد نفسها عن
نفسها فلم تجبه، لأنها لا تريد أو قل لأنها لا تدري كيف تجيبه، او قل لان الكاتب
نفسه لا يدري كيف يكون الجواب، وهو على هذا ضيق بنفسه هائم بما لا سبيل الى الوصول
إليه. كان سعيدا فأصبح شقيا، وكان هادئا فدفع الى القلق الذي لا آخر له.
ووزيره قمر مفتون
بشهرزاد. ولكن كما يفتن الرجل المتحضر بالمرأة المتحضرة يحبها حبا فيه الشهوة،
وفيه السمو الى المثل الاعلى. ولكنه حب الناس على كل حال. والوزير معذب بهذا الحب
وبالوفاء الذي يحفظه لملكه وصديقه شهريار، والملك يعلم منه هذا ويغض عنه أول الامر
ثم يدفعه إليه ويحدثه عليه بعد ذلك.
والعبد الاسود يحب
شهرزاد ايضا، ولكنه يحبها حب الحيوان لا يخلط حبه بحضارة ولا ثقافة، ولا يسلط
عليها شعاعا من فلسفة او ادب او فن. وإنما هي الغريزة وحدها.
وشهرزاد تحب هؤلاء
الاشخاص جميعا، ولم لا؟ فشهرزاد هي الطبيعة، هي الحقيقة التي تحب طلابها وعشاقها
على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، وتمنح هؤلاء الطلاب والعشاق ما تستطيع ان تمنحهم من
الرضى. فأما الذين يقنعون بالقليل او يطلبون إليها الكثير الممكن، فما أقدرها على
إرضائهم. وأما الذين يطلبون جوهرها وخلاصتها ويريدون ان يمتزجوا بها، ويفنوا فيها،
فهي عاجزة عن ان تبلغهم ما يريدون، وهي مع ذلك ترحمهم لأنهم يشقون في طلب المثل
الأعلى، وتسخر منهم لأنهم يطمعون في الوصول إليه، ثم هي بعد ذلك تيئسهم يأسا يهلك
بعضهم، ويريح بعضهم الآخر فالملك شهريار هو هذا الإنسان الذي هام بالمثل العلى،
ولم يظفر به. والوزير هو هذا الإنسان المتحضر المثقف الذي يحب ولكن في حضارة ورقي
وارتفاع عن الغريزة. والعبد هو الإنسان العادي الذي لم يبلغ بعد ان يتسلط عقله
وعواطفه الحضرية، على غرائزه الأولى: وشهرزاد هي الطبيعة التي تسمع لهؤلاء جميعا
وتثيبهم بما تستطيع ان تثيبهم به منحا ومنعا.
(فنحن اذن امام
محاورة فلسفية من محاورات أفلاطون، لولا ان الكاتب الذي فطر على حب الحوار قد صاغ
لنا محاورته هذه صيغة أدبية تمثيلية، تمكننا من أن
نسيغها ونطرب لها
ونجد فيها لذة الشعور، ولذة الحس ايضا، ففي القصة مناظر حسان، وفيها موسيقى رقيقة
خفيفة جميلة النغم، وفي القصة ايضا ما يضحك بل ما يدفع الى الاغراض في الضحك،
وفيها ما يحزن بل ما يدفع الى الحزن العميق، وحسبك بحانة (ميسور) التي ما أظن الا
ان الكاتب قد صور فيها دارا من دور الأفيون في باريس، وحسبك ان تشهد في أول القصة
مصرع هذه الفتاة التي يقتلها الساحر التماسا لشفاء الملك، وتشهد في آخر القصة مصرع
هذا الوزير يقتل نفسه غيرة من العبد الذي استأثر بجسم شهرزاد، ثم تشهد بين هذا
وذاك حيرة الملك واضطرابه، ونشهد آخر الامر استقرار الملك الى هذه الحيرة
والاضطراب، ان أمكن ان يستقر الناس الى الحيرة والاضطراب)(14).
***
قرأت:
أنادي الرسم لو
ملك الجوابا وأجزيه بدمعي لو أثابا
(ووقفت قليلا
لأتأكد مما إذا كنت أطالع قصيدة جاهلية ام عصرية، اذ تبادرت الى ذهني ابيات كثيرة
فيها (اطلال) و(رسوم) و(دموع) (لعبلة أطلال) (قفا نبك) (عفت الديار).
(إذا وقف (امرؤ
القيس) وبكى وستبكى (من ذكرى حبيب ومنزل) ففي وقفته وفي ذكراه وفيما يلي من وصفه
ما يبكي فلا تكلف في بكائه ولا تصنع. لكن ماذا الذي يبكيه (احمد شوقي)؟ عز
الاندلس؟ لا شك ان في أشباح عروش ثلت، وفي رسوم مجد باد، وفي بقايا مدنية درست ما
يفيض على القلب ويعصره، فيطلق دمع العين، لكن عينا لم تر تلك الاشباح والرسوم
والبقايا لا تسكب عليها دمعا الا إذا تجسمت تلك إيحيالات أمامها في وصف راو او رسم
رسام أو نحت نحات او حركات ممثل. وما الشارع الا راو يقص في قالب جميل عن انفعالات
نفسه وتموجات عواطفه وآماله، وتقلبات أفكاره، في كل ما يسمعه ويراه ويشعره به
(وشوقي) بعد أن صرف سنوات في الاندلس عاد الى مصر ووقف يخبر أهلها بما
شاهد، ويقاسمهم
عواطفه وتأثراته التي ولدتها فيه تلك المشاهد، لينقل الى قلوبهم بعض الانفعالات
التي تسربت الى قلبه يوم كان واقفا بين تلك (الدمن البوالي) فماذا قال لهم؟
(قام ينادي الرسم،
(يجزيه بدمعه) ويقول: إن العبرات (قلت لحقه) وإنهن – يعني العبرات – (ستبقى مقبلات
الترب عنه) وإنه (نثر الدمع في الدمن البوالي) وبكلمة اخرى انه بكى. ولماذا؟
(لو بقيت شهرا بل
عاما اقول للناس (يا ناس أني بكيت!) لما بكى معي أحد، ولما رق لحالي مخلوق، غير إني
لو أدخلتهم قلبي وقد خيم الحزن فيه، وفتحت أمامهم أبواب نفسي وقد علقت شراك اليأس،
لتبللت مع عيني عيون، ولانقبضت مع قلبي قلوب، ولأكمدت مع نفسي نفوس. وهذه هي مهمة
الشاعر ان قصر فيها فهو وازن وليس بشاعر. وكم هم الشعراء بيننا الذين يستعيضون عن
وصف عاطفة بذكر نتيجتها الخارجية، فان حزنوا قالوا (بكينا) وان فرحوا قالوا
(ضحكنا) كأن لا سبيل لوصف الحزن الا بالدموع، او لوصف الفرح إلا بالضحك، فما أغزر
الدموع في مآقينا وما أسخى مآقينا بسكب الدموع.
(وفي الدرة
الشوقية أمثال كثيرة من هذا الوصف السطحي الذي لا يحرك فكرا في رأس، ولا يرسم صورة
مخيلة، ولا يهيج عاطفة في قلب، غير ان فيها من الوصف ما يكاد يشفع بتلك الترهات.
ولو لم يكن ضائعا بين أبيات جاءت حشوا، فبان كضمة من الزهر في حقل من العوسج، فمن
ذاك الوصف تعبيره عن شوقه الى مصر وحبه لها حيث يقول:
ويا وطني لقيتك
بعد يأس كأني قد لقيت بك الشبابا
ولو أني دعيت لكنت
ديني عليه أقابل الحتم المجابا
أدير إليك قبل
البيت وجهي إذا فهت الشهادة والمتابا
(ومن الحشو قول
بعد البيت الأول من هذه الفقرة:
وكل مسافر سيؤوب
يوما إذ رزق السلامة والإيابا
فلا فرق عندي بين
هذا البيت وبين قول القائل:
الليل ليل والنهار
نهار والارض فيها الماء والاشجار
(ومن الحشو قوله
كذلك بعد الابيات الثلاثة السابقة:
وقد سبقت ركائبي
القوافي مقلدة أزمتها طرابا
تجوب الدهر نحوك
لا الفيافي وتقتحم الليالي لا
العبايا
وتهديك الثناء
الحر تاجا على تاجيك مؤتلقا عجابا
(فماذا يؤهل هذه
الأبيات لان تدعى شعراً؟ اذ لا رسم فيها جديدا ولا فكر مبتكرا ولا عاطفة حية، تزيد
على العاطفة التي وضعها في الابيات السابقة، بل جل ما يقال فيها لو قال الخليل من
قبره وعرضت عليه لقال: إنها محكمة النظم وإنها من البحر (الوافر).
(ومن وصفه الشعري
ايضا قوله حيث يشكر للأندلس أنه في مدة إقامته فيها تخلص من وجود الممالئين
والأغبياء المدعين:
فأنت أرحتني من كل
أنف كأنف الميت في النزع انتصابا
ومنظر كل خوان
يراني بوجه كالبغي رمى النقابا
ومن الحشو قوله
بعد هذين البيتين:
وليس بعامر بنيان
قوم إذا اخلاقهم كانت خرابا
(فعلام هذا
الانتقال الفجائي الغريب من نقد عنيف مر الى (حكمة) مبتذلة لا حكمة فيها؟ اما كان
الاحرى به ان يتمم صورة حالة قومه الاجتماعية، حتى إذا تجلت امام أعين سامعيه بكل
خوطها وألوانها قالوا من تلقاء أنفسهم – (لا والله. فلا يعمر ابداً بنياننا ما
زالت اخلاقنا خرابا)؟
(لئن غفرنا للشاعر
أبياتا ما حشا بها القصيدة الا لزيادة العدد، فلن تغفر له تناقضا فاحشا في
المعاني. فوالله لنعجب من أمر شاعر يشكو الغربة لأنها أراحته من (كل أنف كأنف
الميت في النزع انتصابا) ومن منظر (كل خوان) (يراه) (بوجه كالبغي رمى النقابا)
وينذر قومه بان بنيانهم ..... (إذا أخلاقهم كانت خرابا) ثم يعود بعد لحظة يخاطب
وطنه وأولئك القوم أنفسهم بهذه اللهجة:
وحيا الله فتيانا
سماحا كسوا عطفي من فخر ثيابا
ملائكة إذا حفوك
يوما أحبك كل من تلقى وهابا
وإن حملتك أيديهم
بحوراً بلغت على أكفهم السحابا
تلقوني بكل أغر
زاه كأن على اسرته شهابا
ترى الايمان
مؤتلقا عليه ونور العلم والكرم
اللبابا
وتلمح من وضاءة
صفحتيه محيا مصر رائعة كعابا
(فبلد فنيانه ملائكة إذا (حفوه يوما) أحبه
وهابه كل قادم اليه، وان حملته (أيديهم بحورا) بلغ السحاب، وبلد ترى على اوجه
فتيانه شهبا، وترى الايمان مؤتلقا عليها، ونور العلم والكرم اللبابا، لبلد سعيد،
وأهله لقوم مهما جاز ان يقال فيهم، فلا يصح ان يقال ان (أخلاقهم خراب) ام هي
(الدر) لا تكون كاملة ما لم يتخللها قليل من النقد وقليل من الاطراء وقليل من
الفخر وقليل من الحكم، سواء تآلفت معانيها ام تنافرت؟) (15).
***
وأحب قبل ان اختم هذا الفصل ان اضيف الى
هذه النماذج من النقد في الأدب العربي قطعة لناقد انجليزي، تناول فيها قصيدة (لورد
زورث) هذا النقد هو (هت. ب. تشالرتن) في كتابه الذي عربه الدكتور زكي نجيب محمود
بعنوان (فتون الادب) أثبتها هنا. وان لم تكن عربية. لأنها تصور نموذجا بارعا للنقد
الادبي، هو في الوقت ذاته صالح للتطبيق في النقد العربي الحديث.
(خذ مثلا لذلك قصيدة (ورد زورث) (الحاصدة
المنفردة) فترى الشاعر فيها يسير على تل في أسكتلندة وإذا ببصره يقع على فتاة تحصد
حقلا عبر الوادي، وينصت فاذا الفتاة تغني، فيتأثر أبلغ الاثر بمنظرها وغنائها:
انظر اليها في الحقل وحيدة
تلك الفتاة الريفية في عزلتها
تحصد وتغني بنفسها
قف ها هنا او امض هادئا
(يقدم الشارع بهذه الابيات الاربعة لما
يريد ان يسوقه في قصيدته؛ وهي غاية في بساطة المعنى لا تعقيد فيها ولا التواء، ولا
يريد بها الشاعر غير ان يثبت بها حداثة رآها، ولكنك رغم بساطتها تلاحظ ان الشاعر
محسور بشيء رآه، وهو يخشى بهذه الفتنة البادية ان يفسدها عليه سائر ينهب الارض
بسرعته، فيهمس في اشفاق (قف هاهنا، أو امض هادئا). ليدوم له هذا السحر الذي أخذ
يستغرق فيه. فما مبعث الفتنة في نفس الشاعر المأخوذ؟ أهو منظر الفتاة تجمع الحصاد؟
ام صوتها تغني؟ قد تكون الفتنة منهما معا، ولكنها فتنة الصوت قبل كل شيء؛ ذلك ما
يبينه البيت التالي، فهي تغني (نغما حزينا). هي تغني (نغما) (لا أغنية) فألفاظ
غنائها قد انبهمت مع البعد، فلم يبلغ اذن السامع الا طلاوة الموسيقى وحلاوة
(النغم) ولكن هذا النغم قد مثل الأعاجيب المعجزة(16).
صه! أنصت، فالوادي العميق
فياض بصوت النغم
(وفي هذا القول اول اشارة تدل على الفتنة
الغامضة الملغزة التي احتوت الشاعر في موقفه. ولم يصف (ورد زورث) الوادي – الذي
يفصل بينه وبين الفتاة في حقلها – بالعمق لهوا وعبثا، ولكنه يريدك ان تتصور هذا
العمق، وقد امتلأت جنباته بسحر الغناء. ان الوادي وقد ملأه الصوت الشجي قد تبدى في
عين الشاعر واديا جديدا غير الوادي المعهود، فصوت النغم قد سما بطبيعة المنصت حتى
أرهف حسه وشعوره، وهو ينظر بهذا الحس الذي أرهفه الصوت وبدل من طبيعته، فاذا
بالمنظر الطبيعي أمامه قد أصاب التحول، فبات في عينه واديا غير الوادي.
(لكن
وردزورث) يشعر أنه لم يوف تأثره تعبيرا وافصاحا. فلا يزال في نفسه أكثر مما أعرب
عنه، أنه لم يعط السامع صورة كاملة للرهبة المفاجئة التي فعلت في نفسه فعلها، فسمت
بها عن طبيعتها. إنه لم يفعل بعد سوى ان اشار الى ما أحسه تلميحا، وهو الآن في
سبيله الى التعبير الوافي عما أحس اذا انصت الى صوت هذه الحاصدة. ولكن أثر النغم
في نفسه، كما كان في حقيقته، من الألغاز والغموض بحيث يستحيل عليه ان يصفه وصفا
مباشرا، وكل ما يستطيعه إزاءه ان يذكر لك اشباها قد توحى اليك بطبيعته، ولهذا تراه
يستحضر في ذهنه أصواتا اخرى في ظروف اخرى يجوز لها ان تحدث في نفس السامع اثرا
كالذي احدثه صوت الحاصدة وهي تغني، فيذكر لك صوت البلبل وهو يهدهد آذان المسافرين
في القفر الفسيح، وقد هدهم النصب فناموا بفعل النغم، وعمق بهم النعاس، حتى فقدت
مسامعهم احساسها. هذا صوت قد يكون له من الاثر مثل ما أحسه (وردزورث) حين طرقت
مسمعيه نغمة الحاصدة. ومع ذلك فالصوتان لا يتشابهان الا في تسلسلهما الى حبات
القلوب، ثم يبقى بعد ذلك لنغمة الفتاة هزتها، لذلك تراه بعد ان يقول:
ان بلبلا قط لم يغرد
بهذه الطلاوة للحشد النائم
من المسافرين عند بعض الفيء الظليل
في جوف الرمال في بلاد العرب
يعقب بهذه الابيات:
ان صوتا كهذا يهز النفس لم تسمعه آذان
من الوقواق المغرد إبان الربيع
يشق سكون البحار
عند جزائر الهبريد النائمة
(ففي الصورة الثانية توسعة للصورة الاولى،
اذ نضيف اليها اهتزاز النفس حين
يدوي صوت الوقواق بغتة، فيشق سكونا رهيبا
يملأ الفضاء. والصورتان معا تتعاونان على بيان ما أحسه الشاعر من فتنة لصوت
الحاصدة المغنية في عزلتها، وهي تجمع الحصاد. ولكن هاتين الصورتين لم تقفا عند حد
التعبير عن احساس الشاعر، بل احدثتا اثرا وراء الغاية التي من أجلها سيقتا في
القصيدة. فالشاعر اذا رأى هذه المناظر امام عينيه قوية ناصعة نابضة بالحياة وترجم
احساسه بها في كلمات، دفعته قوة الكلمات دفعا حتى جاوزت به الغاية التي قصد اليها
من قصيدته، فاقرأ الأبيات السالفة مرة اخرى، والحظ فيها، فضلا عن مواضع التشابه
بين هذه المناظر التي ساقها الشاعر وبين ما أحاط بالفتاة الحاصدة من ظروف، مواضع
شبه اخرى أدق وألطف تسللت في سياق القصيدة فأكسبتها جوا جديدا مشبعا بالعزلة وروح
الكآبة الحزينة، فهو اذ يذكر – عامدا او غير عامد – صحراء العرب الموحشة وبحار
الهبريد القصية المنعزلة، قد أطلقنا معه نسبح في طول البلاد وعرضها، ونجمع في
تحوامنا لمحات دقيقة عما تحمله الارض فوق سطحها من ألوان العناء والهم، وكأن الهم
والعناء من لوازم الحياة الدنيا، وبغيرهما لا تكون حياة. فها أنت ذا مع الشاعر وسط
الفيافي القفر التي تمتد ما امتد البصر، حيث المسافرون هدهم الإعياء فرقدوا عند الفيء
يهدهدهم تغريد البلبل، حتى أطبق عليهم نعاس عميق، لا يزول عنهم الا مع الصبح،
فينهضوا من نومهم وقد ازدادوا احساسا بعزلتهم في تلك الفلاة؛ ثم ينتقل بك الشاعر
من ذلك اليباب البلقع الى حيث بقاع البحر قد امتلأت آفاقها، وهناك يغشاك احساس
رهيب بسكون الاغوار العميقة الدكناء، وان المنظر ليزداد في نفسك رهبة حين يدوي في
جنباته بغتة صوت توحي نغمته بالطرب واشراق الربيع وبهجة الحياة، ولكن اصداء الصوت
تمحى فوق سطح الماء، ويظل كل شيء كما كان، بل ان صرخة الوقواق نفسها تصبح في الاذن
صوتا يؤذن بعبث الحياة، ونبرة حزينة تنم عما تنطوي عليه الدنيا من هموم مضنية،
ويثقل في عينك منظر الطبيعة بما يستشفه في صميم الكون من بؤس وشقاء. ثم يعود العقل
بعد سبحاته الطويلة مع الشاعر في انحاء الارض، يعود الى صوت الحاصدة وهي تغني فوق
عزلتها، فيستمع اليها، وقد تملكه هذا الاحساس الحزين الكئيب من رحلته فوق الصحراء
وأمواه المحيط، هو يستمع الآن الى نغمتها الحزينة وكأنها احتوت في نبراتها كل ما
في الكون من وحشة وانفراد. وتجيء المقطوعة التالية في القصيدة فتنم المعنى الذي
أحسه الشاعر:
هلا وجدت من يحدثني بماذا تغني
فربما فاضت هذه النغمات الحزينة
من أجل ماض سحيق شقي قديم
ومعارك انقضى عهدها منذ زمن بعيد
(هاهنا يعود الشاعر فيثير فيك الرهبة برحلة
طويلة اخرى، ولكنه هذه المرة لا يرتحل معك في أنحاء المكان، بل يذهب بك قافلا على
مدى الزمان. فالماضي الشقي القديم قد ترك نغمته المرة الحزينة، وإذا ما عدت تنصت
الى نغمة الحاصدة وهي تغني، فلا يسعك الا ان تثقلها بهذا الحزن الجديد الذي اجلبته
معك بعد رحلتك مع الشاعر في الأزمان، بل باتت لحنا يعبر عما في الكون من هم وأسى.
انه يعبر عما تنطوي عليه الحياة البشرية من آلام وأحزان. وبهذا كله لم يصنع
(وردزورث) أكثر مما يصنعه كل شاعر عظيم، ولكنه يعود بهذه المقطوعة الآتية فينفرد
دون سائر الشعراء:
أم تراني اسمع نغما متواضعا
نغما لا ينبو بمعناه عن شئون العصر
فيه ما في الحياة الجارية من الم وفقد وأسى
مما شهدته الحياة وما قد تعود فتشهده
(فبعد ان صنع (وردزورث) ما يصنعه كبار
الشعراء، بأن سما بأغنية الفتاة حتى جعلها لحنا كونيا يعبر عن صوت العالم بأسره،
ويجري بأعظم ما هد قلوب البشر من أحزان، يعود بطريقة تعهدها فيه وحده دون سائر
الشعراء، فيرد الأغنية الى قلب الفتاة النكرة التي لا تعرف منها حتى اسمها، والتي
لم تكن منذ عهد قريب سوى حاصدة منفردة في حقلها، منهمكة في عملها اليومي المألوف،
ولكن الفتاة يستحيل ان تعود الى ما كانت عليه من بساطة وقلة شأن، فقد تجسدت فيها
أخطر جوانب الحياة، واذا فهذه القصيدة في صميمها تقديم جديد لقيم الانسان، وأسلوب
جديد في النظر الى الانسان في الطبيعة، واحساس جديد بقيمة الحياة البشرية. انها
كشف لعالم جديد تسوده القيم الروحية، فيصبح فيه الحقير التافه وقد اكتسب قيمة
عالمية كبرى، إنها نبوءة بروح الديمقراطية، وسبق للحوادث التي ستتمخض عنها الأيام.
(فوردزورث) في قصيدته هذه يكشف عن تجربة جديدة. فلم ير أحد قلبه ما رآه، ولم يسمع أحد
قلبه ما سمعه، ولم يحس أحد قلبه ما أحسه؛ حين طرقت مسمعيه أغنية (الحاصدة
المنفردة).
***
من هذه النماذج التي استعرضناها في النقد
الجديد يتبين:
ان النموذج الأول يلخص الخصائص التعبيرية
للقران. والثاني يلخص الخصائص الشعورية للأدب العربي تجاه الطبيعة؛ ويدخل بذلك في
شيء من نطاق (المنهج التاريخي). والثالث يخلص الخصائص الشعورية والتعبيرية لشاعر
مصري هو إسماعيل صبري مع بيان أثر البيئة، مما قد يدخل في (المنهج التاريخي) وإن
يكن ليس غريبا على (المنهج الفني). والرابع يواجه القيم الشعورية والقيم التعبيرية
في عمل أدبي مفرد هو تمثيلية (شهرزاد) مع التطرق الى تحديد قيمته في خط سير الادب.
وهذا داخل في المنهج الفني ومتلبس بالمنهج التاريخي. والخامس يواجه قصيدة مفردة
للشاعر المصري (شوقي) والسادس يواجه قصيدة مفردة كذلك للشاعر الانجليزي (رودزورث)
ويحللان القيم الشعورية والقيم التعبيرية في القصيدتين، مع اختلاف المستوى
والطريقة.
وكل هذه نماذج من
النقد على (المنهج) داخلة فيه. وقد تضم إليه طرفا من مناهج النقد الاخرى التاريخية
والنفسية، لأن هذه المناهج ليست منعزلة تمام الانعزال، والغلو في تحديدها وعزلها
لا يعود على النقد الأدبي بخير، لان عملية النقد الكاملة قد تستدعي استخدام المنهج
جميعا في وقت واحد.
وندع تفصيل القول
في هذا مؤقتا حتى نستوفي الكلام عن المنهجين الآخرين.
____________________
(1)
لهذه القصة ذيل في
بعض كتب الروايات، ذلك ان حسانا سال عما جعله يختلف عن الخنساء. فقال النابغة يعلل
هذا – أو قالت الخنساء – نقدا لبيته:
لنا الجفنات الغر
يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة
دما
(قلت) الجفنات.
وهو جمع قلة ولو قلت الجفان لكان أفضل. وقلت يلمعن واللمعان يختفي ويظهر ولو قلت
يشرقن لكان أفضل. وقلت بالضحى وكل شيء في الضحى يلمع ولو قلت بالدجى لكان أفضل.
وقلت (يقطرن) ولو قلت يجرين لكان أفضل ... وهي رواية ظاهرة البطلان لا تتفق مع
طبيعة النقد حينذاك لما فيها من تفصيل وتعليل.
(2) توفي سنة 231
هجرية.
(3)
المتوفى سنة 276.
(4)
توفي سنة 371 هجرية.
(5)
المتوفى سنة 366هـ
(6)
لم ترد التفرقة بين النقاد والبلاغيين، لان مباحث البلاغة الى ذلك الحين كان لها
طابع نقدي عام. ولم تكن فسدت بالقواعد الحرفية كما فسدت على ايدي السكاكي والخطيب
وسواهما. ونحن نرى ان مباحث البلاغة على ذلك النحو تكون القاعدة الأولى للنقد
الأدبي.
(7)
فرغ من تأليف سنة 395هـ.
(8)
توفي سنة 463 هجرية وتوفي عبد القاهر سنة 481 غالبا.
(9)
اقام الدكتور شوقي ضيف كتابه: (الفن ومذاهبه في الشعر العربي) على أساس القاعدة
التي قررنا ابن رشيق.
(10)
من كتاب (التصوير الفني في القران) للمؤلف.
(11)
من كتاب (كتب وشخصيات) للمؤلف.
(12)
من كتاب (شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي) للعقاد.
(13)
نحن نخالف الدكتور طه حسين هنا (فشهرزاد) لا تصلح للمسرح. لهذا النقص في المسرح
المصري وممثليه ورواده، بل لأنها في ذاتها تنقصها الحركة الحسية: حركة الحوادث
والاشخاص .. هي حركة فكرية تجول في الافكار، ولا ترى الا قليلا مفرغة في حركة
الحوادث والشخصيات على المسرح وهذا نقص من تلك الجهة بالقياس الى المسرح عامة كما
قررنا عند الكلام عن (التمثيلية) وكما عاد الدكتور فقرر بعد قليل في الفقرة
التالية.
(14)
من كتاب (فصول في النقد) لطه حسين.
(15) من كتاب (الغربال)
لميخائيل نعيمة.
(16) من كتاب (الغربال)
لميخائيل نعيمة.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|