أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-7-2019
2126
التاريخ: 23-6-2021
3058
التاريخ: 2023-08-09
1022
التاريخ: 14-6-2021
1901
|
أ ـ على الأنصار نصره صلّى الله عليه وآله في دارهم :
يبدو أن الأنصار كانوا يرون : أن عليهم نصر النبي «صلى الله عليه وآله» في دارهم ، إن دهمه أمر ، فيمنعونه مما يمنعون منه أنفسهم.
أما إذا كان هو نفسه المهاجم لغيره ، أو كانت الحرب في غير بلدهم ، فلا نصرة له عليهم ، وذلك هو ظاهر ماتم الاتفاق عليه في بيعة العقبة ، كما تقدم.
ويدل على ذلك : أن المؤرخين يصرحون في غزوة بدر : أنه «صلى الله عليه وآله» : «كان يخشى ألا تكون الأنصار ترى عليهم نصرته إلا ممن دهمه في المدينة ، وليس عليهم أن يسير بهم».
ب ـ مسألة الحرب والسلم :
إن مسألة الحرب ليست سهلة بالنسبة إلى المدنيين ، وقد كانوا يدركون أنهم هم الذين سوف يتحملون مسؤولياتها ، ويضحون فيها بأموالهم وأنفسهم ، وهم الذين سوف يواجهون نتائجها وعواقبها على صعيد علاقاتهم ، وروابطهم الاجتماعية والاقتصادية ، وحالتهم السياسية وغيرها ، وهي أخطر وأهم مسألة لدى الإنسان العربي ، لأنها مسالة الدم والثأر ، والموت والحياة ، والسعادة والشقاء.
إذا .. فلا بد فيها من توفر القناعات الكاملة بها من قبلهم أنفسهم ، ولا بد أن يقرروا هم الدخول فيها وعدمه.وأما إذا فرضت عليهم فرضا ، فلربما يؤدي دخولهم فيها إلى نتائج عكسية ، وربما خطيرة جدا ، تجر على المسلمين ، وعلى مستقبل الإسلام الكثير من الرزايا والبلايا ، التي قد تعسر معالجتها ، والخروج منها على النحو المرضي والمشرف ، والمنسجم مع الهدف الأسمى ، والغاية الفضلى.
وهذا هو السر في استشارته «صلى الله عليه وآله» أصحابه في الحرب وشؤونها في بدر وفي أحد.
ج ـ ظروف الأنصار الخاصة :
وإذا كان الأنصار في بلدهم ، ويعيشون حياة الأمن والدعة ـ على صعيد علاقاتهم بمن يحيط بهم طبعا ـ ويشرفون على زراعتهم ، وأمور معاشهم ، ويستفيدون من أرضهم ؛ فإن ذلك يجعلهم أكثر تعلقا بالحياة ، وحبا لها ، ولا بد من توفر دافع نفسي أقوى يسهل عليهم الخروج إلى جو آخر ، فيه الكثير من المشاكل والأخطار الجسام ، إن حاضرا ، وإن مستقبلا.
وأيضا : إذا كان الأنصار سوف يحاربون قريشا ، أعظم قبائل العرب خطرا ونفوذا ، وحتى قدسية ، فإن عليهم أن يعدوا إلى العشرة قبل أن يقدموا على أي إجراء من شأنه أن يعرض علاقتهم بمكة إلى الخطر ، ولا سيما إذا كان من الممكن أن يجر ذلك عليهم خطر عداء العرب قاطبة ، فضلا عن غيرهم ، وعلى الأخص إذا كان المدنيون في موقع المعتدي في نظر الناس.
وهذا هو ما حدث بالفعل ، فإن التاريخ يحدثنا : «عن أبي بن كعب قال : لما قدم النبي «صلى الله عليه وآله» وأصحابه إلى المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة ، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه» (١).
فأذن الله تعالى لهم بالقتال دفاعا عن أنفسهم ، ولرد كيد أعدائهم ، كما قال تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)(٢).
أما ظروف المهاجرين ، فكانت مختلفة تماما عن ظروف الأنصار من هذه الجهة ؛ لأن اتخاذهم قرار الحرب ضد قريش كان أسهل وأيسر ، لأن وقوفهم ضدها له مبرراته النفسية والاجتماعية كاملة ، فإن الكل يعلم : أنها كانت تلك القوة الغاشمة التي أهانتهم ، وعذبتهم وأخرجتهم من ديارهم ، وسلبتهم أموالهم ، ولأن المهاجرين الذين كانوا مشردين ، مقهورين ، كانوا يشعرون بظلم قريش وخروجها على كل النواميس الأخلاقية والأعراف الاجتماعية ، والأحكام العقلية والدينية والفطرية. فاندفاعهم إلى محاربتها ، والوقوف في وجهها يكون أعظم وأشد.
كما أن تحريكهم إلى مضايقة قوافلها ، التي تمثل إغراء لهؤلاء الذين فقدوا أموالهم ، وكل ما لديهم على أيدي أصحاب هذه القوافل نفسها ، يكون أسهل وأيسر.
وخلاصة الأمر : لا يمكن أن ينظر إلى وقوفهم في وجه قريش على أنه تجن واعتداء عليها ، بل هي حرب محقة وعادلة لمن هذه معاملتهم ، وتلك هي حالتهم وسلوكهم ، ومع من؟!. مع أحب الناس وأقربهم نسبا إليهم ، فكيف تكون الحال لو كان الأمر مع غيرهم ممن لا تربطهم بهم رابطة قربى ، ولا وشائج رحم؟!.
د ـ الحالة النفسية للمهاجرين :
وبعد ما تقدم ، فقد كان اتخاذ المهاجرين قرار الحرب أيسر من اتخاذ الأنصار قرارا كهذا ، حيث لا يعتبر ذلك اعتداء ، بقدر ما هو رد للاعتداء ، فهو إذا قرار له مبرراته السياسية والاجتماعية والنفسية ، وكان لا بد من حصول هذا الأمر ، حيث يوجد المناخ العام الملائم حينئذ لدخول الأنصار للحرب ليكونوا الدرع الواقي ، والسيف القاطع.
فبدأ المهاجرون في تحركاتهم ، وقد أعطتهم هذه التحركات التدريجية ، وهم الغرباء عن المنطقة فرصة للتعرف عليها جغرافيا ، ولو بشكل محدود ؛ فقد كان المهاجرون المصدومون نفسيا ، يشعرون بالغربة عن المنطقة ، فهم بحاجة إلى حركة تعيد لهم الثقة بأنفسهم ، وترفع معنوياتهم ، وتركز فيهم الشعور بالقوة ، وبالاستقلالية والحرية ، فأعطتهم هذه التحركات شعورا بأن باستطاعتهم ـ الآن ـ مضايقة قريش ، والضغط عليها ، وأنهم يملكون أنفسهم بكل ما لهذه الكلمة من معنى.
وقد عزز ذلك فيهم موادعات رسول الله لكثير من القبائل التي كانت تعيش في المنطقة ، أما الأنصار فقد كانوا في غنى عن كل ذلك بملاحظة ظروفهم وأحوالهم.
يضاف إلى ذلك : أنه إذا كان بين هؤلاء المهاجرين من أثرت فيه المحنة وزعزعت يقينه الصدمة ، فإن تكليفه بالقيام بأعمال وتقديم تضحيات في سبيل هذا الدين ، لسوف يحصنه من الوقوع ـ بسبب ضعف نفسه ـ بين براثن الشيطان.
فإنه إذا رأى نفسه يعمل في سبيل هذا الدين ، وهذه العقيدة ، ويضحي من أجلها وفي سبيلها ، وأن عمله هذا يؤثر وينتج ويتقدم من حسن إلى أحسن ، فسوف يعود إليه ثباته ، وتطمئن نفسه ، ويصير تأثير المحنة عليه أقل ، والتفاعل معها أندر.
وسوف يصبح تعلقه بما ضحى من أجله ، وتعب وشقي في سبيله ، أشد وأوثق ، وتنفذ بصيرته في الدين وفي الإسلام بشكل أعظم وأعمق.
هـ ـ العربي وقضية الدم :
ولقد كان العربي لا يغفر قضية الدم ، ولا يتجاوزها ، وعلى أساس الثأر للدم يتقرر مصير العلاقات بين القبائل والفئات سياسيا ، واقتصاديا ، واجتماعيا ، وغير ذلك ، ولربما يستمر العداء الثأري بين القبائل أجيالا عديدة.
وإذا كان لا بد من قيام مجتمع إسلامي متكافل ، متماسك كالجسد الواحد ، فلا بد من حصر قضايا الدم والثأر في أضيق دائرة ممكنة ، تفاديا للأحقاد التي تتأصل في النفوس ، ويظهر أثرها ولو بعد أجيال ، وعشرات ، بل مئات السنين.
ولذا نلاحظ : أن حرب بدر رغم أن الكثرة فيها كانت للأنصار بنسبة واحد إلى أربعة أو خمسة من المهاجرين ، إلا أن أكثر قتلى المشركين كانت نهايتهم على يد علي «عليه السلام» وحمزة ، وهما من المهاجرين القرشيين.
ولأجل هذا بعينه ، ثم من أجل تقليل القتلى ما أمكن ، نجد أمير المؤمنين «عليه السلام» يقول للأزد في صفين : أكفوني الأزد ، والخثعم : أكفوني خثعما ، وأمر كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه أختها من أهل الشام إلا قبيلة ليس منهم بالشام أحد مثل بجيلة ، لم يكن بالشام منهم إلا عدد يسير ؛ فصرفهم إلى لخم (3).
وكذلك جرى أيضا في حرب الجمل (4).
وقد خرج صائح في حرب الجمل من قبل علي «عليه السلام» يحذر جيش عائشة من الأشتر ، وجندب بن زهير (5).
ثم هو يرسل مصحفا إليهم يدعوهم إلى ما فيه ، فيقتلون الرجل الحامل له.
هذا بالإضافة إلى المحاولات المتكررة التي بذلها لإقناع طلحة والزبير وعائشة بالتخلي عن قرار الحرب ، ثم هو يعلن انتهاء الحرب بمجرد عقر جمل عائشة ، ويظهر أسفه على من قتل.
وأما في صفين ، فكم حاول إقناع معاوية ومن معه بالكف عن غيهم ، والقبول بحكم الله سبحانه ، وقد استمرت محاولاته تلك وطالت أسابيع كثيرة. وما ذلك إلا لأن عليا لا يريد أن يقتل الناس ، وإنما يريد قمع الفتنة ، وإقامة الدين الذى تحيا به الأمم ، بأقل قدر ممكن من الخسائر.
شاهدنا على ذلك أنه عندما أمر المختار إبراهيم بن الأشتر أن يسير إما إلى مضر ، أو إلى أهل اليمن ، عاد فرجح له أن يسير إلى مضر.
قال الطبري : «فنظر المختار ـ وكان ذا رأي ـ فكره أن يسير إلى قومه ، فلا يبالغ في قتالهم ، فقال : سر إلى مضر بالكناسة الخ ..» (6).
خلاصة الأمر : أنه إذا كانت الحرب بين أفراد أو فئات القبيلة الواحدة ؛ فلربما تكون أقل ضراوة من جهة ، ولأن العاطفة النسبية ، والقربى القبلية تسهل على الناس تناسي الأحقاد وتجاوزها ، حيث يتهيأ الجو للعودة إلى الحياة الهادئة ، والمحبة والتصافي بسرعة من جهة أخرى.
والشاهد على صحة ما نقول : أن قريشا ليس فقط كانت تحقد على بني هاشم بسبب نكاية علي «عليه السلام» فيها ، حتى إن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يبكي على ما سيحل بأهل بيته بعده ، نتيجة لتلك الأحقاد (7).
كما أن قريشا لن تنسى ـ رغم طول العهد ـ جراحاتها من الأنصار أيضا ، ولم تأل وسعا ولم تدخر جهدا في الثأر لنفسها كما سنرى في الفقرات التالية.
هذا كله عدا عما في هذا من الامتحان لهم ، فإن القبول بقتل الأقارب يحتاج إلى إيمان عميق ، وإخلاص تام ، وقد امتحن الله سبحانه بني إسرائيل بذلك أيضا ، بل لقد امتحن الله تعالى نبيه إبراهيم بما يشبه هذا في ولده إسماعيل ، حسبما قدمنا.
و ـ قريش والأنصار :
وأول ما يطالعنا في مجال استكشاف مشاعر قريش ، ونواياها تجاه الأنصار ، ما قاله أبو سفيان بعد حرب بدر :
آليت ، لا أقرب النساء *** ولا يمس رأسي وجلدي الغسل
حتى تبيروا قبائل الأوس *** والخزرج ، إن الفؤاد يشتعل
وقد كان الأنصار أنفسهم يشعرون بهذا الأمر ، فإنهم عندما مات النبي «صلى الله عليه وآله» كانوا يبكون ؛ لأنهم لا يدرون ما يلقون من الناس بعده «صلى الله عليه وآله» (8).
ولم تكن مبادرتهم إلى محاولة مبايعة سعد بن عبادة إلا انطلاقا من هذا الشعور ، الذي عبر عنه الحباب بن المنذر بقوله يوم السقيفة : «ولكنا نخاف أن يليها بعدكم من قتلنا أبناءهم وآباءهم ، وإخوانهم» (9).
وقد بين أمير المؤمنين «عليه السلام» دوافع سعد بن عبادة إلى طلب البيعة له ، فكتب «عليه السلام» إلى أصحابه يقول :
«ولقد كان سعد لما رأى الناس يبايعون أبا بكر نادى : أيها الناس ، إني والله ما أردتها حتى رأيتكم تصرفونها عن علي ، ولا أبايعكم حتى يبايع علي. ولعلي ، لا أفعل وإن بايع الخ ..».
وفي مورد آخر من نفس الرسالة : يقول : «إن الأنصار قالوا : أما إذا لم تسلموها لعلي فصاحبنا أحق بها من غيره الخ ..» (10).
فذلك يوضح : أن الأنصار بادروا إلى ذلك بعد أن عرفوا أن العرب وقريشا لن تمكن عليا «عليه السلام» من الوصول إلى الحكم ، وقد تأكد لديهم ذلك حينما شهدوا كيف منع النبي «صلى الله عليه وآله» عن كتابة «الكتاب» ، بذلك الأسلوب الجاف والمهين والقاسي ، ثم تأخير بعث جيش أسامة ، وغير ذلك من قرائن وأحوال لا تخفى.
وبعد وفاة النبي «صلى الله عليه وآله» حاق بالأنصار البلاء ، وحلت بهم الرزايا ، واستأثر المهاجرون بكل الامتيازات ، وكان في ذلك تصديق لما أخبرهم به النبي «صلى الله عليه وآله» من أنهم سيلقون بعده إثرة ، ثم أمرهم بالصبر حتى يلقوه على الحوض (11).
ومما يدل على ما ذكرناه :
١ ـ أن محمد بن مسلمة حين رأى القرشيين وهم يرفلون بالحلل ، أعلن بالتكبير في المسجد ، فطالبه بذلك عمر ، فأخبره بما رأى من الأثرة ، ثم قال : أستغفر الله ، ولا أعود (12).
ويلاحظ هنا : أن محمد بن مسلمة كان من المقربين للهيئة الحاكمة ، ومن أعوانها الأوفياء الذين كانت تطمئن إليهم ، وتعتمد عليهم.
٢ ـ لقد هم عمر في أواخر خلافته : أن يأخذ فضول أموال الأغنياء ويقسمها بين فقراء المهاجرين (13).
٣ ـ وكان عمر يركب كل جمعة ركبتين : أحدهما : ينظر في أموال يتامى أبناء المهاجرين.
والثانية : ينظر أرقاء الناس ما يبلغ منهم (14).
٤ ـ ونجد عمر بن الخطاب يمتنع عن قضاء حاجة للأنصار كانوا قد جاؤوه من أجلها ، حتى توسط ابن عباس لهم عنده (15).
٥ ـ لم يكن يبر الأنصار أحد إلا بنو هاشم كما قال البعض. وقد اشتد البلاء بعد ذلك العهد على الأنصار ، حتى لقد ورد :
٦ ـ أن يزيد لعنه الله طلب من كعب بن جعيل أن يهجو الأنصار ، فقال له كعب : أرادي أنت إلى الشرك؟!. أهجو قوما نصروا رسول الله «صلى الله عليه وآله» وآووه؟ ثم دلّه على الأخطل النصراني ، الذي قال فيهم :
ذهبت قريش بالسماحة والندى *** واللؤم تحت عمائم الأنصار(16)
٧ ـ ثم توج يزيد لعنه الله جناياته ومخازيه بوقعة الحرة ، التي أذل فيها عزيز الأنصار ، وهتك فيها حرماتهم ، وأباح أعراضهم ، وقتل رجالهم ، ولم تزل ولا تزال وصمة عار على جبين الحكم الأموي ، تؤذن بالخزي والعار لذلك الحكم البغيض ، ولكل من يسير على نهجه ، وينسج على منواله.
ز ـ تزوير التاريخ :
«قال المدائني في خبره : وأخبرني ابن شهاب ، قال : قال لي خالد بن عبد الله القسري : اكتب لي النسب ؛ فبدأت بنسب مضر ، وما أتممته فقال : اقطعه ، اقطعه ، قطعه الله مع أصولهم ، واكتب لي السيرة.
فقلت له : فإنه يمر بي الشيء من سير علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ، فأذكره؟
فقال : لا ، إلا أن تراه في قعر الجحيم» (17).
لعن الله خالدا ومن ولاه ، وقبحهم ، وصلوات الله على أمير المؤمنين.
وحينما وصل كتاب علي «عليه السلام» ، الذي يذكر فيه ما له من مناقب وفضائل إلى معاوية ، قال معاوية : «اخفوا هذا الكتاب لا يقرأه أهل الشام ، فيميلوا إلى ابن أبي طالب» (18).
وقد كتب هشام بن عبد الملك إلى الأعمش يطلب منه أن يكتب له فضائل عثمان ، ومساوئ علي «عليه السلام» فرفض (19).
ويقول الشعبي : «لو أردت أن يعطوني رقابهم عبيدا ، أو يملأوا لي بيتا ذهبا ، على أن أكذب لهم على علي رضوان الله عليه لفعلوا» (20).
وقال أبو أحمد العسكري : «يقال : إن الأوزاعي لم يرو في الفضائل حديثا (أي غير حديث الكساء) والله أعلم ، وكذلك الزهري لم يرو فيها إلا حديثا واحدا ، كانا يخافان بني أمية» (21).
وحسبك دليلا على تزوير التاريخ : أن المؤرخين يذكرون : أنه قد كان مع علي «عليه السلام» سبعمائة من المهاجرين والأنصار ، وسبعون بدريا أو ثمانون ، وماءتان من أهل بيعة الشجرة (22).
ولكن أعداء علي ومزوري التاريخ قد بلغت بهم الوقاحة حدا ـ كما عن الشعبي ـ : أن قالوا : من زعم أنه شهد الجمل من أهل بدر إلا أربعة ، فكذبه ، كان علي وعمار في ناحية ، وطلحة والزبير في ناحية (23).
وقد ذكر الإسكافي : «أن معاوية وضع قوما من الصحابة ، وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي «عليه السلام» تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه ، منهم : أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير» (24).
وقد استطاع معاوية أن يزين لأهل الشام أن عليا وأصحابه لا يصلون (25).
وهكذا جرى أيضا للأنصار ، قال الزبير بن بكار ما ملخصه : إن سليمان بن عبد الملك قدم حاجا ، وهو ولي عهد ؛ فمر بالمدينة ، فأمر أبان بن عثمان أن يكتب له سيرة النبي «صلى الله عليه وآله» ومغازيه ، فقال له أبان : هي عندي ، قد أخذتها مصححة ممن أثق به ، فأمر بنسخها فنسخت له ، فلما صارت إليه نظر ؛ فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين ، وذكر الأنصار في بدر ، فقال : ما كنت أرى لهؤلاء هذا الفضل ، فإما أن يكون أهل بيتي غمصوا (26) عليهم ، وإما أن يكونوا ليس هكذا.
فقال أبان بن عثمان : أيها الأمير ، لا يمنعنا ما صنعوا بالشهيد المظلوم من خذلانه ، لأن نقول بالحق : هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا.
قال : ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتى أذكره لأمير المؤمنين ، لعله يخالفه ، فأمر بذلك الكتاب فحرق.
فلما رجع ، وأخبر أباه ، قال عبد الملك : وما حاجتك أن تقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل؟ تعرف أهل الشام أمورا لا نريد أن يعرفوها؟!
فأخبره بتحريق ما كان نسخ ، فصوب رأيه ، وكان عبد الملك يثقل عليه ذلك.
وبعد أن ذكر الراوي : أن سليمان أخبر قبيصة بن ذؤيب بما جرى ، وجواب قبيصة له ، قال :
فقال سليمان : يا أبا إسحاق ، ألا تخبرني هذا البغض من أمير المؤمنين وأهل بيته لهذا الحي من الأنصار ، وحرمانهم إياهم ، لم كان؟!.
فقال : يا ابن أخي ، أول من أحدث ذلك معاوية بن أبي سفيان ، ثم أحدثه أبو عبد الملك ، ثم أحدثه أبوك.
فقال : علام ذلك؟!
قال : فو الله ما أريد إلا لأعلمه وأعرفه.
فقال : لأنهم قتلوا قوما من قومهم ، وما كان من خذلانهم عثمان «رض» ، فحقدوه عليهم ، وحنقوه ، وتوارثوه ، وكنت أحسب لأمير المؤمنين أن يكون على غير ذلك لهم ، وأن أخرج من مالي فكلمه.
فقال سليمان : أفعل والله ، فكلمه ، وقبيصة حاضر ، فأخبره قبيصة بما كان من محاورتهم.
فقال عبد الملك : والله ما أقدر على غير ذلك ، فدعونا من ذكرهم ، فأسكت القوم (27).
ولكن ما ذكره قبيصة من أن أول من حرمهم هو معاوية في غير محله ، فقد بدأ حرمانهم من زمن عمر بن الخطاب كما يظهر مما تقدم ، بل ومن زمن أبي بكر ، وليس تحقيق ذلك محط نظرنا الآن.
وعلى كل حال ، فقد قال رجل من الأنصار :
ويل أمها أمة لو أن قائدها *** يتلو الكتاب ، ويخشى العار والنارا
أما قريش فلم نسمع بمثلهم *** غدرا وأقبح في الإسلام آثارا
ضلوا سوى عصبة حاطوا نبيهم *** بالعرف عرفا وبالإنكار إنكارا (28)
وقال بعض الأنصار أيضا :
دعاها إلى حرماننا وجفائنا *** تذكر قتلى في القليب تكبكبوا
فإن يغضب الأبناء من قتل من مضى *** فو الله ما جئنا قبيحا فتعتبوا (29)
ويقول آخر :
وخبرتمونا : أنما الأمر بيننا *** خلاف رسول الله يوم التشاجر
فهلا وزيرا واحدا تحسبونه *** إذا ما عددنا منكم ألف آمر (30).
ح : تأكيد النبي صلّى الله عليه وآله على بر الأنصار :
ولم يكن بغض الأمويين وقريش للأنصار فقط لأجل الدماء والترات ، وإنما لأنهم نصروا الله ورسوله ، ومحق الله الشرك ، وذل المشركون بمساعدة منهم.
بل إن بغضهم لهم إنما كان انطلاقا من بغضهم للإسلام.
ولربما يكون هذا هو السر في تأكيدات النبي «صلى الله عليه وآله» المتكررة على لزوم حب الأنصار ، واحترامهم وتقديرهم.
فنراه «صلى الله عليه وآله» يعتبر حب الأنصار إيمانا وبغضهم نفاقا (31).
وقال : من أحب الأنصار فبحبي أحبهم ، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم (32).
وبذلك يكون قد حفظ لهم هذا الجهاد الخالص في سبيل الله ، ودفاعهم عن هذا الدين ، ولأنهم آووا ونصروا وبذلوا كل غال ونفيس ؛ فجزاهم الله عن الإسلام وعن المسلمين خير جزاء وأوفاه.
كما أننا يجب أن لا ننسى التزام الأنصار في الأكثر بخط أهل البيت «عليهم السلام» ، وتعظيمهم لحق أمير المؤمنين «عليه السلام» ونصرتهم له في الجمل وصفين والنهروان ، على خلاف كثير من المهاجرين.
ومما يدل على مكانة علي «عليه السلام» لدى الأنصار ما رواه الزبير بن بكار عن عمرو بن العاص حينما تكلم في المسجد كلاما قاسيا ضد الأنصار ، لأجل محاولتهم البيعة لسعد بن عبادة ، قال الزبير : «ثم التفت فرأى الفضل بن العباس بن عبد المطلب ، وندم على قوله للخؤولة التي بين ولد عبد المطلب وبين الأنصار ، ولأن الأنصار كانت تعظم عليا وتهتف باسمه حينئذ».
ثم تذكر الرواية كيف أن عليا «عليه السلام» جاء إلى المسجد ودافع عن الأنصار ، والقصة طويلة (33).
والتزام الهاشميين ببرهم ، تنفيذا لوصية النبي «صلى الله عليه وآله» ثم قولهم يوم السقيفة ـ بعد أن فشلت محاولة البيعة لسعد بن عبادة ـ : «لا نبايع إلا عليا» (34).
وعلي «عليه السلام» هو قاتل صناديد قريش وجبابرتها كما هو معلوم ربما يكون كل ذلك ، ومعه عمق إيمانهم ، والتزامهم القوي بالدين ، والتفقه فيه حتى من نسائهم ، هو السبب في ذلك.
بقي أن نذكر : أن علم أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد كان عند الأنصار ، كما قالوا (35).
وعن نساء الأنصار قالت عائشة : «إن لنساء قريش لفضلا ، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار ، ولا أشد تصديقا لكتاب الله ، ولا إيمانا بالتنزيل ، لقد أنزلت سورة النور ، وليضربن بخمرهن ..» (36).
وعنها أيضا قالت : نعم النساء نساء الأنصار ، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين (37).
ط ـ لا غنى في الحرب عن الأنصار :
ولكن كل ما قدمناه لا يعني : أن لا يشترك الأنصار في حرب أبدا ؛ فإن قضية الإسلام ، التي هي قضية الأمم والإنسانية جمعاء على مدى التاريخ ، تفوق في أهميتها وخطرها أهمية وخطر ما سيواجهه الأنصار من قريش فيما بعد ، وعلى الأخص إذا كان الإسلام قد وضع الضمانات اللازمة لتفادي أي رد فعل من هذا النوع.
وإنما حدث ما حدث بسبب عدم رعاية الأمة لقوانين الإسلام ، وعدم أخذها تلك الضمانات بنظر الاعتبار.
نعم .. لم يكن ثمة محيص عن اشتراك الأنصار في الحرب ، كما أنه لم يكن مفر من العمل على تخفيف حدة حقد قريش ، والموتورين من قبل الإسلام ؛ لتكون المشاكل المستقبلية ، التي سوف يواجهها الأنصار أقل ، ووقعها أخف نسبيا ، وهكذا كان.
__________________
(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٢٣ ، وراجع : البحار ج ١٩ ص ٨ ، وإعلام الورى ص ٥٥ ، ومنتخب كنز العمال ج ١ ص ٤٦٥ بهامش مسند أحمد عن البيهقي في الدلائل ، وابن مردويه ، وابن المنذر ، وعن كنز العمال ج ١ ص ٢٩٥ عن هؤلاء وعن الطبراني ، والحاكم ، وسعيد بن منصور ، وعن روح المعاني ج ٦ ص ٩٨.
(٢) الآية ٣٩ من سورة الحج.
(3) وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٢٢٩ ، وراجع : أنساب الأشراف ج ٢ ص ٣٠٥ ، والفتوح لابن أعثم ج ٣ ص ١٤١ ، وراجع : ج ٢ ص ٢٩٩ ، وتاريخ الأمم والملوك ج ٤ ص ٩ وفيه : أن عليا «عليه السلام» سأل أولا عن قبائل الشام ، فلما أخبروه اتخذ قراره ذاك.
(4) الفتوح لابن أعثم ج ٢ ص ٢٩٩.
(5) لباب الآداب ص ١٨٧ ، والإصابة ج ١ ص ٢٤٨ ، والجمل للمفيد ص ١٩٤.
(6) تاريخ الطبري ط مطبعة الاستقامة ج ٤ ص ٥٢١.
(7) راجع : الأمالي للصدوق ص ١٠٢ وفرائد السمطين ج ٢ ص ٣٦ وراجع : البحار ج ٢٨ ص ٣٧ و ٣٨ و ٤١ و ٥١ و ٨١ وج ٤٣ ص ١٧٢ و ١٥٦ والعوالم ص ٢١٦ و ٢١٧ و ٢١٨ وكشف الغمة للأربلي ج ٢ ص ٣٦ وأنساب الأشراف للبلاذري ومسند أبي يعلى ج ١ ص ٤٢٧ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١١٨ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٣٩ والمطالب العالية ج ٤ ص ٦١ ط دار المعرفة.
(8) مسند أحمد ج ٦ ص ٣٣٩ ، ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٤ عنه.
(9) حياة الصحابة ج ١ ص ٤٢٠.
(10) معادن الحكمة ص ١٥٤ و ١٥٣ وراجع تعليقات العلامة الأحمدي على معادن الحكمة ص ٤٧٠ ـ ٤٧٣ لتقف على مصادر كثيرة.
(11) راجع : حياة الصحابة ج ١ ص ٤١١ ـ ٤١٤ و ٤٠٩.
(12) حياة الصحابة ج ١ ص ٤١٣ ، عن كنز العمال ج ١ ص ٣٢٩ عن ابن عساكر.
(13) راجع أواخر مقالنا : أبوذر في كتابنا دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام.
(14) المصنف ج ٢ ص ٣٤٩ وفي هامشه عن مالك ج ١ ص ٦٩ مختصرا.
(15) راجع : حياة الصحابة ج ١ ص ٤١٤ و ٤١٥ و ٤١٦.
(16) الشعر والشعراء لابن قتيبة ص ٣٠٢.
(17) الأغاني ج ١٩ ص ٥٩.
(18) معجم الأدباء ج ٥ ص ٢٦٦.
(19) راجع : شذرات الذهب ج ١ ص ٢٢١.
(20) تاريخ واسط ص ١٧٣.
(21) أسد الغابة ج ٢ ص ٢٠.
(22) المعيار والموازنة ص ٢٢. مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٠٤ والغدير ج ١٠ ص ١٦٣ عن صفين و ٢٦٨ و ٢٦٦ وعن شرح النهج ج ١ ص ٤٨٣ وجمهرة خطب العرب ج ١ ص ١٧٩ و ١٨٣.
(23) راجع العقد الفريد لابن عبد ربه ج ٤ ص ٣٢٨.
(24) راجع شرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ٦٤.
(25) الغدير ج ٩ ص ١٢٢ عن صفين للمنقري ص ٤٠٢ وعن تاريخ الطبري ج ٦ ص ٢٣ وعن شرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٧٨ وعن الكامل في التاريخ ج ٣ ص ١٣٥.
(26) غمص على فلان : كذب عليه ، وغمص على فلان كلامه : أي عابه عليه.
(27) أخبار الموفقيات ص ٣٣٢ ـ ٣٣٤.
(28) الحور العين ص ٢١٥.
(29) الحور العين ص ٢١٥ للأمير نشوان الحميري.
(30) المصدر السابق.
(31) مسند أحمد ج ٥ ص ٢٨٥ وج ٦ ص ٧ وج ٤ ص ٢٨٣ و ٢٩٢ وج ٣ ص ١٣٠ و ٢٤٩ وراجع حول فضل الأنصار مسند أحمد ج ٤ ص ٧٠ وج ٦ ص ٣٨٢ ومسند أبي يعلى ج ٧ ص ١٩١ و ٢٨٥ و ٢٨٦ ومنحة المعبود ج ٢ ص ١٣٧ و ١٣٨ وصحيح مسلم ج ١ ص ٦٠ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ١٤٠ و ٥٧ و ٥٨ وصحيح البخاري ج ٢ ص ١٩٨ و ١٩٩ ومجمع الزوائد ج ١٠ ص ٣٩ و ٤٠.
(32) راجع مجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٧٦ عن الطبراني في الصغير والكبير ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٠٣ ، وفتح الباري ج ١ ص ٥٩ ، ٦٠ وليراجع باب حب الأنصار في مجمع الزوائد ج ١٠ ص ٢٨ ـ ٤٢ وسائر كتب الحديث فإن كثيرا منها قد عقدت فصلا لفضائل الأنصار.
(33) الموفقيات ص ٥٩٥ و ٥٩٦ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٦ ص ٣٣.
(34) تاريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٣٢٥.
(35) التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٣٢٥.
(36) الدر المنثور ج ٥ ص ٤٢ عن ابن أبي حاتم ، وأبي داود ، وابن مردويه ، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٢٨٤ وراجع : مسند أبي عوانة ج ١ ص ٣١٧ وحياة الصحابة ج ٣ ص ٨٧.
(37) راجع صحيح البخاري ج ١ ص ٢٤ والمصنف لعبد الرزاق ج ١ ص ٣١٤ وفي الهامش عن البخاري ومسلم ، وابن أبي شيبة ، وعن كنز العمال ج ٥ رقم ٣١٤٥ ، وعن اهتمام نساء الأنصار بالفقه راجع : التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٣٢١.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
المجمع العلميّ يُواصل عقد جلسات تعليميّة في فنون الإقراء لطلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف
|
|
|