إنّ لفظ القدريّة منسوب إلى القدَر ، ومقتضى القاعدة النحويّة أن يُفسّر بالمنسوب إلى القدر ، أي التقدير والقضاء ، فالقدريّة : هم القائلون بالقضاء والقدر . كما أنّ العدليّة هم القائلون بالعدل ، لا نُفاته .
ولكن
أصحاب المقالات فسّروه بنفاة القدر ، وهو في بابه غريب ، إذ لم يثبت هذا النوع من الاستعمال
.
ثُمَّ
إنّ الّذين اتّهموا بالقدرية في أيام الأُمويّين كانوا دعاة الحرّيّة ، ويقولون بأنّ
الإنسان مخيّر في تفكيره وعمله ، وليس بمسيّر ، فاستنتج المخالفون لهؤلاء الجماعة أنّهم
من نُفاة القضاء والقدر ، وكأَنّ القول بالحرّية لا يجتمع مع القول بالتقدير .
ثُمَّ
إنّهم لم يقتصروا على ذلك ، فرووا عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، أنّه
قال : ((القدرية مجوس هذه الأُمّة)) ، فقالوا المراد هذه الطائفة ، أي دعاة الحرّية
، ونُفاة الجبر .
إنّ
العصر الأُموي كان يسوده القول بالجبر؛ الّذي يصوّر الإنسان والمجتمع أنّهما مسيّران
لا مخيّران ، وأنّ كلّ ما يجري في الكون من صلاح وفساد ، وسعة وضيق ، وجوع وكظّة ،
وصلح وقتال بين الناس ، أمر حتمي قُضي به عليهم ، وليس للبشر فيه أيّ صنع وتصرّف .
وقد
اتّخذت الطغمة الأُمويّة هذه الفكرة غطاءً لأفعالهم الشنيعة؛ حتّى يسدّوا بذلك باب
الاعتراض على أفعالهم ، بحجّة أنّ الاعتراض عليهم اعتراض على صنعه سبحانه وقضائه وقدره
، وأنّ الله سبحانه فرض على الإنسان حكم ابن آكلة الأكباد وابنه السكّير ، فأبناء البيت
الأُموي الخبيث يعيشون عيشة رغد ورخاء وترف ، ويعيش الآخرون حياة البؤس والشقاء .
وعلى
ذلك ، فمن سُجِّلت أسماؤهم في القدريّة ، لم يكن لهم ذنب سوى أنّهم كانوا دعاة الحرّية
ونُفاة الجبر ، نظراء :
1 ـ
معبد بن عبد الله الجهني البصري (المتوفّى عام 80هـ) .
2 ـ
غيلان بن مسلم الدمشقي ، المصلوب بدمشق عام 105هـ .
3 ـ
عطاء بن يسار (المتوفّى 103هـ) .
إنّ
نضال هؤلاء الثلاثة في العهد الأُموي كان ضد ولاة الجور؛ الّذين كانوا يسفكون الدماء
وينسبونه إلى قضاء الله وقدره ، فهؤلاء الأحرار قاموا في وجههم ، وأنكروا القدر بالمعنى
الّذي استغلته السلطة وبرّرت به أعمالها الشنيعة ، وإلاّ فمن البعيد جداً ، من مسلمٍ
واعٍ ، أن ينكر القضاء والقدر الواردين في الكتاب والسنّة على وجه لا يَسْلِب الحرّية
من الإنسان ولا يجعله مكتوف الأيدي .
إنّ
هذا التاريخ يدلّنا على أنّ رجال العيث والفساد ، إذا أرادوا إخفاء دعوة الصالحين اتّهموهم
بالكفر والزّندّقة ومخالفة الكتاب والسنّة . والحاصل : إنّ تفسير القدرية في حق هؤلاء؛
بتفويض الإنسان إلى نفسه وأفعاله ، وأنّه ليس لله أي صنع في فعله ، هو تفسير جديد حدث
بعد هؤلاء ، فلم يكن لمعبد الجهني وغيلان الدمشقي والقاضي عطاء بن يسار وغيرهم إلاّ
نقد الفكرة الفاسدة؛ وهي كون الإنسان والمجتمع مسيّراً لا مخيّراً ، لا يُسأل عن أفعاله
، ومن عجيب الأمر أنّ عبد الله بن عمر روى أنّ رسول الله قال : (إنّ القدرية مجوس هذه
الأُمّة ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم) .(1)
فكلّ
من دعاة الحرّية والجبر فسروه بالمخالف ، ولكنّ الحديث ضعيف سنداً جداً ، ولفظ الحديث
حاك أنّه صُنع بعد رحيل الرسول ، كما كثُر ما يُروى في هذا المقام .
ثمَّ
إنّ للصاحب بن عباد (326 ـ 385هـ) رسالة في الردّ على القدريّة بمعنى المجبِّرة ، نشرناها
في كتابنا (بحوث في الملل والنحل) الجزء الثالث من الصّفحة 132 إلى 138؛ كما أنّ للحسن
بن محمد بن الحنفية ، والقاضي حسن بن يسار المعروف بالحسن البصري ، رسالة في نفي القدر
بمعنى الجبر نشرناها في نفس الكتاب .
ولمّا
كانت دعوة معبد الجهني وأضرابه دعوة إلى الحرّية والتفكير ، ظهرت آنذاك حركات رجعيّة
تُعرقل الأُمّة عن التقدّم ، ونشير إلى هذه الدعوات والنحل المخالفة لمبادئ الإسلام
بصورة موجزة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
جامع الأُصول : 10/526 .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
ضمن أسبوع الإرشاد النفسي.. جامعة العميد تُقيم أنشطةً ثقافية وتطويرية لطلبتها
|
|
|