المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4876 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية



اثبات القدرة بمعنى امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الداعي  
  
2155   11:13 صباحاً   التاريخ: 11-08-2015
المؤلف : مهدي النراقي
الكتاب أو المصدر : جامع الأفكار وناقد الأنظار
الجزء والصفحة : ص244.ج1
القسم : العقائد الاسلامية / مقالات عقائدية /

 لمّا ثبت أنّ العالم مسبوق بالعدم الصريح والليس الساذج وبه حصل الانفكاك الواقعي بين الواجب والعالم ... ، يترتب عليه الامكان المذكور في وقت ما. لا الوقت بمعنى الزمان، بل بمعنى الواقع ونفس الأمر ـ فانّ الوقت هنا أعم من ذلك ـ لأنّ حقيقة القدرة بهذا المعنى هو جواز الترك بالنظر إلى الإرادة والمصلحة أو عدم القبول للوجود ولو في الوقت الموهوم أو التقديري ـ أعني : الليس الصرف والعدم البحث ـ ، والحدوث الدهري ـ على ما فسّر ـ ملزوم له أو احد أفراده. والقول بأنّ الترك حينئذ واجب بالنظر إلى الداعي فلا تثبت منه القدرة المفسّرة بالإمكان، قد تقدّم القول فيه.

واذ ثبتت القدرة بهذا المعنى يبطل الايجاب المقابل لها ـ أعني : وجوب الفعل في جميع الاوقات بالنظر إلى الداعي ـ ، كما ذهب إليه الفلاسفة ، وعلى القول بالحدوث الزماني يكون ثبوت القدرة بهذا المعنى وبطلان الايجاب المقابل لها أظهر ؛ كما لا يخفى.

وأمّا القدرة بالمعنى الرابع ـ أعني : امكان الفعل والترك في جميع الاوقات ولو في آن الحدوث بالنظر إلى الداعي ـ ، فالقول بثبوته للواجب ـ تعالى ـ ونفى الايجاب المقابل لها ووجوب الفعل في وقت خاصّ مختص بالأشاعرة نظرا إلى انّهم نفوا الايجاب مطلقا وجوّزوا الترجيح بلا مرجّح ، فقالوا : أوجد الله ـ تعالى ـ العالم في الوقت الّذي اراد في الأزل أن يوجده بدون مرجّح غير تعلّق الإرادة ، وبالإرادة لا يجب الفعل ، بل كان له أن لا يفعل ما فعل لانّه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23].

ولا ريب في بطلان ما ذهبوا إليه ، لأنّ الفعل ما لم يجب لم يوجد ـ كما مرّ ـ ، واختيار احد الطرفين بمجرّد الإرادة من دون مرجّح له ظاهر البطلان ـ كما تقدّم ـ. فالحقّ نفي القدرة بهذا المعنى عنه ـ تعالى ـ وثبوت الايجاب المقابل لها له ـ جلّ شأنه ـ ، فإيجاد العالم في الوقت الّذي أوجده انّما كان على سبيل الوجوب لتعلّق الإرادة بإيجاده ، لمرجّح كونه ـ تعالى ـ علّة مستقلّة لإيجاده وعدم وقت قبله ـ كما اخترناه ـ ، أو لمرجّح المصلحة أو العلم بالأصلح ـ كما اختاره الآخرون ـ. وقد ظهر انّ القدرة بالمعاني الثلاثة الأول أعني : صدور الفعل بالمشية والإرادة والعلم وامكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات وامكانهما بالنظر الداعي في بعض الاوقات ـ ثابتة له ـ تعالى ـ ، والايجاب المقابل لها ـ أعني : الايجاب الطباعي ، أي : صدور الفعل بدون العلم والمشية ووجوب الفعل بالنظر إلى الذات ووجوبه بالنظر إلى الداعي في جميع الاوقات ـ منفىّ عنه ـ تعالى ـ ؛ وحدوث العالم ـ دهريا كان أو زمانيا ـ مستلزم لثبوت القدرة بالمعاني الثلاثة له ـ تعالى ـ ونفي مقابلاتها عنه ـ تعالى ـ.

أمّا استلزامه لثبوت القدرة بالمعنى الثالث ونفى الايجاب المقابل لها فظاهر ، لأنّ معنى القدرة بهذا المعنى راجع بعينه إلى جواز الانفكاك وامتناعه ، فتأثيره ـ تعالى ـ في العالم إن كان بالإيجاب بهذا المعنى لزم قدم العالم بالضرورة ولا يحتاج إلى الاستدلال عليه ، ويكفى للتنبيه أنّ الحدوث بالمعنيين يستلزم سبق العدم على الحادث فينا في الايجاب بمعنى عدم الانفكاك بديهة. ويرد التنبيه عليه على تقدير الحدوث الزماني بأنّ العالم إذا كان حادثا بالحدوث الزماني لكان حدوثه لا محالة في حدّ مخصوص من لا يزال ، ولا يمكن استناد ذلك التخصيص إلى الممكن ـ لاستواء نسبته إلى جميع الحدود ـ ولا إلى الفاعل ـ لاقتضائه امتناع الانفكاك ـ ، فلا يجوز بالضرورة أن تقتضى نحوا من الانفكاك ، فبقى أن يكون هذا التخصيص بلا مخصّص ، وهو محال ؛ فالحدوث الزماني لا يجتمع مع الايجاب بهذا المعنى.

وما قيل : انّ الحدوث الدهري لا ينفي الايجاب بمعنى امتناع الانفكاك ؛ كلام خال عن التحصيل! ، لأنّ الانفكاك واقع على تقدير الحدوث الدهري ، فكيف لا يدلّ على نفيه؟!

والاحتجاج عليه بأنّ معنى ذلك الايجاب امتناع الانفكاك من جهة اقتضاء الفاعل المستجمع لشرائط التأثير لا من جهة عدم امكان الأثر ـ فانّه لا يضرّ بالإيجاب الّذي هو من صفات الفاعل ، ولا ريب في انّ الانفكاك الواقع بين الواجب والعالم على القول بالحدوث الدهري انّما هو من جهة عدم جواز الأزلية للعالم وعدم قبوله للوجود الأزلي لا من جهة الواجب ـ مغالطة وتدليس ، لأنّ المراد بالإيجاب بهذا المعنى ليس الاّ امتناع الانفكاك سواء كان من جهة الفاعل أو من جهة المفعول. فاذا تحقّق الانفكاك بطل ذلك الايجاب من أيّ جهة كان. وهذا ظاهر لمن تدبّر في مواضع النزاع.

وأمّا استلزامه لثبوت القدرة بالمعنى الأوّل ونفي الايجاب المقابل لها ، فلأنّ تأثيره ـ تعالى ـ في وجود العالم إن كان بالإيجاب الطباعي لزم قدمه ، إذ لو كان حادثا لزم إمّا تخلّف المعلول عن الموجب التامّ أو التسلسل في الشروط الحادثة مجتمعة أو متعاقبة إذ الموجب بذلك المعنى إن كان أصل ذاته منشئا للفعل من غير افتقار إلى أمر آخر لزم التخلّف على فرض الحدوث ؛ وإن توقّف فعله على بعض الشرائط لزم توقّف حدوث العالم على شرط حادث ، وذلك الشرط الحادث يتوقّف على شرط حادث آخر ... وهلمّ جرّا ، فيلزم التسلسل في الشروط المتعاقبة أو المجتمعة ، وكلاهما باطل ـ على ما مرّ ـ.

ولا خفاء في انّ الحدوث بالمعنيين يثبت المطلوب كما هو الظاهر من الدليل.

وربما قيل : انّ منافاة الحدوث الزماني للإيجاب الطباعي أظهر ، امّا على جواز فرض الأزلية للعالم فلبداهة لزوم التخلف عن الموجب التامّ أو لزوم التسلسل في الشروط الحادثة ، وأمّا على تقدير عدم جواز الأزلية له فلضرورة لزوم ترجيح بعض حدود الزمان للحدوث على غيره من الموجب بالمعنى المذكور ، وهو محال ، وهذا الأخير لا يتأتّى في الحدوث الدهري. ولا ريب في أنّ اظهرية منافاة الحدوث الزماني للإيجاب المذكور لو كانت مسلّمة لا يقدح بالمطلوب بعد تسليم ثبوت منافاتهما له.

فان قيل : للقائلين بالقدم أن يتمسّكوا بمثل هذا الدليل على نفى الحدوث بأن يقولوا : العالم قديم ، إذ لو كان حادثا ـ سواء كان الموجد موجبا أو مختارا ـ لتوقّف على شرط حادث ، وإلاّ لزم ترجيح الفاعل بدون المرجّح أو التخلّف عن الموجب التامّ في صورة الايجاب ، وتخلّف العلّة التامّة عن المعلول في صورة الاختيار ، فيلزم التسلسل في الشروط ، ولا يرد عليهم النقض بالحوادث اليومية لتجويزهم التسلسل في المتعاقبات بخلاف المتكلّمين ؛

قلنا : حدوث الحادث لا يتوقّف على شرط حادث عند المتكلّمين ليلزم التسلسل في الشروط ، لأنّ علّة تخصيص الحادث بالوجود في آن الحدوث عند بعضهم عدم قبوله الوجود قبله ـ كما اخترناه ـ ، وعند آخرين المصلحة أو العلم بالأصلح ، وعند الأشاعرة الإرادة ولا يحتاج إلى مرجّح آخر ـ لتجويزهم الترجيح بلا مرجّح ـ ؛ فعلى هذه المذاهب كلّها لا يتوقّف حدوث الحادث على شرط حادث.

وممن لا يعبأ به من المتكلّمين ذهب إلى انّه لا بدّ في ربط الحادث بالقديم من التزام التسلسل في الشروط المتعاقبة ، ثمّ جوّز ذلك وقال : لا منع فيه ، إذ لا يلزم منه وجود قديم بالشخص بل اللازم منه وجود نوع قديم ولا استحالة فيه ، فيجوز للقائل بالإيجاب الطباعي أن يحتجّ عليه بانّك قلت : انّ التسلسل اللازم في الحوادث اليومية على سبيل التعاقب هو جائز ؛ فيمكن أن يكون التسلسل اللازم لحدوث العالم في صورة الايجاب كذلك ، فلا استحالة فيه.

ثمّ إنّا قد بيّنا سابقا فساد ما جوّزه هذا البعض ، وذكرنا انّه يستلزم قدم فعل ما البتّة ، ومن لا يجوّز قدم العالم كيف يجوز ذلك؟!.

فان قيل : إذا كان العالم حادثا يلزم القدم أو التسلسل في الشروط المتعاقبة في صورة الاختيار أيضا ، لأنّ الذات مع الإرادة إن كانت كافية في صدور العالم لزم القدم وإلاّ توقّف الصدور على شرط حادث ويلزم التسلسل ؛

والجواب : انّه على فرض الاختيار عدم تحقّق وقت قبل آن الحدوث أو المصلحة أو العلم بالأصلح الّذي هو عين الذات أو مجرّد إرادة المختار عند الاشعري ـ لتجويزه الترجيح بلا مرجّح له ـ كاف لترجيح آن الحدوث ولا يحتاج إلى شرط آخر ، فلا يلزم التسلسل. وأمّا في صورة الايجاب بالمعنى المذكور فلمّا لم يكن علم ولا اختيار فلا يتصوّر فيه ملاحظة المصلحة والأصلح ، فامّا أن يكون الذات كافية فيلزم العدم أو يتوقّف على شرط ، فيلزم التسلسل.

فان قيل : إذا كان المرجّح ذات الوقت وعدم وقت قبله ـ كما اخترتم ـ ، لم يكن فرق بين صورة الاختيار وصورة الايجاب ، لانّه إذا كان ذات الوقت مرجّحا لإيجاده فيه ولم يكن الايجاد قبله ولم يقبل العالم الوجود قبله لم يتوقّف وجوده فيه على شرط حادث ـ سواء كان الفاعل مختارا أو موجبا ـ ، فكما انّه لم يمكن صدوره من المختار حينئذ قبل ذلك لم يمكن صدوره من الموجب قبله.

وتوضيح هذا الايراد : انّه على القول بالحدوث الدهري وتأخّر العالم عن العدم الصريح وعدم امكان وجوده قبل ذلك تكون ازلية العالم ممتنعة ولا تكون ذاته من حيث هي قابلة لها ، فحينئذ يكون القدم الدهري ممتنعا على العالم من حيث هو ، كما انّ العدم الدهري يكون واجبا له بالنظر إلى ذاته ، فيكون طريق تأثيره ـ تعالى ـ فيه منحصرا في ايجاده بعد العدم الصريح. ولو كان موجبا ـ بأيّ معنى كان ـ ، فالحدوث الدهري لا يدلّ على نفي الايجاب اصلا ، وانّما كان يدلّ على نفي شيء منه لو أمكن التأثير على خلاف ذلك ، فيعلم منه اختيار ما لاستحالة الترجيح من الموجب المطلق. فللحكيم أن يقول : انّ العالم إذا لم يكن وجوده في الازل ممكنا فإيجاده منحصر في آن يكون فيما لا يزال ، فيجتمع مع كلّ ايجاب حتّى الايجاب الطباعي لاشتراط القابلية في معلول الموجب بهذا المعنى أيضا. فكما انّ في عدم احراق النار الحجر لعدم القابلية لا يكون النار موجبا في الاحراق فالتخلّف هاهنا أيضا لعدم القابلية في المعلول لا ينافي الايجاب في العلّة. قال الفخر الرازي في الأربعين من جانب الفلاسفة : وامّا إن كان قدم العالم محالا فنقول : انّ العلّة الموجبة قد يتخلّف عنها اثرها عند تخلّف الشرائط أو حضور الموانع ، ومن أقوى الشرائط كون المعلول في نفسه ممكن الوقوع ، ومن أقوى الموانع كونه ممتنع الوقوع ، فلم لا يجوز أن يقال : انّه ـ تعالى ـ موجب بالذات لوجود العالم إلاّ انّه لم يوجد العالم لانّ تحقّق الأزل كالمانع من وجود العالم ، فلمّا زال المانع حصل المعلول (1)؟!.

قلت : المرجّح عندنا ليس مجرّد ذات الوقت وعدم وقت قبله وامتناع ازلية العالم ، بل المرجّح عندنا ذلك مع العلم بالأصلح ، كيف وثبوت القدرة بالمعنى الثاني ـ أعني : امكان الفعل والترك بالنظر إلى ذات الفاعل مع ترجيح أحد الطرفين ـ لا يتصوّر بدون مرجّح من الفاعل؟!. ولا يعقل مرجّح ناش منه إلاّ علمه بالأصلح ؛ وثبوت علمه ـ تعالى ـ لا يتوقّف على مجرّد الحدوث بل هو ثابت بأدلّة اخر ـ كما تقدّم بعضها ويأتي بعض أخر أيضا ـ. وبالجملة ثبوت القدرة بمعنى الايجاد بالعلم والإرادة لا يتوقّف على حدوث العالم ، ولذا استدلّ بعضهم على الحدوث بالقدرة من حيث احالتهم كون أثر الفاعل المختار قديما. قال بعض المشاهير : احتجّ المليون على حدوث الزمان بأنّ الزمان ممكن ـ لتركيبه من الحوادث ـ فيكون مستندا إلى الله ـ تعالى ـ والله ـ تعالى ـ فاعل بالاختيار ـ كما تبيّن ـ ، وفعل الفاعل المختار حادث ، فيكون الزمان حادثا.

فان قلت : ما الباعث لك لجعل ذات الوقت وعدم وقت قبله جزء المرجّح وعدم الاكتفاء بالعلم بالأصلح فقط؟! ؛

قلت : الباعث عدم صحّة جعل المرجّح هو العلم بالأصلح فقط لأنّ الذات مع العلم والإرادة إمّا أن تكون كافية في صدور الفعل فيلزم القدم البتّة ، أو لا ، فيتوقّف على شرط. والقول بأنّه باعتبار العلم بالأصلح يترجّح وقتا خاصا ، ممّا لا يعقل إذا كان لذلك الوقت مدخلية باعتبار كونه أصلح مثلا أو غير ذلك ، فيتوقّف حينئذ على حضور ذلك الوقت. وحضوره يتوقّف على وقت قبله ، وهكذا ، فيلزم التسلسل ، فلا بدّ من القول بعدم وقت قبل وقت الحدوث وعدم قبول العالم للوجود قبل ذلك لئلاّ يلزم التسلسل في المتعاقبات ، وبدونه لا مدفع من لزوم التسلسل ، ومجرّد العلم بالأصلح غير واقع له على أنّ بعد حقّية الحدوث الدهري وبطلان الزمان الموهوم ـ كما اخترناه ـ لا معنى لوجود وقت قبل آن الحدوث وامكان وجود العالم قبل ذلك ، بل ذلك انّما هو ممكن على القول بالحدوث الزماني.

ثمّ الحقّ انّ مختار المحقّق الطوسي في مرجّح آن الحدوث هو ما اخترناه ، وليس المرجّح عنده مجرّد العلم بالأصلح ـ على ما نسب إليه في المشهور ـ. كيف وهو لم يتعرّض في التجريد للعلم بالأصلح مطلقا؟! ، وقال في مبحث الجواهر منه : واختصّ الحدوث بوقته إذ لا وقت قبله (2) ؛ هذا.

وأمّا استلزام الحدوث ـ دهريا كان أو زمانيا ـ لثبوت القدرة بالمعنى الثاني ـ أعني : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذاته تعالى مع وجوب احد الطرفين باعتبار المرجّح من الإرادة القديمة أو ذات الوقت أو العلم بالأصلح أو ما اخترناه ـ ونفي الايجاب المقابل لها ـ أعني : وجوب أحد الطرفين بالنظر إلى الذات ـ ، فلأنّه لو كان أحد الطرفين واجبا مع قطع النظر عن المرجّح فلا يخلوا إمّا أن يكون ذاته ـ تعالى ـ من حيث هو علّة مستقلّة وكافيا لحصول الفعل فيلزم قدم العالم ، أو لا بدّ من شيء آخر لوجوبه وحصوله ؛ فان كان هذا الشيء قديما لزم القدم أيضا ، وان كان حادثا لزم التسلسل والتخلّف ، مع انّ توقّف الوجوب على شيء آخر يستلزم الامكان ونفي الوجوب بالنظر إلى الذات ، فالحدوث لا يجتمع مع الايجاب بهذا المعنى.

فان قيل : اثبات القدرة بهذا المعنى بالحدوث دوري! ، لأنّ ثبوت النبوّة يتوقّف على اثبات القدرة بهذا المعنى ، فإثبات تلك القدرة بالحدوث الثابت بالإجماع المتوقّف حجّيته على ثبوت النبوّة دور ؛

قلنا : لا نسلّم توقّف ثبوت النبوّة على القدرة بهذا المعنى ، ولو سلّم فلا نسلّم انحصار دليل الحدوث بالإجماع ـ كما مرّ ـ.

ثمّ لا يخفى عليك إنّا قد أشرنا إلى انّ حدوث العالم دهريا كان أو زمانيا يستلزم ثبوت القدرة بالمعنى الثالث ونفي الايجاب المقابل لها ـ أعني : جواز الانفكاك وامتناعه ـ ضرورة ، ولا نحتاج إلى الاستدلال عليه.

والاستدلال عليه بما تقدّم لا يخلوا من الاختلال بوجوه :

منها : انّه يلزم النقض بصورة الاختيار ، فلقائل أن يقول : تأثيره ـ تعالى ـ ان لم يكن بالإيجاب بالمعنى المذكور بل بالاختيار المقابل له ـ أعني : جواز الانفكاك ـ لزم ترجيح الفاعل بدون المرجّح أو احتياج التأثير إلى شرط حادث بناء على ما ذكر من انّه لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ويلزم التسلسل في الشروط الحادثة متعاقبة أو مجتمعة ، بل له أن يقول : انّ العالم قديم ، إذ لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث لئلاّ يلزم التخلّف عن الموجب التامّ ـ كما ذكر في الاستدلال ـ أو تخلّف العلّة التامّة عن المعلول ، وذلك الشرط الحادث يتوقّف أيضا على شرط حادث آخر ويلزم التسلسل ، وهو باطل.

ولو أجيب بأنّ في صورة الاختيار يكفي أحد المرجّحات المذكورة من ذات الوقت أو المصلحة أو العلم بالأصلح لترجيح وقت خاصّ ، يرد عليه : انّ في صورة الايجاب بهذا المعنى أيضا يكفي ذلك ، إذ الموجب بهذا المعنى يجوز أن يكون عالما بالأصلح ويكون علمه منشئا لفعله ، ولا ينافي ذلك الايجاب بهذا المعنى ـ أي : امتناع الانفكاك ـ. والحاصل : انّ القول بأنّ الشيء لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث باطل عند المعتزلة القائلين بالداعي ـ سواء كان الفاعل  موجبا بهذا المعنى أو مختارا كذلك ـ ، فانّهم قالوا : انّ الداعي بأيّ معنى أخذ كاف في تخصيص ايجاد الحدوث بذلك الوقت ولا حاجة إلى شرط حادث.

وتفصيل مذاهب المعتزلة في الداعي وكيفية الحدوث : انّ المحقّق الطوسي قائل بأنّ العالم حادث ولا يتوقّف إلاّ على ذاته ـ تعالى ـ وعلمه بالأصلح وارادته اللذين هما عين ذاته ـ تعالى ، كما نسب إليه في المشهور وأشرنا إلى ما فيه ـ ، والعلم بالأصلح كاف في ترجيح آن الحدوث. وليس توقّف الحادث على شرط حادث مسلّما عنده ولا لازما ، لفرض الايجاب المتنازع فيه بينه وبين الحكماء الّذي هو في قوّة فرض القدم. وكيف يجوز استعمال مقدّمة في الاستدلال غير مسلّمة عند المستدلّ ولا لازمة لفرض نقيض مدّعاه؟!.

 

وامّا الكعبي واتباعه فحكمهم في ذلك الاستدلال حكم المحقّق ، إذ مذهبهم انّ التناهي والحدوث من لوازم ماهية الزمان والوقت والعالم بجميع اجزائه زماني ، فوجوده في الأزل ممتنع وصدوره في وقت عن الله ـ تعالى ـ واجب وغير موقوف على شروط ؛

وأمّا قدماء المعتزلة فذهبوا إلى أنّ تخصيص آن أوّل الايجاد بحدوث العالم على سبيل الاولوية بسبب مصلحة تعود إلى العالم. وبملاحظة تلك المصلحة تصير إرادة الايجاد أولى من عدمها ، وبالإرادة يصير الايجاد واجبا وعدمه ممتنعا ، فلا يحتاج إلى شرط حادث.

نعم! ذهب بعض المعتزلة إلى القول بتسلسل الارادات ووجوب حدوث الفعل عند الإرادة المتعلّقة به ، فتوقّف الحادث على الشرط الحادث عندهم ممنوع ، إلاّ أنّهم لتجويزهم مثل هذا التسلسل لا يصحّ جريان هذا الاستدلال من قبلهم. وعلى أيّ حال قد ظهر أنّ المعتزلة بأجمعهم لا يمكنهم الاستدلال بانّه على تقدير الايجاب لو كان العالم حادثا لتوقّف على شرط حادث ، لكفاية الداعي في تخصيص الايجاد على ما ذهبوا إليه ، فلا يتوقّف على شرط حادث. ولو احتجّوا بهذا الاستدلال لأمكن المعارضة بانّه لو لم يكن الفاعل موجبا أيضا وكان العالم حادثا لتوقّف. ولا يمكنهم الفرق بين الايجاب والاختيار في ذلك ، لأنّ الداعي إن كان كافيا في تخصيص ايجاد الحادث أمكن منع توقّف الحادث على شرط حادث حتّى لا يمكن الاستدلال ولا يجوز المعارضة. والظاهر انّه لمّا كان ذلك الايجاب وحدوث الأثر متنافيين لا يمكن تعقّل اجتماعهما ، فتوهّم عدم جريان القول بالداعي في صورة الايجاب مع الحدوث.

وفيه : انّ بناء المستدلّ على أنّ لزوم التوقّف على شرط انّما هو على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور مع قطع النظر عن استحالة ذلك ، بل فرض وقوعها وقال : انّه يتوقّف حينئذ على شرط حادث. ولا شكّ انّه على فرض تحقّق الحدوث يمكن منع هذه المقدمة مستندا بالداعي ، ولا ارتباط لهذه المقدّمة حينئذ بالإيجاب والاختيار ، فعدم الاحتياج في صورتي الايجاب والاختيار كليهما إلى شرط حادث لازم ، فالاستدلال باطل. وإن لم يكن الداعي كافيا في تخصيص ايجاد الحادث فيحتاج في الصورتين إلى شرط حادث لبطلان الترجيح بلا مرجّح بزعم المعتزلة مطلقا ـ أي : في المختار والموجب ـ ، لأنّه يوجب عدم الايجاب مطلقا وهم قائلون بالإيجاب الخاصّ ، فيلزم التسلسل. فأحد المحذورين من لزوم التسلسل أو الترجيح بلا مرجّح لازم ، فتكون المعارضة واردة.

وأنت تعلم انّ الداعي بمعنى علمه ـ تعالى ـ بوجود الخير وعدم قبول العالم للوجود قبل آن الحدوث يكفي للتخصيص ، فالترديد للاستظهار.

ويؤيّد ما ذكرناه ما قال بعض الاعاظم : لزوم التخلّف أو التوقّف على شرط حادث على تقدير حدوث العالم ممنوع ، سواء كان ذلك التقدير مع تقدير الايجاب بالمعنى المذكور أو بدونه ، إذ يصحّ أن يكون الموجب بسبب علمه بوجود الخير مقتضيا لوجود العالم في الوقت الّذي وجد فيه، فاذا حصل وجوده في ذلك الوقت لا يكون متخلّفا عن اقتضاء الموجب.

لا يقال : وجوده في ذلك الوقت وإن لم يتخلّف عن اقتضاء الموجب لكنّه تخلّف عن الموجب المقتضي وانّما الكلام فيه لا غير ، كيف ولو لم يكن متخلّفا لزم أن يكون وجوده مع كونه في ذلك الوقت ازليا ، فيلزم قدمه مع محذور آخر هو التناهي ، لأنّ الفرض حدوثه ؛ لأنّا نقول : الحدوث من لوازم ماهية ذلك الوقت ، فلو كان في الأزل يلزم الانقلاب في الماهية. وأيضا ما ذكرتم انّما يلزم على من أثبت قبل وجود العالم زمانا أزليا ووقتا غير متناه حتّى نتصوّر خلق العالم قبل الوقت الّذي خلق فيه بمقدار سنة أو سنتين أو غير ذلك ، فاذا كان موجودا في وقت الحدوث ولم يكن موجودا في شيء من ذلك الاوقات يلزم التخلّف أو الترجيح بلا مرجّح أو عجز الفاعل ـ كما الزمهم الشيخ الرئيس بذلك في الشفاء والنجاة والتعليقات ـ. وأمّا من نفى ذلك وحكم بأنّ حصول الامتداد انّما هو بمجرّد فرض أو وهم وتقدير ـ كفرض حصول الامتداد المكاني فوق الفلك المحدّد ـ فلا يلزم عليه شيء من تلك المفاسد.

فان قلت : لا ريب في معية الواجب ـ تعالى شأنه ـ لوجود العالم ، وهو يوجب إمّا قدم العالم أو حدوث الباري ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا! ـ ؛

قلنا : لا يلزم شيء منهما ، وانّما يلزم لو كانت هذه المعية زمانية وليس كذلك. وليس من شرط كلّ معية أن تكون زمانية إلاّ إذا كان المعان كلاهما زمانيين ، والواجب ـ تعالى ـ غير زماني ، لأنّه موجد الزمان وما فيه.

فان قلت : إذا لم تكن معيته لشيء زمانية فعلى أي : نحو تكون معيته للعالم؟ ؛

قلنا : نحن نجزم بتحقّق معيّة غير زمانية للواجب ـ تعالى ـ بالنسبة إلى العالم بالبرهان الدالّ عليه ، وإن اشكل علينا تصوّر كنه تلك المعية وملاحظة أحوال المكان ، يعنى على تصوّر ما ذكرناه من أحكام الزمان ؛ انتهى. هذا ؛ واعترض بعض الفضلاء على ما ذكرناه من عدم الفرق بين صورة الاكتساب والاختيار في ورود المقدّمة المذكورة بأنّ قول المعتزلة بكفاية الداعي في تخصيص ايجاد الحادث بوقته انّما هو على تقدير الاختيار لا مطلقا ، إذ لو قالوا بالإيجاب المذكور واقتضاء الداعي القديم امتناع انفكاك الذات عن ايجاد العالم لكان فرض حدوثه حينئذ محالا ومخالفا لما هو مقتضى الداعي المذكور ، فلا يمكنهم أن يسندوا التخصيص بوقت حدوثه إلى مثل ذلك الداعي البتة ، واسنادهم التخصيص إلى الداعي في صورة الاختيار انّما هو لاعتقادهم انّ الداعي لا يدعوا إلاّ إلى معدوم ، فيقتضى نحوا من الانفكاك. والحاصل انّ الداعي المعتبر في الموجب مباين للداعي المعتبر في المختار في الاقتضاء ، فلا يمكن أن يسند إلى أحدهما اقتضاء الآخر ، فعدم جريان القول بمقتضى الداعي المعتبر في المختار في صورة فرض الايجاب مع الحدوث ليس توهّما ، انّما التوهّم عدم الفرق بين مقتضى الداعيين وتسوية صورة الايجاب والاختيار في جواز استناد التخصيص المذكور إلى الداعي ، فلا يتيسّر للقائل بالإيجاب المذكور منع المقدمة المذكورة مستندا إلى الداعي لعدم كفايته للتخصيص المذكور إلاّ على تقدير الاختيار. ولذلك ترى القائلين بهذا الايجاب من الفلاسفة لم يسندوا إلى الداعي الّذي اعتبروا في الموجب بهذا الايجاب تخصيصا هربا عن لزوم الاختيار ، حتّى أنّهم في تصحيح الحوادث اليومية بأوقاتها وارتباطها بفاعلها القديم اضطرّوا إلى اختيار القول بالحركة السرمدية وشغلوا ذممهم لدفع المناقشات الّتي يتوجّه على القول بها. فلو كان القول بالداعي مصحّحا للربط المذكور على تقدير الايجاب أيضا لمّا احتاجوا إلى أمثال ذلك كما لا يحتاج إليها القائل بالاختيار ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ هذا الاعتراض بطوله ساقط!. فانّ بناء الاستدلال على انّه إذا فرض اجتماع الايجاب المذكور مع الحدوث وقطع النظر عن استحالة ذلك لتوقّف الحدوث على التسلسل في الشروط ، وبناء المعارضة على انّه إذا سلّم الحدوث ـ كما هو المفروض في الاستدلال ـ لا بدّ من القول بالترجيح بلا مرجّح أو التزام التسلسل في الشروط ، سواء كان الفاعل موجبا أو مختارا.

والجواب بإمكان القول بالتخصيص بالداعي للمختار مشترك. وعدم قول القائلين بالإيجاب به واضطرارهم في تصحيح حدوث الحوادث في أوقاتها المعينة إلى القول بالحركة السرمدية لقولهم بالقدم ، ولو قالوا بالحدوث لم يحتاجوا إلى القول بسرمدية الحركة وكفاهم القول بالداعي من العلم بالأصلح أو غيره.

فان قيل : في صورة الايجاب لا يكفي الداعي للتخصيص ، بل لا بدّ من التزام القول بالتسلسل في الشروط لأنّه لو لم يتوقّف حينئذ على شرط حادث بل كان جميع ما يتوقّف عليه حاصلا في الأزل لكان يجب أن يكون قديما مع انه فرض حادثا ، هذا خلف! ؛

قلنا : مع القول بالداعي لا يكون جميع ما يتوقّف عليه حاصلا في الأزل ، لأنّ من جملة ما يتوقّف عليه هو الداعي وهو كان مقتضيا للحصول فيما لا يزال. فلو فرض انّ الداعي هو العلم بالأصلح فنقول : انّه تعلّق في الأزل بإيجاد العالم فيما لا يزال ، فلا يكون جميع مقتضيات حصول العالم موجودا في الأزل. على انّ ما ذكر معارض بأنّه لو توقّف على شرط حادث لوجب أن لا يكون قديما ، وهو ينافي فرض الايجاب المذكور.

فان اجيب : بانّ هذه المعارضة غير قادحة ، لأنّ الحدوث على فرض الايجاب المذكور محال ، فيجوز أن يستلزم النقيضين فلا يضرّ ما تقدّم من استلزامه التوقّف على شرط حادث ؛ قلنا : قد مرّ مرارا أنّ بناء الاستدلال على فرض اجتماع المتنافيين والتكلّم على تقديره ، وحينئذ فلزوم محال من فرض محال آخر مسلّم ، إلاّ أنّه لا يضرّنا أيضا ـ كما لا يخفى ـ.

وقد وضح وضوحا تامّا بما ذكر أنّ الاستدلال المذكور على نفي الايجاب بالمعنى الّذي نحن بصدده لا يتمّ ولا يصحّ على قاعدة الاعتزال ، وعلى ما صحّ وتحقّق عندنا.

نعم! انّه يصحّ عند تابعي الاشعري ويتمشّى اجرائه على مذهبهم. ولا يرد عليهم النقض بصورة الاختيار ، لأنّهم جوّزوا تأثير الفاعل المختار بدون مرجّح ، فقالوا : إن كان تأثيره ـ تعالى في الحادث يحتاج إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث ، وكلاهما محالان. وحاصل كلامهم : انّ تأثيره ـ تعالى ـ ليس بالإيجاب بل بالاختيار بدون الوجوب واللزوم ، بأن يكون المرجّح نفس إرادة الفاعل المختار وإلاّ لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث ، وكلاهما محالان. فاعتقاد الاشعري انّ العلّة إن كانت موجبة ـ أي : علة على سبيل الوجوب واللزوم ـ نمنع تخلّف المعلول عنها ، فيتم الدليل من قبله ، لأنّه إن كانت العلّة الموجبة بجميع شرائطها حاصلة في الأزل فيلزم القدم البتة ، وإلاّ فيتوقّف على شرط ويلزم التسلسل. وأمّا إذا لم يكن ايجاب اصلا فلا يلزم من قدم العلّة قدم المعلول ، لأنّه يترجّح أحد مقدوريه على الأخر في أيّ وقت شاء بلا مرجّح.

وتوضيح ذلك : انّ الأشعرية لمّا قالوا انّ الفاعل المختار بإرادته يرجّح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجّح حادث في أيّ وقت شاء ـ بخلاف الموجب ، فانّه لو كان أثره حادثا لتوقّف على شرط حادث على مذهبهم لئلاّ يلزم التخلّف عن الموجب التّام ـ فلم يجوّزوا في الفاعل الموجب الترجيح بلا مرجّح حتّى لا يتوقّف على شرط حادث على مذهبهم ، فأمكن الاستدلال من قبلهم على فرض الايجاب بانّه لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ويلزم التسلسل. ولا يعقل المعارضة معهم بانّه على تقدير عدم الايجاب أيضا لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ، لأنّهم في صورة الاختيار جوّزوا الترجيح بلا مرجّح ، فهم يمنعون هذه المقدّمة على هذا التقدير.

ثم اعلم! أنّ النافين للإيجاب مطلقا ـ أي : الّذين لا يشترطون في صدور الفعل عن الفاعل الوجوب واللزوم ـ فرقتان : فرقة قالوا انّ صدور الفعل عن القادر لا يتوقّف على انضمام الداعي والمرجّح إليه اصلا ، بل القادر هو الّذي يرجّح أحد مقدوريه على الآخر بدون مرجّح ؛ فهم لا يشترطون في الصدور الأولوية أيضا. وهؤلاء هم الاشاعرة المجوّزون للترجيح بلا مرجّح اصلا ـ أي : بلا مرجّح يصير به الفعل واجبا ولا مرجّح يصير به أولى ـ ؛

وفرقة أخرى اشترطوا في الصدور الأولوية وقالوا : انّ صدور الفعل عن القادر موقوف على داع يصير الفعل بسببه أولى بالوقوع ، إلاّ إنّه لا ينتهي إلى حدّ الوجوب ، حتّى يبقى الفرق بين الموجب والقادر.

وإذ علمت ذلك فنقول : الحقّ انّ الاستدلال المذكور يتمشّى من جانب الفريقين ؛ والمناط في تماميته انّما هو القول بنفي الوجوب واللزوم. ولا يشترط فيه نفي الاولوية أيضا والقول بصحّة الترجيح بلا مرجّح اصلا ، لأنّ للفرقة الثانية أيضا أن يقولوا : لو كان صدور الفعل عن القادر يحتاج إلى داع يوجبه لزم قدم العالم أو التسلسل. وأمّا إذا لم يكن الداعي موجبا بل منشئا لمجرّد الأولوية فلا يلزم شيء من ذلك ، إذ يمكن أن يكون ذلك الداعي في الأزل ولم يوجد الفعل فيه بل يوجد فيما لا يزال ، لأنّه لا يمتنع تخلّف الفعل عن السبب الغير الموجب.

فما قيل : انّ مجرّد القول بنفي الايجاب مطلقا ـ أي : من دون القول بصحّة الترجيح بلا مرجّح مطلقا ، كما ذهب إليه الفرقة الثانية القائلون بالأولوية ـ لا يكفى في صحّة الاستدلال المذكور ؛ ضعيف. وما ذكر الامام في الأربعين في الزام تلك الفرقة بأنّه على تقدير تلك الأولوية ان أمكن الفعل والترك معا فلا يكفي في صدور الفعل بل لا بدّ من سبب آخر ، وإن لم يمكن طرف الترك يكون طرف الأولى واجب (3) ؛ لا دخل له فيما نحن فيه! ، لأنّ الفرض تمامية الاستدلال على فرض تسليم مذهبهم ، وما ذكره الامام انّما هو لإبطال أصل مذهبهم ؛ وهو كلام آخر. كما انّ بطلان أصل مذهب الفرقة الأولى أيضا ـ

أعني : الترجيح بلا مرجّح ـ لا دخل له بما نحن فيه.

وبما ذكر يندفع ما ذكره بعض الأعلام : انّ دليل الأشعري على عدم احتياج الحادث إلى غير الإرادة ـ أعني : قوله : إن كان تأثيره تعالى في العالم محتاجا إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث ، وكلاهما محال ـ لا ينفي الايجاب اصلا لا برهانيا ولا الزاميا ؛ أمّا الأوّل : فلأنّ الترجيح بلا مرجّح لمّا كان جائزا عند الأشعري ، فلو كان الفاعل موجبا والفعل حادثا لا يلزم التوقّف على شرط حادث عنده ؛ وأمّا الثاني : فلأنّ التسلسل في الحوادث غير ممتنع عند الحكيم ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع : انّ جواز الترجيح بلا مرجّح عند الأشعري انّما هو للفاعل المختار دون الموجب ، ففي صورة الايجاب إذا كان العالم حادثا لزم التسلسل في الحوادث البتة ، والحكيم قائل بتوقّف الحادث على الشروط المتسلسلة ؛ فتكون هذه المقدمة ـ أعني : لزوم التسلسل ـ الزامية ، لأنّ الأشعري ليس قائلا به ، لأنّ الحكيم قائل بجواز التسلسل في الحوادث أيضا والاشعري قائل ببطلانه ، فتكون إحدى مقدمتي هذا الدليل (4) جدلية وأخراهما برهانية ، وسيأتي انّ الدليل إذا كان بعض مقدّماته جدليا وبعضها برهانيا يمكن أن يكون جدليا وبرهانيا ؛ هذا.

وأورد على هذا التفصيل الّذي ذكرناه ـ أعني : ورود المعارضة على المعتزلة وعدم ورودها على الاشاعرة ـ ايرادان :

الأوّل : انّ المعارضة لا ترد على المعتزلة ، إذ لهم أن يقولوا على تقدير عدم كون تأثيره ـ تعالى ـ في العالم بالإيجاب بل بالاختيار : لزوم الترجيح بلا مرجّح ممنوع ، لجواز وجود المرجّح وهو علم الفاعل بالمصلحة في ترجيح ايجاد العالم في وقت حدوثه ، فتوقّف الايجاد على هذا التقدير على شرط ممنوع. ومثل هذا المنع لا يتوجّه على أصل الدليل ، إذ محصّله انّ تأثير الواجب ـ تعالى ـ في ايجاد العالم إن كان بالإيجاب الّذي زعمه الحكماء وكان العالم حادثا لتوقّف التأثير على شرط بلا شبهة. والحاصل انّ منع التوقّف على الشرط على تقدير كون الفاعل مختارا له وجه صحيح ، وأمّا على تقدير كون الفاعل موجبا والأثر حادثا فلا وجه له عند المعتزلة والحكماء. وفساده ظاهر ، لما مرّ من أنّ كون الحادث متوقّفا على شرط ليس لازما لفرض الايجاب المذكور ، بل هو لازم لكون الشيء حادثا سواء كان فاعله موجبا أو مختارا لو لم يوجد مخصّص الداعي.

فان أجيب في صورة الاختيار بوجود المخصّص ـ وهو علم الفاعل المختار بالمصلحة ـ فلا يجري هذا في الصورة الايجاب بالمعنى المذكور أيضا ، لأنّ الموجب بمعنى الفاعل الغير المنفكّ عن الايجاد يجوز أن يكون عالما بالأصلح ـ كما تقدّم مفصّلا ـ.

فان قيل : القائلون بالإيجاب بهذا المعنى ـ أعني : الفلاسفة القائلين بالقدم ـ لا بدّ لهم من التزام التسلسل في الشروط ، لأنّ تخصيص كلّ حادث من الحوادث اليومية بوقت دون آخر لا يتصحّح عندهم إلاّ بذلك واثباتهم للحركة السرمدية مستلزم لذلك ، لأنّ كلّ جزء منها يتوقّف على الجزء السابق عليه والتصفّح يعطي اتفاقهم على الاذعان بتحقّق النسبة في المتعاقبات ، فهم لمّا جعلوا المرجّح لوجود كلّ حادث من الحوادث اليومية في وقته الخاصّ هو توقّفه على شرط متحقّق قبله دون العلم بالأصلح فلو كان أصول العالم من الافلاك وغيرها حادثة لزمهم أيضا جعل المخصّص توقّفه على حدوث شرط سابق عليه وهو على آخر ... وهكذا إلى غير النهاية. وأمّا المعتزلة فهم ليسوا قائلين بتوقّف الحوادث على الشروط الغير المتناهية ، بل يجعلون المخصّص في الكلّ هو العلم بالأصلح ، فلا يرد عليهم المعارضة بوجه لا برهانيا ولا الزاميا ؛ قلنا : الفلاسفة لمّا قالوا بالقدم اضطرّوا إلى القول بوجود التسلسل في الشروط المتعاقبة ، لأنّ القول بوجود الحركة السرمدية لا ينفكّ عنه والتزام وجود الحوادث والأشخاص الغير المتناهية مستلزم لذلك لزوما بيّنا ، فالتسلسل في الشروط الحادثة من لوازم القول بقدم أصول العالم لا من لوازم مجرّد حدوث الحوادث ، فلو فرض قولهم بحدوث أصول العالم يلزم عليهم جعل المخصّص لوقت الحدوث هو التوقّف على شرط سابق عليه والاذعان بتحقّق الشروط الغير المتناهية ، بل لهم أن يجعلوا المرجّح هو العلم بالأصلح أو عدم وقت قبل وقت الحدوث. ويؤيّد ذلك انّ العالم عندهم حادث بالذات والمرجّح لإيجاده كذلك عندهم انّما هو ذات العلّة التامّة من دون توقّف على شيء آخر.

فان قيل : الفلاسفة لمّا قالوا بالقدم ولم يكن العالم حادثا عندهم فالتسلسل في المتعاقبات لازم عليهم البتة ، فجواز جعلهم المخصّص ذات الوقت أو العلم بالأصلح لا معنى له! ؛

قلنا : قد تقدّم انّ حدوث العالم مع الايجاب بالمعنى المذكور أمر لا يعقل إلاّ أنّ التوقّف على شرط حادث انّما أخذه المستدلّ على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور وقطع النظر عن امتناع ذلك ، بل فرض الوقوع وتكلّم بانّه حينئذ يلزم التوقّف على شرط حادث ، فالمطلوب انّه إذا امكن على سبيل الفرض والتقدير اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور ـ أي : ما هو ملزوم القدم لزوما بينا كما أخذه المستدلّ ـ فللحكيم أن يجعل المرجّح لآن الحدوث هو العلم بالأصلح ، كما انّ للمستدلّ أن يجعله ذلك بعد المعارضة. وبالجملة انّ الحكيم لمّا لم يقل بالحدوث لم يكن يجعل المخصّص العلم بالأصلح مذهبا له ، إلاّ أنّ سند المنع لا يلزم أن يكون مذهبا للمانع.

وأيضا لو وجب الزام الحكيم بما هو مذهبه ولا يجوز له التعدّي إلى ما لا يقول به لكان اجراء هذا الدليل من قبل المعتزلة الزاميّا على الحكماء ، وهو ليس بصحيح ، لابتنائه على امتناع التسلسل التعاقبي ، وهو ليس بمسلّم عندهم.

وقد ظهر ممّا ذكر انّ المعارضة واردة على المعتزلة ، فالاستدلال المذكور من قبلهم لا يكون برهانيا ـ لعدم تسليمهم المقدّمة المذكورة ، أعني : توقّف الحادث على الشروط الحادثة ـ ولا الزاما على الحكماء لما ذكر ، لا لأنّ تلك المقدمة ليست مسلّمة عند الحكماء ـ كما قال بعض الأفاضل : الظاهر انّ تلك المقدّمة غير مسلّمة عند الحكماء أيضا ، لأنّهم يتشبّثون في استناد الحادث بالقديم بموجود قديم مستمرّ متجدّد متّصل واحد ذي اعتبارين كالحركة يكون بأحدهما شرطا لحدوث الحادث وبالآخر مستندا بالقديم السرمدي ، كما ينوّه في محله ؛ ـ انتهى.

وقال بعض آخر : انّ التوقّف على الشرط الحادث والتزام التسلسل في الشروط لا يقول به إلاّ شرذمة من القائلين بالقدم ؛ قال صدر المحقّقين في رسالة اثبات الواجب : وأمّا نسبة التزام هذه التسلسل إلى الحكماء فافتراء ؛ وقال ولده غياث المدقّقين في شرحه : اي قدماء الحكماء المحقّقين ، فانّهم انكروا ذلك كما لا يخفى على من تصفّح الصحف الموروثة عنهم ، وانّما التزمه قوم من المتفلسفين المتأخّرين ممّن لا اعتماد على كلامهم. والمنكرون للتسلسل في الشروط الحادثة بيّنوا كيفية حدوث الحوادث اليومية بوجه آخر ، وهو انّهم اثبتوا حركة سرمدية وهي أمر واحد متّصل وله اجزاء فرضية فكلّ فرد من الحوادث مستند إلى بعض معيّن من تلك الحركة الواحدة ؛ (5) انتهى.

وذلك لأنّ التصفّح يعطي بأنّ الفلاسفة متّفقون على التزام التسلسل في الشروط الحادثة ؛ واذعانهم بوجود الحركة السرمدية دليل قاطع على ذلك ، لأنّ الحركة القديمة ذو اجزاء كلّ جزء منها متوقّف على جزء سابق عليه ، فيلزم التسلسل في الأمور المتعاقبة. فجعل استناد الحوادث اليومية إلى الحركة السرمدية دليلا على عدم توقّف الحادث على الشروط الحادثة الغير المتناهية أمر غريب.

وقال بعض أهل التحقيق : انكار كون هذه المقدّمة مسلّمة عند الحكماء غريب جدا ، إذ لا ريب لمن تصفّح كتبهم في انّهم يقولون بها.

وما تخيّله من أنّهم قالوا باستناد الحوادث إلى الحركة وهي موجود واحد قديم بلا توقّف على شرط فلم تكن المقدّمة مسلّمة عندهم ، ففيه : انّ نظرهم إلى انّ الحركة لها أجزاء غير متناهية يتوقّف كلّ جزء منها على سابقه. وحينئذ لا بأس باستناد الحوادث إليها ، إذ توقّف كلّ حادث على شرط حادث على سبيل التسلسل على التعاقب ، فليس في ذلك دلالة على تجويزهم استناد الحادث بالقديم بلا توقّف على شرط حادث. كيف ولو جوّزوا ذلك فما بالهم ارتكبوا تلك الحركة وتورّطوا فيما تورطوا فيه؟!. فظهر انّ تعليل عدم امكان جعل الاستدلال المذكور جدليا والزاميا للحكماء لعدم كون المقدّمة (6) المذكورة مسلّمة عندهم غير صحيح. فالصحيح تعليله بما ذكروا بانّ الحكيم قائل بتوقّف الحادث على الشرط الحادث مطلقا ، سواء كان الفاعل مختارا أو موجبا، فعلى تقدير جعله جدليا والزاميا للحكيم يتوجّه على المعتزلة النقض قطعا ؛ هذا.

وقيل في بيان عدم جواز استعمال الدليل المذكور لا برهانيا ولا جدليا من قبل المعتزلة وورود المعارضة عليهم مع انّهم يجوز لهم على الظاهر أن يقولوا ـ لم لا يجوز أن تكون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور وان اعتقدنا بطلانها في نفسها كما في كثير من توالي المتّصلات اللزومية ـ : انّ القول بالمقدمة المذكورة كما انّه لا يصحّ في نفسه عندهم كذلك ليس لازما لفرض الايجاب المذكور في الواقع حتّى يصحّ استعمال المعتزلة لها على فرضه ، وحينئذ لا يجوز لهم استعمالها أصلا.

بيان عدم اللزوم : انّ معنى الايجاب المذكور هو امتناع انفكاك الذات عن ايجاد العالم مطلقا في الازل ، فيلزمه حصول جميع شرائط التأثير فيه في الأزل وعدم توقّفه على شيء اصلا فلا يمكن مع استلزامه عدم التوقّف المذكور أن يستلزم أيضا توقّفه على الشروط للزوم اجتماع النقيضين ، وهو محال ؛ فثبت انّ توقّف العالم حال حدوثه على حادث آخر لا يمكن أن يكون لازما لفرض الايجاب المذكور ؛ انتهى.

وفيه : ما تقدم من انّ بناء الاستدلال على قطع النظر عن استحالة اجتماع الايجاب المذكور مع حدوث الأثر ، ولولاه لم يصحّ للأشعري أيضا نفي مطلق الايجاب. وإذا كان اجتماع هذين الأمرين ـ أعني : القدم والحدوث ـ محالا ومع ذلك فرض وقوعه واستدلّ على تقديره فلا مانع من لزوم محال آخر منه ـ أعني : اجتماع عدم التوقّف على شيء والتوقّف على الشرط ـ ، لأنّ المحال قد يستلزم فرضه محالا آخر والاستدلال بفرض وقوع محال وترتّب محال آخر عليه أمر شائع بينهم ، ولو منعه مانع محتجّا بعدم فائدة فيه وعدم الاحتياج إليه فهو كلام آخر. وسنذكر انّ من وجوه الاختلال في هذا الاستدلال عدم الاحتياج إليه ، للزوم القدم على فرض الايجاب المذكور ضرورة ، ونشير إلى أنّ من وجوه الاختلال فيه وان كان مندفعا بما ذكر من لزوم اجتماع النقيضين ـ أعني : الايجاب بالمعنى المذكور والحدوث ـ ، والمحال قد يستلزم المحال.

فلقائل أن يقول : حينئذ لا مانع من لزوم التسلسل في الشروط المتعاقبة لامكان استلزام المحال المحال ، والمطلوب هاهنا انّه مع قطع النظر عن هذه الوجوه من الاختلال يلزم اختلال آخر أيضا ، وهو المعارضة من قبل الحكماء على المعتزلة.

الثاني : انّ المعارضة يرد على الأشعري أيضا. فان أجيب : بانّ للأشعرية الجواب بالتزام التخلّف والترجيح بلا مرجّح ويكون كلامه في الاستدلال على سبيل الجدل والالزام ؛

قلنا : للمعتزلة أيضا التزام عدم توقّف الحادث على شرط حادث ويكون كلامهم في الدليل على سبيل الجدل ؛ انتهى.

ولا يخفى ضعفه على ما بيّناه ، لأنّ الاستدلال المذكور على مذهب الاشعري برهاني لا يتوجّه عليه النقض مطلقا ، لأنّ في صورة الاختيار يجوز الترجيح بلا مرجّح عنده بخلاف صورة الايجاب. وما ذكره من امكان جعل الدليل المذكور جدليا من قبل المعتزلة فقد عرفت فساده.

وبذلك يندفع ما ذكره بعض آخر : انّ الدليل المذكور لا يمكن اجرائه من قبل الأشعري أيضا لا برهانيا ـ لتجويزه الترجيح بلا مرجّح ـ ولا جدليا ـ لابتنائه على استحالة التسلسل في الشروط المتعاقبة ـ ، مع أنّ الحكماء يجوّزوه ، فلا يصحّ استعماله الزاما عليهم. فالحقّ انّ هذا الدليل لا يصحّ اجرائه اصلا لا من قبل الأشعري ولا من قبل غيره ، لا برهانيا ـ لابتنائه على التوقّف على الشرط الحادث وهو غير ممنوع عند المتكلّمين ، أمّا عند الأشاعرة منهم فلتجويزهم الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا عند غيرهم فلأنّ المرجح عندهم إمّا علم الفاعل وإمّا ذات الوقت ـ ؛ ولا الزاميا ـ لابتنائه على استحالة جميع انحاء التسلسل ، وهو غير ممنوع عند الحكماء ـ أيضا ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع ما عرفت من صحّة جعله برهانيا من قبل الأشعري.

والحقّ انّه يمكن أن يكون من قبله جدلا والزاما على الحكماء أيضا. وما استدلّ به على عدم امكان جعله جدليا يرد عليه : انّه لا ريب في أنّ أحد مقدّمات هذا الدليل ـ وهو لزوم التسلسل في الشروط ـ جدليّ للزومه على مذهب الحكيم دون الأشعري ، وهو يكفي لكونه جدليا ، ولا يلزم أن يكون باقي مقدّماته أيضا جدليا. ولا يلزم من استعمال مقدّمة في الدليل جدلا أن يكون جميع مقدّماته ممّا يسلّمه الخصم ، بل يجوز أن يكون بعض مقدّماته ممّا يعتقد المستدلّ كونه برهانيا وإن لم يسلّمه الخصم فاذا كان لزوم التسلسل في الشروط مسلّما عند الحكيم لزم كونه جدليا وان كان بطلانه غير مسلّم عنده ، بل كان ممّا اعتقده الأشعري وثبت عنده بالبرهان ، هذا.

وقال بعض الفضلاء : انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة غير تامّ ، إذ هم يجوّزون تخلّف المعلول عن العلّة التامّة واستحالته مأخوذة في الدليل.

واجاب عنه بعض الأعلام : بانّ المذكور في الاستدلال هو التخلّف عن الموجب التامّ وهو باطل باتفاق العقلاء ، لكن الأشاعرة ينفون الموجب مطلقا لا أنّهم يجوّزون التخلّف ؛ كيف وهو في قوّة اجتماع النقيضين؟!. وأمّا تخلف المعلول عن العلّة التامة فهو وان كان جائزا عقلا عندهم لكنّه غير واقع ومستحيل عادة نعم! تخلّف العلّة التامة عن المعلول بمعنى انفكاك ذاته في الأزل عن ايجاد الفعل مطلقا جائز وواقع عند أكثر المتكلّمين ، لأنّ ذاته ـ تعالى ـ مع علمه وارادته علّة تامة في الأزل لوجود العالم عندهم ، بل موجب تامّ عند بعضهم ـ كالمحقق الطوسي واتباعه ـ ، والعالم غير موجود فيه وبناء تجويز ذلك عند كلّ طائفة أمر وعند المحقّق الطوسي هو العلم بالأصلح ؛ انتهى.

وحاصله : انّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ والكلام في الاستدلال انّما هو فيه، وهو صحيح لا غبار عليه ، كما مرّ غير مرّة من أنّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ وإن جوّزوا التخلّف عن الفاعل المختار بسبب الإرادة ، لا بأن يكون التخلّف جائزا بعد تعلّق الإرادة بالفعل ـ لوجوبه حينئذ عندهم ـ ، بل قبل تعلّقها بمعنى انّ تعلّقها بالفعل ليس بواجب ، فيجوز للفاعل المستجمع لجميع الشرائط أن يريد الفعل وأن لا يريد ، لجواز الترجيح بلا مرجّح.

فالتخلّف الجائز عن الفاعل المختار هو التخلّف عن المختار المستجمع للشرائط من الدواعي وغيرها سوى الإرادة ، ومع الإرادة لا يجوّزون التخلّف. ولا ريب انّ الفاعل بدون تعلّق الإرادة ليس علّة تامّة وان حصل جميع ما سواه من شرائط التأثير. فما ذكره المجيب المذكور من أنّ التخلّف عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ليس على ما ينبغي!.

قال بعض أهل التحقيق : ان مذهب الاشاعرة في صدور الفعل عن الفاعل المختار انّه يصدر عنه بدون اللزوم والوجوب في الاختيار والإرادة ، كما هو زعم المعتزلة من انّه لا بدّ من مرجّح في الفعل يوجب تعلّق الإرادة مثل كونه أصلح للصدور ، لأنّ الاشاعرة قالوا : المختار مرجّح بإرادته من غير مرجّح يوجب تعلّق الإرادة وان كان صدور الأثر بعد تعلّق الإرادة واجبا. فلا يتوهّم أنّ الأشاعرة ينفون وجوب الفعل والأثر بعد تعلّق الإرادة ، بل القول بانّ الشيء ما لم يجب لم يوجد متّفق عليه بين الكلّ إلاّ شرذمة قليلة من المتكلّمين القائلين بالأولويّة  الغيرية ، فالوجوب واللزوم اللذان ينفيهما الاشاعرة وجوب تعلّق الإرادة بسبب موجب له ـ كالأصلحية مثلا ـ ، لا وجوب الفعل بغير الإرادة. وقد اعترض عليهم : بانّ ما قيل في وجوب الفعل آت بعينه في تعلّق الإرادة أيضا ؛ انتهى. وقال بعض آخر من الأعاظم : انّ ما نسب إلى الأشعري من انّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ممّا لم أقف على مأخذه! ؛ بل ظاهر كلام المواقف وشرحه انّهم يقولون باستحالة التخلّف عقلا. قال في المواقف : الإرادة القديمة يوجب المراد ؛ وفي شرحه : اي : إذا تعلّقت إرادة الله ـ تعالى ـ بفعل من أفعال نفسه لزم وجود ذلك الفعل وامتنع تخلّفه عن ارادته ، اتفاقا من أهل الملّة والحكماء أيضا (7) ؛ انتهى.

وأيضا اورد في بحث الاختيار من جانب القائلين بإيجاب السؤال : بأنّ قدرته ـ تعالى ـ متعلّقة في الأزل بهذا الطرف وبه يجب وجوده ، وحينئذ فما الفرق بين الموجب والمختار؟ ؛

وأجاب : بانّ الفرق انّه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن تعلّق قدرته يستوي إليه الطرفان ، ووجوب هذا الطرف وجوب بشرط تعلّق القدرة والإرادة به ، لا وجوب ذاتي كما في الموجب بالذات ؛ ولا يمتنع عقلا تعلّق قدرته بالفعل بدلا من الترك وبالعكس. وأمّا الموجب فانّه يتعين تأثيره في أحدهما ويمتنع في الاخر عقلا ؛ انتهى.

وتوضيح المقام : انّ مذهب الأشاعرة هو أنّ الفعل بعد تعلّق الإرادة به يصير واجبا ، ومرادهم بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامة هو هذا ـ أي : يمتنع تخلّفه عن الفاعل بعد تعلّق الإرادة واستجماعه لسائر الشرائط ـ. ولكن تعلّق الإرادة به ليس بواجب ، لانّ الفاعل المستجمع لجميع الشرائط يمكن أن يريد الفعل وأن لا يريد ـ بناء على جواز الترجيح بلا مرجّح ـ. والمراد بنفيهم الايجاب هو هذا ؛ أي : ليس شيء من الأفعال ممّا يجب صدوره عن الفاعل ، فانّ عدم ارادته له ممكن وحينئذ لم يصدر ذلك وإن كان بعد تعلّق الإرادة يجب الصدور البتة. وعلى هذا فالوجه في تمشّى الاستدلال المذكور على مذهب الأشاعرة هو انّهم يقولون : إذا كان الفاعل موجبا لا بدّ أن تكون ارادته واجبة الصدور منه ، فحينئذ فجميع الشرائط ان كانت حاصلة في الأزل يجب القدم وإلاّ يتوقّف على شرط حادث ، وأمّا إذا لم يكن موجبا فيجوز أن يكون جميع الشرائط حاصلة في الأزل ، ولكن لم تتعلّق به الإرادة في الأزل ، فلم يوجد الفعل وتعلّقت به فيما لا يزال ، فوجد الفعل ؛ هذا.

وقد بقي في المقام اشتباه ربما يزلّ به بعض الاقدام لا بدّ من الاشارة إلى دفعه. وهو : انّكم قلتم في مقام الاستدلال : لو كان الفاعل موجبا بالمعنى المذكور وكان العالم حادثا لزم التوقّف على شرط حادث لازم لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ؛ فنقول : إن كانت المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور على الاطلاق كان الاستدلال حينئذ تامّا من قبل المعتزلة ولا يرد عليهم المعارضة ، كما انّه تامّ من قبل الأشاعرة. ولو لم تكن لازمة له على الاطلاق لم يكن الاستدلال المذكور تامّا من قبل الاشاعرة أيضا ، كما انّه ليس تامّا من قبل المعتزلة ، لأنّ المقدّمة المذكورة إذا لم تكن لازمة للإيجاب بالمعنى المذكور كيف يجوز للأشعري أن يقول ـ على فرض الايجاب المذكور ـ : إذا كان العالم حادثا لزم التسلسل في الحوادث إن كان تأثيره ـ تعالى ـ في الحادث محتاجا إلى مرجّح غير الإرادة؟! ، وأنّى له أن يدّعى اللزوم بين غير المتلازمين؟!.

ووجه الدفع فيه : انّ المراد بعدم كون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ـ أي : الايجاب بالمعنى الاخصّ المساوق للقدم في مقام المعارضة ـ انّها ليست لازمة لفرض هذا الايجاب المخصوص على أن يكون للخصوصية دخل في الاستلزام وإن كان لازما لمطلق الايجاب ـ أي : الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء ، وهو الايجاب الخاصّ المذكور المساوق للقدم ـ والايجاب بالاعتبار الّذي قال به المعتزلة ـ أي : وجوب الفعل في آن حدوثه بسبب الداعي ـ ، فالمراد بعدم لزوم تلك المقدّمة للإيجاب المذكور هو انّ تلك المقدمة ليست لازمة لفرض خصوص هذا الايجاب الّذي قصد هاهنا ابطاله ، فلا يمكن استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي قال به المعتزلة ، لأنّه لو كان لخصوصية الايجاب المذكور دخل في استلزام المقدّمة لامكن أن يبطل بها الايجاب المذكور ويثبت بها الايجاب الآخر ، ولكن لم يكن اللزوم لخصوصية الايجاب المذكور ، بل كان لمطلق الايجاب لم يمكن ابطال قسم منه واثبات قسم آخر.

والمراد بلزوم المقدّمة المذكورة للإيجاب بالمعنى المذكور في الاستدلال هو لزومها له في ضمن مطلق الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء وايجاب المعتزلة ، وعلى هذا فالإيجاب سواء كان بالمعنى المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع الانفكاك المساوق للقدم ـ أو بالمعنى الّذي اثبته المعتزلة ـ وهو الوجوب بالداعي في آن الحدوث المسمّى بالاختيار المقابل للإيجاب المقصود هاهنا ـ مستلزم للمقدّمة المذكورة. فكما يرد حينئذ لزوم المقدّمة المذكورة على الحكيم يرد على المعتزلي أيضا ، فالمعارضة واردة على المعتزلة. ولو كانت المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص ايجاب الحكماء لزم ورودها عليهم فقط لا على المعتزلة ، وكان لهم أن يقولوا : الايجاب الّذي نحن نثبته غير مستلزم لتلك المقدمة ، فلم يتوجّه عليهم المعارضة.

ثمّ لمّا كانت تلك المقدّمة لازمة للإيجاب المطلق فيمكن للأشعري ـ الّذي لا يقول بالإيجاب اصلا ـ ابطال مطلق الايجاب بلزومها ؛ فانّ للأشاعرة في هذا المقام مطلوبين : أحدهما نفى الايجاب الخاصّ المستلزم للقدم المخصوص بالحكماء ؛ وثانيهما : نفى مطلق الايجاب المشترك بين الحكماء والمعتزلة ، بل اثبات الاختيار المستلزم لجواز الترجيح بلا مرجّح المختصّ بهم والمقدمة المذكورة وان كانت غير مسلّمة عندهم أيضا ولا لازمة لفرض الايجاب الأوّل لكنّها لازمة لفرض الايجاب الثاني على زعمهم ، بل لنفي الاختيار المخصوص بهم ، فيصحّ استعمالهم في اثبات المطلوب الثاني دون الأوّل. وعلى ما ذكر يندفع الاشتباه ولا تبقى شبهة أصلا.

والعجب انّ بعض الاعاظم بعد أن  أورد في المقام حاصل ما ذكرناه قال : فان قيل : كيف يجوز عند الأشاعرة لزوم تلك المقدّمة لفرض الايجاب المطلق ولا يجوز للإيجاب الخاصّ ؛ واجاب : بانّ عدم لزوم تلك المقدّمة للإيجاب الراجع إلى القدم من جهة انّ فرض الحدوث المذكور فيها مناف لفرض ذلك الايجاب ، إذ محصّل الكلام انّه على تقدير قدم العالم لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ، وبطلانه ظاهر. بخلاف الايجاب المطلق ، فانّه لا منافاة بين فرضه وفرض حدوث العالم ، فيحتمل لزوم تلك المقدّمة على فرضه دون الاول ؛ انتهى.

ووجه التعجّب : عدم توجّه السؤال وازالة الاشتباه بالكلّية بعد ذكر ما أوردناه ، لأنّا ذكرنا انّا لا نقول بعدم لزومها للإيجاب الخاصّ ، بل نقول انّه ليس لخصوص ذلك الايجاب دخل في لزومها، فلا يتمشّى استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي تجري المقدّمة المذكورة في ابطاله أيضا. نعم! يمكن استعماله في ابطال مطلق الايجاب كما هو رأي الأشعري ؛ وعلى هذا يتمّ المطلوب ولا يبقى مقام للاشتباه والسؤال ، فلا ايراد.

ثمّ ما ذكره في الجواب فلا يخفى وهنه! ، لانّا ذكرنا مرارا انّ بناء الاستدلال على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور وقطع النظر عن استحالته. على انّه على ما ذكره تكون المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص الايجاب الّذي يقول به المعتزلة لا ما يقول به الحكماء أيضا ، فلا يمكن للأشعري نفي مطلق الايجاب بلزومها ، مع انّه قد صرّح بلزومها للإيجاب المطلق ؛ هذا.

وربما يتراءى في المقام أن يقال : انّ للإيجاب المقصود هنا ـ أعني : ايجاب

الحكماء ـ معنى آخر غير الايجاب الّذي يقول به الحكماء والمعتزلة ـ أي : صدور الشيء بالوجوب واللزوم ـ وهو المراد بالإيجاب المطلق. وليس الايجاب الأوّل ـ أعني : ايجاب الحكيم ـ فرد ، فلا يلزم من لزوم تلك المقدّمة للإيجاب الثاني لزومها للأوّل أيضا. وعلى هذا فلا تكون المقدّمة المذكورة لازمة للإيجاب بالمعنى المقصود هاهنا ، لا بخصوصه ولا في ضمن مطلق الايجاب الّذي أثبته الحكيم والمعتزلي ؛ فلا يمكن ابطال الايجاب المذكور بلزومها اصلا.

وهو مردود بأنّ ايجاب الحكيم وإن كان معنى آخر لكن لا شكّ في انّه مستلزم للإيجاب بالمعنى الثاني ، إذ امتناع انفكاك الأثر عن المؤثّر لا يكون إلاّ إذا كان صدوره عنه بالوجوب واللزوم ، وإذا كان مستلزما له فيكون مستلزما للازمه أيضا ؛ على انّه لو كان الأمر على ما توهّم لما كان للأشعري أيضا أن يبطل الايجاب المختصّ بالحكماء بلزوم المقدّمة المذكورة.

تنبيه :

على ما ذكرنا من تمشّي الدليل المذكور من قبل الأشاعرة في نفي المرجّح ونفي الايجاب المطلق لا يتوهّم أحد منهم انّ كلامهم صحيح واستدلالهم في الواقع ونفس الأمر تامّ! ، بل هو عند التحقيق ساقط.

وتوضيح الكلام في هذا المقام : انّ الاشاعرة جوّزوا الترجيح بلا مرجّح ونفوا الاحتياج إلى المرجّح مطلقا وقالوا بجواز صدور الفعل عن الفاعل بدونه. وانّما أقاموا الدليل المذكور أوّلا على ذلك المطلوب ، وحاصله : انّه لو كان تأثير الواجب في الحادث يحتاج إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث. ولمّا كان هذا الدليل المذكور أوّلا على نفي الايجاب أيضا استعملوه فيه أيضا ، فان استعملوه في نفي الايجاب المطلق المقصود منه الايجاب بالاختيار أيضا ـ أي : الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة ـ كان حاصل كلامهم حينئذ انّ تأثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالإيجاب بمعنى وجوب الفعل ولزومه ، بل بالاختيار بدون الوجوب واللزوم بأن يكون المرجّح نفس إرادة الفاعل المختار ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في الحوادث ؛ وان استعملوه في نفي الايجاب المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع الانفكاك ـ كان حاصل كلامهم انّ تأثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالإيجاب بمعنى امتناع الانفكاك ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في الحوادث. ولا ريب انّ قولهم بنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة انّما هو مبني على قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ ، إذ على تقدير جوازه لا يتحقّق لشيء من الفعل والترك وجوب ولا اولوية بالنسبة إلى الفاعل في شيء من الاوقات ، وانّما التعيين والتخصيص من جهة الإرادة من دون وجوب تعلّقها بشيء من الطرفين وإن وجب بعد تعلّقها.

ثمّ لا يخفى انّ قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ اصل من اصولهم وليس مبتنيا على أصل آخر مسلّم عندهم ، وهذا الأصل في غاية الفساد ، ودليلهم المذكور في اثباته في غاية الضعف والوهن ؛

أمّا أوّلا : فلأنّه لا يدلّ إلاّ على نفي المرجّح الحادث ، اذ القدم أو التسلسل في الحوادث انّما يلزم إذا كان التأثير في الحوادث موقوفا على مرجّح حادث ، وامّا إذا اكتفى بتوقّفه على مرجّح قديم يرجّح وجود الحادث على عدمه في وقت خاصّ ـ أعني : الداعي القديم ـ كالعلم بالأصلح على ما ذهب إليه جماعة من المعتزلة أو قلنا بانّ المرجّح هو ذات الوقت وعدم وقت قبل وقت الحدوث على ما هو الحقّ ، فلا يلزم قدم ولا تسلسل ، إذ كلّ واحد من الداعي وذات الوقت يكفي لتخصيص ايجاد الحادث.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الإرادة المجرّدة من دون انضمام المرجّح لتعلّقها بأحد الطرفين لا تكفي للترجيح ـ كما مرّ ـ ، فقولهم بنفي الايجاب الخاصّ صحيح على أصولهم.

وأمّا قولهم الثاني ـ أعني : نفي الايجاب الخاصّ ـ فهو مبني على قولهم الأوّل ، فانّه إن كان صحيحا مسلّما لكان هذا أيضا صحيحا ، إلاّ انّه لمّا كان اصلهم الّذي بنى عليه هذا القول فاسدا لكان هذا القول أيضا فاسدا في الواقع ونفس الأمر ، لأنّه إذا لم يجز الترجيح بلا مرجّح لم يجز صدور الفعل بدون الوجوب واللزوم ، فلا بدّ في صدور الفعل حينئذ من وجوبه. والوجوب في فعل الواجب يكون عند المليين إمّا بالداعي أو بذات الوقت ، فهما يكفيان لتصحيح الايجاب الخاصّ وتخصيص ايجاد الحادث بوقته لئلاّ يلزم قدم ولا تسلسل ، لأنّ الداعي القديم أو عدم وقت قبل وقت الحدوث اقتضى على سبيل الوجوب ايجاد الحادث في وقته المعين ، فهو كاف للترجيح ولا يفتقر إلى مرجّح آخر ؛ فمع حدوث الحادث بهذا المرجّح لا يلزم قدم ولا تسلسل. فلو استدل الأشعري بالحدوث وجعله وسطا لنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة فلنا أن نقول : الوسط في هذا الدليل يجمع مع الايجاب الخاصّ فلا يدلّ على نفيه ، وحينئذ فيمكن أن يمنع الشرطية القائلة بانّه لو كان حادثا لتوقّف المحال مستندا بانّه مع فرض الايجاب الخاصّ لا يتوقّف الحادث على شيء آخر ، بل يكفى الداعي أو ذات الوقت للتخصيص والترجيح. وحينئذ فيمكن أن يلتزم جواز التخلّف عن الموجب بهذا الايجاب. لانّه لا تخلّف حقيقة عن العلّة التامة حينئذ ، لأنّ العلّة التامة هي الواجب مع الداعي على نحو ما تعلّق. وأيضا لا يقتضي شيء من قواعد الأشاعرة لزوم التوقّف المذكور لفرض الايجاب بالاختيار ، إذ هما متنافيان ظاهرا ، إذ فرضه ـ أي : فرض الايجاب بالاختيار ـ في قوّة فرض عدم احتياج الحادث في التخصيص إلى حادث آخر ، فظهر انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة على جواز الترجيح بلا مرجّح وعلى نفي الايجاب بالاختيار في ضمن الايجاب المطلق غير تامّ. ولذا لم يتعرّض أكثرهم في اثبات جواز الترجيح بلا مرجّح لهذا الدليل ولم يذكر في الكتب الكلامية دليل من قبلهم على هذا المطلب ، بل ادّعوا فيه الضرورة ونبّهوا عليه ببعض الأمثلة كرغيفي الجائع وطريقي الهارب. وقد ظهر أيضا انّ القول بجواز الترجيح بلا مرجّح يستلزم القول بنفي الايجاب الخاصّ المعتبر عند المعتزلة. وأمّا العكس فغير ثابت ، لأنّ الحكماء قائلون بنفي الخاصّ لقولهم بامتناع الانفكاك المنافي للقول بالإيجاب الخاصّ الّذي يعتبر فيه نحو من الانفكاك.

وأمّا القول بامتناع الترجيح بلا مرجّح فلا يستلزم القول بثبوت الايجاب الخاصّ ، لما مرّ من مذهب الحكماء ؛ ولما ذهب إليه محمود الخوارزمي كما نقل عنه فخر الدّين الرازي في الاربعين بانّه قال : الترجيح يفيد الاولوية دون الوجوب (8) ، وأمّا عكسه فثابت لأنّ كلّ من قال بتحقيق الايجاب الخاصّ قال باستحالة الترجيح بلا مرجّح ، فالقول بنفي الايجاب الخاصّ يدور مع القول بجواز الترجيح بلا مرجّح وجودا لا عدما ، والقول بثبوته يدور مع القول بامتناعه عدما لا وجودا ، وامّا قولهم بنفي الايجاب بمعنى امتناع الانفكاك فهو يدور مع القول بالقدم وجودا وعدما وبالعكس ؛ ولذا جميع القائلين بالحدوث نفوه وبالعكس وجميع القائلين بالقدم اثبتوه وبالعكس. فقولهم بنفي هذا الايجاب صحيح على أصولهم وقواعدهم وصحيح في الواقع ونفس الأمر أيضا ، ودليلهم عليه تمام على الفلاسفة. ولا يمكن للفلاسفة أن يعارضوهم بصورة الاختيار بأنّه يلزم حينئذ أيضا امّا القدم أو التوقّف على الشروط الغير المتناهية ، لأنّهم لمّا جوّزوا الترجيح بلا مرجّح فيجوز لهم أن يقولوا لا يفتقر حدوث الحادث إلى مرجّح سوى الإرادة ليلزم أحد الأمرين ، ولا يمكن للفلاسفة أن يلتزموا مثل ذلك لتتمّ المعارضة ، فدليلهم تامّ على أصلهم هذا لا فى الواقع ونفس الأمر. وأمّا المعتزلة فلمّا لم يجوّزوا الترجيح بلا مرجّح فالدليل المذكور من قبلهم غير تامّ على أصولهم ، لأنّه إذا عارضهم الفلاسفة بصورة الاختيار فان أجابوا بعدم لزوم أحد الأمرين لكفاية الداعي فللفلاسفة أيضا أن يلتزموا مثل ذلك ـ كما تقدّم ـ ، فتتمّ المعارضة عليهم.

ومنها ـ أي : ومن وجوه الاختلال في الاستدلال المذكور إذا جعل دليلا لنفي الايجاب المذكور ، أي : استحالة الانفكاك ـ : انّ المراد من استلزامه القدم انّه مستلزم للقدم بالنوع يعني قدم الفعل المطلق ـ أي : طبيعة الفعل أو الفرد المنتشر ـ ، لا قدم فرد شخصيّ أو جميع الاشخاص. وحينئذ فيرد انّ استلزام الايجاب بالمعنى المذكور لقدم الفعل المطلق بديهي ، لأنّ عدم انفكاك الواجب عن العالم اي فعل ما هو بعينه قدم فعل ، فانّ الاستدلال عليه باستلزام نقيضه التوقّف على الشرط الحادث لغو مستدرك. والمراد بنقيضه هو الحدوث بالنوع ـ أي : حدوث الفعل المطلق ـ ، إلاّ انّا لا نريد هنا بالحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق وأمثالهما حدوث فعل ما أو حدوث طبيعة الفعل المتحقّق في ضمن فعل ما أو حدوث طبيعة الفعل  المتحقّق في ضمن فعل ـ أعني : طبيعة ما ـ ، بل المراد حدوث مطلق النوع والطبيعة ـ أي : عموم هذا المفهوم المتحقّق في ضمن جميع الافراد بأن لا تكون طبيعة ما من طبيعة الفعل قديما أيضا ـ. فالمراد من الحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراد الفعل والسرّ في ذلك انّ المراد بقدم الفعل المطلق ما يطلق عليه الفعل ـ أعني : فردا ما ـ ، والمراد بحدوث الفعل المطلق نفي ذلك القدم ـ أعني : قدم فردا ما ـ ؛ والنفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فيكون المراد حدوث جميع الافراد.

ومنها : انّ التخلّف عن الموجب التامّ أو التسلسل في الشروط الحادثة وإن كان محالا لكن جاز أن يكون لازما ، لاجتماع المتنافيين وهما الموجب بالمعنى المذكور وحدوث أثره المطلق ، أي: عدم كون فعله المطلق قديما بان يكون مجموع افعاله وآثاره حادثا.

وأورد على هذا الوجه : بانّه خارج عن آداب المناظرة ، لانّه إذا سلّم محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور يثبت مطلوب المستدلّ ، إذ ليس غرضه إلاّ انّه على هذا التقدير يلزم القدم ، والمورد قد سلّمه ، فلا ايراد.

فان قيل : المقصود ليس إلاّ ابطال الاستدلال لا ابطال المدّعى ـ أعني : محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور ـ ، فلا يثبت انّ المدّعى ـ أعني : محالية حدوث الفعل المطلق على تقدير الايجاب بالمعنى المذكور ـ بديهي لا يحتاج إلى الاستدلال ، فالغرض هنا

ليس إلاّ التنبيه على فساد الاستدلال ، وهو يحصل بما ذكر ـ أعني : امكان استلزام المحال المحال ـ ؛

قلنا : للمستدلّ أن يقول : بناء الاستدلال على فرض جواز اجتماع الايجاب المذكور والحدوث ، فانّا فرضنا جواز الحدوث على هذا التقدير وأقمنا الاستدلال ، وليس بناء الاستدلال على فرض الايجاب المذكور ومحالية الحدوث ، فلا يرد علينا شيء إلاّ ما ارتكبنا من التطويل. وأمّا الايراد بانّ الحدوث على هذا التقدير محال فلا يتمّ استدلالكم ، فلا يضرّنا ، بل هو مدّعانا!. نعم! لو أجرينا الدليل على تقدير محالية هذا الحدوث لورد علينا مع ارتكاب هذا التطويل هذا الايراد ، لكن ليس كذلك ، بل أجرينا الدليل على فرض جواز الحدوث على ذلك التقدير ، فلا ايراد علينا.

ومنها : انّ توقّف حدوث الفعل المطلق على شرط حادث مستلزم للخلف. بيانه : انّه لو كان الفعل المطلق حادثا والفاعل موجبا فلا ريب في انّ أوّل ما يحدث عن ذلك الفاعل يجب أن يتوقّف على الشرط لئلاّ يلزم التخلّف المحال ، فيلزم أن يكون أوّل ما صدر عنه ذلك الشرط لا المشروط المفروض أوّلا ، هذا خلف!.

وانت تعلم انّ هذا أيضا نافع للمستدل وليس مضرّا له ـ كما لا يخفى ـ.

ومنها : انّ توقّف الحادث على تقدير الايجاب المذكور على شرط حادث مستلزم لتقدّم الشيء على نفسه. بيانه : انّا قلنا انّ المراد بلزوم قدم العالم على فرض الايجاب المذكور هو قدم الفعل المطلق ـ أي : ما يطلق عليه الفعل ، أعني : فردا ما ـ ، فاذا ورد عليه النفي كان المنفي مجموع الافراد ، لأنّ النفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فاذا لم يكن الفعل المطلق قديما يكون جميع الأفعال حادثة موقوفة على شرط حادث خارج عنها ، وذلك الشرط أيضا من جملة الافعال الّتي يتوقّف على الشرط المذكور ، فيكون ذلك الشرط موقوفا على نفسه ، فتصير صورة الاستدلال هكذا : لو كان الفاعل موجبا لزم أن يكون فعل ما قديما وإلاّ ـ أي : وإن لم يكن فعل ما قديما ـ يكون كلّ فعل حادثا ، وإذا كان كلّ فعل حادثا يلزم توقّف هذا الحدوث ـ أعني : حدوث المجموع ـ على شرط حادث هو أيضا فعله ـ تعالى ـ ، فذلك الشرط لكونه من الفعل المطلق يجب أن يكون داخلا فيه ، ولكونه شرطا له ـ أي : للفعل المطلق ـ يجب أن يكون مقدّما عليه ، فيلزم تقدّمه على نفسه. وعلى ما ذكر فلزوم توقّف الشيء على نفسه ـ أعني : الدور ـ ظاهر لا يقبل المنع ، لأنّه إذا كان المراد بحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراده ، والشرط المتوقّف عليه كان من جملة الافراد.

ثمّ ( ان ) (9) توقّف مجموع الافراد على الشرط المذكور لكان الشرط المذكور أيضا يتوقّف على نفسه ، فيلزم توقّف شيء شخصي بعينه على نفسه ، وهو الدور.

وبذلك يظهر ضعف ما أورده بعض الأفاضل : انّه على تقدير حدوث الفعل المطلق لا ريب في لزوم توقّفه على الشرط ، إلاّ انّ اللازم تقدّم فرد من العالم على فرد آخر لا تقدّم الشيء على نفسه.

والظاهر انّ هذا المورد حمل المطلق على الفعل العامّ المشترك بين جميع الافراد ، وفهم حينئذ وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ـ كما فهمه بعض آخر ـ : انّ الشرط الحادث الّذي يتوقّف عليه الفعل المطلق العامّ فرد من أفراد هذا العامّ ، فيكون الفعل العامّ متحقّقا فيه ، فاذا توقّف هذا العامّ المتحقّق في ضمن بعض الافراد على هذا العامّ المتحقّق في ضمن الشرط المذكور يلزم تحقّق الطبيعة قبل تحقّق الطبيعة ، وهو تقدم الشيء على نفسه ؛ فأورد : بانّ اللازم حينئذ تقدم فرد على فرد وهو كذلك ، فانّ غاية الأمر انّ تحقق هذا المطلق في ضمن فرد يتوقّف على تحقّقه في ضمن فرد آخر ، ولا مانع فيه ، لأنّ الطبيعة ليس لها تحقّق على حدة وتحقّقها انّما هو بتحقّق فرد منها ، فتقدّمها على نفسها بتقدّم فرد منها على فرد آخر إنّما هو في الحقيقة تقدّم فرد منها على فرد آخر ـ كما مرّ في مباحث اثبات الواجب ـ. فلا يلزم هنا على هذا من توقّف الفعل المطلق على ما حملوه عليه على الشرط إلاّ تقدّم الشرط من أفراد الفعل المطلق على المشروط به منها ، فالصحيح في وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ما ذكرناه. وحينئذ لا مجال للإيراد اصلا.

ثمّ أنت تعلم انّ لزوم تقدّم الشيء على نفسه من فرض الحدوث لا يضرّ المستدلّ ، بل هو مؤكّد لمطلوبه. لأنّ غرضه انّ الحدوث مع فرض الايجاب المذكور يتضمّن مفسدة لزوم التسلسل ، فاذا أورد عليه بانّه يتضمّن تقدّم الشيء على نفسه أيضا ، فله أن يقول : ذلك يؤكّد مطلوبي ، فالواجب عدم حدوث العالم في صورة الايجاب المذكور بل اللازم حينئذ قدمه. وبالجملة هذا الايراد كسابقه خارج عن آداب المناظرة ، لانّ غرض المستدلّ ابطال التوقّف ، فبطلانه من جهة استلزام توقّف الشيء على نفسه أقوى دليل على مطلوبه.

ثمّ مع لزوم تقدّم الشيء على نفسه إن كان التسلسل أيضا لازما فيلزم فيه محذوران ، وأن منع لزوم التسلسل.

وقيل : انّ ذلك الشرط الحادث يتوقّف على نفسه لا على شرط حادث آخر ، فلا يلزم إلاّ تقدّم الشيء على نفسه دون التسلسل ، وحينئذ يلزم محذور واحد نعم! لو قيل في صورة التسلسل : لا يلزم تقدّم الشيء على نفسه ـ لأنّ التسلسل وتقدّم الشيء على نفسه لا يجتمعان ـ ، لكان له وجه ولم يكن لهذا الايراد مجال.

ومن الأفاضل من حكم بصحّة اجراء الدليل المذكور إن جعل المفسدة فيه لزوم تقدّم الشيء على نفسه لا لزوم التسلسل ، حيث قال بعد أن جزم بأنّ الاستدلال المذكور لا يصحّ اجرائه من قبل المعتزلة ولا من قبل الاشاعرة برهانيا ولا الزاميا لبعض الوجوه السابقة : نعم! يمكن اجرائه الزاميا على تقرير آخر على تقدير حدوث الفعل المطلق بأن يقال : لو كان الفاعل موجبا لزم قدم الفعل المطلق وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّه لو كان الفعل المطلق حادثا لتوقّف حدوثه على شرط هو أيضا فعله ـ تعالى ـ ، فهو من حيث انّه داخل في الفعل المطلق متأخّر ومن حيث انّه شرط لحدوث الفعل المطلق متقدّم ، فيلزم تقدّمه على نفسه ؛ انتهى.

وما ذكره من عدم صحّة اجرائه من قبل الأشاعرة قد علمت خلافه ممّا تقدّم ؛ هذا.

وقد بيّن بعض الأفاضل لزوم تقدّم الشيء على نفسه في الاستدلال المذكور بوجه آخر سوى ما ذكرناه ، وهو : انّ الحادث المذكور ـ أي : الّذي كلامنا فيه ـ بانه يتوقّف على شرط حادث هو أوّل الحوادث ، فالشرط الحادث إمّا أن يكون عينه أو متأخّرا عنه. وهذا على تقدير الحدوث بالنوع ـ بأن يكون الفعل المطلق حادثا لحدوث مجموع الأشخاص ـ ظاهر جدّا ، إذ لا يبقى شيء يكون خارجا عنها حتّى يكون شرطا لها متقدّما عليها ، وحينئذ يلزم إمّا تقدّم الشيء على نفسه أو على ما يتقدّم عليه.

وأورد عليه : بانّ الحادث المذكور لعلّه لا يكون أوّل حادث بل يوجد في مرتبة واحدة أمور غير متناهية على سبيل الاجتماع ، ويكون كلّ واحد منها موقوفا على واحد آخر ، وحينئذ فكلّ واحد حادث يتوقّف على شرط حادث آخر ... وهكذا ، ولا ينتهي إلى أمر يكون أوّل الحوادث ـ أعني : يكون متأخّرا عن نفسه أو عمّا يتأخّر عنه ـ ، فلا يلزم إلاّ التسلسل على سبيل الاجتماع ، لا توقّف الشيء على نفسه.

ومنها : انّه اذا كان أثر الموجب بالمعنى المذكور حادثا بشخصه أو بنوعه يلزم التخلّف البتة ـ سواء توقّف على الشرط أم لا ـ ، فلا حاجة إلى اعتبار توقّفه على شرط حادث والتزام التسلسل. وتوضيح ذلك : انّ الموجب إمّا تامّ أو ناقص ؛ والتامّ مشترك بين الموجبين : أحدهما ما هو معتبر عند الحكماء ـ وهو ما يمتنع انفكاك الفعل عنه ـ ، وثانيهما ما هو معتبر عند المعتزلة ـ وهو ما يوجب الفعل في وقته الّذي تعلّق ارادته به للعلم بالأصلح ـ. والناقص ما يتوقّف صدور الفعل منه على شرط. والموجب بالمعنى المشهور ـ أي : ما يجب صدور الفعل عنه ـ مشترك بين التامّ والناقص. ولا ريب أنّ الموجب المراد هنا هو الموجب التامّ المعتبر عند الحكيم ، والتخلّف عنه غير جائز مطلقا ، واذا توقّف فعله على شرط يتحقّق التخلف ويكون ناقصا لا تامّا.

واعترض بعض الأفاضل على ذلك بانّ الايجاب المقصود هنا لا ينافي عدم وقوع ما يقتضيه الفاعل الموجب بهذا الايجاب لمانع عائد إلى غيره ، إذ حاصل معنى هذا الايجاب هو اقتضاء الذات من جهة لزوم الداعي ، ونحوه امتناع الانفكاك عن الفعل وذلك لا ينافي جواز الانفكاك ، فلا مانع عائد إلى غير ذات الفاعل كعدم امكان الأثر وعدم وقت له قبل وقت حدوثه ، فيجوز أن يكون الموجب بهذا الايجاب غير مستجمع للشرائط المعتبرة في التأثير بحسب نفس الأمر ، فلا يكون تامّا. فلا يستحيل التخلّف عنه ، إذ المحال انّما هو التخلّف عن الموجب التامّ والموجب بهذا المعنى لوجود المانع عن التأثير ليس تامّا ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ الموجب بالمعنى المقصود هنا ـ أعني : ما يمتنع انفكاك الفعل عنه ـ هو الذي قال به الحكماء ، وصرّحوا بأنّه يلزمه قدم فعله وجزموا بانّ الايجاب بهذا المعنى مساوق للقدم ، فهو ما يستحيل انفكاك الفعل عنه بالنظر إلى الداعي مطلقا سواء كان عائدا إلى الذات أو إلى الغير. ومقابله ما لا يمتنع عنه الانفكاك ولو بالنظر إلى الداعي الخارجي كعدم امكان الأثر وعدم  تحقّق وقت قبل وقت الحدوث ؛ كيف ولو كان الايجاب المقصود هنا غير مناف لعدم وقوع ما يقتضيه الفاعل لمانع عائد إلى الغير ـ كعدم الوقت وغيره ـ لكان هو بعينه الايجاب الّذي قال به المعتزلة! ، ـ كما اخترناه أيضا ـ.

__________________

(1) راجع : الأربعين ، ج 1 ، ص 183.

(2) راجع : كشف المراد ، ص 129 ؛ الشرح الجديد ، ص 186.

(3) راجع : الأربعين ، ج 1 ، ص 174.

(4) الاصل : ـ هذا الدليل.

(5) ما عثرت على هاتين الرسالتين ، والظاهر انّهما لم تطبعا بعد.

(6) الاصل : المسألة.

(7) ما وجدت العبارة في المواقف وشرحه.

(8) راجع : الاربعين ، ج 1 ، ص 320 ، 321.

(9) لفظة « ان » غير موجودة في النسختين ، ونحن اضفناها لمكان احتياج المعنى إليها.

 




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.