أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-02-12
1203
التاريخ: 2023-03-26
1021
التاريخ: 2023-02-06
1025
التاريخ: 2023-03-13
1750
|
في سورة الرحمن ، سرد يصف أربع جناب في بيئة الآخرة ، على نحو مزدوج
: أي جنتين لكل بطل ، وكل جنتين ينتظمهما وصف ـ فيما يتصل بتفصيلات البيئة ـ متميز
عن الآخر ، مما يعني أن هذا التميز له دلالته الخاصة التي ينبغي أن نقف عندها.
ولنقرأ أولا سرد القصة للجنتين الأوليتين :
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ..} [الرحمن : 46 - 48] .
ولنقرأ سرد القصة للجنتين الآخرتين :
{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن : 62 - 64]
هذا يعني ، ان هناك جنتين ذواتي بيئة واحدة في كل مفرداتهما : من زرع
وماء وفرش وحور ، بحيث تتماثل هاتان الجنتان في كل مستوياتهما.
وهناك جنتان غيرهما ، تتماثلان أيضا في مستوياتهما المتصلة بالزرع ،
والماء ، والفرض والحور ،… لكنهما متميزتان عن الجنتين الأولتين.
والسؤال هو : هل ان كلا من الجنتين المزدوجتين ، رسمتا لعنصر بشري
واحد من حيث موقعه العبادي؟ أم أنهما تمثلان عنصرين أو طبقتين أو موقعين يفاضل
أحدهما الآخر ، على نحو التفاضل الذي سنلحظه في سورة (الواقعة) مثلا ، عندما نجدها
ترسم لـ(السابقين) موقعا يفضل على الموقع الذي ترسمه لأصحاب اليمين ؟
وأهمية هذا السؤال تنعكس ـ دون أدنى شك ـ على أهمية الوظيفة الخلافية
في الأرض. وانسحابها على الموقع الذي يحتله (المؤمنون) في بيئة الآخرة : تبعا لحجم
(الإيمان) الذي ما رسوه في الحياة الدنيا.
هذا ، ما يستدعي التأمل ـ كما قلنا ـ.
ولنقف ـ إذن ـ عند تفصيلات القصة.
ان بعض النصوص المفسرة ، تذهب إلى أن الجنات الأربع ، تظل مكافأة
لعنصر بشري واحد يتنقل من خلالها حيث يشاء. كل ما في الأمر ان الجنتين الأولتين
تظلان وكأنهما مقر خاص للشخصية ،… وأن الجنتين الآخرتين تقعان على مقربة من موقعه
الخاص ينعم بهما حين يشاء.
بيد ان مثل هذا التفسير لا يمكن الركون إليه ، لسببين :
أولهما : مخالفته لظاهر النص القصصي.
ثانيهما : مخالفته لنصوص مفسرة أخرى ، موثوق بها.
فمن حيث البناء الفني للقصة ، لا نتوقع ـ نحن القراء أو السامعين ـ
أن تبني القصة هيكلها على أربع جنات : كل اثنتين منهما ، متميز عن الآخر ، دون أن
ينسحب هذا التمييز ، على (الأبطال) الذين ينعمون بهذه المقاعد ،… مما يعني ـ
بالضرورة ـ أن يكون (الابطال) أيضا ، لهم تميزهم وخصوصيتهم.
إن الناقد القصصي أو المتذوق الفني بعامة ، ممن يخبر أساليب رسم
(البيئة) و(البطل) ، والعلاقة العضوية بينهما ، ودقائق التفصيلات المتصلة برسمهما
: ثم مدى التلاحم بين دقائق هذه التفصيلات ،… بمقدوره ـ حتى بعيدا عن النصوص
المفسرة ـ أن يستخلص ان الجنتين الأولتين خصصتا لطبقة متميزة عن الطبقة الأخرى التي
لا بد ان تكون أقل درجة من الطبقة الأولى ،… وإلا لانتفى المسوغ الفني لهذا
التقسيم ، من حيث [الهيكل القصصي] العام للنص.
والأهم من ذلك ، ان النصوص المفسرة ، الموثوق بها ، الصادرة عن أهل
البيت عليهم السلام ، تعزز مثل هذا التفسير الفني الخالص ، مما يضاعف من خطورة
السمة الفنية التي تطبع القصص القرآنية الكريمة.
ولسوف نلقي مزيدا من الانارة على هذا الجانب ، في تضاعيف دراستنا
لهذه القصة الكريمة.
ولكن ، يعنينا أن نبدأ بدراسة التفصيلات المتصلة ـ أولا ـ بالجنتين
الأولتين … ، وموقعهما من (الأبطال) الذين ينعمون بمعطياتهما… ، وصلة ذلك بالمهمة
العبادية في الأرض : حيث يتوقف نمط المصير الذي ترسمه القصة هنا ، على نمط السلوك
الدنيوي الذي تمارسه الشخصية : في زحمة الصراع بين الشهوة والعقل.
يبدأ رسم البيئة الاخروية ، في هذه القصة ، على النحو التالي :
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن : 46]
إن هذه البداية القصصية ، لها أهميتها الجمالية الممتعة من حيث
(هيكل) القصة ، وانعكاسه على دلالاتها الفكرية وما يصاحبها من (الفارق) بين طبقتين
من (الشخوص) تحتلان ـ تبعا لذلك ـ موقعين متفارقين من بيئة (الجنة).
لقد قالت القصة : هناك جنتان لمن خاف مقام ربه. وببساطة ، فان الخوف
من الله ، أو التقوى بعامة ، يعنيان ان الشخصية تلتزم بأوامر السماء ونواهيها
بالنحو الذي يستاقها إلى الظفر بمكافأة تتناسب مع التزامها.
وهذا الالتزام بمبادئ السماء ، يتسم بكونه عاليا ، ورفيعا ، بالغا
درجته التي تفوق ما دونها من الدرجات التي تتراوح بين الالتزام واللاإلتزام… ، بين
الطاعة والمعصية ،… بين التصميم على الشيء وبين التردد فيه… بين الخلوص في
الممارسة وبين مزجها برائحة الذات…
والنصوص المفسرة ، تلقي إنارة واضحة على هذا الجانب ، حين يقول أحدها
عن الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ :
((إن الرجل يهجم على شهوة من شهوات الدنيا وهي معصية ، فيذكر مقام
ربه ، فيدعها من مخافته. فهذه الآية فيه. فهاتان جنتان للمؤمنين والسابقين)).
ويقول ولده الإمام الصادق عليه السلام ، تعقيبا على الآية المتقدمة :
((من علم ان الله يراه ، ويسمع ما يقول ، ويعلم ما يعمله من خير وشر
، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي خاف مقام ربه)).
هذان النصان المفسران ، صريحان في ان الجنتين اللتين رسمتهما القصة ،
انما تكون من نصيب أولئك الذين يتركون المعصية مخافة من الله [فيدعها من مخافته]
،… أولئك الذين تحجزهم مخافة الله عن ممارسة القبيح من الأعمال [فيحجزه ذلك عن
القبيح من الأعمال].
إذن : الالتزام بمبادئ السماء ، دون ان يصحبها وقوع في المعصية ، هو
الذي يسوغ للابطال ان يحتلوا موقعا في الجنة ، لا يحتله أخرون صدرت المعصية منهم
بشكل أو بآخر.
وهذا من حيث الدلالة الفكرية ، لبداية القصة القائلة :
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ }
وأما من حيث الدلالة الفنية لهذه البداية القصصية ، وصلتها بالأجزاء
اللاحقة التي ستلقي إنارة تامة على هذا الجانب ، فيتطلب وقوفا مفصلا : نبدأ
بتوضيحه.
قلنا ، إن القصة بدأت بتعريف الجنتين ، بهذا النحو :
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ }
وقلنا أيضا : ان هذه البداية القصصية ، تكشف عن ان هاتين الجنتين ،
تجسدان موقعا علويا ، ما بعده من موقع : ما دام الخوف أو التقوى يحجزان الشخصية عن
الوقوع في المعصية ، مما يتطلب مكافأة أعلى وأرفع بالقياس لمن يمزج الطاعة
بالمعصية ، أو التردد فيها.
وأما من الناحية الفنية الصرف ، فإن هذه البداية القصصية تعلن بوضوح
، بان هاتين الجنتين خصصتا للسابقين وللمؤمنين المتقين بعامة ، وليس لمطلق
المؤمنين الذين خصصت لهم جنتان أخراوان أقل درجة من الجنتين الأوليين.
ويمكننا معرفة هذا الفارق ، من خلال الربط الفني بين بداية القصة
ونهايتها.
فبداية القصة تقول : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } وأما نهاية القصة ، فتقول : {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن : 60].
ومن الواضح ، ان (الإحسان) لا يأخذ دلالته اللغوية إلا إذا اقترن
بعدم صدور المعصية ، وهو مقام السابقين إلى الإيمان قبل غيرهم ، أو المؤمنين الذين
تطبعهم سمة التقوى ، على نحو ما أوضحته النصوص المفسرة التي وقفنا عندها.
والمهم ، أن المبنى الهندسي للقصة [من حيث البداية والنهاية] يكشف عن
مثل هذا الترابط بين (مخافة الله) و(الإحسان) ، مما يتواسق مع النصوص المفسرة في
هذا الصدد.
والآن : حين ندع بداية القصة ونهايتها ، ونتجه إلى ما يسمى في لغة
الأدب القصصي بـ (الوسط) ، وهو : المجال الذي تتطور من خلاله الأحداث إذا كانت
القصة ذات طابع حادثي ، أو الوصف إذا كانت القصة ذات طابع بيئي : كما هو شأن هذه
القصة التي نتناولها بالدراسة ،… حينئذ يتطلب الأمر ، وقوفا مفصلا على أبعاد هذه
(البيئة) التي عرفتنا القصة : من خلال بدايتها ونهايتها ، ملامح (أبطالها) الذين
ظفروا بمثل هاتين الجنتين العاليتين.
فما هي ملامح هذه البيئة ، أو الجنتين ؟؟
تقول القصة عن هذه البيئة ، أو عن تينك الجنتين ، أنهما :
1 ـ دواتا أفنان.
2 ـ فيهما عينان تجريان.
3 ـ فيهما من كل فاكهة ، زوجان.
4 ـ متكئين على فرش ، بطائنها من استبرق ، وجنى الجنتين دان.
5 ـ فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان. كأنهن الياقوت
والمرجان.
هذه هي أبعاد أو مفردات الجنتين العاليتين اللتين تمثلان أعلى درجات
الجنة بالقياس إلى درجة دونهما.
ولكي ، نتعرف على طبيعة الفارق بين الدرجة الأولى والثانية ـ إذا صح
استخدام مثل هذه اللغة ، أقول : لكي نتعرف على الفارق بين الدرجتين ، يحسن بنا أن
نقرأ أيضا مفردات الجنتين الآخرتين.
تقول القصة ، عن الجنتين اللتين تمثلان درجة أدنى :
(ومن دونهما ، جنتان).
وتقول القصة عنهما ،… أنهما :
1 ـ مدهامتان.
2 ـ فيهما عينان نضاختان.
3 ـ فيهما فاكهة ونخل ورمان.
4 ـ فيهن خيرات حسان حور مقصورات في الخيام لم يطمثهن انس قبلهم ولا
جان.
5 ـ متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان.
وقد يبدو من خلال هذه المقارنة أن عنصرا مشتركا بين الجنات الأربع أو
الجنتين العاليتين والأدنى منهما ، … قد يبدو أن عنصرا مشتركا يطبع كلا من
الجنتين.
بيد أن التدقيق في ذلك ، يكشف عن وجود (فارق) بينهما ، يعزز من وجهة
النظر الذاهبة إلى ان كلا من الجنتين ، يمثلان (فارقا) بين طبقات الشخوص ، وليس
إلى ان الجنات الأربع ، اثنتان منهما مقر خاص واثنتان على مقربة منهما ،… وهذه سمة
جديدة من سمات الفن العظيم الذي قام عليه هيكل القصة ، فيما قلنا : ان بناء القصة
نفسه ، يكشف عن هوية الجنتين وافتراقهما عن الجنتين الآخرتين ، حتى لو كنا بعيدا
عن النصوص المفسرة.
وتلك سمة ـ كما قلنا ـ من سمات الفن القصصي في القرآن الكريم : حيث
سبقتها سمة أخرى تتصل بالترابط الفني بين البداية والنهاية ، مما تكشف السمتان معا
عن هذه الدلالة التي أشرنا إليها.
هذا إلى ان هناك سمة فنية ثالثة تتصل بالعلاقة العضوية بين (الابطال)
المرسومين في القصة ، وبين (بيئاتهم) ، نتحدث عنها لاحقا ، والمهم ،… نحن الآن
حيال (جنتين) ، تفترقان عن (جنتين) أقل منهما درجة ، يتعين علينا توضيح الفارق
بينهما ، ما دام الأمر متصلا بانعكاس ذلك على سلوكنا في الحياة الدنيا ، في غمرة
الصراع بين الشهوة والعقل.
إن العناصر المشتركة في الجنات الأربع هي : خمس عناصر :
1 ـ النبات أو الزرع أو الشجر.
2 ـ الماء أو العيون.
3 ـ الفاكهة.
4 ـ الفرش
5 ـ الحور.
غير ان كلا من الشجر والماء والفاكهة والفرش والحور ، يطبعها وصف :
قد يكون مشتركا في بعض خطوطه ، لكنه ـ في خطوطه الأخرى ـ متميز عن الآخر.
ولنحاول : الوقوف عند كل من هذه العناصر الخمسة ، مع ملاحظة ان هذه
العناصر الخمسة ، جاءت متسلسلة في الوصفين ، ما عدا الحور والفرش : حيث جاءت
السلسلة على هذا النحو :
أولا : النبات. يليه : الماء. يليه : الفاكهة.
ولكن فيما يتصل بالفرش ، جاء رقمها رابعا من السلسلة التي تصف
الجنتين العاليتين ، وجاء الوصف المتصل بالحور ، خامسا من السلسلة المذكورة. بينما
جاء الأمر معكوسا فيما يتصل بالجنتين اللتين تمثلان درجة أدنى.
ومما لا شك فيه ، ان لكل من التسلسل في وصف العناصر الخمسة ، أهميته
الهندسية في هيكل القصة ،… الشجر ، فالماء ، فالفاكهة.
كما ان لكل من تقديم الوصف المتصل (بالفرش) ـ العنصر الرابع من
البيئة ـ على الوصف المتصل (بالحور) ـ العنصر الخامس من البيئة ـ… ان لهذا التقديم
[من حيث التسلسل] أهميته الهندسية أيضا في هيكل القصة ، حينما يكون التقديم خاصا
بالأبطال الذين ظفروا بالجنتين العاليتين ، بالقياس إلى الأبطال الذين ظفروا بدرجة
أدنى. حيث يتم طرح السؤال التالي :
لماذا جاء الوصف المتصل بفرش الجنة رقما رابعا للأبطال العلويين ،
مقدما على الحور ، في حين جاء الأمر معكوسا فيما يتصل بالأبطال الأدنى درجة ؟؟
إن طرح مثل هذا السؤال ، له أهميته الفنية دون أدنى شك. كما ان طرح
سائر الأسئلة المتصلة بالفارق بين الطبقتين من أبطال (الجنة) له أهميته الكبيرة ، ما
دام الأمر متصلا بسلوكنا في الحياة الدنيا ، وانسحاب هذا السلوك ـ تبعا لنوع
اهتماماتنا الروحية والمادية ، على المكافأة الأخروية التي تهيء لنا بيئة ، تتناسق
مع طبيعة اهتمامنا الروحي والمادي الذي نتطبع عليه في الجنة أيضا.
قلنا ، ان الجنات الأربع : العاليتين والدانيتين ، تكتنفها خمسة
عناصر أو خمس مفردات بيئية هي :
الزرع ، الماء الفاكهة ، الفرش ، الحور.
والآن : لنقف على الفارق بين الجنتين العاليتين والجنتين الدانيتين ،
ونبدأ بأول العناصر الخمسة ، وهو : الزرع أو الشجر.
قالت القصة عن الجنتين العاليتين ، انهما : (ذواتا أفنان).
وقالت القصة عن الجنتين الدانيتين ، انهما : (مدهامتان).
من حيث البعد الجمالي لكل من الجنتين ، فإن العاليتين منهما ذواتا
أغصان ، والدانيتين منهما مكثفتان بالزرع أو شديدتا الرواء والخضرة.
وطبيعي ، فان مرأى (الاغصان) وهي متدلية ، ومرأى لشجر بعامة وهو مكثف
كما أو لونا ، ينطويان على مرأى أو منظر أو مشهد ممتع ، ورائع ، وجميل.
بيد ان الفارق بين مرأى (الأغصان) ، ومرأى (كثافة) الشجر أو شدة
خضرته ، واضح من حيث درجة الإمتاع الجمالي لكل منهما.
ونحن يمكننا إدراك الفارق بينهما ، من خلال خبراتنا الدنيوية لمشاهد
الطبيعة الجميلة : فكثافة الاشجار أو شدة خضرتها أقل إمتاعا ـ دون أدنى شك ـ من
بروز (الأغصان) المتدلية بنحو لافت ، ومنسق ،… وبخاصة أن الفنن أو العصن يقترن
بمشاهد حبات الثمر قبل قطافه ، أو بمشاهد الثمر أو ان قطافه. مضافا لذلك ، ان بروز
الأفنان بتفريعاتها المختلفة من الممكن ان يغطي مساحة الأرض بحيث يعوض عن الكثافة
الكمية أو النوعية التي تتميز بها الجنتان الدانيتان ، مما يعني ان الجنتين
العاليتين تحملان خصيصة الجنتين الدانيتين ، وزيادة.
وهذا وحده كاف ، في تبيين الفارق بينهما.
العنصر الثاني من العناصر الخمسة التي تضمنتها بيئة الجنات الأربع هو
: الماء.
قالت القصة عن الجنتين العاليتين ، انهما :
{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } [الرحمن : 50]
وقالت عن الجنتين الأدنى منهما :
{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن : 66]
ففي الوصف الأول : العينان تجريان. وفي الوصف الثاني : العينان
تفوران مثل النافورة.
وقد يبدو لأول وهلة ان الماء أو العين النضاخة أشد إمتاعا من العين
الجارية ، وبخاصة إذا أخضعنا الظاهرة لخبراتنا التي يستثيرها مشهد النافورة أكثر
من جريان العيون.
غير أن التأمل الدقيق ، يحملنا على الاستجابة المعاكسة لخبراتنا
المألوفة في هذا الصدد. فالعيون الفوارة
تستثيرنا عابرا ، إذا قيست باستمرارية الإثارة التي ينطوي عليها جريان الماء أو
العين.
ان جريان العيون ، على الأقل يأخذ أشكالا متنوعة تطرد الرتابة التي
يخلفها شكل واحد من حركة المياه : تبعا للمنعطفات المختلفة التي ينتظمها جريان
العيون في جهاته الأربع أو الست أو الأكثر ، وفي تفريعاته المختلفة التي لا تتأتى
في العيون الفوارة ، حيث تأخذ هذه الأخيرة ـ أي الفوارة ـ شكلا رتيبا ، وان كان من
الممكن أن يخضع أيضا لنفس طوابع العيون الجارية من تفريع وانعطاف ، لكنه أقل
امتاعا منه من حيث طبيعة (الجريان) ذاته بما يحمله من حركة تتجانس مع استواء الأرض
، على العكس من (الفوران) الذي يأخذ حركة فوقية بالقياس إلى استواء الأرض.
فضلا عن ذلك ، فإن الإمكانات التي تصاحب العيون الجارية ، لا تتوفر
بالمستوى ذاته في العيون الفوارة : من حيث يسر التناول للمياه الجارية : شربا أو
غسلا أو ركوبا.
وبكلمة جديدة : فإن الظواهر (النفعية) التي يتيحها الماء الجاري ، لا
يتيحها الماء الفوار عادة.
إذن : في الحالات جميعا ، تظل العيون الجارية أشد إمتاعا ، وأكثر
نفعا من العيون الفوارة ، وهو ما يميز الفارقية بين ابطال الجنة الذين ينعمون
بمقاعد عالية ، وبين الأبطال الذين ظفروا بمقاعد أدنى : تبعا للدرجة التي مارسوها
في سلوكهم الدنيوي في الصراع بين الشهوة والعقل.
العنصر الثالث من العناصر الخمسة التي تضمنتها بيئة الجنات الأربع ،
هو : (الفاكهة).
قالت القصة عن الجنتين العاليتين :
{ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } [الرحمن : 52]
وقالت عن الجنتين الدانيتين :
{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن : 68]
أيضا ، لأول وهلة ، يبدو وكأن الجنتين الدانيتين فيهما مضافا إلى
الفاكهة بعامة ، نخل ورمان. بينما جاءت الإشارة إلى الجنتين العاليتين ، بانهما
ذواتا زوجين من كل فاكهة.
لكن التأمل البسيط ، يدلنا على الفارق الكبير بين الوصفين.. ان النخل
والرمان ـ كما تقول النصوص المفسرة التي تنقل النص إلى اطاره التاريخي ـ يشكلان
أفضل الفواكه. والقصة حينما تقول عن الجنتين الدانيتين بان فيهما [فاكهة ونخل
ورمان] إنما تقصد من ذلك ان في هاتين الجنتين كل أنواع الفواكه بما فيها أفضلها
وهو : النخل والرمان. وهذا يعني باختصار ، إن القصة تريد ان تقول لنا : ان في
الجنتين الدانيتين كل أنواع الفواكه.
لكننا حين نتجه إلى الجنتين العاليتين ، نجد أنهما ينطويان على ما في
الجنتين الدانيتين ، وزيادة.
ففي الجنتين العاليتين كل أنواع الفواكه ـ كما هو طابع الجنتين
الدانيتين ، لكن فيهما ، زيادة على ذلك ، ان الفواكه : زوجان في كل منها.. فالعنب
مثلا ، يشكل فاكهة من الفواكه ، وهو متوفر في كلا الجنتين : العالية والدانية.
لكنه في الجنتين العاليتين ، نوعان : العنب الرطب والعنب اليابس ، وكلاهما شهي ،
وله خصوصيته. بينما هو في الجنتين الدانيتين ، نوع واحد فحسب.
إذن : الفارق كبير في درجة الإمتاع أو الاشباع الذي تحققه السماء
لأبطال الجنة : فالأبطال العلويون يتناولون من كل فاكهة ، زوجين ، نوعين…
أما الأبطال الأقل درجة ، فإن سمة (الزوجين) أو النوعين من الفواكه
قد اختفت في جنتيهما ، واكتفي من ذلك ، بسمة ان فيهما فاكهة ، بضمنها أشهى الفواكه
وهي : النخل والرمان.
وللمرة الجديدة ، فإن وجود مثل هذا الفارق بين أبطال الجنة ، يداعي
اذهاننا إلى الفارق ـ في سلوكنا الدنيوي ، بين شخصيات لا تصدر معصية منها في
صراعها بين الشهوة والعقل ، وبين شخصيات تقع فريسة التردد بينهما ، أو تضيع منها
فرص الطاعة التي لم تنتهزها في الحياة الدنيا بحيث تحيا بعض الحين ، أو أحيانا
كثيرة ، (غافلة) عن مجالات الطاعة ، بما فيها (المندوبة) ، منعكسا ذلك على
المكافأة التي ستحصل عليها في اليوم الآخر.
لحظنا ، كيف ان كلا من العناصر الثلاثة : الشجر ، الماء ، الفاكهة :
قد رسمت في بيئة (الجنة) بنحو من التفاضل ، بحيث كان الأبطال العلويون ينعمون ـ من
خلاله ـ بحجم أشد إمتاعا من الأبطال الأدنى درجة منهم.
ويبقى الآن ، كل من عنصري (الفرش) و(الحور) ، فيما يتعين ملاحظة
رسمهما في بيئة الجنة ، ومدى افتراق الجنتين العاليتين عن الجنتين الدانيتين ، في
الاستمتاع بهما.
أما الفرش ، فقد قالت القصة عنها ، فيما يتصل بشخصيات الجنتين
العاليتين ، ما يلي :
{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى
الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن : 54]
وقالت القصة عن الشخصيات الأدنى درجة ، ما يلي :
{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } [الرحمن : 76]
أن أبطال الدرجة الأولى والثانية ، ينعمون ـ من حيث الجلوس والمكان ـ
بنحو خاص هو : (الإتكاء) ـ وليس مجرد الجلوس.
غير ان الفارق بينهما ، أي : الفارق بين الشخصيات التي كانت تخاف
مقام ربها في الحياة الدنيا بحيث لم تصدر عنها معصية من المعاصي ، وبين الشخصيات
الأدنى منها ، هو : إن الترف الذي يصاحب جلوس الشخصيات العليا ، بلغ من التنوع
والإمتاع إلى الدرجة التي هيأت لهم (فرش) ذات بطانة وظهارة يتكئون عليها : البطانة
من (استبرق) ،… من حرير… من ديباج… وأما الظهارة ، فقد سكت النص عنها ، لأسباب
فنية ، تتمثل : في ان القارئ أو السامع بمقدوره أن يساهم في عملية الكشف عن
استخلاص نوع الظهائر التي ازينت بها الفرش.
مضافا لذلك ، ثمة سمة فنية أخرى تطبع صورة [الفرش المتكأ عليها]
وصورة [البطائن وهي من استبرق] هي : ان الاستناد أو الاتكاء على فراش بطانته من
استبرق ، توحي للقارئ والسامع بمدى ما ينعم الأبطال به من نعومة ، ورقة ، وترف ،
وإمتاع ، وإشباع : حين تستند ظهورهم على كتلة من الديباج ، ليس من حيث مظهره
الخارجي ، بل من حيث بطانته.
وإذا كان الأمر كذلك ، فلا حاجة حينئذ [من الزاوية الفنية] أن ترسم
القصة معالم المظهر الخارجي للفرش ، ما دام التشدد على المظهر الداخلي يقود السامع
والقارئ إلى استنتاج سريع : بأن الظهائر سيطبعها إمتاع مماثل ، أو اشد ، ما دام
(الترف) في أعلى مستوياته ، هو : الطابع الذي يسم شخصيات الجنتين العاليتين.
وحين نتجه إلى الشخصيات الأدنى درجة ، أو : الجنتين الأدنى إمتاعا من
الجنتين العاليتين ، نجد ان (الاتكاء) هو :
{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } [الرحمن : 76]
والرفرف ، قد يكون وسادة ، أو قماشا ، أو رياض الجنة خاصة ، أو أي
شيء آخر ، قد رسمت القصة طابع (الخضرة) عليه ، ما دام هذا اللون واضح الإمتاع
بالنسبة للمشاهد.
وأما (العبقري) ، فقد يكون بدوره بساطا أو أي شيء آخر ، خلعت القصة
عليه طابع (الحسن) : زيادة في إمتاع المشاهد.
والملاحظ [من وجهة النظر الفنية] أن هذه الأوصاف التي خلعت على
(بيئة) الشخصيات الأقل درجة من سابقتها ، هذه الأوصاف يغلب عليها (الترف) أو
(المتعة) الخارجية المتصلة بحاسة (الابصار). فالرفرف (خضر) الألوان ، والعبقري
(حسان) الأشكال. أي ، اننا حيال اشكال حسنة ، والوان خضراء لا أننا حيال مادة هذه
البسط والوسائد والأقمشة وكونها حريرا أو شيئا آخر مثلا.
وهذا الفرق بين (متكأ) الشخصيات العالية ، والشخصيات الأدنى منها ،
ينبغي ان نقف عنده مليا ، حتى نستخلص معالم الجمالي الفني للقصة ، وانعكاسها على
الدلالات التي ترسم الفارق بين شخصيات عالية ، وشخصيات أدنى منها درجة.
فالملاحظ ـ ونحن نكرر الإشارة إلى هذه السمة الفنية العظيمة في القصة
ـ ان الشخصيات العليا ، قد انصب الاهتمام بها ، على المادة الداخلية لفرشه التي
تتكيء عليها.
أما الشخصيات الأدنى ، فقد انصب الاهتمام بها ، على الشكل الخارجي ،
للفرش التي تتكيء عليها. والفارق كبير بين الصورتين : صورة المظهر الداخلي وصورة
المظهر الخارجي.
فالمظهر الداخلي حينما يكون (استبرقا) ـ بالنسبة إلى الشخصيات العليا
ـ حينئذ فان المظهر الخارجي يكشف بنفسه عن نفسه ، ما دام الداخل من جانب أشد أهمية
من المظهر الخارجي. وما دام الداخل من جانب آخر ، مفصحا عن المظهر الخارجي.
وهذا على العكس من الصورة التي رسمت للشخصيات الأدنى درجة ، حيث
انصبت الصورة على [المظهر الخارجي] فحسب ، وهي [اشكال الفرش وألوانها] : الخضر
والحسان. دون ان يصحبها وصف للمظهر الداخلي.
ومن الواضح [من حيث السمة الفنية] أن رسم المظهر الخارجي لا يكشف
بالضرورة عن تماثله للمظهر الداخلي ، وهذا على العكس من رسم المظهر الداخلي الذي
يكشف ـ ضرورة ـ على المظهر الخارجي أيضا.
إذن : في نهاية المطاف ، أمكننا أن ندرك مدى الفارق بين متكئات
الأبطال العلويين في الجنة ، وافتراقها عن متكئات الأبطال الأدنى درجة : من خلال
تينك الصورتين الفنيتين الجميلتين اللتين شحنتا بإيحاءات غنية ، ممتعة.
على ان الفارق بين الجنتين العاليتين ، والجنتين الدانيتين ، لم
ينحصر في ما ذكرناه ، بل هناك فارق كبير رسمته القصة بوضوح ، حينما أضافت جديدا
بالنسبة إلى الشخصيات العليا ، لم تشر إليه بالنسبة للشخصيات الأدنى منها.
ولنقرأ ـ من جديد ـ كلا من الوصفين :
قالت القصة عن أصحاب الجنتين العاليتين :
{ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى
الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن : 54]
وقالت عن الجنتين الأدنى منهما :
{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } [الرحمن : 76]
فالملاحظ هنا ، وجود زيادة في بيئة الشخصيات العليا ، لا اثر لها في
بيئة الشخصيات الأدنى درجة.
هذه الزيادة هي :
(وجنى الجنتين ، دان).
فقد اكتفي برسم الجلوس ، والاتكاء ، وأشكاله فيما يتصل بالطبقة
الثانية من أصحاب الجنة ، دون ان يقترن ذلك بعنصر (الفاكهة) التي ربطتها القصة
بنمط الجلوس الذي أتيح للطبقة الأولى من أصحاب الجنة.
ان (الفاكهة) تشكل عنصرا واحدا من خمسة عناصر في بيئة الجنة. وقد مضى
الحديث عنها ، وعن انماطها ، وعن الفارق بين الفاكهة التي يتناولها أبطال الجنتين
العاليتين ، وافتراقها عن الفاكهة التي يتناولها أبطال الدرجة الثانية.
والسؤال هو : لماذا جاءت الفاكهة ـ من جديد ، لتشكل مادة لأصحاب الجنتين
العاليتين ؟؟ ثم : لماذا نسج النص القصصي صمتا عن الفاكهة فيما يتصل بالطبقة
الثانية من أصحاب الجنة؟؟ ان الإجابة على السؤالين ، تتطلب وقوفا مليا عند جملة من
الأسرار الفنية في القصة ، نبدأ بتوضيحها :
لحظنا ـ فيما يتصل بعنصر الجلوس ، والاتكاء على فرش الجنة ، ان
الطبقة الأولى تتمتع بامتيازات لا تملكها الطبقة الثانية من المؤمنين.
مضافا لذلك ، قد برز امتياز جديد للشخصيات المذكورة ، هو : ان هذه
الشخصيات في حال اتكائها على فرش الجنة ، تظل ثمار الجنة على مقربة من أفواهها : {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ
بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن : 54]. أما الشخصيات الأدنى درجة في الإيمان ، فلا وجود لمثل
هذا الامتياز لها ، بل تتكئ {عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} فحسب.
طبيعي ، من الممكن أن تتمتع شخصيات الدرجة الثانية بمثل هذا الامتياز
تناولها للفواكه المخصصة لها ، وبخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار ، انه من الممكن ان
تكون القصة قد اكتفت برسم شخصيات الدرجة الأولى ملكة للامتياز المذكور ، مما توحي
للقارئ أو السامع بإمكانية ذلك أيضا لأصحاب الدرجة الثانية ، ما دام القصص
القرآنية تعتمد التركيز والاقتصاد في التعبير. بحيث يدع القارئ مستنتجا ذلك ، دون
الحاجة إلى التكرار.
لكننا مع ذلك ، نتوقع ان يطل هذا الامتياز من نصيب شخوص الدرجة
الأولى ، وبخاصة ان القصة في صدد التفاضل بين درجتين من درجات الإيمان ،… فلا
نتوقع انها تخص أصحاب الدرجة الأولى بامتياز. ثم تحذفه من بيئة الدرجة الثانية ،
اعتمادا على استنتاج القارئ بإمكانية حقق امتياز مماثل لهم.
نعم ، لو انعكس الأمر ،… حينئذ ، فإن السمة الفنية للقصص القرآنية ،
تدلنا على إمكانية مثل هذا الاستخلاص ، والاعتماد على القارئ في هذا الصدد.
وهذا ما لحظناه فعلا ، فيما يتصل بالوصف الذي خلعته القصة على فرش
الطبقة الأولى حينما لم تتعرض للأوصاف الخارجية لهذه الفرش : من حيث اشكالها
وألوانها ، بل تعرضت للأوصاف الداخلية ، بقولها : {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ
بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن : 54] في حين ان القصة شددت على الأوصاف الخارجية ، فيما
يتصل بأصحاب الدرجة الثانية ، فقالت عنهم {عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن : 76] ففي مثل هذه الحالة ، تركت القصة الوصف الخارجي من لون
أخضر أو شكل جميل يسم تلك الفرش ،… معتمدة على القارئ استنتاج ذلك ، لسبب بسيط هو
: ان اللون الجميل للفرش ما دام من نصيب الدرجة الثانية ، فانه ـ بطريق أولى ـ ان
يكون من نصيب الطبقة الأولى.
وعلى أية حال ، فان الامتياز الذي وهبته السماء لأصحاب الجنتين
العاليتين ، ونعني به : ان ثمار الجنة تظل على مقربة من الفم : (وجنى الجنتين ،
دان) ،… هذا الامتياز ، يظل أمرا لا تردد فيه ، ما دام الأمر متصلا بعملية التفاضل
بين درجات المؤمنين.
هنا ، يثار سؤال فني في غاية الأهمية ، وهو :
إن القصة القرآنية الكريمة ، تتميز بالدقة التامة ، وبالانتقاء ،
وبالتركيز في عمليات السرد ، أو العرض للاحداث والأوصاف ،… وحينما تتحدث عن أحد
العناصر في القصة ، فانها لا تقوم بعملية تكرار للعنصر المذكور ،… ومنه العنصر
المتصل بـ(الفاكهة).
فقد تحدثت القصة أولا عن عنصر [الزرع أو الشجر] وقارنت بين درجات
المؤمنين في هذا الصدد. ثم تحدثت عن عنصر (الماء) وقارنت بين درجاتهم أيضا. وبعد
ذلك : تحدثت عن عنصر (الفاكهة) وقامت بعملية مقارنة بين درجات المؤمنين أيضا…
والمفروض انه لو كان تم تفاضل بين درجات المؤمنين فيما يتصل بعنصر الفاكهة ، ومنه
: هذا الامتياز لأصحاب الجنتين العاليتين ، ونعني به (وجنى الجنتين ، دان) من
افواههم ،… المفروض فنيا ، أن يرسم هذا الامتياز عند الحديث عن عنصر (الفاكهة)
التي قالت القصة عنها : (فيهما من كل فاكهة زوجان)… فلماذا لم يتم هناك عرض هذا
الامتياز المتصل بجنى الجنتين؟؟ في حين جاء عرضه في سياق الحديث عن الفرش وهو عنصر
مستقل له حقله الخاص في القصة ؟؟
أن أهمية الفن القصصي في القرآن الكريم ، تتبدى بوضوح عبر الإجابة
على السؤال المتقدم ، مما يضاعف من حجم الإمتاع الذي نتحسسه حيال هذا الفن العظيم.
إن القصة في صدد التفاضل بين الشخصيات العليا ، والشخصيات الأدنى
منها ، فيما يتصل بعملية (الجلوس) و(الاتكاء) وما يصاحبهما من درجات الترف
واشكالها المتنوعة. فما دام الأمر ، ان (الترف) قد بلغ في حجمه إلى الدرجة التي
تظل حتى بطائن الفرش من (الاستبرق) ، بحيث لا تحسس أصحابها أدنى قدر من الخشونة
العادية ، بل تظل النعومة ، والرقة ، في أعلى مستوياتهما من نصيب هؤلاء المؤمنين ،
مما يعني أن أدنى جهد ، أو حركة جسمية تتعارض مع طابع النعومة والرقة ، أمر لا
تكلف به السماء أولياءها في الجنة : حتى تناول الثمر ، حيث يتم تناوله من خلال
الجلسة (المتكئة) المترفة ، لا انهم ينهضون بأنفسهم لاجتناء الثمر ، ولا انهم
ينتظرون دور الخدم مثلا في حالات يتطلب فيها الترف بعدهم عن الجلسة ، أو الاضطجاع
أو التفرد ،… بل ان الثمار تدنو من افواههم ـ وهم يتكئون ، بل [في بعض النصوص
المفسرة] حتى وهم يضطجعون : تدنو الثمار من افواههم ، لا يكلفون أنفسهم أدنى حركة…
وهذا منتهى ما يمكن تصوره من درجات الترف الذي لا ترف بعده.
(الحور) هو العنصر الخامس والأخير من العناصر الخمسة التي شكلت
مفردات البيئة الاخروية : فيما يتصل بالجنتين العاليتين ، وبالجنتين الأدنى منهما
درجة.
وخارجا عن التفاضل الذي طبع الجنتين العاليتين ، متمثلا في الوصف
الذي خلعته القصة على العنصر المذكور ونعني به : الصورة التالية : (كأنهن الياقوت
والمرجان) ، خارجا عن هذا الامتياز الذي خصص لأصحاب الجنتين العاليتين ، فيما لم
يرد في بيئة الجنتين الأدنى درجة… أقول ، خارجا عن هذا الامتياز الذي يشكل امتدادا
لامتيازات متنوعة لحظناها مفصلا عند حديثنا عن عناصر البيئة الأخروية… خارجا عن
هذا الامتياز ، يعنينا من عنصر (الحور) تشدد القصة على الطابع (الأخلاقي) للعنصر
المذكور ، وإمكان افادتنا ـ نحن القراء ـ في تجاربنا الدنيوية ، من الطابع الذي
شددت القصة عليه.
فقد وردت أوصاف ثلاثة لأخلاقية هذا العنصر : واحد منها جاء في سياق
الحكاية عن الجنتين العاليتين ، وهو : {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الرحمن : 56]. واثنان منها ، قد وردا في سياق الحكاية عن الجنتين
الأدنى ، وهما :
{ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [الرحمن : 70] و{حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن : 72]
هذه السمات الثلاثة ، ونعني بها (قاصرات) و(خيرات) و(مقصورات)… تظل
واضحة كل الوضوح في طابعها (الأخلاقي) الذي ينبغي ان نشدد عليه بدورنا ، في غمار
الحديث عن السلوك الدنيوي وانسحابه على المكافأة الاخروية التي أوحت القصة ـ
بطريقة فنية ـ من خلالها ، مدى الترابط من جانب بين السلوكين الدنيوي والأخروي ،
ومدى الافادة ـ من جانب آخر ـ من تجارب الحياة الدنيا التي وظفت من أجل هدف واحد
هو : العبادة ، أو الخلافة في الأرض ، وانسحاب ذلك على حياة أبدية وظفت بدورها من
أجل العبادة.
لقد شددت قصة الجنات الأربع على الطابع (الأخلاقي) للحور ، فرسمت ـ
مثلما أشرنا ـ ثلاثة أوصاف هي :
(قاصرات) (مقصورات) (خيرات).
إن ما ينبغي لفت الانتباه إليه ، هو : ان الفارق بين بيئة الحياة
الدنيا والبيئة الأخروية. هو انتفاء عنصر (الصراع) في التركيبة البشرية ، بمعنى :
ان عملية الإشباع الحيوي والنفسي لا يسبقها صراع بين الخير والشر ، بين الشهوة
والعقل ، بل تتم وفق نزوع أحادي الجانب ، يتجه إلى تحقيق الإشباع للحاجات النفسية
والحيوية ، بشكله الخير أو العقلي الصرف.
فالعلاقات الاجتماعية مثلا ، يسودها ـ في بيئة الجنة ـ تفاهم تام ،
غير مسبوق بعمليات التأجيل لشهوة الحقد ، أو الكبر ، أو السيطرة : كما هو شأن
الشخصيات الخيرة في الحياة الدنيا التي تؤجل شهوتها نحو الحقد أو الكبر أو السيطرة
، وتحكم بدلا منها : نزعة الحب والتواضع والزهد…
فعملية (التأجيل) التي تمارسها الشخصيات الخيرة في الحياة الدنيا ،
تنتفي في الحياة الأخروية : إذ لا وجود للنزعة الشريرة ، حتى تمارس حيالها تأجيلا
، أو حتى تحكم بدلا منها : نزعة الخير…
والأمر نفسه فيما يتصل بالحاجات الحيوية ، من طعام ، وجنس ونحوهما :
حيث يتم إشباع هذه الحاجات ، دون ان يصاحبها نزوع شرير.
وإذا كان الأمر كذلك : فلماذا نجد القصة القرآنية الكريمة ، تخلع على
(الحور) سمة كونهن (قاصرات الطرف) وكونهن (مقصورات في الخيام) وكونهن (خيرات)؟؟
طبيعي ، إن خلع مثل هذه السمات ، يظل من جانب ، (واقعا) : له محدداته
التي تطبع سائر المعالم الخاصة في بيئة الآخرة.
لكنه ـ من جانب آخر ـ ينطوي على حقيقة فنية أيضا… ، هدفها لفت
الانتباه إلى سلوكنا الدنيوي ، فيما يتصل بهذا العنصر ، والطريقة التي ينبغي ان
يختطها العنصر المذكور في تعامله مع العنصر الآخر : الرجل.
إن أول صفة خلعتها القصة عند حديثها عن العنصر الخامس من بيئة
الجنتين العاليتين ، هي : صفة (قاصرات الطرف) حيث بدأت بها ، قبل ان تبدأ برسم
الأوصاف الأخرى.
كما أن أول صفة بدأت بها القصة عند حديثها عن الجنتين الأدنى درجة ،
هي : صفة (خيرات) ، اتبعتها بصفة (مقصورات في الخيام). ثم تابعت بعد ذلك : خلع
السمات الأخرى ، المتصلة بالجانب الحيوي من الشخصية.
ومما لا شك فيه [من حيث البعد الفني الخالص] أن البدء برسم صفة من
الصفات قبل غيرها ، يعني : ان النص القصصي يستهدف التركيز والتشديد على هذه السمة
قبل غيرها ، نظرا للأهمية التي تنطوي الصفة المذكورة عليها.
والقصة حينما بدأت في الحديث عن الجنتين العاليتين ، وفي الحديث عن
الجنتين الأدنى درجة… حينما بدأت في كلا الموقعين ، بالحديث عن سمات مثل (قاصرات)
(خيرات) (مقصورات) ،… فإن ذلك يعني : لفت انتباهنا إلى ضرورة توفر مثل هذه السمات
في السلوك الدنيوي.
ويمكننا إدراك هذه الحقائق ، حينما نتابع مفردات الأوصاف المذكورة ،…
ومنها : سمة (قاصرات الطرف) التي بدأت القصة بها.
فهذه الصفة ، تعني : أن العنصر المذكور ، يقصر عينيه على الزوج فحسب.
كما ان الصفة الثانية (مقصورات) تعني : انهن (مستورات) في الخيام ،
(محبوسات) فيها ، لا انهن يتنقلن هنا وهناك بمرأى من الرجال.
وهذه السمات هي ذاتها التي يشدد المشرع الإسلامي عليها في الحياة
الدنيا ، حينما تطالب النصوص القرآنية الكريمة والنصوص الواردة عن أهل البيت ـ
عليهم السلام ـ : تطالب المرأة ، بأن لا يراها أحد وأن لا ترى أحدا ، وألا تتحدث
مع الآخرين إلا لضرورة قصوى ، وأن ينحصر لقاؤها ونظرتها وحديثها وتعاملها : ينحصر
ذلك مع (زوجها) فحسب.
إن إدراك مثل هذه الحقائق ، يتبلور بوضوح ، حينما نتعرف على طبيعة
التركيبة الآدمية في الحياة الأخرى ، ونعود بذاكرتنا إلى ما سبق ان قلناه : من أن
الحياة الأخروية ينتفي فيها عنصر (الشر) وما يستتبعه من (صراع).
فإذا كانت الحياة الأخروية ، وهي خالية من (النزعة الشريرة) ومن
عمليات (الصراع) بين الخير والشر ، قد شدد فيها على (ستر) المرأة ، وعلى ان (تحبس)
نظراتها على زوجها فحسب ، وعلى ان (تحصر) تحركاتها داخل مساحة (الخيمة) الخاصة بها
، لا خارجها… إذا كان الأمر كذلك [وهي في بيئة الجنة ، الخالية من النزعة الشريرة
ومن عمليات الصراع] ؟ فكيف ببيئة الحياة الدنيا [وهي بيئة تتجاذبها النزعة الشريرة
وما يستتليها من عمليات الصراع]؟؟
للمرة الجديدة : القصة تستهدف ـ بطريقة فنية غير مباشرة ـ لفت
الانتباه إلى ان تعدل المرأة من سلوكها في الحياة الدنيا ، وتقصر تعاملها ونظرتها
على زوجها ، وتحصر تحركاتها داخل النطاق المرسوم لها ، ولعل التوصية الكريمة التي
قدمتها سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ـ عليها السلام ـ إلى المرأة ، من ان :
لا يراها أحد ولا ترى أحدا ، تظل معيارا واضح المعالم فيما يتصل بعلاقتها مع
الآخرين.
مع رسم القصة لعنصر (الحوار) ، ينتهي العرض المتصل بالجنتين
العاليتين اللتين خصصتا لمن خاف مقام ربه ، ولم تصدر معصية منه ،… والجنتين الأدنى
درجة منهما ، فيما خصصتا لأصحاب الدرجة الثانية من الإيمان…
وقد تحدد لنا ـ خلال دراستنا لهذه القصة ـ نمط الطرائق الفنية
الممتعة التي سلكتها القصة في إيصال الحقائق المتصلة ببيئة الجنات الأربع ،… مثلما
وقفنا على طبيعة المبنى الهندسي أو الهيكل الفني العام للقصة في فرزها لحقائق
الجنتين العاليتين وافتراقهما عن الجنتين الأدنى منهما درجة ، فيما لا حاجة إلى
التذكير بحقائق السمات الفنية التي لحظناها مفصلا في حينه.
بيد ان الحاجة تدعونا إلى التذكير ـ من جديد ـ بالدلالات الفكرية
للقصة ، ما دامت الدلالة الفنية موظفة من أجل تعميق الدلالات الفكرية.
فكم حري بنا ، أن نفيد من هذه القصص المستقبلية التي ترسم لنا معالم
الجنات الأربع ، والدرجات المتفاوتة فيها ، بأن نحدد من خلالها سلوكنا الدنيوي. ما
دام التلاحم بين البيئتين : الدنيوية والأخروية ، من الوثاقة إلى الدرجة التي
يتوقف مستقبل الشخصية فيها على ما نمارسه من النشاط العبادي الذي خلقنا من أجله.
وألا تفلت الفرصة في استثمار [حتى اقصر لحظة زمنية] وتوظيفها من أجل الحياة
الأبدية في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|