المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17340 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
سلام وستفاليا.
2024-09-18
الاصلاح الكاثوليكي المعاكس (لجنة الثبت).
2024-09-18
محاكم التفتيش.
2024-09-18
منظمة اليسوعيين (الجزويت).
2024-09-18
الاصلاح الكاثوليكي المعاكس (مجمع ترانت).
2024-09-18
فرنسا والاصلاح الكاثوليكي المعاكس.
2024-09-18

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


قصة موسى  
  
2056   03:15 مساءاً   التاريخ: 2-06-2015
المؤلف : د. محمود البُستانِي
الكتاب أو المصدر : دراسات فنية في قصص القران
الجزء والصفحة : ص151-157
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / قصص الأنبياء / قصة النبي موسى وهارون وقومهم /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-09-01 103
التاريخ: 2024-08-10 213
التاريخ: 5-2-2016 2239
التاريخ: 10-10-2014 1741

ان قصص موسى ـ عليه السلام ـ تتضمن ثلاث فترات من حياته : قبل النبوة ، وخلالها مع فرعون ، ثم مع قومه.

وفي سورة (البقرة) ، جاء التذكير بنعم الله على بني اسرائيل ، مصحوبا بسرد بعض الإحداث والمواقف التي واكبها موسى ـ عليه السلام ـ في هذا الصدد مع قومه ، وكان بضمنها : التذكير بإغراق فرعون وانقاذ موسى منه. وهذا يعني ان الفترة الثالثة من حياة موسى عليه السلام ، كانت مادة السورة قصصيا.

هنا ـ في سورة الاعراف ـ يتناول النص الفترة الثانية من حياة موسى عليه السلام ، أي : تعامله مع فرعون بشيء من التفصيل ، لكنه ليس بالتفصيل الذي سنجده في السور اللاحقة ، كما انه تناول الفترة الثالثة بتفصيلات سبق ذكرها في سورة البقرة ، والبعض منها جديد في سورة الاعراف. إلا ان ذلك جميعا ، يجيء في سياق جديد كما سنرى في معالجتنا الآن القصص موسى عليه السلام.

لقد جاء سرد قصص موسى ـ عليه السلام ـ بشكل حكايات قصيرة متتابعة ، على نحو قصص الانبياء في هذه السورة ، حيث كان الهدف منصبا على إبراز مفهومات معينة تتساوق وطبيعة الأفكار المطروحة في السورة.

من هنا ، جاء السرد لقصص موسى ـ عليه السلام ـ في هذه السورة يقطعه حينا نثر غير قصصي ، يجيء بمثابة تعقيب على الاحداث والمواقف ، فيما يشكل هذا التعقيب عنصر تذكير بالعظة التي ينبغي استخلاصها بنحو يتناسق مع أفكار السورة وموضوعاتها.

على أية حال ، نقف الآن مع الفترة الثانية من حياة موسى ـ عليه السلام ـ أولا ، أي : تعامله مع فرعون على النحو الذي بدأه النص.

وهذه الفترة تتناول ثلاث شرائح من الاحداث والمواقف ، تتداخل فيما بينها حينا ، وتنفصل حينا آخر :

1 ـ موسى مع فرعون .

2 ـ موسى مع السحرة .

3 ـ فرعون مع السحرة .

4 ـ موسى مع آل فرعون .

موسى مع فرعون

بدأ النص حكاية موسى مع فرعون ، على النحو التالي :

قال تعالى : {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف : 103 - 108]

إلى هنا ، فإن الحكاية تبدأ ـ من حيث البناء القصصي ـ من نهاية (الحدث) الذي أشار إليه النص ضمنا لا تصريحا بقوله : {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} .

فالنهاية تتمثل ـ كما سيفصلها النص لاحقا ـ في إغراق فرعون ، وفي صب مختلف العقاب على قومه.

ثم يبدأ النص بالارتداد إلى بداية الحدث ، متمثلا في خطاب موسى لفرعون بانه رسول من رب العالمين ، مطالبا إياه بفك الاسرائيليين وتخليصهم من الاستعباد الفرعوني لهم ، مشيرا إليه بان لديه آيات تدعم صحة اضطلاعه برسالة الله.

هذه البداية ينبغي ان نضعها في الاعتبار ، لانها ـ من وجهة النظر الفنية ـ ستلقي باضواءها على طبيعة المواقف والاحداث الآتية في السورة.

لقد لوحظ في هذه البداية ـ خلافا لكثير من قصص موسى مع فرعون ـ انها طالبت بتخليص الاسرائيليين من استعباد فرعون ، حيث قرنت الاعلان عن الرسالة بأول مطالبة هي قوله ـ عليه السلام ـ : {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}

هذا هو أول طلب موسى ـ عليه السلام ـ في هذه الحكاية ، مع ان غالبية القصص لم تبدأ بهذا الطلب... ، وهذا يعني أن المطالبة بتخليص الاسرائيليين ، من استعباد فرعون إنما ينطوي على مهمة فنية ونفسيه ، تتمثل ـ كما سنرى ـ في مدى خيانة الاسرائيليين ونسيانهم لنعم السماء عليهم ، واسرافهم في المنكرات ،... ومن ثم فإن الجزاء الدنيوي الذي رسمته السماء لهم ، يظل متوافقا وطبيعة السلوك السلبي الذي صدروا عنه طيلة حياتهم مع موسى ـ عليه السلام ـ ومع من جاء من بعده.

وكما سنرى ، فان بعض أشكال المصير الذي انتهى الاسرائيليون إليه هو : مسخهم الى حيوانات ، الى قردة خاسئين.

وإلى بقاءهم أذلاء الى يوم القيامة ، يسامون بالوان العذاب.

ومثل هذا المصير ، يتوافق ـ كما قلنا ـ مع سلوكهم المنكر الذي سبقته نعم عظيمة اغدقتها السماء عليهم ، وفي مقدمتها انقاذهم من ظلم فرعون واستعباده لرجالهم ونساءهم ، وسبيه له ، وقتله اياهم.

اذن : البدء بسرد القصة بمطالبة انقاذ الاسرائيليين من فرعون ، يعني ان النص يعتزم إلقاء الضوء على حقيقة تتصل بهؤلاء القوم الذين سلكوا شتى المفارقات مع ان السماء انقذتهم من أشد ألوان الاستعباد والقتل.

بكلمة أخرى : ان المتلقي بمقدوره ان يستخلص بوضوح ، ما يلي :

إن الاسرائيليين يظلون أشد الانماط البشرية مفارقة في السلوك ، وإلى انه سيلاقون تبعا لذلك ، أشد ألوان العقاب الدنيوي فضلا عن العقاب الأخروي ،... والى إن ذلك ناجم عن نسيانهم لأكبر ألوان النعم التي اغدقتها السماء عليهم ، فيما لم تغدقه على غيرهم من الأقوام.

كل أولئك سنلحظه بوضوح في سياق قصص موسى ـ عليه السلام ـ مع قومه ، أي : في الفترة الثالثة من حياة موسى ـ عليه السلام ـ في هذه السورة التي تناولت هذا الجانب.

وللمرة الجديدة ، نذكر المتلقي بالأهمية الفنية لهذه البداية في السرد القصصي ، من حيث تشددها على ذكر انقاذ الاسرائيليين من فرعون. وما تلقيه من ضوء على احداث القصة ومواقفها اللاحقة.

بدأت قصة موسى مع فرعون باعلانه عن رسالته ، ومطالبته بإنقاذ الإسرائيليين ، كما لحظنا.

وجاء القسم الثاني من هذه الحكاية متمثلا في جواب فرعون وقومه على الاعلان المذكور.

يقول النص :

(قال : أي [أي : فرعون]

{إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ }

وواضح ، ان النص ـ فنيا ـ قد اكتفى بهاتين الآيتين ، ملمحا بهما عابرا دون أن يذكر تفصيلات العصا واليد ، وما واكبهما من الحوار والمواقف ، لانه في صدد التشدد على إبراز ألوان الاستجابة المنكرة لفرعون وقومه. وهذا ما بدأه مع القسم الثالث من القصة ، على النحو التالي :

{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف : 109]

{ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف : 110]

{قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف : 111 ، 112]

الاستجابة هنا واضحة ، لقد قرروا سريعا ، ان القضية قضية ساحر يريد أن يخرجهم من أرضهم.

ثم تشاوروا فيما بينهم ، وقرروا ان يؤجلوا الموضوع الى أجل ، يجمعون من خلاله كبار السحرة ليردوا على موسى ، وينتهي الأمر.

هنا ، ينبغي الانتباه أيضا ، إلى ان النص لم يحصر الموضوع في شخص فرعون ـ كما هي غالبية القصص التي تحدثت عن موسى ومقابلته مع فرعون ـ بل بدأه بقوم فرعون. لنقرأ النص ثانية :

{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}

ان هذه البداية ذات مهمة فنية تشبه تماما المهمة الفنية التي لحظناها عند بداية القصص بمطالبة موسى فرعون إنقاذ الاسرائيليين. فقد كانت المطالبة بإنقاذ الاسرائيليين ، تمهيدا لألقاء الضوء على سلوكهم المنكر ، وصياغة المصير الأسود لشخوصهم.

هنا ، أيضا تجي البداية القصصية عن [الملأ من قوم فرعون] تمهيدا ، أو إرهاصا بما سيلقي النص من أضواء على هؤلاء القوم الذين سوفوا في إصلاح أنفسهم ، واسرفوا في عنادهم واستكبارهم بالرغم مما شاهدوه من الآيات ، وبالرغم من انهم كانوا كل نوبة يطالبون بآية ، وبكشف العذاب ، واعطاء المواثيق بالتوجه من جديد. ثم يعودون إلى الموقف المنكر نفسه.

والمهم ، ان نمط العقاب جاء متوافقا مع نمط السلوك : تماما كما كان ذلك مع قوم موسى.

فقد عوقبوا ـ كما سنرى ـ بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، فضلا عن النقص بالسنين والثمرات ، حتى انتهى الأمر إلى إغراقهم في اليم في نهاية المطاف.

إذا : هذه البداية الفنية التي استهل بها النص سرده لقصة موسى مع فرعون ،... هذه البداية التي أوكلت مهمة الرد على موسى ، او كلمته إلى [الملأ من قوم فرعون] لا إلى فرعون لوحدة ،... انما تنطوي على أسرار فنية بالغة المدى. انها تريد ان تلقي الضوء على قوم فرعون لا على شخصه فحسب ـ كما هو شأن سائر القصص عن موسى وفرعون ـ بحيث تحدثنا عن تفاصيل مواقفهم ، وتفاصيل العقاب الذي نزل عليهم.

وبهذه البداية مع آل فرعون يتم منحى فني آخر من التناسق الهندسي في هذه القصة ، حيث يتوازن قوم موسى من الإسرائيليين ، مع قوم فرعون من الأقباط : من حيث تماثل المواقف في سلوكهم ، ومن تماثل العقاب النازل عليهم. ومن ثم من حيث تماثل البداية القصصية التي استهل النص الحديث عنهما ، خلافا للاستهلال في غالبية القصص الأخرى التي كانت تتحدث مباشرة عن مطالبة موسى بمحاورة فرعون واجابته ، لا اجابة الملأ من قومه.

إذا : نحن حيال بعدين من أبعاد البناء الفني لهذه القصة :

أولهما : هو طبيعة البداية في القصص ، وصلتهما بالظواهر التي سيشدد النص عليها في القصة.

ثانيهما : هو طبيعة التوازن الهندسي بين البدايتين : بداية القسم الأول من القصة وبداية القسم الثاني منها.

ونتجه الآن ، إلى القسم الثالث من القصة ، متمثلا في حادثة (السحرة) وموقفهم من موسى وفرعون. ودون أن نذكر النصوص ، نسارع الى القول بأن السحرة طالبوا فرعون بإعطائهم أجرا في حالة غلبتهم على موسى ، وموافقة فرعون على ذلك ، مضافا إلى إكسابهم منزلة اجتماعية تليق بهم.

وفعلا تمت المقابلة مع موسى عليه السلام ، وبعد أن سألوه عن البادئ بالآية ، أجابهم : القوا ما لديكم أولا.

وعندها ألقوا ما يرهب الجمهور بسحرهم العظيم.

بيد ان عصا موسى ، بعد ذلك ، قد ابتلعت حبالهم وعصيهم.

هنا ، تمت استجابة جديدة مفاجئة وهي : ان السحرة واجهوا حقيقة لا يمكن أن يتجاهلها إلا المكابر. فأعلنوا ايمانهم مباشرة.

بيد ان فرعون ـ وهو المكابر ـ لم يلق ايمان السحرة ، قبولا في نفسه دون أدنى شك.

فبدأ بتهديدهم ، والتوعد بقطع أيديهم وأرجلهم ، وشنقهم جميعا.

غير أنهم ـ أي : السحرة الذي آمنوا ـ لم يأبهوا بتهديده واجابوه بأنهم عائدون الى الله ، ولا قيمة لانتقام فرعون حيال الايمان بآيات الله لما رأوها بأم أعينهم. وهتفوا في نهاية المطاف بأن يتوفاهم الله مسلمين.

هنا ، يجدر بنا أن ننتبه إلى ان النص القرآني الكريم في هذا القسم من القصة قد سرد أحداثها ومواقفها بنحو عابر خال من التفاصيل التي يسردها في قصص اخرى.

والسر ـ فنيا ـ يمكننا أن نستخلصه بوضوح من أن النص في صدد الحديث عن قوم موسى وقوم فرعون : عن الاسرائيليين والاقباط ، وليس في صدد التشدد على فرعون أو السحرة الا بما يلقي الضوء على قوم فرعون وموسى. وهذا ما يتسق تماما مع ما سبق أن قلناه من ان بداية القصة أوحت لنا بان النص سيركز على الاسرائيليين ما دام الحديث قد بدأ بمطالبة موسى بهم ، وما دام الحديث قد بدأ بالملأ من قوم فرعون في الحوار الذي جرى فيما بينهم.

موسى وآل فرعون

لحظنا أن قصة موسى قد بدات بالحديث عن قومه ، وعن قوم فرعون.

وكان أول صراع يقوم بين موسى وآل فرعون ، هو : إتهامهم إياه بالحسر ، ثم محاولاتهم في جمع السحرة ، على النحو الذي تحدثنا عنه.

هنا ، يظل الصراع مستمرا بين موسى وآل فرعون أو الاقباط ، بعد فشل عملية السحرة التي جندوا لها كل قواهم ، فيما انتهت إلى إيمان الحسرة.

ولقد هالهم أن ينتهي الصراع الى انتصار موسى وقومه. فبدأوا بمحاولات جديدة ، تتمثل في إستعدائهم فرعون على موسى وقومه ، محرضين إياه على قتلهم ، والتخلص منهم.

والحوار التالي يكشف عن الحقيقة المذكورة.

{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف : 127]

من هذا الحوار الذي لخص المرحلة الجديدة من الصراع بين موسى والأقباط ، نستخلص ان فرعون وقومه بدأوا بالتفكير في عملية الانتقام من المستضعفين ، والى أنهم مصرون على الاستكبار بالرغم من وضوح الدليل الذي جاء به موسى. ويبدو أن فرعون قد نفذ تهديده فعلا ، وألحق الأذى بقوم موسى.

يكشف عن ذلك : هذا الحوار بين موسى وقومه.

قال موسى لقومه :

{اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}

قالوا :

{أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}

(قال :

{قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}

ان هذا الحوار ينطوي على حقائق فنية وفكرية بالغة المدى.

فهو أولا يكشف لنا عن تطور الحدث. وثانيا يمهد لنا بمراحل لاحقة من تطوراته ، بحيث يمكننا أن نتنبأ بمصائر كل من قوم فرعون ، بل ، وحتى قوم موسى أنفسهم.

أما تطور الحدث ، فيتمثل في تنفيذ فرعون وقومه لتهديداتهم ، حيث ألحقوا الاذى فعلا بقوم موسى.

قالوا :{أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}

فان فقرة (من بعد ما جئتنا) تكشف بوضوح عن أن الأذى قد لحق قوم موسى ، نتيجة لايمانهم به.

وأما التمهيد بالمراحل اللاحقة من تطورات الحدث ، فتكشفه لنا هذه الاية المكتنزة بأسرار فنية في غاية الخطورة من حيث البناء الهندسي للقصة.

الآية هي :

(قال : [أي : موسى].

{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}

هذه الآية القائمة على الحوار تنطوي على التنبؤ بواقعتين خطيرتين كل الخطورة :

1 ـ الواقعة الأولى هي : أن فرعون وقومه سوف يهلكون ، ويلقون جزاءهم الحاسم في هذا الصدد. والى ان قوم موسى سيستخلفونهم.

2 ـ الواقعة الثانية هي : ان قوم موسى عندما يستخلفون الأرض ، سيواجهون اختبارا جديدا. ويبدو ان هذا الاختبار سينتهي في غير صالحهم ، أي : انهم سوف لن يثبتوا على ايمانهم ، والى انهم سيفسدون في الأرض بدورهم ، تماما كما كان فرعون وقومه مفسدين في الأرض.

ان الحوار المتقدم لا يحدثنا بهذه الحقائق صراحة ، بل يرهص أو يوحي لناـ على الأقل ـ بها. ذلك ان جواب موسى لقومه : {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} لا يكشف عن ان الأقباط سيهلكون على نحو الجزم ، والى ان قوم موسى سيستخلفونهم ، بل ساق موسى ذلك على نحو الترجي والتعلل بالأمال. ولكن الذي حدث فعلا ـ كما ستكشف عن ذلك فصول القصة لاحقا ـ هو ان فرعون وقومه قد هلكوا كما تمنى موسى. والى ان قوم موسى قد استخلفوا في الأرض فعلا ، كما تمنى ذلك موسى أيضا.

وطبيعي ، فان المبنى الفني لهذا الحوار ، يكشف لنا عن ان (التمني) أي : قول موسى {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ } ، لم يكن مجرد (أمنية) يتطلع إليها موسى [قد تتحقق مثلا أولا تتحقق] بل كان اشارة فنية ، أي : كان إنماء عضويا لحدث سوف يتحقق لاحقا عندما يواصل النص القرآني سرده لإحداث القصة في فصولها اللاحقة, وهذا ما يلحظه القارئ فعلا عندما يواصل قراءته لهذه القصة ويرى ان فرعون وقومه قد لحقهم المصير الذي تمناه موسى عليه السلام.

والأمر نفسه في الواقعة الثانية التي أرهص بها موسى عندما قال : ان الله سينظر ـ يا قوم موسى ـ إلى ما ستفعلونه بعد استخلافكم في الأرض.

فمن الوجهة الفنية ، كان من الممكن ألا يقول النص عقب التبشر بهلاك فرعون مخاطبا بني إسرائيل : (فينظر ـ أي الله ـ كيف تعملون).

إلا ان النص أثبت هذه العبارة ليوحي للمتلقي بان قوم موسى بعدما يستخلفون في الأرض سيواجهون مصيرا غامضا ـ لا يزال المتلقي جاهلا بتفصيلاته. فكأن النص يريد أن يقول لنا : ان السماء سوف تهلك عدو الاسرائيليين ، وستستخلفهم في الأرض ، ولكن ما عسى ان يفعله الاسرائيليون حيال هذه النعمة التي أنعمها الله عليهم : هل انهم سيقدرونها؟ أم انهم سيتمردون على السماء ؟؟

ان قوله {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} توحي لنا فنيا بان الاسرائيليين سوف لن يقدروا هذه النعمة ، بل انهم سيفسدون في الأرض ، ذلك ان مجرد التشكيك بما سوف يعملونه ، يعني انهم سيمارسون سلوكا سلبيا.

وفعلا ، فان الفصول اللاحقة من القصة ـ كما سنرى ـ تكشف لنا عن أن الاسرائيليين أمعنوا في المنكرات ، تماما كما تكشف لنا عن ان قوم فرعون سيلحقهم الهلاك.

إذا : الحوار المذكور ، قد انطوى ـ فنيا ـ على وظائف في غاية الخطورة ، عندما أوحى لنا وارهص بمستقبل الأحداث ، التي سنواجهها لاحقا في قصة موسى ، وصراعه مع الأقباط والاسرائيليين.

يبدا الفصل الجديد من قصة موسى وصراعه مع الأعداء ، بالحديث عن آل فرعون ومواقفهم ومصائرهم التي أوحى لنا النص فنيا بتفصيلاتها في حوار سابق تحدثنا عنه.

لقد رسم النص جملة من الأحداث والمواقف التي واكبت الاقباط من هذه القصة بادئا بما يلي :

{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}

إن هذين الحدثين : [ أجداب الأرض] و[نقص الثمرات] يشكلان أول عقاب ألمح إليه موسى في حواره مع قومه ، من ان الله لعله يهلك عدوهم الذي سامهم العذاب قبل مجيء موسى وبعده.

ولكن كيف استجاب الأقباط لهذا الحدث؟

هل انهم ارعووا حقا ، وتذكروا ؟؟ ام انهم فسروا الأمور تبعا لمشاعرهم المفسدة ؟؟ إنهم يختارون الموقف الثاني ...

وها هو النص ينقل لنا طبيعة استجابتهم المفسدة حيال الجدب والخصب اللذين واكبا حياتهم الجديدة :

{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف : 131]

لقد كان من المفترض أن يتعظ الأقباط بالنقص الذي أصاب الأرض ، إلا انهم فسروه بأنه شؤم ناجم عن مجيء موسى بالرسالة ، وبالمؤمنين بها.

وأما في حالة الخصب ، فانهم يفسرون الأمر ، على أنه ظاهرة طبيعة أغدقتها الأرض عليهم.

وقد عقبت السماء على موقفهم هذا : بانه ناجم عن الوعد الذي قطعته السماء لموسى من انها ستعاقب آل فرعون على سلوكهم المستكبر.

وفعلا ، يبدأ النص بسرد أكثر من موقف مستكبر يقف القوم حيال رسالة السماء ، بدلا من الاتعاظ بالتجارب.

وهاهم يخاطبون موسى بهذا الاتهام ، وباصرار على المكابرة :

(وقالوا :

{مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف : 132]

ونتيجة لهذا الاصرار الذي قد سبقته تجارب القحط ، عاقبتهم السماء بشتى ألوان العذاب ، وهو عقاب ينسجم مع طبيعة الاصرار على المكابرة :

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ }

إن هذه الانماط من العقاب ، تتساوق ـ كما قلنا ـ من الوجهة الفنية مع طبيعة الموقف الذي صدر آل فرعون عنه. فلقد أبرز النص أولا تشاؤمهم من موسى ، ثم أبرز إصرارهم على إتهامه بالسحر ، وإصرارهم على عدم الايمان برسالته.

وتقول النصوص المفسرة ، في توضيحها لألوان العقاب المذكورة ، ان الطوفان قد جرف الأرض ومن فيها.

وبعض النصوص المفسرة ، ذهبت الى أن الطوفان (رمز) للموت الذريع الذي اصاب آل فرعون ، أو رمز للطاعون أو الجدري الذي اصابهم.

بيد أن النصوص الموثوق بها فسرته بظاهر العبارة ، أي : طوفان المياه ، فيما ذهبت هذه النصوص المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام ، إلى ان الطوفان قد خرب بيوتهم حتى خرجوا الى الصحارى وضربوا الخيام هناك.

وحيال هذا الأمر توجهوا نحو موسى وطالبوه بأن تكشف السماء عنهم هذا العذاب ، حتى يؤمنوا ويرسلوا معه بني إسرائيل.

وفعلا ـ كما تقول النصوص المفسرة ـ دعا الله موسى ، فكشف العذاب.

إلا أن الاقباط أصروا من جديد على استكبارهم ، وقالوا لفرعون : لئن أرسلت بني إسرائيل مع موسى ، غلبك الرجل وأزال ملكك.

ومن جديد ايضا : أرسلت السماء عليهم الجراد الذي ملأ وجوههم وبيوتهم ومتاعهم ، حتى جزعوا ، وطالبوا من جديد بكشف العذاب حتى يؤمنوا.

إلا انهم أيضا ، أصروا على استكبارهم بعد أن أزيح العذاب عنهم.

وهنا عاقبتهم السماء من جديد بإرسال القمل الذي أتى على زروعهم جميعا : مثلما غمر أجسادهم وطعامهم ، فضجوا من جديد الى موسى ودعوه إلى أن يطلب من السماء أن تزيح عنهم هذا العذاب ، حتى يؤمنوا.

وأيضا ، أصروا على الاستكبار.

وأيضا ، جاءهم العذاب من جديد ، متمثلا في الضفادع التي ملأت بيوتهم ، وطعامهم وشرابهم وأوانيهم وأفواههم.

ومن جديد أعلنوا التوبة والى انهم سوف لن يفسخوها من الآن فصاعدا.

لكنهم نقضوا العهد أيضا.

هنا ، أرسلت السماء (الدم) عليهم ، فسال ماء النيل ـ كما تقول النصوص ـ دما ، مما اضطر فرعون مثلا إلى أن يمتص الأشجار الرطبة التي كانت تتحول بدورها دما في فمه.

على أية حال. لا يزال الأقباط حين يرون العذاب يعلنون عن استعدادهم للايمان ، ثم ينقضون ذلك بمجرد إزاحة العذاب ، حتى انهاهم النص القرآني في نهاية المطاف من الأرض ، فأغرقهم في حادثة البحر المعروفة.

وهذا ، ما يكشف عنه السرد التالي :

{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف : 134 - 136]

وهكذا ، انهى النص القرآني الكريم في هذه القصة أنهى الأقباط ، ومسحهم من الأرض ، بنحو يتوافق وطبيعة السلوك الصادر عنهم. وهو سلوك مستكبر لا يتعظ بواقعة أو اثنين أو ثلاث أو أربع أو خمس أو ست ، بل لا يزال مصرا ، ناكثا للعهد بالرغم من سماحة السماء التي أتاحت لهم شتى فرص الرجوع إلى الايمان.

ماذا نستخلص من قصة الأقباط وموقفهم من رسالة موسى ، من حيث قيم الفن والفكر؟

من حيث الفن : لحظنا ان قصة موسى مع فرعون ، قد بدأت ـ في أول القصة ـ بالمطالبة بأن يرسل معه بني إسرائيل.

وقد انتهت قصة الأقباط أيضا ، مقرونة بإجابة الدعوة ، وإرسالهم بني إسرائيل مع موسى ، على نحو ما بدأت به القصة.

لقد بدأت القصة بما يلي : حيث خاطب موسى فرعون :

{فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}

ثم انتهت قصة الأقباط ـ كما لحظنا ـ بما يلي : حيث خاطبوا موسى بقولهم :

{ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}

إذا : من حيث البناء الهندسي لهذه القصة ، بدأت القصة مطالبة بالايمان ، وبارسال بني إسرائيل.

ثم أنتهت بادعاء انهم ـ أي : الأقباط ـ سيؤمنون ، وسيرسلون بني إسرائيل.

وهذا البناء المعماري بالغ الدقة ، ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا ونحن نتابع فنا قصصيا موشما بقيم جمالية متنوعة ، من ضمنها : تناسق البداية مع النهاية ، وتلاحم الاجزاء بعضها بالآخر ، وتنامي المواقف والأحداث واحدا بعد آخر ، في تصاعد وتطور ونمو على النحو الذي لحظنا في قصة الأقباط.

من ضمنها أيضا : ما سبقت الاشارة إليه ، من أن المطالبة ببني إسرائيل في بداية القصة لم يكن أمرا لمجرد الإنقاذ بل ينطوي على قيمة جمالية بالغة الأهمية ، هي : أن النص يعكف على بني إسرائيل أنفسهم ، وسيفضح لنا مواقفهم المنكرة في الفصول اللاحقة من القصة ، وهي مواقف أبعاد تشبه تماما المواقف التي لاحظناها عند الأقباط.

وهذا هو البعد الفني الثالث من ابعاد التناسق بين أجزاء القصة : حيث سنرى ان الاسرائيليين يماثلون الأقباط ، بل يتجاوزونهم في السلوك المستكبر ، وفي تماثل الأحداث والمواقف التي واكبت حياتهم. فالسماء تغدق عليهم النعم واحدة بعد الأخرى ، كما أغدقتها على الأقباط حينما كشفت عنهم ألوان العذاب.

والسماء أوضحت لنا ان سلوكهم قائم على نقض العهود على النحو الذي لحظناه من النقض لدى الأقباط الذين كانوا يخاطبون موسى بعد نزول كل عذاب ، بقولهم : { لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ } لكنهم يعودون إلى نفس السلوك المستكبر.

ان هذه الانماط من التماثل والتشابه في السلوك بين الأقباط والاسرائيليين ، يفصح ـ من خلال السرد والحوار القصصي ـ عن قيم فنية تضاف الى القيم التي لحظناها في دراستنا لهذه القصة في الفصول السابقة ، وفيما سنلاحظها في الفصول اللاحقة أيضا ، وهو أمر نبدأ به الآن :

موسى مع الإسرائيليين

إن قصة موسى ، مع الاسرائيليين ، تشكل فصلا آخر من فصول القصة التي تجسد صراع موسى مع الاعداء عبر اضطلاعه بالرسالة.

ومثلما لحظنا ، فان القصة ـ من الوجهة الفنية ـ قد مهدت لنا الحديث عن بني إسرائيل ، حينما طالبت منذ البداية ـ على لسان موسى ـ أن يرسل فرعون بني إسرائيل مع موسى ، بغية تخليصهم من الاستعباد الفرعوني لهم...

وها هي أحداث القصة ومواقفها ـ على النحو الذي فصلنا الحديث عنه في الفصول السابقة ـ قد انتهت إلى إغراق آل فرعون ، وبتخليص الإسرائيليين منه ومن قومه ، وتحقيق أمنية موسى من إرسال بني إسرائيل معه.

وهاهم بنو إسرائيل مع موسى ، كما طالب موسى فرعون بذلك ، منذ بداية القصة.

وهاهم يستخلفون في الأرض ـ كما وعد السرد القصصي بذلك ، خلال القصة أيضا ـ على لسان موسى.

وهاهم ـ من جديد ـ يقدمهم النص في بداية فصل جديد من القصة الجديدة : قصة موسى مع قومه :

{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ }[الأعراف : 137]

إن استخلافهم في الأرض ، ـ سبق ان أوضحنا ـ ان موسى في حواره مع قومه ، عندما شكى الإسرائيليون إليه انه قد عذبوا قبل مجيء موسى وبعده ،... هذا الاستخلاف قد أشار إليه موسى ، كما أشار إلى عاقبة الصبر. وفي حينه قلنا : إن حوار موسى ينطوي على قيم نفية تلقي بإنارتها على مواقف لاحقة من القصة [وهذا هو بعد آخر يضاف إلى قيم الجمال التي لحظناها في بناء القصة].

لقد قال لهم موسى في حينه :

{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } [الأعراف : 129]

وها هو النص في بداية القصة الجديدة ، يقول :

{وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ }

وقال لهم موسى في حينه :

{ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف : 128]

وها هو النص في بداية القصة الجديدة ، يحقق أمنية موسى :

{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا } [الأعراف : 137]

وقال لهم موسى في حينه :

{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ }

وها هو النص ، يحقق عملية الاستخلاف ، ويقول :

{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا }

اذن : هذه القيم الجمالية من التناسق بين القصة السابقة [قصة الأقباط] والقصة الحالية [قصة الاسرائيليين] من حيث إلقاء الوعد هناك ، وتحقيقه هنا ، من حيث ربط اللاحق بالسابق ، من حيث نمو الحدث وتطوره ، من حيث صلة النهاية بالبداية... كل هذه المستويات ، ينبغي أن يتحسسها المتلقي في تذوقه للفن القصصي العظيم في كتاب الله.

على أن أبرز قيمة فنية ، نحرص على توضيحها الآن ، هي : التمهيد بما سيحدثنا النص عنه من سلوك الاسرائيليين من حيث كونه سيكون سلوكا مستكبرا ، حيث أوضحنا أن موسى قال هناك لقومه الاسرائيليين حينما شكوا إليه استعباد فرعون وتعذيبه قبل مجيء موسى وبعده :

{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}

إن هذه الفقرة الأخيرة (فينظر كيف تعملون) هي التي توحي لنا ـ كما سبق التوضيح ـ ، بأن الإسرائيليين سوف لن يقدروا نعمة السماء عليهم ، بل سيركبون رؤوسهم ، بنحو يفوقون من خلاله آل فرعون في الظلم والاستكبار.

ان هذه الاشارة الفنية إلى مستقبل السلوك الاسرائيلي ، يجيبنا النص على تفصيلاتها الآن :

فيما يبدأ بألقاء الضوء على الاسرائيليين من أول واقعة يسردها لنا كما سنرى.

تبدأ قصة موسى مع الاسرائيليين الذين طالب موسى فرعون بأن يرسلهم معه ، وينقذهم من شروره ،... تبدأ هذه القصة بعد أن أنقذت السماء فعلا ، الإسرائيليين من فرعون وقومه حيث أنهتهم من الحياة بإغراقهم جميعا.. تبدأ هذه القصة التي استخلفت الاسرائيليين في الأرض...

اقول : تبدأ هذه القصة بسرد أول حادثة بعد حادثة إغراق فرعون ، حيث يوضح لنا النص أول سلوك منكر يقترفه الاسرائيليون ، وهم لتوهم قد انقذوا من آل فرعون حيث بدأ حنينهم إلى عبادة العجل وهم يعبرون البحر.

ولنقرأ بداية هذه القصة :

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف : 138 - 140]

إن هذا السلوك الذي استهل به الاسرائيليون حياتهم الجديدة ، يفسر لنا فنيا سر البداية القصصية التي طالب بها موسى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل ، ويفسر لنا سر الحوار الذي خاطب به موسى قومه عندما كانوا ضحية الظلم الفرعوني ، من أن الله سينظر ـ بعد انقاذكم من فرعون ـ الى ما تفعلونه يا بني إسرائيل.

وهذا هو أول عمل منكر يقومون به بعد أن انقذوا توا من فرعون ، بعد أن أنجاهم الله من الاغراق في البحر.

على أية حال ، يهمنا أن نتابع هذه القصة بعد أن لحظنا البناء الجمالي لها من حيث صلة البداية بأحداث القصة وتطوراتها.

اننا الآن ، نواجه سلسلة من الحوادث والمواقف ، تجسد صراع موسى مع الاسرائيليين بعد أن أنهى صراعه مع الأقباط.

وأول حادثة في هذه السلسلة هي : حنين الاسرائيليين الى العبادة غير الله ، كما حدثنا النص والقصصي بذلك.

وتقول النصوص المفسرة ، ان الاسرائيليين عندما عبروا البحر في حادثة إغراق فرعون وقومه ، مروا على قوم عاكفين على أصنامهم وكانت هذه الأصنام تماثيل بقر.

ووفقا للنص القرآني الكريم ، فان الاسرائيليين طالبوا موسى بمثل هذه الأصنام. وكان جواب موسى إنكارا لطلبهم المذكور على نحو ما فصلته الآيات المتقدمة.

هنا ، تدخل النص القرآني الكريم ، وعقب على هذه الحادثة أو الموقف بما يلي :

{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } [الأعراف : 141]

إن هذا العقيب من السماء ، يجسد عملية تذكير الإسرائيليين بنعم السماء عليهم : حيث أنقذته من ظلم آل فرعون الذين كانوا يقتلون الاسرائيليين ويستحيون نساءهم.

ولكن هذا التذكير ، لا ينفع الاسرائيليين البتة ، كما لم ينفع الأقباط الذين أصروا على إستكبارهم.

ومع ذلك ، فان النص عندما يذكر بهذه النعم ، انما ينهد بعدها إلى رسم مصير اسود لهم ، يشبه المصير الذي لحق الأقباط.

وبقدر ما يواصل النص عملية التذكير بالنعم ، في سلسلة متلاحقة كما سنرى ، بقدرما يهيء لهم مصائر سوداء تتوافق وطبيعة استكبارهم ، وعنادهم ، وتمردهم ، على النحو الذي يرسمه النص الآن من سلسلة المواقف الاسرائيلية.

الحدث أو الموقف الثاني من السلسلة التي واكبت صراع موسى مع الاسرائيليين ، هو امتداد للحدث الأول : الحنين إلى عبادة العجل. ثم تجسيده واقعا عمليا لسلوكهم في هذا الحدث الجديد :

تقول القصة :

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ..} [الأعراف : 148]

وكان هذا الحدث قد وقع خلال ذهاب موسى الى الميقات ، ونزول الألواح [الواح التوراة] عليه.

ولا تعقيب لنا على هذا الحدث الذي يشكل مفارقة ضخمة لدى الاسرائيليين الذين أنقذتهم السماء من استعباد فرعون ، وراوا الآيات كلها ملأى بما هو مدهش ومعجز. لكنهم مع ذلك أضلهم السامري الذي انقادوا الى أراجيفه ، لمجرد أنه اخبرهم بأن موسى قد توفي لما لم يرجع في نهاية الثلاثين يوما.

إن ما يمكن أن نستخلصه من سرد هذا الحدث ، هو : غباء الذهن الاسرائيلي وانصياعه لشكل خارجي ، وتقبله للظواهر بعقلية ساذجة.

يتضح هذا من متابعتنا لأقوال المفسرين الذين أوضحوا ان السامري ـ وكان مهيبا عندهم ـ دعاهم إلى عبادة العجل ، وتصديقهم ذلك ، لمجرد إرجافه بموت موسى ، ولمجرد أنه حتال عليهم باحداث الصوت لدى العجل ، ولمجرد أنه اتخذ من حليهم التي استعاروها من القبط ، شكلا خارجيا للعجل ، مع ان موسى خلف عليهم هارون الذي كشف لهم الحقيقة.

ان الانصياع لحدث مدهش واحد ـ العجل وخواره ـ ، ونسيان الأحداث المعجزة من العصا واليد والبحر وسواها ، يكشف عن غباء الذهنية الإسرائيلية ، كما قلنا.

بيد ان هذا الغباء لم ينجم عن تخلف عقلي لا يحاسب المرء عليه ، بل ينجم عن الانصياع لرغبات الذات ومحاولة التمركز حولها واشباعها بأية طريقة ممكنة فيما تسحب أيضا أثرها على المواقف الفكرية للفرد... وهذا ما يمكن ملاحظته بوضوح في شتى مواقفهم التي يسردها النص القرآني ، مرتبطة بمصالح اقتصادية أو سلالية أو دوافع السيطرة ، ونحوها من أشكال التأكيد على الذات.

وبعامة ، فإن صراع موسى مع الاسرائيليين ، أو لنقل : إن مجموعة المواقف الاسرائيلية بنحو عام قد سردها النص ، متمثلة في عادم دخولهم الأرض المقدسة ، وفي تجاوزهم الحد في قضية السبت ، مقترنين بتذكير احدى النعم عليهم [حادثة نتق الجبل]...

اولئك جميعا ، سبق توضيحها في معالجتنا لقصص سابقة لا حاجة لإعادة الكلام فيها ، ما دمنا نحرص على إبراز وجهة النظر المشدد عليها في كل قصة لوحدها ، وهو أمر نلقي عليه الانارة في دراستنا للقصص اللاحقة ايضا...

ان ما يهمنا الآن هو : توضيح التماثل بين الاسرائيليين والأقباط من حيث نعم السماء عليهما ، وتمردهما عليها ، ثم انتهائهما الى مصائر سوداء : كان الغرق من نصيب آل فرعون فيها. وكان الابقاء على حياة الاسرائيليين الى يوم القيامة بعمامة أحد نمطي العقاب ، لكنه عقاب يضاد تماما تطلعاتهم التي من أجلها قد اختاروا التمرد ، ألا وهو :

{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف : 167]

وأما النمط الآخر ، فكان من نصيبهم في شطر من الزمن ، ألا وهو :

{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف : 166].




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .