أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-08-2015
1394
التاريخ: 31-3-2017
686
التاريخ: 3-08-2015
862
التاريخ: 13-4-2017
646
|
الخلاف في [حسن البعثة] مع البراهمة، وهم قوم من الهنود يثبتون الصانع ويقرّون بالتوحيد وطرف من العدل، ولكنّهم ينكرون النبّوّات والشرائع. ولنا في الكلام عليهم طريقان، أحدهما على طريق الجملة، والثاني على طريق التفصيل.
أمّا الكلام على سبيل الجملة، فهو أن نبيّن أنّ اللّه
تعالى بعث أنبياء وصحّت نبوّتهم بما ظهر عليهم من المعجزات، فلو لم يحسن بعثتهم
لما بعثهم اللّه تعالى...
و أمّا الكلام على سبيل التفصيل، فهو أن نقول: إنّ
البعثة ممّا يتصوّر أن يكون فيها غرض صحيح، فإذا تعرّت من سائر وجوه القبح وجب أن
تكون حسنة.
فإن قيل: وما الغرض الذي يتصوّر، ثبوته في البعثة؟ ولم
قلتم إنّها متعرّية من سائر وجوه القبح؟
قلنا: أمّا الغرض الذي يتصوّر ثبوته في البعثة، فالغالب
الظاهر فيه هو تعريف المكلّفين مصالحهم ومفاسدهم، وذلك لأنّه لا يمنع أن يعلم
اللّه تعالى أنّ في أفعال المكلّفين ما إذا فعلوه، دعاهم إلى الطاعة وصاروا حريصين
عليها، فيجب عليه تعالى أن يعرّفهم ذلك، كما انّ الوالد إذ علم أنّ ولده متى فعل
فعلا دعاه إلى التعلّم والتأدّب، ومتى فعل فعلا آخر دعاه إلى التخلّف وترك التأدّب
ومتى فعل فعلا آخر دعاه الى التخلف وترك التأدب فانّه يجب عليه أن يعرّفه ذلك ويأمره
بأحدهما وينهاه عن الآخر؛ كذلك يجب في حكمة القديم تعالى أن يعرّف المكلّفين
مصالحهم ومفاسدهم وإنما يمكن تعريفهم ذلك على ألسن الأنبياء، عليهم السلام فهذا
أكبر الأغراض المتصوّرة في البعثة.
وممّا يتصوّر أن يكون غرضا فيها أن يعرّف من جهتهم
استحقاق العقاب على المعاصي والإخلال بالواجبات ودوام الثواب ودوام عقاب الكفر،
لأنّ جميع ذلك ممّا لا يمكن أن يعلم عقلا على مذهب الخاصة وعلى مذهب المعتزلة.
وإن كان معرفة هذه الامور عقليّة وأمكن التوصّل إليها
بالعقل، فانّها ممّا يمكن أن يكون غرضا في البعثة ...
وممّا يمكن أن يكون غرضا في البعثة أن يعرّف من جهتهم
القطع على عقاب من يعاقبه تعالى قطعا، كالكفّار وبعض فسّاق أهل الصلاة مجملا. فانّ
العقل يجوّز العفو عن جميعهم.
و ممّا يتصوّر أن يكون غرضا في البعثة أن يعرّف من جهتهم
وحدانيّته تعالى، وكلّ مسألة لا يقدح الشك فيها في العلم بصحّة السمع.
وقد قيل فيما يتصوّر أن يكون غرضا في البعثة تأكيد
العقليات لو علم اللّه تعالى أنّ المكلّفين عند تأكيدهم ودعائهم يختارون من
الطاعات ما لا يختارونه مع فقد دعائهم او يجتنبون عن القبائح ما لا يجتنبون عند
فقد دعائهم.
وقد قيل: فيما يتصوّر أن يكون غرضا في البعثة أن يعرّف
من جهتهم الفرق بين السموم المهلكة والأطعمة المغذية.
وقد قيل فيما يتصوّر أن يكون غرضا في البعثة تعريف
اللغات.
و أمّا مطالبة السائل لنا ببيان تعرّي البعثة من سائر
وجوه القبح، فممّا لا يلزمنا، لأنّا ما ادّعينا في هذا الموضع تعري البعثة عن وجوه
القبح، بل قلنا متى تعرّت من سائر وجوه القبح كانت حسنة، مهما حصل فيها بعض الأغراض
الصحيحة التي أشرنا إليها، فإن لم تتعرّ من وجوه القبح لم تكن حسنة، فنحن نقرّ
بأنّ البعثة إذا كان فيها وجه قبح قبحت ولم تحسن.
وغرضنا بما أوردنا بيان أنّ جنس البعثة ممّا لا يجب أن
يكون قبيحا على كلّ حال.
ثمّ إنّا نقول: وجوه القبح معقولة مظبوطة محصورة. وهي
مثل كون الفعل ظلما أو كذبا أو عبثا أو مفسدة أو تقديم مفضول على فاضل فيما هو
أفضل منه فيه، وجميع هذه الوجوه منتفية عن بعثة الأنبياء، صلوات اللّه عليهم.
فإن قيل: قولكم: «الغالب الظاهر فيما يكون غرضا في بعثة
الأنبياء إنّما هو تعريف المكلّفين مصالحهم ومفاسدهم»، كيف يصحّ؟ وقد علمنا أنّ
اكثر ما يأتي به الأنبياء- عليهم السلام- من الشرائع والتعبدات مستنكرة مستقبحة في
العقول، مثل رمي الجمار والهرولة والسعي والطواف بالبيت والتطأطؤ في الصلاة والركوع
ووضع الجبين على الأرض في السجود وذبح البهائم. فأنّ جميع ما أشرنا إليه مستقبحة
مستنكرة في العقول. ألا ترى أنّ العاقل إذا رأى واحدا يفعل مثل هذه الأفعال ذمّه ووبخه
عليها. ومن مذهبكم أنّ ما حصل فيه وجه من وجوه القبح يقبح ولا يحسن وإن حصل فيه
كثير من وجوه الحسن. ثمّ لو تجاوزنا عن ذلك، لم لا يجوز أن يتوصّل إلى معرفة هذه
المصالح والمفاسد من جهة اخرى غير جهة الأنبياء؟
فأمّا استحقاق العقاب ودوامه ودوام الثواب، فلم لا يجوز
أن يتوصّل إلى معرفتها من جهة العقل؟ وكذلك القول في معرفة الوحدانيّة والمسائل
التي ذكرتموها، لأنّها ممّا يمكن أن يتوصّل إليها أيضا من جهة العقل وأدلّته.
فلا حاجة في معرفتها إلى الأنبياء.
و أمّا تأكيد العقليّات فلا يصحّ أن يكون غرضا في
البعثة، لأن العقل فيها كاف.
وأمّا الفرق بين
السموم والأطعمة، فمما يمكن أن يعرف بالتجربة والاختبار.
وأمّا تعريف اللغات، فأي فائدة فيها؟ ثمّ إذا بيّنتم
فائدتها، لم لا يجوز أن يتوصّل إليها بالمواضعة والتعلّم من أهلها؟ ثمّ لم لا يجوز
أن يقال: البعثة مفسدة؟
من حيث أن بعض المكلّفين يكفرون عند بعثة بعض الأنبياء،
ولولاها لما كفروا. ثمّ لم لا يجوز أن يكون في البعثة وجه آخر من وجوه القبح سوى
ما ذكرتموه؟ ولم قلتم إنّ وجوه القبح منحصرة فيما ذكرتموه؟
قلنا: أمّا ما ذكره السائل أوّلا، فالجواب عنه أن نقول:
هذه الامور التي ذكرها السائل لا يقبّحها العقل بكلّ حال، وإنّما يقبّحها إذا لم
يكن فيها غرض المثل فوجه قبحها كونها عبثا، وإذا حصل فيها غرض المثل حسنت وزال
عنها وجه القبح.
بيان ذلك أنّه يحسن من أحدنا أن يقوم إذ توصّل بقيامه
إلى شيء يحتاج إليه، ويحسن منه أيضا أن يتطأطأ ليأخذ من الأرض شيئا يحتاج إليه
أيضا ويحسن أن يسعى في حاجته، ويحسن منه أن يرمي ثمرة أو صيدا أو عدوّا، ويحسن منه
أن يطوف حول بيته ليطّلع على ما يكون فيه من الخلل فيصلحه ويعمره فعلمنا بهذا وتحققنا
أنّ هذه الامور إنّما تقبح إذا لم يكن فيها غرض المثل، فامّا إذا كان فيه غرض
المثل كما ذكرناه حسنت. وإذا حسنت هذه الامور لهذه الأغراض الدنيّة، فبأن يحسن إذا
حصل فيها أكبر الأغراض، وهو كونها مصالح وألطافا داعية إلى الطاعات الموصلة إلى
الثواب الأبديّ صارفة عن المعاصي الموبقة المؤدّية إلى العقاب الأليم أولى وأحرى.
فأمّا ذبح البهائم، فإنّما يقبح مهما كان ظلما، بأن لا
تكون في مقابلته أعواض موفية أو كان عبثا بأن لا يحصل فيه غرض المثل وإن ضمن في
مقابلته الأعواض العظيمة، او كان مفسدة فأمّا إذا لم يكن ظلما بأن يجعل في
مقابلته أعواض عظيمة موفية عليه بكثير، ولا كان عبثا بأن يكون فيه غرض المثل، وهو
كونه مصلحة لبعض المكلّفين ولم يكن مفسدة لأحد من المكلّفين، فانّه يحسن ولا يقبح.
فأمّا ما ذكره ثانيا، فالجواب عنه أن نقول: هب أنّه يمكن
التوصّل إلى معرفة هذه المصالح من غير جهة الأنبياء، ولكن لا يجب أن تكون البعثة
قبيحة بسبب ذلك، لأنّ قيام بعض الأفعال مقام البعض لا يوجب قبح ذلك البعض ألا ترى
أنّ أحدنا لو ألجئ إلى الهرب من سبع أو عدوّ قاهر واعترضه طريقان متساويان في
غرضه، فانّه لا يقبح منه سلوك أحدهما لقيام سلوك الآخر مقامه.
ثمّ إنّا نبيّن أنّه لا يمكن التوصّل إلى معرفة هذه
المصالح إلّا من جهة الأنبياء عليهم السلام بأن نقول: لا يمكننا معرفتها ضرورة، من
حيث أنّا كلّفنا أداء هذه العبادات الشرعيّة التي هي مصالح لنا على وجه القربة إلى
اللّه تعالى والعبادة له. فلو عرفناها ضرورة لكنّا عارفين باللّه تعالى ضرورة، والتكليف
يمنع منها، ولا شيء من أدلّة العقل يدلّ على هذه المصالح وإنّها تدعونا إلى
الطاعات وتصرفنا عن المعاصي، فعلمنا بهذا أنّه لا يمكننا التوصّل إلى معرفة هذه
المصالح إلّا من جهة الأنبياء.
و أمّا ما ذكره ثالثا فالجواب عنه أن نقول: استحقاق
العقاب ودوامه ودوام الثواب ممّا لا يمكن أن يعرف عقلا، وليس هذا موضع استقصاء ذلك
واستيفائه...
ثمّ لو سلّمنا ذلك على ما ذهب إليه المعتزلة، لكان لنا
أن نقول: إنّ ذلك لا يوجب قبح البعثة لذلك، لأنّ قيام بعض الأفعال مقام البعض لا
يوجب قبح ذلك البعض ... وهذا هو الجواب عن قولهم: «يمكن التوصّل إلى معرفة هذه
المسائل التي ذكرتموها بالعقل»، ولو لم نراع هذا الأصل للزم قبح ترادف الأدلّة.
وأمّا قوله:
«العقل كاف في العقليّات»، فالجواب عنه أن نقول: نحن لم نجوّز البعثة، لمجرّد
تأكيد العقليّات، وإنّما جوّزناها أن لو علم اللّه تعالى انّها لطف للمكلّفين وانّهم
يختارون عند البعثة من الطاعات ما لا يختارون عند فقد البعثة، وهذا لا يكفي فيه
العقل.
و أمّا الفرق بين الطعوم المغذية وبين السموم المتلفة،
فانّه وإن أمكن التوصّل إليه بالتجربة، الّا أن الزمان يطول فيها، وربما يهلك كثير
من الناس فيها.
ثمّ الجواب عنه ... أنّ قيام بعض الأفعال مقام البعض لا
يوجب قبح ذلك البعض.
وأمّا الفائدة في اللغات فظاهرة، وذلك لأنّ أحدنا يحتاج
إلى أن يخبر عنه عمّا في ضميره، ولا يمكنه ذلك إلّا بالكلام أو ما يجرى مجراه، ولا
يفيد الكلام إلّا بالمواضعة أو التوقيف، وإمكان التوصّل إليها بالمواضعة والتعلّم
من أهلها لا يوجب قبح البعثة لها، لما تكرّرت الاشارة إليه.
و أمّا قوله: «لم لا يجوز أن تكون البعثة مفسدة؟»
فالجواب عنه أن نقول:
المفسدة هي ما يقع عنده الفساد ولولاه لم يقع. ولا يكون
تمكينا ولا له حظّ في التمكين، والبعثة من باب التمكين، لأنّ المكلّفين عندها
يتمكّنون من معرفة مصالحهم ومفاسدهم، ولولا البعثة لما تمكّنوا منها.
وأمّا ما ذكره أخيرا فالجواب عنه أن نقول: وجوه القبح هي
ما أشرنا إليه، وليس هاهنا وجه زائد عليها. والذي يبين ما ذكرناه ويوضحه أنّا نعلم
وكذا كلّ عاقل حسن الفعل الذي انتفت عنه هذه الوجوه متى حصل فيه غرض المثل. فلو
كان فيها وجه زائد على ما ذكرناه لما علمنا ذلك. ولو لم نراع هذا الأصل للزمنا
تجويز قبح ردّ الوديعة وقضاء الدين وشكر المنعم وإن انتفت عنها هذه الوجوه
لتجويزنا ثبوت ذلك الوجه المدّعى في هذه الواجبات، وقد علمنا خلاف ذلك.
فان قيل: كيف يصحّ
قولكم إنّ هذه الشرعيّات مصالح لنا وألطاف وإنّها تدعونا إلى الواجبات العقليّة وتصرفنا
عن القبائح العقلية؟ والشيء لا يدعو الى غيره إلّا إذا كان بينهما مناسبة، فأيّ
نسبة بين هذه الشرعيّات وبين هذه العقليّات؟ ثمّ كيف يصحّ أن يتفق في الخلق الكثير
من لدن عصر النبيّ عليه السلام إلى انقراض التكليف أن تكون هذه الشرعيّات بأعيانها
مصالح وألطافا لهم؟ أولستم تقولون إنّ العادة مانعة من أن يجتمع الخلق الكثير على
شيء واحد؟ كتناول طعام مخصوص في وقت واحد والتزيي بزي واحد اتّفاقا من غير جامع
يجمعهم على ذلك من تواطؤ وما يجري مجراه. وعلى هذا بنيتم أدلّتكم على إثبات معجزات
نبيّكم التي هي سوى القرآن وعلى النصوص على أئمتكم، فإذا منعت العادة من ذلك وجب
أن نمنع من هذا لأنّهما سيّان.
قلنا: أمّا الجواب عن السؤال الأوّل فهو أن نقول: قد
علمنا أنّ اللّه تعالى لا يتعبّدنا إلّا بما يكون لنا فيه مصلحة ولطف من حيث انّه
لا يوجب علينا إلّا ما ثبت فيه وجه وجوب، لأنّ إيجاب ما لا يثبت فيه وجه وجوب يجري
مجرى الكذب في القبح، ووجوه الوجوه معقولة مضبوطة محصورة. فأمّا أن يجب الشيء
لأمر يخصّه، كردّ الوديعة وقضاء الدين وشكر النعمة، وأمّا أن يجب لأمر يرجع إلى
الغير، كدفع المضرّة، لأنّ دفع المضرّة إنّما يجب لكونه دفعا لمضرّة هي غيره، وقد
علمنا أنّ هذه الشرعيّات لا تجب لوجوه ما يختصّها، لأنّها ليست بصفة ردّ الوديعة وقضاء
الدين. وهي وإن تضمنت شكر النعمة إلّا أنّ شكر النعمة لا يجب أن يكون بصفة هذه
العبادات الشرعيّة. فعلمنا بهذه الجملة أنّها إنّما تجب لأمر يعود إلى الغير، وهو
كونها مصالح وألطافا لنا وكونها جارية مجرى دفع المضرة.
إذا ثبت هذا وتقرّر، علمنا أنّ بين هذه الشرعيّات وبين
العقليّات مناسبة على الجملة، وإن لم نعلمها على سبيل التفصيل هذا، كما أنّا إذا
علمنا أنّ الأمراض التي يفعلها اللّه تعالى مصالح وألطاف لنا في الطاعات، علمنا
على سبيل الجملة أنّ بينهما مناسبة وإن لم نعلم تلك المناسبة على سبيل التفصيل.
و كيف نعلم المناسبة بين العقليّات وبين الشرعيّات ووجه
دعوتها إليها على التفصيل، ولو علمنا ذلك لما احتجنا إلى الأنبياء صلوات اللّه
عليهم اجمعين.
ثمّ وقد ذكر في المناسبة بين الشرعيّات والعقليّات وجهان
على سبيل التقريب.
أحدهما: أنّ الشرعيّات تتضمّن التذلّل والتضرّع والخشوع
إلى اللّه تعالى، كما أنّ في العقليّات نوع تذلّل وتضرّع وخشوع إذا أديت لوجوبها وطلبا
لمرضاة اللّه تعالى في هذا الوجه تناسب الشرعيّات والعقليّات.
ومن وجه آخر، وهو أنّ في أداء هذه الشرعيّات مشقّة، كما أنّ
في أداء العقليّات مشقّة.
فمن هذين الوجهين تناسبها وتدعو إليها ويجري مجرى ما
يقال إنّ مجالسة الصالحين واستماع وعظهم وتذكيرهم يدعوا إلى فعل الخيرات. وكما أنّ
الاكثار من الخير يدعوا إلى التمسّك به والاستمرار عليه في المستقبل.
وأمّا ما ذكروه ثانيا، فالجواب عنه أن نقول:
فرق بين ما امتنعنا منه من اجتماع الخلق الكثير على
التزيي بزيّ واحد وتناول طعام واحد اتّفاقا من غير جامع، وبين ما جوّزناه من
اتّفاق الخلق الكثير في كون شرع مخصوص مصلحة لهم. وذلك لأنّ الشرع تابع للمصلحة والمرجع
بالمصلحة إلى الداعي وغير ممتنع فيما يدعو بعض الناس إلى شيء أن يدعو سائرهم
إليه. الا ترى أنّ العلم بأنّ في الشيء نفعا لما دعانا إليه، كذلك دعا كلّ من علم
ذلك إليه وإلى مثله.
فإن قيل: كيف يصحّ قولكم: إنّ ما يدعو بعض الناس إلى
شيء يدعو سائرهم إليه؟ وإنّ اجتماعهم على كون شرع واحد مصلحة لهم جائز من حيث انّ
المرجع بذلك إلى الدواعي. ولو كان الأمر على ما ذكرتموه لما جاز اختلاف المكلّفين
في ذلك، وقد علمنا اختلافهم فيه، كالمقيم والمسافر والحائض والطاهر، وكما علمنا من
مخالفة شرعنا الشرائع الامم السالفة.
قلنا: غرضنا بما أوردناه أن نبيّن أن ما يدعو بعض الناس
إلى شيء يجوز أن يدعو سائرهم إليه، وأن كون شيء واحد داعيا لجميعهم لا يجرى مجرى
اجتماعهم على التزيّي بزيّ واحد وتناول طعام مخصوص اتفاقا من غير جامع، ولم نوجب
فيما يدعو بعض النّاس إلى شيء أن يدعو سائرهم إليه، ولا فيما يدعو في بعض الأوقات
أن يدعوا في سائرها، بل نجوّز الاختلاف في ذلك، لاختلاف الطبائع والعادات، الا ترى
أن من الناس من يصحله اللطف ومنهم من لا يصلحه إلّا العنف. وكذلك القول في الصحّة
والمرض والغنى والفقر وحصول اللطف فيها، وقد تكون هذه الأمور لطفا في وقت دون وقت
آخر.
فإن قيل: كيف تقولون هذه الشرعيّات مصالح وألطاف لنا والمرجع
بالمصلحة واللطف إلى الدواعي وما يقوّيها والداعي هو ما عليه القادر الفاعل من
كونه عالما ومعتقدا أو ظانّا، والصلاة وغيرها من الشرعيّات ليست من قبيل هذه
الأحوال، فكيف تعدونه ألطافا.
قلنا: الغرض بذلك أنّ علم الفاعل بأداء هذه العبادات والشرعيّات
أفعالا وتروكا يدعوه ويصرفه، فلا يبعد أن تعدّ هذه الشرعيّات ألطافا، لأنّ ما لا
يتمّ اللطف إلّا به لا يمتنع أن يعدّ لطفا كما يقال: إن حسن الفعل وحصول النفع فيه
داع إليه، وحصول الضرر فيه صارف عنه، والمقصود منه أنّ علم الفاعل بذلك من حال
الفعل أو اعتقاده أو ظنّه يدعوه ويصرفه.
فإن قيل: كيف يصحّ ادّعاء أن العلم بأداء هذه الشرعيّات
داع لنا إلى الواجبات العقليّة وصارف عن مقبّحاتها ومن شأن الداعي والصارف أن
يجدهما القادر من نفسه حتى إذا فعل فعلا، لمكان داع فانّه يجد من نفسه أنّه إنما فعل
ذلك الفعل لمكان ذلك الداعي، فإذا انصرف من فعل لمكان صارف يصرفه منه فانّه يجد من
نفسه أنّه إنّما انصرف عنه لأجل ذلك الصارف. بيان ذلك: أنّ أحدنا إذا فعل فعلا
لابتغاء نفع وجد من نفسه أنّه إنما فعل ذلك لابتغاء ذلك النفع، وإذا انصرف عن فعل
خوفا من ضرر يلحقه من فعله وجد أيضا من نفسه أنه إنّما انصرف عنه لأجل ذلك الخوف،
فلو كان أداؤنا للواجبات العقليّة واجتنابنا عن مقبحاتها لعلمنا بأداء هذه
الشرعيّات لوجدنا ذلك من أنفسنا ومعلوم أنّا لا نجد ذلك من أنفسنا.
قلنا: الداعي ربما كان ظاهرا مكشوفا كما ذكره السائل، وربما
كان غامضا ملتبسا فيعلم بضرب من الاستدلال أنّه فعل الفعل لمكانه. بيان ذلك أنّ
المخير بين الصدق والكذب مع علمه بحسن الصدق وقبح الكذب واستغنائه بالصدق عن
الكذب، فانّه لا يختار إلّا الصدق وإنّما يختاره لعلمه بحسنه وهذا يعلم بضرب من
الاستدلال. وكذا أحدنا يرشد الضالّ لعلمه بحسنه وهذا أيضا يعلم بضرب من الاستدلال.
فإن قيل: إنّما يلتبس الحال في ذلك على الغير، وأمّا
القادر الفاعل الذي يفعل الفعل للداعي، فانّه يلتبس عليه الداعي الذي لأجله يفعل.
قلنا: وقد يلتبس أيضا على الفاعل نفسه مهما انضمّ داعي
الحاجة إلى داعي الحكمة، حتى يظنّ أنّه فعل الفعل لأجلهما أو لأجل داعي الحاجة
فحسب، وإنّما يعلم بدليل أنّه فعل ما فعله لداعي الحكمة.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|